الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الآية: (42)
* قَالَ اللهُ عز وجل: {وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَإِلَى اللَّهِ الْمَصِيرُ} [النور: 42].
* * *
قَوْلُهُ: {وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ} قَالَ المُفَسِّر رحمه الله: [خَزَائِن المَطَر وَالرِّزْق وَالنَّبَات] اهـ.
وقَوْلهُ: {وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ} ، قَوْلهُ:{وَللَّهِ} هي خبر مقدم، {وَللِّهِ} مُبْتَدَأ مؤخَّر، والقاعِدَة عند أهْل العِلْم أنَّه إِذَا قدم شَيْء من حقِّه أن يؤخر دل ذَلِك على الحصر، الحصر في هَذَا المقدم يعني حصر المؤخر في المقدم؛ فقَوْلهُ:{إِيَّاكَ نَعْبُدُ} مَعْناها أي: لا نعبد إلَّا إيّاك، وقَوْلهُ:{إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ (5)} [الفاتحة: 5]؛ مَعْناها لا نستعين إلَّا إياك، فإذا قدم ما حقّه التأخير كَانَ ذَلِك دليلًا على حصر الشَّيء فيه، فبناءً على هَذَا القاعِدَة، يَكُون ملك السَّموات والأَرْض لله وحده، ولَيْسَ معه غيره بِدَلِيل الحصر في قَوْلهُ:{وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ} .
وقَوْلهُ: {مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ} هَذَا شامل لملك الأعيان والتَّصريف، فـ {مُلْكُ السَّمَاوَاتِ} أعيانها لله والتَّصريف والتَّدبير أيضًا لله، وتَخْصِيص ذَلِك بخزائن الرزق والنَّبات والمطر لا وجه إطلاقًا، فالله تَعَالَى له ملك السَّموات والأَرْض خلقًا وتدبيرًا، فالأعيان والتَّصريف لله وحده ويدُلّ على ذَلِك ما فيها من الانتظام وعدم الاضطراب وعدم التَّناقض، ولِهَذَا استدل الله تَعَالَى على وحدانيته بقَوْلهُ: {مَا اتَّخَذَ اللَّهُ مِنْ وَلَدٍ
وَمَا كَانَ مَعَهُ مِنْ إِلَهٍ} لو كَانَ معه إله {إِذًا لَذَهَبَ كُلُّ إِلَهٍ بِمَا خَلَقَ} صحيح ما دام أنَّه إله لا بُدَّ أن تَكُون مملكته له وحده، والنَّتيجة {وَلَعَلَا بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ} [المؤمنون: 91]، فإذا علا بعضهم على بعض فلمن تَكُون الأُلوهيَّة؟ للعالي بلا شَك، ونحن نرى بعين اليقين أنَّه لم يتميز الخلق بعضه على بعض وأن العالم العلوي والسفلي كله كتلة واحدة مسخر بعضه لبعض ويتمم بعضه ببعض ولا يتناقض، ولِهَذَا كَانَ العَقْل والمشاهدة دليلين على وحدانية الله عز وجل.
ثم لا يُمْكِن أيضًا تعدد الآلهة لا بُدَّ أن أحَدهما يغلب؛ لأنهما إن تمانعا وعجز كل واحد منهما عن الآخر صَارَ كلاهما غير مستحق للألوهية ما دام كل واحد منهُما يعجز، والرب لا يَكُون عاجزًا، فلا يصلح كل منهما أن يَكُون ربًا؛ لأَن الرب لا بُدَّ أن يَكُون قادرًا، وهَذَا دَليل عقلي معْرُوف، وإن غلب أحَدهما الآخر صَارَ وحده الرب والإله فتكون الألوهية له، فإذا لا بُدَّ أن يَكُون الإله واحدًا، وهَذَا من أبين الأدلَّة وأوضحها.
إذا قَالَ قَائِلٌ: ألَيْسَ الله تَعَالَى يَقُول: {إِلَّا عَلَى أَزْوَاجِهِمْ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ} [المعارج: 30]، ويقول:{وَالَّذِينَ يَبْتَغُونَ الْكِتَابَ مِمَّا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ فَكَاتِبُوهُمْ} [النور: 33]؛ فأثبت لِلإنْسان ملكًا وأنتم تقولون: إن ملك السَّموات والأَرْض خاص باللهِ بِدَلِيل الحصر فكَيْفَ الجمع؟
الجواب: الملك هَذَا مقيد لَيْسَ ملكًا مطلقًا ومن الَّذِي ملَّكك؟ الله تَعَالَى هو الَّذِي ملكك هَذَا الشَّيء بقدر محدود، أيضًا أنت إِذَا كنت تملك هَذَا المسجل مثلًا تملك أن تبيعه وتشتريه وتنتفع به هَذَا واضح، لكن هل تملك أن تكسره؟ بالنِّسْبَةِ للمخلوقين تملك، لكن بالنِّسْبَةِ لله لا تملك؛ لانَه لا يجوز لك أن تكسره؛ لأنك
ممنوع من قبل الله سبحانه وتعالى، لكن هل الله عز وجل يملك أن يتلف من على البسيطة؟
الجواب: نعم، قَالَ تَعَالَى:{وَلَوْ يُؤَاخِذُ اللَّهُ النَّاسَ بِمَا كَسَبُوا مَا تَرَكَ عَلَى ظَهْرِهَا مِنْ دَابَّةٍ} [فاطر: 45]، فتبين بهَذَا أن ملكي للشَيْء من الله هو الَّذِي ملكني، والشَّيء الثَّاني: أن هَذَا ملك محدود مقيد، وعلى هَذَا فلا منافاة بين ما أثبت الله تَعَالَى لِلإنْسان من الملك وما أثبت لنفسه من الاختصاص بالملك، ولِهَذَا قَالَ بعض أهْل العِلْم كل شَيْء أضيف ملكه لِلإنْسان فهو على سبيل المجاز لا على سبيل الحَقيقَة؛ لأَن المالك حَقِيقَة هو الله سبحانه وتعالى وأنا مالك مجازًا لأني لا أتصرف في هَذَا الشَّيء إلَّا بما أمرت أو كما أذن لي، لا أتصرف تصرفًا مطلقًا.
قَوْلهُ: {وَإِلَى اللَّهِ الْمَصِيرُ} قَالَ المُفَسِّر رحمه الله: [المَرْجِع] اهـ.
هَذَا فيه تنبيه على أنَّه سبحانه وتعالى مالك للأول والآخر فـ {وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ} ابتداء {وَإِلَى اللَّهِ الْمَصِيرُ} انتهاء؛ ففيه - والله أعلم - إِشارَة إلى أنَّه إِذَا كَانَ الملك لله والمرجع إلَيْه فإنَّه لا يحل لنا أن نتصرف إلَّا حسب ما شرع لنا ما دمنا ملكًا لله عز وجل، نحنُ الآن مِلْكا لله ومصيرنا إلى الله، فما دمت تعلم أنك مِلْك له وهو الَّذِي يدبرك: افعل كذا، ولا تفعل كذا، وما دمت تعلمك أيضا أن مصيرك إلَيْه فلابُدَّ أن تستعد لِهَذَا المصير؛ لأَنه سوف يحاسبك عليه.
وقَوْلهُ: {وَإِلَى اللَّهِ الْمَصِيرُ} .
إِعْراب {وَإِلَى اللَّهِ} محلها من الإِعْراب خبر مقدم {الْمَصِيرُ} مُبْتَدَأ مؤخر، وتقديم ما حقه التأخير يُفيد الحصر، فكل شَيْء من حقه أن يتأخر إِذَا قدمته معناه أنك تريد أن يَكُون ما بعده محصورًا فيه، فإذن المصير إلى الله مهما طار الْإِنْسَان ومهما
حلّق في الخيال وفي التفكير ومهما بقي في الدُّنْيَا فإن مصيره إلى الله عز وجل، كما قَالَ اللهُ تعالى:{وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ مُلَاقُوهُ} [البقرة: 223]، وقَالَ تَعَالَى:{يَاأَيُّهَا الْإِنْسَانُ إِنَّكَ كَادِحٌ إِلَى رَبِّكَ كَدْحًا فَمُلَاقِيهِ} [الانشقاق: 6].
فملاقاة الله عز وجل، والمصير إلَيْه أمر لا بُدَّ منه حتمي، كما أن وجودنا من الله فكَذلِكَ أيضًا انتهاؤنا إلى الله عز وجل، ويحتمل أن قَوْلهُ:{الْمَصِيرُ} لَيْسَ المُراد مصير النَّاس في الْآخِرَة فقط بل مصير الْأُمُور كلها، يعني لمرجع إلى الله في كل شَيْء، كل شَيْء صائر إلى الله، فهو سبحانه وتعالى يدبر ويفعل ما شاء.
* * *