المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌ ‌الآية (58) * * *   * قَالَ اللهُ عز وجل: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ - تفسير العثيمين: النور

[ابن عثيمين]

فهرس الكتاب

- ‌تقديم

- ‌نُبْذَةٌ مُخْتَصَرَةٌ عَنْ فَضِيلَةِ الشَّيْخِ العَلَّامَةِ مُحَمَّدِ بْنِ صَالِحٍ العُثَيْمِين 1347 - 1421 هـ

- ‌نَسَبُهُ وَمَوْلِدُهُ:

- ‌نَشْأَتُهُ العِلْمِيَّةِ:

- ‌تَدْرِيسُهُ:

- ‌آثَارُهُ العِلْمِيَّةُ:

- ‌أَعْمَالُهُ وجُهُودُهُ الأُخْرَى:

- ‌مَكانَتُهُ العِلْمِيَّةُ:

- ‌عَقِبُهُ:

- ‌وَفَاتُهُ:

- ‌الآية (1)

- ‌الآية (2)

- ‌الآية (3)

- ‌الآية (4)

- ‌الآية (5)

- ‌الآية (6)

- ‌الآية (7)

- ‌الآية (8)

- ‌الآية (9)

- ‌الآية (10)

- ‌الآية (11)

- ‌الآية (12)

- ‌الآية (13)

- ‌الآية (14)

- ‌الآية (15)

- ‌الآية (16)

- ‌الآية (17)

- ‌الآية (18)

- ‌الآية (19)

- ‌الآية (20)

- ‌الآية (21)

- ‌الآية (22)

- ‌الآية (23)

- ‌الآية (24)

- ‌الآية (25)

- ‌الآية (26)

- ‌الآية (27)

- ‌الآية (28)

- ‌الآية (29)

- ‌الآيتان (30، 31)

- ‌الآية (32)

- ‌الآية (33)

- ‌الآية (34)

- ‌الآية (35)

- ‌الآيتان (36، 37)

- ‌الآية (38)

- ‌الآية (39)

- ‌الآية (40)

- ‌الآية (41)

- ‌الآية: (42)

- ‌الآية (43)

- ‌الآية: (44)

- ‌الآية (45)

- ‌الآية (46)

- ‌الآية (47)

- ‌الآية (48)

- ‌الآية (49)

- ‌الآية (50)

- ‌الآية (51)

- ‌الآية (52)

- ‌الآية (53)

- ‌الآية (54)

- ‌الآية (55)

- ‌الآية (56)

- ‌الآية (57)

- ‌الآية (58)

- ‌الآية (59)

- ‌(الآية: 60)

- ‌الآية (61)

- ‌الآية (62)

- ‌الآية (63)

- ‌الآية (64)

الفصل: ‌ ‌الآية (58) * * *   * قَالَ اللهُ عز وجل: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ

‌الآية (58)

* * *

* قَالَ اللهُ عز وجل: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِيَسْتَأْذِنْكُمُ الَّذِينَ مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ وَالَّذِينَ لَمْ يَبْلُغُوا الْحُلُمَ مِنْكُمْ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ مِنْ قَبْلِ صَلَاةِ الْفَجْرِ وَحِينَ تَضَعُونَ ثِيَابَكُمْ مِنَ الظَّهِيرَةِ وَمِنْ بَعْدِ صَلَاةِ الْعِشَاءِ ثَلَاثُ عَوْرَاتٍ لَكُمْ لَيْسَ عَلَيْكُمْ وَلَا عَلَيْهِمْ جُنَاحٌ بَعْدَهُنَّ طَوَّافُونَ عَلَيْكُمْ بَعْضُكُمْ عَلَى بَعْضٍ كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الْآيَاتِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ} [النور: 58].

* * *

قَوْلهُ: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِيَسْتَأْذِنْكُمُ الَّذِينَ مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ وَالَّذِينَ لَمْ يَبْلُغُوا الْحُلُمَ مِنْكُمْ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ} تقدَّم فَائِدَة تصدير الحُكْم بالخِطَاب، يعني بالنِّداء؛ وهو: التَّنْبيه وبَيان أهميته.

ثم توجيهه إلى المُؤْمِنِينَ فيه أيضًا ثلاث فوائد:

الأوَّل: الإغراء والحث، يعني لإيمانك يوجه إليك هَذَا الخِطَاب.

الثَّاني: أن تنفيذه من مُقتَضيات الإِيمَان.

الثَّالث: أن الإخلال به نقص في الإِيمَان.

وقَوْلهُ: {لِيَسْتَأْذِنْكُمُ الَّذِينَ مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ} (اللَّام) للأمر.

قَالَ المُفَسِّر رحمه الله: [{لِيَسْتَأْذِنْكُمُ الَّذِينَ مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ} مِنْ الْعَبِيد وَالْإِمَاء {وَالَّذِينَ لَمْ يَبْلُغُوا الْحُلُمَ مِنْكُمْ} مِنْ الْأَحْرَار وَعَرَفُوا أَمْر النِّسَاء {ثَلَاثَ مَرَّاتٍ} فِي ثَلَاثَة أَوْقَات] اهـ.

ص: 378

هَذَا تفسير للمرات، فالمُراد بالمرات الأوْقات.

قَوْلهُ: {الَّذِينَ مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ} هو كما قَالَ المُفَسِّر رحمه الله: [مِنْ الْعَبِيد وَالْإِمَاء]؛ لأَن {الَّذِينَ} اسم موصول يشمل الذكور والإناث.

وقَوْلهُ: {مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ} أي: ملكتم، وعبّر باليمين عن النَّفس؛ لأنَّها غالبًا أداة الأخذ والإعطاء.

وقَوْلهُ: {وَالَّذِينَ لَمْ يَبْلُغُوا الْحُلُمَ مِنْكُمْ} يعني: لم يبلغوا زمنًا يحتلمون فيه غالبًا، أو: لم يبلغوا الحلم بمَعْنى العقول، أي: لم يبلغوا أن يَكُونوا في حد العقلاء. وعلى كل حال المُراد به من دون البُلوغ.

وقول المُفَسِّر رحمه الله: [وَعَرَفُوا أَمْر النِّسَاء]؛ كأن المُفَسِّر رحمه الله أخذ هَذَا القَيْد من وُجوب الاسْتِئْذان؛ لأَن من لم يعرف أمر النِّساء لو دخل على الْإِنْسَان في هَذِهِ الأوْقات لا يهمه، ففي هذا القَيْد نظر؛ لأَنَّه لَيْسَ الغرض من ذَلِك دخولهم على النِّساء حَتَّى نقول: إِذَا عرفوا أمر النِّساء بل الغرض من هَذِهِ التوجيهات خوفًا من أن يدخلوا على الْإِنْسَان في حال لا يَجب أن يُطلع عَلَيْها فيها؛ لأَن هَذِهِ الأَحْوال الثَّلاثة عورات، فأي إِنْسَان يدخل عَليْك ولو كَانَ ممَّن لا يعرف أمر النِّساء لا شَك أنك تشمئز منه وتفر من هَذَا الدُّخول.

فالصحيح - كما تقدَّم - أن هَذَا القَيْد الَّذِي ذكره المُفَسِّر رحمه الله لَيْسَ بمراد، بل نقول:{وَالَّذِينَ لَمْ يَبْلُغُوا الْحُلُمَ مِنْكُمْ} ؛ لأنهم إِذَا بلغوا الحلم فسيأتي - إِنْ شَاء اللهُ - الحُكْم فيهم.

قَوْلهُ: {ثَلَاثَ مَرَّاتٍ} يعني في ثلاثة أوْقات؛ فسّرها بقَوْلهُ:

ص: 379

{مِنْ قَبْلِ صَلَاةِ الْفَجْرِ} ؛ لأَن الْإِنْسَان قبل صلاة الفجر يَكُون غير متهيئ لأَن يراه أحد ويدخل علَيْه أحد؛ قد يَكُون في ثياب النَّوم الَّتِي يكره أن يراه أحد وهي عليه، وقد تَكُون ثيابًا أبلغ من ذَلِك، مثل ثيابه مع أهله أو ما أشبه ذَلِك.

والثَّاني: قَالَ: {وَحِينَ تَضَعُونَ ثِيَابَكُمْ مِنَ الظَّهِيرَةِ} أي: وقت الظهر.

والثالث: قَالَ: {وَمِنْ بَعْدِ صَلَاةِ الْعِشَاءِ} .

قَوْلهُ: {ثَلَاثُ عَوْرَاتٍ لَكُمْ} قَالَ المُفَسِّر رحمه الله: [{ثَلَاثُ عَوْرَاتٍ} بِالرَّفْعِ خَبَر مُبْتَدَأ مُقَدَّر بَعْده مُضَاف وَقَامَ المُضَاف إلَيْهِ مَقَامه، أَي: هِيَ أَوْقَات {ثَلَاثُ عَوْرَاتٍ لَكُمْ}] اهـ.

تقدَّم فيما سبق أن قَوْلهُ: {ثَلَاثَ مَرَّاتٍ} يعني ثلاثة أوْقات، أي: يستأذنكم هَؤُلَاءِ في ثلاثة أوْقات.

قَوْلهُ: {ثَلَاثُ عَوْرَاتٍ لَكُمْ} تقدير الكَلام أي: هَذِهِ الثَّلاث ثلاث عورات لكم.

يَقُول المُفَسِّر: إنها على حذف مضاف، أي: هي أوْقات ثلاث عورات لكم؛ لأَن هَذِهِ الأوْقات لَيْسَت هي العورات، اللهم إلَّا على سبيل التجوّز بأن نقول: المُراد بالعورة زمنها، ولِهَذَا المُفَسِّر قدّر قبلها مضاف؛ لأَن الوقت نفسه لَيْسَ بعورة، وعلى هَذَا فلا تَكُون هَذِهِ الأوْقات هي العورات، وإنَّما تَكُون أوْقات عورات ولَيْسَت عورات، ولِهَذَا قَالَ رَحَمَهُ الملَّهُ: أوْقات {ثَلَاثُ عَوْرَاتٍ لَكُمْ} .

والعورة في الأَصْل: كل ما يُستقبح ويُستحى منه شرعًا أو عُرفًا.

هَذِهِ الأوْقات الثَّلاثة أوْقات عورات، لكن كَيْفَ كَانَت أوْقات عورات؟

الجواب: {مِنْ قَبْلِ صَلَاةِ الْفَجْرِ} تَكُون عورة؛ لأَن الْإِنْسَان يَكُون علَيْه ثياب

ص: 380

أو لبس النَّوْم، والتي قد يكره الْإِنْسَان أن يطّلع علَيْه أحد.

{وَحِينَ تَضَعُونَ ثِيَابَكُمْ مِنَ الظَّهِيرَةِ} كَذلِكَ فالْإِنْسَان في وقت القائلة يضع ثوبه وينام عريانًا أو ينام على صفة لا يحب أن يطّلع علَيْه أحد.

{وَمِنْ بَعْدِ صَلَاةِ الْعِشَاءِ} يَكُون متهيئًا للنوم ولابسًا ثياب النَّوم ولا يحب أن يطّلع علَيْه أحد.

ولِهَذَا قَالَ: {ثَلَاثُ عَوْرَاتٍ لَكُمْ} يعني: ثلاث أوْقات عورات لكم.

وتقدير المُفَسِّر صحيح، لأنَّه مفهوم من المَعْنى. يَقُول المُفَسِّر رحمه الله:[وَبِالنَّصْبِ بِتَقْدِيرِ أَوْقَات مَنْصُوبًا بَدَلًا مِنْ مَحَلّ مَا قَبْله قَامَ المُضَاف إلَيْهِ مَقَامه وَهِيَ لِإِلْقَاءِ الثِّيَاب تَبْدُو فِيهَا الْعَوْرَات] اهـ.

يَقُول المُفَسِّر رحمه الله: فيها قراءَتان: بالرَّفع على أنَّها خبر مُبْتَدَأ محذوف، وبالنَّصب

(1)

، ويُقال فيها ما سبق بأنَّها على تقدير مُضاف، أي: أوْقات ثلاث عورات لكم، وهي مَنْصُوبة بدلًا مما قبلها، والذي قبلها:{ثَلَاثَ مَرَّاتٍ} لأَن قَوْلهُ: {ثَلَاثَ مَرَّاتٍ} الأولى بمَعْنى ثلاثة أوْقات، فيَكُون أوْقات ثلاث عورات بدلًا منها وبدل المَنْصُوب يَكُون مَنْصُوبًا، ومع ذَلِك فهي نفسها لَيْسَت هي الأَصْل لا في كونها خبرًا ولا في كونها بدلًا، بل هي قائمة مقام مضاف، تقدير هَذَا المضاف أوْقات ثلاث عورات (أوْقات) بالنَّصب أو (أوْقات) بالرفع.

يَقُول المُفَسِّر رحمه الله مجيبًا على سؤال مقدر: "لمَ كَانَت هَذِهِ الأوْقات أوْقات عورات؟ ".

(1)

حجة القراءات (ص: 505)، والسبعة في القراءات (ص: 459).

ص: 381

قَالَ رحمه الله: [وَهِيَ لِإِلْقَاءِ الثِّيَاب تَبْدُو فِيهَا الْعَوْرَات].

يعني: سمّيت هَذِهِ الأوْقات أوْقات عورة؛ لأنَّها إِذَا أُلقيت الثِّياب فيها للنوم، أو للتهيؤ له أو لكونه أثر النَّوم كما هو الحال قبل صلاة الفجر، فإنَّه تبدو فيها العورة، وكأنَّ عادة النَّاس في ذَلِك الوقت أن الْإِنْسَان إِذَا نام يخلع ثيابه ويلتحف بلحاف وينام، وعلى هَذَا فالعورة تبدو؛ لأَن الْإِنْسَان لَيْسَ علَيْه إلَّا لحاف، وهو متهيئ للنوم؛ وهَذَا لا بأس به.

أما عادة النَّاس اليوم، فهل هي كَذلِكَ؛ يُمْكِن أن يوجد بعض النَّاس لا يلبس، لكن الظَّاهِر أن غالب النَّاس أنهم يلبسون ثوبًا ساترًا.

وكَذلِك أيضًا: كانوا في الزمن السَّابِق، البُيُوت لَيْسَت فيها حجاب ولا أستار، فإذا فاجأ العَبْد أو الصَّغير صاحب المنزل في هَذَا الأوْقات اطّلع على عورته، أما الآن فالبُيُوت محجبة والستور مكثفة، ولهَذَا لو دخل البَيْت ولم يستأذن فإن الحُكْم قد زال، لأَن الحُكْم يدور مع علته؛ حيث قَالَ اللهُ تعالى:{ثَلَاثُ عَوْرَاتٍ لَكُمْ} ولأجل ذَلِك اختلف أهْل العِلْم في هَذِهِ الآية.

فزعم بعضهم أنَّها منسوخة، وَذلِك لأَن النَّاس تركوا العَمَل بها من قديم.

وقال آخرون: بل هي محكمة وباقية، وروي عن ابن عبَّاس رضي الله عنهما بسند صحيح أن هَذِهِ الآيَة محكمة لكن في حال دون حال.

وعندنا أن الحُكْم باقٍ وإن كَانَت البُيُوت محجبة؛ لأنَّنا نقول: الْإِنْسَان عادة إِذَا أَرَادَ أن ينام فإنَّه ينام في مكان خاص، فإذا أَرَادَ أحد من هَؤُلَاءِ المماليك والصغار أن يستأذن علَيْه في محل النَّوم الخاص فإن الحُكْم باق، وماذا تُغني الأَبواب إِذَا أَرَادَ

ص: 382

الْإِنْسَان أن يدخل عَليْك غرفة النَّوم، فإنَّه يفتح الباب بسرعة، هَذَا أَشَدّ، فالحُكْم باق في الحَقيقَة.

والاسْتِئْذان لدخول البَيْت عُمومًا صحيح أنَّه قد زال؛ لأَن النَّاس كانوا في الزمن السَّابِق الحجرة هي حجرة النَّوم وحجرة الأكل وحجرة الجلوس وكل شَيْء، لكن بعد أن وسَّع الله على المُسْلِمِينَ توسعت المباني؛ فصَارَ النَّوْمُ له غرفة خاصة والجلوس له غرفة خاصة وما أشبه ذَلِك، فنقول: الحُكْم باقٍ لكنَّه بالنِّسْبَةِ للغرف المعدَّة للنوم، فإن هَؤُلَاءِ لا يدخلون حَتَّى يستأذنوا في هَذِهِ الأوْقات الثَّلاثة.

أما لو دخل الْإِنْسَان الغرفة الَّتِي ينام فيها في غير هَذِهِ الأوْقات الثَّلاثة فالأَصْل أنَّه لم يدخل للنوم، فالاسْتِئْذان علَيْه لَيْسَ بلازم إلَّا إِذَا علم أن هَذِهِ الغرفة أيضا محل لخلع الثِّياب ولبسها، فإنَّه إِذَا دخل غرفته فلابُدَّ أن يستأذن؛ لأَنَّه يُخشى أن يَكُون خلع ثوبه ليلبس الثَّوْبَ الآخر فتدخل علَيْه على وجه تبدو فيه العورة. فبيّن الله في هَذِهِ الآيَة سبب تَخْصِيصها بهَذه الثَّلاث، والحكْمَةُ في الاسْتِئْذان في هَذِهِ الأوْقات الثَّلاثة أنَّها أوْقات عورة تُلقى فيها الثِّياب غالبًا للنوم، إما للتهيؤ له أو بعده أو من أجل الحَرّ، كما في قَوْلهُ:{مِنَ الظَّهِيرَةِ} .

ثم نقول: هل هَذِهِ الآيَة محكمة وباقٍ حكمها أو منسوخة؟

الجواب: اختلف فيها المفسرون كما تقدَّم، منهم من قَالَ إنها منسوخة ولَيْسَ له دَليل سوى الواقِع وهو تغير النَّاس وعدم اسْتِئْذانهم؛ فظنوا أنَّه نُسخت.

وقال آخرون: بل هي محكمة وباقية.

وقال آخرون: إنها محكمة ولكن ترك النَّاس العَمَل بها من أجل تغيُّر الحال،

ص: 383

وهَذَا هو الَّذِي صح عن ابن عبَّاس رضي الله عنهما

(1)

؛ من أجل تغيُّر الحال؛ لأَنَّه في الزمن السَّابِق كَانَت البُيُوت غير محجّبة ولَيْسَ لِلإنْسان غرفة خاصة للنوم، وكان هَؤُلَاءِ الأطفال وهَؤُلَاءِ المماليك إِذَا دهموا النَّاس وفتحوا الباب بدون اسْتِئْذان قد يدخلون وهم على عورة، وقد يدخلون والْإِنْسَان على امرأته؛ فأُمروا بالاسْتِئْذان.

أما بعد أن وسّع الله الْأَمْر وصَارَت البُيُوت محجّبة وصَارَ النَّوْمُ له غرف خاصة؛ فإننا نقول: لا بأس من دخول المنزل عامَّة في هَذِهِ الأوْقات بدون اسْتِئْذان؛ لأَن العِلَّة الَّتِي أمر الله بالاسْتِئْذان من أجلها زالت، لكن حكم غرفة النَّوم في هَذِهِ الأوْقات الثَّلاثة باقٍ، فلا يجوز الدُّخول لهؤُلَاءِ الأطفال والمماليك إلَّا بعد اسْتِئْذان؛ لئلا يدخلوا والْإِنْسَان على حال لا يحب أن يطّلع علَيْه فيها أحد.

قَوْلهُ: {لَيْسَ عَلَيْكُمْ وَلَا عَلَيْهِمْ جُنَاحٌ} قَالَ المُفَسِّر رحمه الله: [أَي المَمالِيك وَالصِّبْيَان، {جُنَاحٌ} هو فِي الدُّخُول عَلَيْكُمْ بِغَير اسْتِئْذَان {بَعْدَهُنَّ} أَي بَعْد الْأَوْقَات الثَّلَاثَة هُمْ] اهـ.

(الجُناح) بمَعْنى الإثم، وقَوْلهُ:{لَيْسَ عَلَيْكُمْ وَلَا عَلَيْهِمْ جُنَاحٌ بَعْدَهُنَّ} واضح في نفي الجُناح عن الَّذينَ آمنوا، لأنهم مُكَلَّفون، فهم ممَّن يوصفون بالإثم وعَدَمِه.

منطوق الآية أن الدُّخول بغير اسْتِئْذان في غير هَذِهِ الأوْقات الثَّلاثة لَيْسَ فيه إثم لا على الأَوْلياء ولا على الصَّغِار والمماليك؛ لقَوْله: {لَيْسَ عَلَيْكُمْ وَلَا عَلَيْهِمْ} ، وهَذَا واضح لَيْسَ فيه إِشْكال؛ فمفهوم الآية الْكَرِيمَةِ ثبوت الجناح عليكم وعليهم في الدُّخول بغير اسْتِئْذان في هَذِهِ الأوْقات الثَّلاثة، الجناح على الأولياء والصغار والمماليك إِذَا دخلوا بغير اسْتِئْذان في هَذِهِ الأوْقات الثَّلاثة.

(1)

تفسير القرطبي (12/ 303)، وتفسير ابن كثير (6/ 82).

ص: 384

أما ثبوت الجُناح على الأولياء إِذَا دخلوا بغير اسْتِئْذان فالْأَمْر فيه ظاهر وجهه، أنهم لم يدخلوا بغير اسْتِئْذان إلَّا لأَن هَؤُلَاءِ قصّروا في واجب التربية والتأديب، ومن قصّر في واجب ترَتَّبَ علَيْه ما يَتَرَتَّبُ على تركه، هَذَا بالنِّسْبَةِ للأولياء.

وبالنِّسْبَةِ للماليك أيضًا ظاهر أن عليهم جُناح، لأنهم تركوا الواجب وهم مكلّفون بالغون عاقلون، فيأثمون بما يُخالفون الشَّرع.

وبالنِّسْبَةِ للصغار هَذَا هو المشكل؛ فإن الصّغار لا إثم عليهم؛ فكَيْفَ يصح أن ينفي الإثم مع أنَّه لا إثم عليهم، فإن دَلالَة المَفْهُوم تدُلّ على أنَّه يثبت الجنال كوُلَاءِ الصّغار إِذَا دخلوا في هَذِهِ الأوْقات بغير اسْتِئْذان، وهَذَا وجه إِشْكال، فكَيْفَ يثبت الإثم على من لم يُكلّفوا؟

الجواب: على هَذَا أن يُقال: دَلالَة المَفْهُوم لا يُشترط فيها العُموم، وإنَّما تصح وتصدق بالدَّلالَة على فرد من أفراده، ولِهَذَا يَقُولُونَ: المَفْهُوم لا عُمُوم له، بمَعْنى أنَّه يصدق بصُورَة واحدة، فيَكُون المَفْهُوم على حسب الأدلَّة، وهَذه قاعِدَة مطردة.

وهنا صدقت بصورتن من ثلاث، فدَلالَة المَفْهُوم تصدق بصُورَة واحدة من مِئَة صُورَة أو مِئَات، فكَيْفَ وقد صدقت الآن بصورتين من ثلاثة، والصُّورَة الثَّالِثَة لَوْلا الأدلَّة على خروجها لم تخرج أيضًا، والأدلَّة على خروجها عمومات الأدلَّة على أن الصَّغير غير مكلّف وأنه لا إثم عليه.

قَوْلهُ: {طَوَّافُونَ عَلَيْكُمْ} يَقُول المُفَسِّر رحمه الله: [لِلْخِدْمَةِ {بَعْضُكُمْ} طَائِف {عَلَى بَعْضٍ}] اهـ.

ص: 385

قَوْلهُ: {طَوَّافُونَ} خبر مُبْتَدَأ محذوف، والتَّقدير: هم طوّافون، والجُمْلَة هَذِهِ تعليل؛ لقَوْله:{لَيْسَ عَلَيْكُمْ وَلَا عَلَيْهِمْ جُنَاحٌ بَعْدَهُنَّ} ، لماذا لَيْسَ عليهم جُناح؟ لأنهم {طَوَّافُونَ عَلَيْكُمْ} يعني: مترددين، فالطَّائف بمَعْنى المتردد ومنه الطَّائف بالبَيْت لأَنَّه يتردد عليه، ومنه قَوْل النَّبِيّ صلى الله عليه وسلم في الهرة:"إِنَّهَا مِنَ الطَّوَّافِينَ عَلَيْكُمْ"

(1)

، أي: من المترددين عليكم، ومنه قَوْل النَّاس للمساكين: طوّافين؛ لأنهم يترددون على النَّاس يسألونهم.

لماذا لم يكن علَيْنا ولا عليهم جناح بعدهنَّ؟ لأنَّهم طوّافون مترددون، فلو ألزموا بأن يستأذنوا كلما دخلوا لكان في ذَلِك مشقَّة عليهم وعلى أهل البَيْت أيضًا؛ لأَن أهل البَيْت قد يَكُونون مُنشغلِين ولا يسمعون المستأذن، وقد يثقل عليهم الردُّ لأنهم منشغلون، فيَكُون في ذَلِك مشقَّة على المُستأذن وعلى صاحب البَيْت، ولو ألزم الصَّبي الَّذِي له ستُّ سنوات أو عشرُ سنوات كلمَّا خرج من البَيْت أو دخل نقول له: لا بُدَّ أن تستأذن.

وكَذلِك المملوك هَذَا فيه مشقَّة كَبيرَة علَيْه وعلى أهل البَيْت؛ لِهَذَا انتفى الحرج لِوُجود المشقَّة، وسيأتي - إِنْ شَاء اللهُ - ذكر ذَلِك في الفوائد.

وقَوْلهُ: {بَعْضُكُمْ عَلَى بَعْضٍ} قدّره المُفَسِّر رحمه الله بقَوْلهُ: [طَائِف عَلَى بَعْضٍ] وعلى هَذَا فالجُمْلَة الثَّانية {بَعْضُكُمْ عَلَى بَعْضٍ} وتأكيد للجملة الأولى الَّتِي هي {طَوَّافُونَ عَلَيْكُمْ} فبعضكم يطوف على بعض، ويتردد على بعض.

(1)

أخرجه أَبو داود، كتاب الطهارة، باب سؤر الهرة، حديث رقم (75)، والنَّسائي، كتاب الطهارة، باب سؤر الهرة، حديث رقم (68)، والتِّرمِذي، كتاب الطهارة، باب ما جاء في سؤر الهرة، حديث رقم (92)، وابن ماجة، كتاب الطهارة وسننها، باب الوضوء بسؤر الهرة والرخصة في ذلك، حديث رقم (367)، أحمد (5/ 303)(22633)؛ عن أبي قَتَادة.

ص: 386

وكوننا نُلْزَم بالاسْتِئْذان كلما دخل هَذَا الصَّبي أو كلما دخل هَذَا المملوك مع أنَّه دائمًا في خدمة أهل البَيْت يأتي لهم بالحوائج وغير ذَلِك، يترتب على ذَلِك مشقَّة، كما تقدَّم؛ ولِهَذَا قَالَ المُفَسِّر رحمه الله:[وَالجُمْلَة مُؤَكِّدَة لِمَا قَبْلهَا] اهـ؛ وهو قَوْلهُ: {طَوَّافُونَ عَلَيْكُمْ} .

قَالَ المُفَسِّر رحمه الله: [{كَذَلِكَ} أي: كَمَا بُيَّنَ ما ذُكِرَ {يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الْآيَاتِ} أَي الْأَحْكَام، {وَاللَّهُ عَلِيمٌ} بِأُمُورِ خَلْقه {حَكِيمٌ} بِمَا دَبَّرَهُ لهمْ. وَآيَة الاسْتِئْذَان قِيلَ مَنْسُوخَة وَقِيلَ لَا وَلَكِنْ تهَاوَنَ النَّاس فِي تَرْك الاسْتِئْذَان] اهـ.

قَوْلهُ: {كَذَلِكَ} تقع هَذِهِ الجُمْلَة أو يقع هَذَا التَّرْكيب في القُرْآن كثيرًا: {يُبَيِّنُ} ، وقَوْلهُ:{كَذَلِكَ كَانُوا يُؤْفَكُونَ} [الروم: 55]، وما أشبهها. و (الكاف) اسم بمَعْنى (مثل) وهو في محل نصب على المفعوليَّة المُطلقة، وإن شئت فقل على أنَّه مفعول مطلق، العامِل فيه ما بعده، وتقدير الكَلام هُنا، أي: مثل ذَلِك البَيان يُبيِّن الله لكم الآيات، وكلما جاء هَذَا التعبير نقول فيه ما تقدَّم. وقَوْلهُ:{يُبَيِّنُ} أي: يوضح ويظهر.

وقَوْلهُ: {الْآيَاتِ} يَقُول المُفَسِّر رحمه الله: أي: [الأَحْكام]؛ فالآيات هي الأَحْكام، ولو فُسرت بما هو أعم لكان أولى؛ لأَن الله سبحانه وتعالى يبين الآيات الْكَوْنِيَّة والشَّرْعِيَّة، لكن كأن المُفَسِّر رحمه الله خصّها بالأَحْكام؛ لأَن السِّيَاق في الأَحْكام ولَيْسَ في الآيَات الْكَوْنِيَّة، ولكنَّ الأخذ بالعُموم أولى.

وقَوْلهُ: [الأَحْكام]؛ كَيْفَ تَكُون الأَحْكام آيات الله؟

الجواب: لأَن هَذِهِ الأَحْكام إِذَا تأملها الْإِنْسَان وجدها في غايَة الإتقان، ووجدها في غايَة المناسبة للخلق في جلب المَصالِح لهم ودفع المضار عنهم، ولله المثل

ص: 387

الأعلى: لو أن رجلًا كتب له نظامًا: المادة الأولى، المادة الثَّانية

إِلَى آخِرِهِ، وتدبرنا هَذَا النِّظام وإذا هو نظام محكم متقن موافق للمصالح ومناسب، ماذا نقول عن هَذَا الكاتب؟ نقول: إنه حكيم ونعجب بحكمته، ويدُلّ ذَلِك على ذكانَّه وفطنته؛ فكَيْفَ بأحكام الله سبحانه وتعالى الَّتِي لا يُمْكِن أن تتغيَّر ولا أن تتناقض؛ قَالَ تَعَالَى:{وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلَافًا كَثِيرًا (82)} [النساء: 82].

ومَن تدبّر أحكام الله سبحانه وتعالى في خلقه تبين له أنَّها من لدن حكيم خبير؛ ولِهَذَا قَالَ: {كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الْآيَاتِ} .

وفي وصف الأَحْكام بالآيَات إرشَادٌ للخَلق إلى تأمل هَذِهِ الأَحْكام لَيْسَتدلوا بها على مشرِّعها.

لا تظن أنَّه إِذَا قِيلَ لك: الأَحْكام الشَّرْعِيَّة آيات من آيات الله، فلَيْسَ المَعْنى أن تقول: ما شاء الله؛ إنها آيات! وتؤمن بأنَّها آيات، لا، بل يَجب أن تبحث وتتأمل لأجل أن يتبَيَّن لك كَيْفَ كَانَت آية من آيات الله عز وجل لتستدل بها على مشرعها وعلى حكمته وعلمه ورحمته، وهَكَذا أيضًا في الآيات الْكَوْنِيَّة؛ قَالَ تَعَالَى:{وَمِنْ آيَاتِهِ اللَّيْلُ وَالنَّهَارُ وَالشَّمْسُ وَالْقَمَرُ} [فصلت: 37]؛ لا يكفي أن تقول: الليل من آيَاتِ الله وَالنَّهَارُ من آيَاتِ الله وَالشَّمْسُ من آيَاتِ الله وَالْقَمَرُ من آيَاتِ الله، لا يكفي هَذَا؛ إنما يُقال لك إنها من آيات الله ترغيبًا للبحث عن وجه كونها من آيات الله؛ لتستدِلَّ بها عن اقتناع على خالِقها إن كَانَت كونيَّة، وعلى مشرعها إن كَانَت شرعيَّة.

وقَوْلهُ: {وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ} إِشارَة إلى أن هَذِهِ الأَحْكام صادرة عن علم وعن حِكْمَة، وإذا صدر الحُكْم عن علم وعن حِكْمَة صَارَ مطابقًا للحق؛ لأَن مُخَالَفَةُ

ص: 388

الحَقّ في الأَحْكام مرجعها أحد أمرين: إما الجهل، وإما السَّفَه؛ الجهل المنافي للعلم، أو السَّفه المنافي للحكمة، فقد يَكُون المشرِّع جاهلًا فلا يُشرِّع أحكامًا مناسبة لأنَّه جاهل، وقد يَكُون سفيهًا يعلم الأَحْكام ويعلم مصلحتها ولكن لا يريدها فيَكُون سفيهًا، فالله جَلَّ وَعَلَا متَّصف بالعلم والحِكْمة اللتين بهما تَكُون الأَحْكام مناسبة للمصالح، وباختلاف واحد منهما يختل من الأَحْكام بحسبه، والله أعلم.

مِنْ فَوَائِدِ الآيَة الْكرِيمَةِ:

الفَائِدةُ الأُولَى: تصدير الحُكْم بالنِّداء دَليل على العناية به، لأَن النِّداء يقْتَضِي التَّنْبيه، وتوجيهه إلى المُؤْمِنينَ يدُلّ على أن امتثال هَذَا الحُكْم من مُقتَضيات الإِيمَان وأن مخالفته من منافيات الإِيمَان.

الفَائِدة الثَّانية: توجيه الخِطَاب للمُؤْمِنِينَ والحُكْم لغيرهم يدُلّ على أنهم مسؤولون عنهم ومسؤولون عن تنفيذ هَذَا الحُكْم في أولادهم الصِّغار ومماليكهم، وأن هَذَا الصَّغير والمملوك إِذَا خالف فإن إثمه على من لم يقم بواجب التربية والتأديب.

الفَائِدة الثَّالِثَة: وُجوب اسْتِئْذان هَذَيْنِ الصِّنفين من النَّاس: الصِّغار والمماليك في ثلاثة أوْقات فقط وهي المذكورة، وأما من سواهم فيَجب عليهم الاسْتِئْذان دائمًا.

الفَائِدة الرَّابِعَة: تعليل الأَحْكام بمَعْنى أن أحكام الله سبحانه وتعالى كلها مبينة على الحِكَم، وجه ذَلِك من الآية أن الله علل الحُكْم الأوَّل والحُكْم الثَّاني، الحُكْم الأوَّل: وُجوب الاسْتِئْذان في ثلاث أوْقات، لأنَّها عورات، والحُكْم الثَّاني: عدم الاسْتِئْذان فيما عداهم، لأنهم طوَّافون عليكم.

ص: 389

الفَائِدة الخَامِسَة: تَحْريم النَّظر إلى العورات، وجهه أنَّه إِذَا وجب الاسْتِئْذان في هَذِهِ الأوْقات الثَّلاثة خوفًا من أن يفاجئهم على عورة، فمن تعمد أن يرى العورة فهو أولى إِذَا؛ فيُستَفاد منه تَحْريم النَّظر إلى العورة سواء كَانَ النَّاظر صغيرًا أو كبيرًا، وأما تهاون بعض النَّاس في نظر الصَّغير إلى العورة فهَذَا خطأ، وبعض النَّاس إِذَا كَانَ الصَّغير له ست سنوات أو سبع سنوات لا يبالي أن ينظر إلى عورته، وَذلِك لا يجوز لأنَّه لا بُدَّ أن يرتسم في ذهنه هَذَا المنظر، ثم ربما يذكره في يوم من الأَيَّام.

الحاصل أن هَذَا فيه دَليل على تَحْريم النَّظر إلى العورة من الصَّغير والكبير، ولكن المُراد بالصغير الَّذِي يميز؛ لأَن قَوْلهُ:{لِيَسْتَأْذِنْكُمُ} دَليل على أنَّه يميز، فإذا أُمِرَ بالاسْتِئْذان استأذن، أما الصَّغير غير المميز فهو لا يدري عن ذَلِك شيئًا.

الفَائِدة السَّادِسَة: رفع الحرج والمشقَّة على النَّاس، وجه ذَلِك يؤخذ من رفع الحرج في عدم الاسْتِئْذان في غير هَذِهِ الأوْقات الثّلاث؛ لأنهم طوافون عليهم مترددون، والاسْتِئْذان فيه مشقَّة.

الفَائِدة السَّابعَة: أن الوليّ آثِم بما ارتكبه موليه من معْصِيَة أو مُخَالَفَةُ إِذَا كَانَ قد فرّط في تربيته وتأدَيبه؛ لقَوْله: {لَيْسَ عَلَيْكُمْ وَلَا عَلَيْهِمْ جُنَاحٌ بَعْدَهُنَّ} ، هَذَا إِذَا لم يكن بالغًا، فإذا كَانَ بالغًا فقد استقل بنَفْسِه وَيكُون مثل غيره، إِذَا قدر على تغيير المُنْكر الَّذِي ارتكبه وجب عليه.

الفَائِدة الثَّامِنة: طهارة بدن الطِّفل وإن غلب على الظَّن أنَّه نجس، نأخذه من قَوْلهُ صلى الله عليه وسلم في الهرة إنها لَيْسَت بنجس، وعلل ذَلِك بأنَّها من الطوافين، وهَؤُلَاءِ من الطوافين، فربما يؤخذ من هَذَا طهارة بدن الطفل وأنه طاهر ما لم يتيقن النَّجاسة؛ فإذا تيقن النَّجاسة فهَذَا شَيْء ثان.

ص: 390

الفَائِدة التَّاسِعَة: منَّة الله سبحانه وتعالى على العباد ببَيان الآيَات الْكَوْنِيَّة والشَّرْعِيَّة حَتَّى لا يبقى للنَّاس على الله حجة بعد هَذَا البَيان؛ لقَوْله: {كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الْآيَاتِ} .

الفَائِدة العاشرة: أنَّه لا يسْتَطيع أحد أن يأتي بمثل تَشْريع الله عز وجل ونظامه، تؤخذ من كونه جعل ذَلِك من الآيَات، وآيات الله مَعْناها أنَّها لا تصلح لغيره، إِذْ لو صلحت لغيره لم تكن آية له؛ فهَذَا يدُلّ على أن شرع الله لا يُمْكِن أن يأتي أحد بمثْلِه وإلَّا ما صح أن يَكُون آية.

الفَائِدة الحَادِيَة عشرة: ثبوت ملك الْيَمِين للآدميين وأن الإِسْلام جاء بالرّق؛ لقَوْله: {الَّذِينَ مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ} ، ولكن كما هو معْرُوف أن الإِسْلام حمى حقوق هَؤُلَاءِ المماليك ورغب في تحريرهم وعتقهم، وجعل للعتق أَسْبَابًا متعددة.

الفَائِدة الثَّانية عشرة: جَواز وضع الثَّوب عند النَّوْم ويلتحف الْإِنْسَان بلحافه؛ لقَوْله: {وَحِينَ تَضَعُونَ ثِيَابَكُمْ مِنَ الظَّهِيرَةِ} .

لو قَالَ قَائِلٌ: ما الحكْمَةُ في تقييد الظهيرة بقَوْلهُ: {وَحِينَ تَضَعُونَ ثِيَابَكُمْ مِنَ الظَّهِيرَةِ} ولم يقيدها بِذَلِك في قَوْلهُ: ({مِنْ قَبْلِ صَلَاةِ} و {وَمِنْ بَعْدِ صَلَاةِ الْعِشَاءِ} ، ولم يقل:"وحين تضعون ثيابكم من الفجر أو من العشاء"؟

الجواب: لَيْسَتِ العورةُ في وقت الظُّهر حاصلةً لكل النَّاس، إنما تَكُون عورة لمن يضع ثيابه لينام عند الظَّهيرة، وبعضُهم قَالَ: لأَن نومة الظهر لَيْسَت طويلة، فبعض النَّاس لا يخلع ثيابه، ولِهَذَا قيّدها بقَوْلهُ:{وَحِينَ تَضَعُونَ ثِيَابَكُمْ مِنَ الظَّهِيرَةِ} بخلاف نوم الليل؛ فإن النَّاس يخلعون ثيابهم؛ لأَن مدته تطول.

ص: 391

الفَائِدة الثَّالِثَة عشرة: عناية الله سبحانه وتعالى بالخلق وأنهم وإن رضوا بما يُستقبح فلن يرضى الله به، فقد يَقُول قائل: أنا لا أبالي إِذَا دخل عليّ طفلي في هَذِهِ الأوْقات الثَّلاثة؛ فنقول له: ولكن الله سبحانه وتعالى قد اعتنى بك ومنع من الدُّخول عَليْك في هَذِهِ الأوْقات الثَّلاثة.

الفَائِدة الرَّابِعَة عشرة: جَواز الدُّخول بدون اسْتِئْذان في غير هَذِهِ الأوْقات الثَّلاثة.

وهنا بحث: هل هَذِهِ الآيَة محكمة أو منسوخة أو ترك العَمَل بها لزوال الحاجة إلَيها؟

تقدَّم أن الآيَة محكمة؛ لكن يَجب أن نعلم أنَّه لا يجوز أن نقول عن آية أو حديث انَه منسوخ إلَّا بعد أن يتعذر الجمع بينه وبين ما ادُّعيَ أنَّه ناسخ، وأن يُعلم التاريخ بتأخر النَّاسخ، وإذا كنت لا تَسْتَطِيع أن تجمع فَكل العِلْم إلى الله، أما أن تدَّعي النَّسخ فهَذَا لا يجوز؛ لأَن معنى النَّسخ إبطال هَذَا النَّصِّ، وإبطال النَّصِّ صعب؛ فلِذَلك يَجب على الْإنْسَان أن يتورّع عن إطلاق النَّسخ فيما لم يثبت نسخه، ثم إن ترك العَمَل به لا يدُلَّ على أنَّه منسوخ حَقِيقَة؛ لأنَّه كم من أشْيَاء محكمة ترك النَّاس العَمَل بها، فترك النَّاس العَمَل بها إما تهاونًا وإما لزوال السَّبَب الموجب للاسْتِئْذان، والمُفَسِّر رحمه الله له تعليق على هَذَا؛ يَقُول رحمه الله: {وَآيَة الاسْتِئْذَان قِيلَ مَنْسُوخَة وَقِيلَ لَا وَلَكِنْ تهَاوَنَ النَّاس فِي تَرْك الاسْتِئْذَان] اهـ.

هَذَان القولان اللذان أشرنا إلَيْهما.

والصَّحيح أن الآيَة محكمة وباقية، وأن ترك الاسْتِئْذان إما للتهاون وإما لزوال السَّبَب الموجب للاسْتِئْذان، وأما أن نقول: إن الأَحْكام الشَّرْعِيَّة تُنْسَخ بترك النَّاس العَمَل بهَذَا، فهَذَا لا وَجْهَ له.

ص: 392

الفَائِدة الخَامِسَة عشرة: إِثْبات العِلْم والحِكْمة لله من هَذَيْنِ الاسْمين: {وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ} والحكْمَةُ سبق أنَّها وضع الأَشْيَاء في مواضعها، بل سبق أن (الحَكِيم)؛ لَيْسَ معناه ذي الحِكْمة فقط، بل معناه ذو الحِكَم والحِكْمة.

الفَائِدة السَّادِسَة عشرة: أن المشقَّة تجلِب التَّيسير.

* * *

ص: 393