الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الآيتان (36، 37)
* * *
قَالَ اللهُ عز وجل: {فِي بُيُوتٍ أَذِنَ الله أَنْ تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ يُسَبِّحُ لَهُ فِيهَا بِالْغُدُوِّ وَالْآصَالِ (36) رِجَالٌ لَا تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلَا بَيْعٌ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَإِقَامِ الصَّلَاةِ وَإِيتَاءِ الزَّكَاةِ يَخَافُونَ يَوْمًا تَتَقَلَّبُ فِيهِ الْقُلُوبُ وَالْأَبْصَارُ (37)} [النور: 36، 37].
* * *
قَوْلهُ: {فِي بُيُوتٍ} قَالَ المُفَسِّر رحمه الله: [متعَلِّق بِـ {يُسَبِّحُ} الآتِي]. اهـ.
وما معنى المتعَلِّق في النحو؟ الفِعْلُ يتعدَّى إلى المفعول بنَفْسِه، وأحيانًا يتعدَّى إلى المفعول بحرف جرٍّ، إِذَا تعدى إلى المفعول بحرف الجر يُقال: هَذَا متعَلِّق به، وإلا فإن الجارّ والمَجْرور هو المتعَلِّق، وكَذلِك الظرف وإن كَانَ هو المفعول في الحَقيقَة لكنَّه لا يتعدى إلا بنَفْسِه، فـ {يُسَبِّحُ} تَعلَّق بها قَوْلهُ:{فِي بُيُوتٍ} يعني أن العامِل في الجارِّ والمجرور هو قَوْلهُ: {يُسَبِّحُ} .
قَوْلهُ: {أَذِنَ الله أَنْ تُرْفَعَ} قَالَ المُفَسِّر رحمه الله: [تُعَظَّمُ {وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ} بِتَوْحِيدهِ، إِلَى آخِرِهِ] اهـ.
قَوْلهُ: {أَذِنَ} المرادُ هُنا الإذنُ الشَّرعيُّ، فمعنى (أذن) أي: شَرَعَ أنْ تُعظَّم، ولهذَا قالت عَائِشَة رضي الله عنها:"أَمَرَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم بِبِنَاءِ المَسَاجِدِ فِي الدُّورِ"، يعني في الحارات، "وَأَنْ تُطيَّبَ"
(1)
، وهَذَا دليلٌ على أن الإذن هُنا بمَعْنى الشَّرع.
(1)
أخرجه أبو داود، كتاب الصلاة، باب اتخاذ المساجد في الدور، حديث رقم (455)، والترمذي.
وقد سبق أن قررنا أن الإذن ينقسم إلى قِسْمَيْن: إذنٌ كونيٌّ وإذنٌ شرعيٌّ، فمثال الإذنُ الكَوْنيُّ قَوْله تَعَالَى:{مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلَّا بِإِذْنِهِ} [البقرة: 255]، ومثال الإذن الشَّرعي قَوْله تَعَالَى:{شَرَعُوا لَهُمْ مِنَ الدِّينِ مَا لَمْ يَأْذَنْ بِهِ اللَّهُ} [الشورى: 21]، هَذِهِ الآية لا تصح أن تَكُون إذنًا كونيًّا قدريًّا؟ لأَن الإذنَ القدريَّ الكَوْنيُّ لم يَنْتَفِ؛ لأنهم شرعوا، لكن ما شرعوا إلَّا بإذن الله كَوْنًا وقَدَرًا.
فإذن قَوْلهُ: {مَا لَمْ يَأْذَنْ بِهِ اللَّهُ} أي: شرعًا ولأبدَّ.
وقد يأتي الإذن بمَعْنى الاستماع؛ كقوله صلى الله عليه وسلم: "مَا أَذِنَ اللهُ لِشَيْءٍ إِذْنَهُ لِنَبِيٍّ حَسَنِ الصَّوْتِ يَتَغَنَّى بِالْقُرْآنِ"
(1)
؛ معنى: "مَا أَذِنَ اللهُ لِشَيْءٍ" أي: ما استمع لشَيْء مثل استماعِه لِهَذَا النَّبِيِّ الَّذِي يَتَغَنَّى بالقرآن ويجهر به.
إذن قَوْلهُ: {أَذِنَ اللهُ} في الآية الَّتِي معنا من الإذن الشَّرعي، وهل يتعين أن يَكُون للشَّرعي؟
الجواب: نعم، لأَنَّه لو أذن بِذَلِك قدرًا لكانتَ المَسَاجِد تُعَظَّم ولابُدَّ، وتُرفع ولابدَّ؛ لأَن الإذن الكَوْنيُّ أو القدري - والمَعْنى واحد - لا بُدَّ فيه من وقوع المأذون، فكل ما يَتعلَّق بالْأُمُور الْكَوْنِيَّة لا بُدَّ من وقوعها، فلو كَانَ المُراد بالإذن هُنا الكَوْنِيّ لكان رفع المَسَاجِد أمرًا حتميًّا، مع أَنَّنا نجد أن المَسَاجِدَ أحيانًا لا تُرفع ولا تُعظم بل
= كتاب أَبواب الصلاة، باب ما ذكر في تطييب المساجد، حديث رقم (594)، وابن ماجة كتاب المساجد والجماعات، باب تطهير المساجد وتطييبها، حديث رقم (759)، وأحمد (6/ 279)(26429)؛ عن عَائِشَة.
(1)
أخرجه البخاري، كتاب التوحيد، باب قول النَّبِيّ صلى الله عليه وسلم:"الماهر بالقرآن مع السفرة الكرام البررة" و"زينوا القرآن بأصواتكم"، حديث رقم (7544)، ومسلم كتاب صلاة المسافرين وقصرها، حديث رقم (792)؛ عن أبي هريرة.
تُمنع، قَالَ تَعَالَى:{وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ مَنَعَ مَسَاجِدَ اللَّهِ أَنْ يُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ} [البقرة: 114].
قَوْلهُ: {فِى بيُوُتٍ} الثَّابت عن السَّلف أن المُراد بالبُيُوت هُنا المَسَاجِد، ولِهَذَا قَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم:"مَا اجْتَمَعَ قَوْمٌ فِي بَيْتٍ مِنْ بُيُوتِ اللهِ يَتْلُونَ كِتَابَ اللهِ وَيَتَدَارَسُونَهُ بَيْنَهُمْ"
(1)
.
قَوْلهُ: {أَذِنَ} أي: شَرَعَ أنْ تُرفعَ وتُعَظَّمَ، وفي الحَقيقَة أن رفعَها أعمُّ من التَّعظيم، فالمَسَاجِد تُرفع بالتَّعظيم وبغيره، لكن أظهر ما يَكُون الرَّفع بالتَّعظيم.
قَوْلهُ: {يُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ} أي: اسم الله، والمُراد أن الله يُذكر بأسْمَائِه؛ لأنَّه إِذَا ذُكِرَ الاسْمُ ذُكر المُسمى، لكن بأي شَيْء يُذكر؟ بالقِراءَة والتَّسبيح، كما سيأتي أيضًا، المُهِمّ أن يُذكر بالثَّناء والتَّمجيد، وهَذَا يشمل الصَّلاة وغير الصَّلاة.
قَوْلهُ: {يُسَبِّحُ لَهُ} وهَذَا التَّنزيه، فيَكُون في الآية إِشارَة إلى أمرين:
إلى إِثْبات الكَمال في قَوْلهُ: {يُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ} وإلى نفي النَّقص في قَوْلهُ: {يُسَبِّحُ لَهُ فِيهَا بِالْغُدُوِّ وَالْآصَالِ} إِلَى آخِرِهِ.
قَوْلهُ: {يُسَبِّحُ لَهُ فِيهَا} قَالَ المُفَسِّر رحمه الله: [يُسَبِّحُ - بِفَتْحِ المُوَحَّدَةِ وَكَسْرِهَا - أَي: يُصَلِّي] اهـ.
{يُسَبِّحُ} فيها قراءتان سبعيتان
(2)
، الفتح والكسر، وسيأتي إِنْ شَاء اللهُ تخريج كلٌّ منهما فيما بعد.
(1)
أخرجه مسلم، كتاب الذكر والدعاء والتوبة والاستغفار، باب فضل الاجتماع على تلاوة القرآن وعلى الذكر، حديث رقم (2699) عن أبي هريرة.
(2)
حجة القراءات (ص: 501).
وقوله رحمه الله: [أَي يُصَلِّي]؛ هَذَا فيه نظرٌ إن قُصِدَ بِذَلِك حصرُ التَّسبيح بالصَّلاة، وإن قُصِدَ بِذَلِك التَّمثيل فهَذَا صحيحٌ؛ فإن قَوْلهُ:{يُسَبِّحُ لَهُ فِيهَا} أعم من كونهم يصلون بل هم يسبحون الله بالصَّلاة وغيرها مما يَكُون به تنزيهُ الله سبحانه وتعالى.
قَوْلهُ: {بِالْغُدُوِّ} قَالَ المُفَسِّر رحمه الله: [مَصْدَرٌ بِمَعْنَى الْغَدَوَات: أَي الْبِكْر {وَالْآصَالِ}: الْعَشَايَا مِنْ بَعْد الزَّوَال] اهـ.
قَوْلهُ: {بِالْغُدُوِّ} الغدو؛ يَقُول المُفَسِّر رحمه الله: [إنها مصدر، غدا يغدو غدوًا لكنَّه بمَعْنى الجمع؛ أي: بمَعْنى الغدوات، يعني: أول النَّهار، وإنَّما لجأ المُفَسِّر إلى جعل الغدو بمَعْنى الغدوات لمطابقة {وَالْآصَالِ}؛ لأَن الآصال جمع أصيل؛ وهو آخر النَّهار، وقوله رحمه الله: [هي العشايا]؛ العشايا: جمع عَشِيّ أيضًا، وهو ما كَانَ بعد الزوال، وفي حديث أبي هريرة رضي الله عنه في قصة ذي اليدين: أَنَّ رَسُول اللهِ صلى الله عليه وسلم صَلَّى إِحْدَى صَلَاتِي الْعَشِيِّ
(1)
، يَكُون بالغدو: صلاة الفجر، والعشي: صلاة الظهر والعصر، ويبقى المغرب والعشاء؛ وهما مما يُصلَّى في الليل.
وأن الصَّواب في ذَلِك أن التَّسبيح أعم من الصَّلوات، ثم إنه يحتمل أن يُقصد {بِالْغُدُوِّ وَالْآصَالِ} جميع الوقت كما في قَوْله تَعَالَى في أهل الجَنَّة:{وَلَهُمْ رِزْقُهُمْ فِيهَا بُكْرَةً وَعَشِيًّا} [مريم: 62]؛ الرزق لأهل الجَنَّة دائم وليس في الصُّبح وآخر النَّهار فقط، فهو دائم، لكن يُقال: بكرة وعشيًّا والمُراد الدوام، فإما أن تُحمل {بِالْغُدُوِّ وَالْآصَالِ}
(1)
أخرجه البخاري، كتاب الصلاة، باب تشبيك الأصابع في المسجد وغيره، حديث رقم (482)، ومسلم، كتاب المساجد ومواضع الصلاة، باب السهو في الصلاة والسجود له، حديث رقم (573)؛ عن أبي هريرة.
على معنى الدوام؛ أي: يسبحون دائمًا، أو على معنى أول النَّهار وآخِره، وَيكُون هَذَا إِشارَة للتسبيحات الَّتِي تُذكر في أول النَّهار وفي آخِره؛ ومنها صلاة الفجر وصلاة العصر؛ فإن الصَّلاتين هاتين أفضل الصَّلوات، كما جاء في الحديث الصَّحيح:"مَنْ صَلَّى الْبَرْدَيْنِ دَخَلَ الجَنّةَ"
(1)
، وقال صلى الله عليه وسلم:"إِنَّكُمْ سَتَرَوْنَ رَبَّكُمْ عز وجل، لَا تُضَامُونَ فِي رُؤْيَتِهِ كَماَ تَنْظُرُونَ إِلَى الْقَمَرِ لَيْلَةَ الْبَدْرِ، فَمَنِ اسْتَطَاعَ مِنْكُمْ أَنْ لَا يُغْلَبَ عَلَى صَلَاةٍ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسرِ وَلَا غُرُوبِهَا فَلْيَفْعَلْ"
(2)
؛ يعني: الفجر والعصر.
على كل حال {بِالْغُدُوِّ وَالْآصَالِ} إن أُريد بهما حقيقتهما؛ وهو أول النَّهار وآخِره، كَانَ في ذَلِك إِشارَة إلى ما يُقال من التَّسبيح والتَّعظيم لله والتهليل في أول النَّهار وآخِره، وكَذلِك أيضًا إلى صلاة الفجر وصلاة العصر، وإن قُلنا: المُراد بـ {بِالْغُدُوِّ وَالْآصَالِ} كل الدهر، وأن هَذَا من باب ذكر الطرفين الَّذِي يشمل الجميع، كما في قَوْلهُ:{وَلَهُمْ رِزْقُهُمْ فِيهَا بُكْرَةً وَعَشِيًّا} [مريم: 62]؛ فإنَّه يشمل كل ما يُسبَّح لله تَعَالَى في المَسَاجِد في أول النَّهار وآخِره وفي الليل أوله وآخِره ووسطه.
قَوْلهُ: {رِجَالٌ} قَالَ المُفَسِّر رحمه الله: [فَاعِل يُسَبِّح بِكَسْرِ الْبَاء وَعَلَى فَتْحهَا نَائِب الْفَاعِل لَهُ، و {رِجَالٌ} فَاعِل فِعْل مُقَدَّر جَوَاب سُؤَال مُقَدَّر كَأَنَّهُ قِيلَ: مَنْ يُسَبِّحهُ؟ ] اهـ.
(1)
أخرجه البخاري، كتاب مواقيت الصلاة، باب فضل صلاة الفجر، حديث رقم (574)، ومسلم، كتاب المساجد ومواضع الصلاة، باب فضل صلاتي الصبح والعصر والمحافظة عليهما، حديث رقم (635)؛ عن أبي موسى الأشعري.
(2)
أخرجه البخاري، كتاب مواقيت الصلاة، باب فضل صلاة العصر، حديث رقم (554)، ومسلم، كتاب المساجد ومواضع الصلاة، باب فضل صلاتي العصر والمحافظة عليهما، حديث رقم (633)؛ عن جرير بن عبد الله.
ننظر الآن توجيه القراءتين: {يُسَبِّحُ} و"يُسَبَّحُ".
إذا كَانَ الفِعْل مبنيًّا للفاعل يَكُون قَوْلهُ: {رِجَالٌ} وفاعل {يُسَبِّحُ} . وعلى قِراءَة "يُسَبَّحُ" يَكُون الفِعْل مبنيًّا للمفعول يحتاج إلى نائب فاعل، ولا يصِح أن يَكُون {رِجَالٌ} نائب فاعل؛ لأَنَّه لو كَانَ نائب فاعل لكان الَّذينَ يُسبَّحون الرِّجَال وهَذَا شَيْء غير ممكن، إذن أين نائب الفاعل؟ نائب الفاعل الجارّ والمَجْرور في قَوْلهُ:"يُسَبَّحُ لَهُ"، وإذا لم يوجد المفعول في الفِعْل المبني للمجهول ناب عنه الظرف والجارّ والمَجْرور؛ مثلما لو قلت: ضُرِب الضربُ، وما أشبه ذَلِك؛ فإنَّ المصدر ينوب عن المفعول به، قَالَ ابن مالك رحمه الله
(1)
:
وَقَابِلٌ مِنْ ظَرْفٍ أوْ مِنْ مَصْدَرِ
…
أَوْ حَرْفِ جَرٍّ بِنَيِابَةٍ حَرى
في الآيَة "يُسَبَّحُ لَهُ" إذا قُلنا: {لَهُ} يَكُون حرف الجر هو نائب الفاعل. يبقى الإِشْكال في {رِجَالٌ} وعلى قِراءَة "يُسَبَّحُ". نقول: {رِجَالٌ} فاعل لفعل محذوف، هَذَا الفِعْل المحذوف أوجبه كَلِمة "يُسَبَّحُ" كأنه قِيلَ: من يُسبِّح له؛ فقِيلَ: {رِجَالٌ} وعلى هَذَا فتكون {رِجَالٌ} فاعلًا لفعل محذوف دل علَيْه الفِعْل المذكور.
إذن {يُسَبِّحُ} فيها قراءتان سبْعيَّتان؛ فتح الباء وكسرها، وتبيَّن الآن توجيه كل من القراءتين.
قَوْلهُ: {رِجَالٌ لَا تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ} قَالَ المُفَسِّر رحمه الله: [شِرَاء {وَلَا بَيْعٌ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَإِقَامِ الصَّلَاةِ} ؛ حُذِفَ هَاءُ إقَامَة تَخْفِيفًا {وَإِيتَاءِ الزَّكَاةِ يَخَافُونَ يَوْمًا تَتَقَلَّبُ فِيهِ الْقُلُوبُ} تَضْطَرِب
(1)
البيت رقم (250) من الألفية.
{فِيهِ الْقُلُوبُ وَالْأَبْصَارُ} مِنْ الخَوْف؛ {الْقُلُوبُ} بَيْن النَّجَاة وَالهَلَاك {وَالْأَبْصَارُ} بَيْن نَاحِيَتَيْ الْيَمِين وَالشِّمَال: هُوَ يَوْم الْقِيَامَة] اهـ.
قَوْلهُ: {رِجَالٌ لَا تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلَا بَيْعٌ} . كَلِمة {رِجَالٌ} مهو تدُلّ على المدح والثَّناء كما يُقال: فلانٌ رجل أي: أَنَّه اتصف بصفة الرجولة، ولِذَلك لا تُطلق إلَّا على البالغ العاقِل، وقَوْلهُ:{رِجَالٌ لَا تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلَا بَيْعٌ} لم يقل: لا يبيعون ولا يشترون؛ لأَن الَّذِي لا يبيع ولا يشتري قد يأتي إلى المسجد لَيْسَد الفراغ، لكن الَّذِي يبيع ويشتري له عمل وتجارة، بخلاف الَّذِي لا عمل له ولا شغل، وهَذَا أبلغ في الثَّناء؛ فكونهم يبيعون ويشترون وهَذَا البيع والشِّراء لا يلهيهم عن ذكر الله.
وقَوْلهُ: {تِجَارَةٌ وَلَا بَيْعٌ} المُفَسِّر رحمه الله فسَّر التجارة بالشِّراء؛ لماذا؟ في مقابلة قَوْلهُ: {بَيْعٌ} ولكنه تفسير غير صحيح؛ لأَن الشِّراء مفهوم من قَوْلهُ: {بَيْعٌ} ؛ إِذْ لا يوجد بيع إلَّا بشراء، لكن التجارة أعم من البيع، قد يلهو الْإِنْسَان في تجارته بتصنيفها وتبويبها وحفظها وصيانتها وما أشبه ذَلِك.
ربما لا يلهو وهو يبيع ويشتري لكن يلهو بطريق آخر بهَذ التجارة؛ لِذَلك نقول: المُراد بالتجارة في الآيَة ما يتَّجر به الْإِنْسَان، ولهوه به لَيْسَ بالشِّراء بل بما هو أعم، أما الشِّراء فمفهوم من البيع؛ لأنهم إِذَا اشتروا فقد باع عليهم غيرهم، وإذا باعوا فقد اشترى منهم غيرهم.
وقَوْلهُ: {عَنْ ذِكْرِ اللهِ} يعني التجارة لا تلهيهم عن ذكر الله، يقدِّمون ذكر الله على تجارتهم، لكن النَّاس ينقسمون إلى ثلاثة أقسام في مَسْأَلة التجارة والذكر:
القِسْم الأوَّل: من يقدِّم التجارة على الذكر، وهَذَا خاسر؛ لقَوْله تَعَالَى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُلْهِكُمْ أَمْوَالُكُمْ وَلَا أَوْلَادُكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ
هُمُ الْخَاسِرُونَ (9)} [المنافقون: 9]، ولو ربحوا في الأموال والأولاد فهم خاسرون.
القسم الثَّاني: مَن لا تلهيه التجارة ولا الأموال ولا الأولاد عن ذكر الله، لكن يعمل في محله، فهَذَا رابح، لم يفته ماله وولده ولم يفته ذكر الله، أتى لِهَذَا بنصيبه ولِهَذَا بنصيبه.
القسم الثّالث: من هو أعلى من هَذَا، يجعل تجارته وولده من ذكر الله، بحيث يقصد بهَذ التجارة الاستعانة على طاعة ربه وعلى بذل أمواله فيما يُرضي ربه، وكَذلِك بالنِّسْبَةِ للأولاد يجعل اشتغاله بهم لتربيتهم والتأمل في نعمة الله علَيْه بهم وما أشبه ذَلِك؛ هَذِهِ هي المرتبة العليا، وعلى هَذَا يَكُون هَذَا الرَّجل رابحًا في الطرفين في آن واحد، والقسم الثَّاني: رابح في الطرفين لكن على التناوب، يربح في هَذَا ويعطيه ما يستحق ويربح في هَذَا ويعطيه ما يستحق، أما الثّالث والأخير -وهو من جعل اشتغاله بتجارته ذكرًا لله- هَذَا شأنه كبير، ولكن قلَّ من يوجد بهَذِهِ الصِّفة وهو نادر جدّا، وأكثر النَّاس اليوم من القِسْم الأوَّل الَّذِي هو في الحَقيقَة أخيرًا في المرتبة، فهو أول في الذكر وآخر في المرتبة.
قَوْلهُ {عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَإِقَامِ} إقام بمَعْنى إقامة، لكن حُذفت التاء تخفيفًا. {الصَّلَاةِ} لَيْسَ مُجرَّد فعلها بل هو أمر فوق الفِعْل، فمعنى إقام الشَّيء جعله قَيِّمًا مستقيمًا؛ وَذلِك بفعل شروطها وأركانها وواجباتها، فلَيْسَ كل مُصَل مقيما للصلاة، ولِهَذَا نجد أن الثَّناء الَّذِي يذكره الله في القُرْآن بل والأوامر الَّتِي يأمر الله بها في القُرْآن غالبًا في الإقامة؛ لأَن ذَلِك هو الأَصْل لَيْسَ مُجرَّد فعل الصَّلاة.
ولِهَذَا نجد أن المصلِّي رجلان: أفعالهما مع الإمَام واحدة ودخولهما في الصَّلاة واحد وخروجهما منها واحد، ولكن بين صلاتيهما كما بين السَّماء والأَرْض! لأَن
أحَدهما أقام الصَّلاة والآخر صلَّى فقط، لكن الأوَّل أقامها خاشعًا مستبصرًا مخلصًا يرجوا ثواب الله ويخاف عقاب الله.
{الصَّلَاةِ} المذكورة في القُرْآن كثيرًا بُيِّنت بالسُّنَّة، توجد أشْيَاء مبينة في القُرْآن لكن غالب ذَلِك بينته سُنَّة الرَّسُول صلى الله عليه وسلم وبهَذَا نعرف أن السنة ضرورية في الشَّرع وأن من أنكرها فقد هدم جانبًا كبيرًا من الشَّرع، وقد وُجد بعض النَّاس أنكر السنة والعِيَاذ وباللهِ.
وسَمِعْنَا أن بعض الزعماء من العرب صاروا يصادرون كتب السنة، قِيلَ لي أنهم يصادرون البخاري ومسلمًا من المكتبات حَتَّى لا تنتشر سُنَّة الرَّسُول عليه الصلاة والسلام بين أمته - والعِيَاذ باللهِ -، وهَذَا لا شَك أنَّه كفر، لأَن الَّذِي يُبيح لنفسه أن يُصادر كتب الحديث الَّتِي تلقتها الأُمَّة بالقبول، لو صادروا كتبًا مضلَّة ضعيفة موضوعة لكنا نحمدهم على هَذَا الْأَمْر، لكن يصادرون كتبًا صحيحة تلقتها الأُمَّة بالقبول وعلمها المُسْلِمُونَ واعتبروها سندًا، هَؤُلَاءِ لا شَك أنهم كفَّار، لأنهم كَفَرُوا بسُنَّة الرَّسُول عليه الصلاة والسلام بل بالقرآن نفسه، لأَن الله يَقُول:{لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيرًا (21)} [الأحزاب: 21]، ويقول:{مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللَّهَ} [النساء: 80]، ويقول:{قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ} [آل عمران: 31]، ويقول:{وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا} [الحشر: 7]، ويقول:{وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلَالًا مُبِينًا} [الأحزاب: 36].
والآيَات في هَذَا كَثيرَة وبينة واضحة، فإقامة الصَّلاة ما بيَّنها بَيانًا كافيًا إلَّا سُنَّة الرَّسُول عليه الصلاة والسلام.
وقَوْلهُ: {وَإِيتَاءِ الزَّكَاةِ} أي: إعطائها، والزَّكاة معْرُوفة لنا، وهي الجزء الَّذِي أوجبه الله تَعَالَى في أموالنا، ولم يبين المُؤْتَى له، لكنَّه مبيَّن في القُرْآن في سورة التَّوبة في قَوْله تَعَالَى:{إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ وَالْعَامِلِينَ عَلَيْهَا وَالْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ وَفِي الرِّقَابِ وَالْغَارِمِينَ وَفِي سَبِيلِ اللَّهِ وَابْنِ السَّبِيلِ} [التوبة: 60]، هَؤُلَاءِ الَّذينَ تؤتى إلَيْهم الزَّكاة.
قَوْلهُ: {يَخَافُونَ يَوْمًا تَتَقَلَّبُ فِيهِ الْقُلُوبُ وَالْأَبْصَارُ} . قَوْلهُ: {يَخَافُونَ} صفة لرجال لا تلهيهم، وهم أيضًا في هَذِهِ الأَحْوال:{يَخَافُونَ يَوْمًا} يخافون حال تسبيحهم بالغدو والآصال، وفي حال إقامتهم الصَّلاة وإيتائهم الزَّكاة، وفي حال عدم لهوهم في التجارة والبيع، كل هَذِهِ الأعْمَال مبنية على هَذِهِ العقيدة والأساس.
وقَوْلهُ: {يَخَافُونَ يَوْمًا تَتَقَلَّبُ فِيهِ الْقُلُوبُ وَالْأَبْصَارُ} خوفهم من هَذَا اليوم يدُلّ على إيمانهم به إِذْ لا يخاف الْإِنْسَان من شَيْء لا يؤمن به، فهو يدُلّ على أن عندهم تمام الإِيمَان واليقين باليوم الآخر ولذَلك يخافون هَذَا اليوم، هَذَا اليوم وصفه الله بقَوْلهُ:{تَتَقَلَّبُ} قَالَ المُفَسِّر رحمه الله: [تضطرب {فِيهِ الْقُلُوبُ وَالْأَبْصَارُ}] اهـ.
قَوْلُهُ: {تَتَقَلَّبُ} التقلب معْرُوف؛ هو تغيُّر الهيئة من حال إلى حال، وهَذِهِ القلوب تتقلب وتضطرب وتنتقل من حال إلى حال؛ لكن كَيْفَ تتقلب؟ يَقُول المُفَسِّر رحمه الله: [من الخَوْف القلوب بين النَّجاة والهلاك} اهـ.
لا يدري الْإِنْسَان هل ينجو أو يهلك فقلبه متقلب مضطرب، أحيانًا يغلب علَيْه الرجاء وأحيانًا علَيْه الجوْف، كَذلِكَ الأبصار تتقلب، يَقُول المُفَسِّر رحمه الله:[من ناحيتي الْيَمِين والشِّمال]. اهـ؛ لأَن النَّاس كثيرون وكأنهم لَيْسَوا بعقلاء؛ ولِهَذَا قَالَ اللهُ عز وجل: {وَتَرَى النَّاسَ سُكَارَى وَمَا هُمْ بِسُكَارَى وَلَكِنَّ عَذَابَ اللَّهِ شَدِيدٌ}
[الحج: 2]، وقَالَ تَعَالَى:{وَلَا تَحْسَبَنَّ اللَّهَ غَافِلًا عَمَّا يَعْمَلُ الظَّالِمُونَ إِنَّمَا يُؤَخِّرُهُمْ لِيَوْمٍ تَشْخَصُ فِيهِ الْأَبْصَارُ (42) مُهْطِعِينَ مُقْنِعِي رُءُوسِهِمْ لَا يَرْتَدُّ إِلَيْهِمْ طَرْفُهُمْ وَأَفْئِدَتُهُمْ هَوَاءٌ} [إبراهيم: 42، 43]، الواحد إِذَا رأيته كأنه مجنون أو كأنه سكران من شدة الهول، وما ظنُّك بالْقَلْب حينئذٍ؟ ! لا شَك أنَّه في الحقيقَة سوف يتقلّب ويضطرب ولا يدري المآل، هَذَا الَّذِي يحصل يوم القِيامَة.
* * *