الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
14
- ولما قال تعالى (1): {مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ} ثم أمر بطاعة الله وطاعة رسوله حذر مما يلحق الرجل من امرأته وولده بسبب ما يصدر من بعضهم من العداوة .. ولا أعدى على الرجل من زوجته وولده إذا كانا عدوين. وذلك في الدنيا والآخرة، أما في الدنيا .. فبإذهاب ماله وعرضه، وأما في الآخرة: فبما يسعى في اكتسابه من الحرام لهما، وبما يكسبانه منه بسبب جاهه. وكم من امرأة قتلت زوجها وأفسدت عقله، وكم من ولد قتل أباه، وفي التواريخ وفيما شاهدناه من ذلك كثير .. فقال:{يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا} إيمانًا خالصًا {إِنَّ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ} جمع زوج يعم الحليل والحليلة، كما سيأتي عن "اللباب". لكن المراد هنا: الزوجة، بقرينة سبب النزول كما مر. {وَأَوْلَادِكُمْ} جمع ولد يعم الابن والبنت {عَدُوًّا لَكُمْ} يشغلونكم عن طاعة الله تعالى، وإن لم يكن لهم عداوة ظاهرة، فإن العدو لا يكون عدوًا بذاته وإنما يكون عدوًا بفعله. فإذا فعل الزوج والولد فِعل العدو .. كان عدوًا، ولا فعل أقبح من الحيلولة بين العبد والطاعة، ويدخل في ذلك سبب النزول دخولًا أوليًا، وهو: أن رجالًا من مكة أسلموا وأرادوا أن يهاجروا فلم يدعهم أزواجهم ولا أولادهم، فأمر الله سبحانه بأن يحذروهم فلا يطيعوهم في شيء مما يريدونه منهم مما فيه مخالفة لما يريده الله تعالى، أو يخاصمونكم (2) في أمور الدين أو الدنيا، وأشد المكر ما يكون في الدين، فإن ضرره أشد من ضرر ما يكون في الدنيا. وجاء في الخبر:"ليس عدوك الذي لقيته فقتلته وآجرك الله على قتله، ولكن أعدى عدوك: نفسك التي بين جنبيك، وامرأتك التي تضاجعك على فراشك، وولدك من صلبك". وقدم الأزواج على الأولاد؛ لأنها مصادر الأولاد ولكونها محل الشهوات وألصق بقلوب الناس وأشد إشغالًا لهم عن العبودية، ولذا قدمها الله سبحانه في قوله:{زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَوَاتِ مِنَ النِّسَاءِ} .
وفي "اللباب": إن قوله: {مِنْ أَزْوَاجِكُمْ} يدخل فيه الذَّكر، فكما أن الرجل تكون زوجته وولده عدوًا له .. كذلك المرأة يكون زوجها عدوًا لها بهذا المعنى، فيكون الخطاب هنا عامًا على التغليب، ويحتمل أن يكون الدخول باعتبار الحكم لا باعتبار الخطاب. انتهى.
(1) البحر المحيط.
(2)
روح البيان.
وأفادت {مِنْ} التبعيضية في قوله: {إِنَّ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ} إلخ، أن منها ما ليس بعدُ، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم:"الدنيا كلها متاع، وخير متاعها المرأة الصالحة"، وقال صلى الله عليه وسلم:"ما استفاد المؤمن بعد تقوى الله خيرًا له من زوجة صالحة، إن أمرها .. أطاعته، وإن نظر إليها .. سرته، وإن أقسم عليها .. أبرّته، وإن غاب عنها .. نصحته في نفسها وماله". فإذا كانت المرأة على هذه الأوصاف فهي ميمونة مباركة. وإلا .. فهي مشؤومة منحوسة.
والضمير في قوله (1): {فَاحْذَرُوهُمْ} يعود إلى العدو أو إلى الأزواج والأولاد لكن لا على العموم بل إلى المتصفين بالعداوة منهم، إنما جاز جمع الضمير على الوجه الأول؛ لأن العدو يطلق على الواحد والاثنين والجماعة. والحذر (2) الاحتراز عن المخيف؛ أي: احفظوا أنفسكم من محبتهم وشدة التعلق والاحتجاب بهم، ولا تؤثروا حقوقهم على حقوق الله تعالى. وفي الحديث:"إذا كان أمراؤكم خياركم وأغنياؤكم أسخياءكم، وأمركم شورى بينكم - أي: ذا تشاور لا ينفرد أحد برأي دون صاحبه - فظهر الأرض خير لكم من بطنها. وإذا كان أمراؤكم شراركم، وأغنياؤكم بخلاءكم، وأمركم إلى نسائكم .. فبطن الأرض خير لكم من ظهرها". وفي الحديث: "شاوروهن وخالفوهن"(3).
والمعنى (4): يا أيها الذين صدقوا الله ورسوله! إن من أزواجكم وأولادكم أعداء لكم، يحولون بينكم وبين الطاعات التي تقربكم من ربكم والأعمال الصالحة التي تنفعكم في آخرتكم، وربما حملوكم على السعي في اكتساب الحرام واكتساب الآثام لمنفعة أنفسهم. وروي: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "يأتي زمان على أمتي يكون فيه هلاك الرجل على يد زوجه وولده، يعيرانه بالفقر، فيركب مراكب السوء فيهلك". ومن الناس من يحمله حبهم، والشفقة عليهم ليكونوا في عيش رغد في حياته وبعد مماته، فيرتكب المحظورات لتحصيل ما يكون سببًا لذلك، وإن لم يطالبوه، فيهلك.
(1) الشوكاني.
(2)
روح البيان.
(3)
هذا ليس بحديث وربما كان أثرًا عن سيدنا عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه. اهـ.
(4)
المراغي.