المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

وفي إيراده (1) صفة الرب توبيخ لهم، وتجهيل لما أن - تفسير حدائق الروح والريحان في روابي علوم القرآن - جـ ٢٩

[محمد الأمين الهرري]

الفصل: وفي إيراده (1) صفة الرب توبيخ لهم، وتجهيل لما أن

وفي إيراده (1) صفة الرب توبيخ لهم، وتجهيل لما أن عصيان العبيد لربهم ومولاهم طغيان وجهل بشأن سيدهم ومالكهم وبمرتبة أنفسهم ودوام احتياجهم إليه في التربية. وقوله:{وَكَأَيِّنْ} مبتدأ، و {مِنْ قَرْيَةٍ} بيان له، و {عَتَتْ} خبر المبتدأ. {فَحَاسَبْنَاهَا} في الدنيا {حِسَابًا شَدِيدًا}؛ أي: ناقشناها في الحساب مناقشة شديدة، وضيقنا وشددنا عليها، وأخذناها في الدنيا بدقائق ذنوبها وجرائمها من غير عفو، بنحو القحط والجوع، والأمراض والأوجاع، والسيف وتسليط الأعداء عليها، وغير ذلك من البلايا مقدمًا معجلًا على استئصالها وذوقها العذاب الأكبر لترجع إلى الله تعالى؛ لأن البلاء كالسوط للسوق، فلم تفعل ولم ترفع رأسًا، فابتلاها الله بما فوق ذلك، كما قال:{وَعَذَّبْنَاهَا} ؛ أي: استئصلناها بالعذاب {عَذَابًا نُكْرًا} ؛ أي: استئصالًا عظيمًا منكرًا هائلًا منفرًا عنه بالطبع، لشدته وإيلامه، أو غير متوقع، فإنهم كانوا لا يتوقعونه، ولو قيل لهم .. لما يصدقونه. والقهر الغير المتوقع أشد ألمًا، واللطف الغير المتوقع أتم لذة، وهو العذاب العاجل بالاستئصال، بنحو الإغراق والإحراق، والريح والصيحة، فالنكر: الأمر الصعب الذي لا يعرف، والإنكار ضد العرفان. وقرأ الجمهور بسكون الكاف، وقرىء بضمها.

وقال مقاتل: حاسبنا أهلها في الدنيا على عملها بالأخذ الشديد، وعذبناها في الآخرة عذابًا منكرًا فظيعًا بجهثم. وقيل: في الكلام تقديم وتأخير؛ أي: عذبنا أهلها في الدنيا عذابًا نكرًا، بالجوع والقحط والسيف، والخسف والمسخ، وحاسبناها في الآخرة حسابًا شديدًا على أعمالهم.

‌9

- {فَذَاقَتْ وَبَالَ أَمْرِهَا} ؛ أي: ضرر كفرها وثقل عقوبة معاصيها؛ أي: أحسته إحساس الذائق المطعوم. {وَكَانَ عَاقِبَةُ أَمْرِهَا خُسْرًا} هائلًا لا خسر وراءه؛ أي: وكان عاقبة أمرها هلاكًا في الدنيا وعذابًا في الآخرة فتجارتهم خسارة لا ربح فيها، لتضييعهم بضاعة العمر والصحة والفراغ يصرفها في المخالفات. والخسر وكذا الخسران في الأصل: انتقاص رأس المال، كما سيأتي.

‌10

- {أَعَدَّ اللَّهُ لَهُمْ} مع ذلك في الآخرة. ولام {لَهُمْ} لام التخصيص، لا لام النفع، كما في قولهم: دعا له، في مقابلة دعا عليه. {عَذَابًا شَدِيدًا} وهو عذاب

(1) روح البيان.

ص: 428

النار. والتكرير للتأكيد؛ أي (1): قدر العذاب الشديد عليهم في علمه على حسب حكمته، أو هيأ أسبابه في جهنم بحيث لا يوصف كنهه، فهم أهل الحساب والعذاب في الدنيا والآخرة لا في الدنيا فقط، فإن ما أصابهم في الدنيا لم يكن كفارة لذنوبهم؛ لعدم رجوعهم عن الكفر، فعذبوا عذاب الآخرة أيضًا. وهذا المعنى من قوله:{فَحَاسَبْنَاهَا} إلى هنا هو اللائق بالنظم الكريم، هكذا ألهمت به حين المطالعة، ثم وجدت في تفسير "الكواشي" و"كشف الأسرار" و"أبي الليث" و"الأسئلة المقحمة" ما يدل على ذلك. والحمد الله تعالى، فلا حاجة إلى أن يقال: إن فيه تقديمًا وتأخيرًا، وإن المعنى: عذبناها عذابًا شديدًا في الدنيا، وحاسبناها حسابًا شديدًا في الآخرة، على أن لفظ الماضي للتحقيق، كأكثر ألفاظ القيامة.

ومعنى الآية (2): أي وكثير من أهل القرى خالفوا أمر ربهم، فكذبوا الرسل الذين أرسلوا إليهم ولجوا في طغيانهم يعمهون، وسنحاسبهم حسابًا عسيرًا، ونستقصي عليهم ذنوبهم، ونناقشهم على النقير والقطمير، ونعذبهم عذابًا نكرًا في الآخرة. وعبر بالماضي عن المستقبل دلالة على التحقق، كما في قوله تعالى:{وَنُفِخَ فِي الصُّورِ} ، ثم بين أن هذا جزاء ما كسبت أيديهم، فقال: {فَذَاقَتْ وَبَالَ أَمْرِهَا

} إلخ؛ أي: وستجني ثمار ما غرست أيديها، ولا يجنى من الشر إلا الشر، كما جاء في أمثالهم: لا تجني من الشوك العنب. فكان عاقبة أمرها الخسران والنكال الذي لا يقادر قدره. ثم أكد هذا الوعيد بقوله: {أَعَدَّ اللَّهُ لَهُمْ عَذَابًا شَدِيدًا} ؛ أي: هيأ الله لهم العذاب المرتقب؛ لتماديهم في طغيانهم وإعراضهم عن اتباع الرسل فيما جاؤوا به من عند ربهم.

ثم نبه المؤمنين إلى تقوى الله حتى لا يصيبهم مثل ما أصاب من قبلهم، فقالوا:{فَاتَّقُوا اللَّهَ} ؛ أي: فخافوا عقاب الله سبحانه {يَاأُولِي الْأَلْبَابِ} ؛ أي: يا أصحاب العقول الراجحة والفطر السليمة {الَّذِينَ} لرجاحة عقولهم وسلامة فطرهم {آمَنُوا} بالله ورسوله، واحذروا أن يحل بكم مثل ما حل بمن قبلكم وتذكروا فإن الذكرى تنفع المؤمنين. والموصول في محل النصب نعت للمنادى، أو عطف بيان له، أو منصوب بتقدير: أعني.

(1) روح البيان.

(2)

المراغي.

ص: 429