الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
سورة الصف
سورة الصف مدنية، قال الماوردي: في قول الجميع. نزلت بعد التغابن.
وأخرج ابن الضريس (1)، وابن مردويه، والبيهقي عن ابن عباس قال: نزلت سورة الصف بالمدينة. وأخرج النحاس عن ابن عباس قال: نزلت سورة الصف بمكة. ولعل هذا لا يصح عنه. ويؤيد كونها مدنيَّة: ما أخرجه أحمد، عن عبد الله بن سلام قال: تذاكرنا أيكم يأتي رسول الله صلى الله عليه وسلم فيسأله: أي الأعمال أحب إلى الله؟ فلم يقم أحد منا، فأرسل رسول الله صلى الله عليه وسلم رجلًا، فجمعنا، فقرأ علينا هذه السورة؛ يعني: سورة الصف كلها. وأخرجه ابن أبي حاتم، وقال في آخره: فنزلت فيهم هذه السورة. وأخرجه أيضًا الترمذي وابن حبان والحاكم، وقال: صحيح على شرط الشيخين، والبيهقي في "الشعب" و"السنن".
وآيها (2): أربع عشرة. وكلماتها: مئتان وإحدى وعشرون كلمة. وحروفها: تسع مئة.
ومناسبتها لما قبلها (3): أنها اشتملت على الحث على الجهاد والترغيب فيه، وفي ذلك تأكيد للنهي الذي تضمنته السورة السابقة من اتخاذ الكفار من دون المؤمنين.
وقال أبو حيان (4): مناسبتها لآخر السورة قبلها: أن في آخر تلك: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَوَلَّوْا قَوْمًا غَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ} فاقتضى ذلك إثبات العداوة بينهم، فحض تعالى على الثبات إذا لقي المؤمنون في الحرب أعداءهم.
تسميتها: سميت سورة الصف لذكر الصف فيها. وقال أبو عبد الله محمد بن حزم: سورة الصف كلها محكمة، ليس فيها ناسخ ولا منسوخ.
والله أعلم
* * *
(1) الشوكاني.
(2)
الخازن.
(3)
المراغي.
(4)
البحر المحيط.
بسم الله الرحمن الرحيم
المناسبة
قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لَا تَفْعَلُونَ
…
} الآيات، قال ابن عباس: كان ناس من المؤمنين قبل أن يفرض الجهاد يقولون: لوددنا أن الله دلنا على أحب الأعمال إليه فنعمل به؟ فأخبر الله نبيه أن أحب الأعمال إليه: إيمان بالله لا شك فيه، وجهاد لأهل معصيته الذين جحدوا الإيمان به، وإقرار برسالة نبيه. فلما نزل الجهاد .. كره ذلك ناس من المؤمنين وشق عليهم أمره، فأنزل الله سبحانه هذه الآيات.
قوله تعالى: {وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ يَا قَوْمِ لِمَ تُؤْذُونَنِي
…
} الآية، مناسبة
هذه الآية لما قبلها: أن الله سبحانه (1) لما أنَّب التاركين للقتال الهاربين منه بقوله: {لِمَ تَقُولُونَ مَا لَا تَفْعَلُونَ} ذكر هنا أن حالهم يشبه حال بني إسرائيل مع موسى حين ندبهم إلى قتال الجبارين بقوله: {يَا قَوْمِ ادْخُلُوا الْأَرْضَ الْمُقَدَّسَةَ الَّتِي كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ} الآية. فلم يمتثلوا، وعصوه أشد العصيان، و {قَالُوا يَا مُوسَى إِنَّ فِيهَا قَوْمًا جَبَّارِينَ وَإِنَّا لَنْ نَدْخُلَهَا حَتَّى يَخْرُجُوا مِنْهَا
…
} الآية. وقالوا أيضًا: {فَاذْهَبْ أَنْتَ وَرَبُّكَ فَقَاتِلَا إِنَّا هَاهُنَا قَاعِدُونَ} ، وأصروا على ذلك، وآذوه أشد الإيذاء. فوبخهم على ذلك بما جاء في الآية الكريمة، وقد صرفهم الله سبحانه عن قبول الحق، وألحق بهم الضيم والدل في الدنيا، ولعذاب الآخرة أشد وأنكى. ومثلهم أيضًا في عصيانهم مثل بني إسرائيل حين قال لهم عيسى بن مريم:{إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ} ، وجاءهم بالبينات والمعجزات الدالة على صدقه، وقال: إني مبشر برسول يأتي من بعدي يسمى: أحمد، فعصوه وكذبوه، ولم يمتثلوا أمره.
قوله تعالى: {وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ
…
} الآيتين، مناسبتهما لما قبلهما: أن الله سبحانه لما ذكر فيما سلف أن الجاحدين لنبوته صلى الله عليه وسلم من المشركين وأهل الكتاب لما جاءهم بالبينات قالوا: هذا سحر مفترى .. أردف ذلك ببيان أنهم دعوا إلى الإِسلام والخضوع لخالق الخلق ومبدع العالم، وأقيمت لهم على ذلك الأدلة ونصب لهم المنار، لكنهم ظلموا أنفسهم وجحدوا النور الواضح والبرهان الساطع:
قَدْ تُنْكِرُ الْعَيْنُ ضَوْءَ الشَّمْسِ مِنْ رَمَدٍ
…
وَيُنْكِرُ الْفَمُ طَعْمَ الْمَاءِ مِنْ سَقَمِ
ثم بين أن السبب في ذلك هو سوء استعدادهم وتدسيتهم لأنفسهم، وأن مثلهم في صد الدعوة عن الدين مثل من يريد إطفاء نور الشمس بالنفخ بفيه، وأنى له ذلك؟ فالله متم نوره ومكمل دينه مهما جد المشركون في إطفائه. فالرسول صلى الله عليه وسلم ما جاء إلا بما فيه هداية البشر وسعادتهم في معاشهم ومعادهم، وبالدين الحق الذي لا تجد العقول مطعنًا فيه ولا طريقًا إلَّا الاعتراف بما جاء به من حكم وأحكام.
قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى تِجَارَةٍ تُنْجِيكُمْ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ
…
}
(1) المراغي.
الآيات، مناسبتها لما قبلها: أن الله سبحانه لما حث في الآيات السابقة على الجهاد في سبيله، ونهاهم عن أن يكونوا مثل قوم موسى في التواكل والتخاذل - إذ قالوا له:{فَاذْهَبْ أَنْتَ وَرَبُّكَ فَقَاتِلَا إِنَّا هَاهُنَا قَاعِدُونَ} - ونهاهم أيضًا عن أن يكونوا مثل قوم عيسى في العصيان بعد أن أتى لهم بالأدلة الباهرة على صدق نبوّته .. ذكر هنا أن الإيمان بالله والجهاد بالمال والنفس في سبيله تجارة رابحة، فإن المجاهد ينال الفوز العاجل والثواب الآجل، فيظفر بالنصرة في الدنيا والغلبة على العدوّ وأخذ الغنائم وكرائم الأموال، ويحظى في الآخرة بغفران الذنب ورضوان الرب والرضوان في جنات الخلود، والإقامة ولا فوز أعظم من هذا.
ثم ضرب لهم مثلًا بقوم عيسى، فقد انقسموا فرقتين: فرقة، آمنت به، وهم حواريوه، وفرقة فرت به، وهم البقية الباقية منهم. فأمد الله المؤمنين بروح من عنده، فتم لهم الفوز والنصر على الكافرين، وغلبوهم بإذن الله، كما هي سنة الله في البشر، كما قال تعالى:{كَتَبَ اللَّهُ لَأَغْلِبَنَّ أَنَا وَرُسُلِي إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ (21)} ، وقال:{إِنْ تَنْصُرُوا اللَّهَ يَنْصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ} .
أسباب النزول
قوله تعالى: {سَبَّحَ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ
…
} إلى آخر السورة، سبب نزول هذه السورة: ما أخرجه الدارمي في "سننه" قال: أخبرنا محمد بن كثير، عن الأوزاعي، عن يحيى بن أبي كثير، عن أبي سلمة، عن عبد الله بن سلام قال: قعدنا نفرًا من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فتذاكرنا، فقلنا: لو نعلم أي الأعمال أحب إلى الله تعالى لعملناها؟ فأنزل الله تعالى: {سَبَّحَ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (1) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لَا تَفْعَلُونَ (2) كَبُرَ مَقْتًا} حتى ختمها، قال عبد الله: فقرأها علينا رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى ختمها، فقرأها علينا ابن سلام. قال يحيى: قرأها علينا أبو سلمة، وقرأها علينا يحيى، وقرأها علينا الأوزاعي، وقرأها علينا محمد.
قال ابن الجوزي (1): قوله تعالى: {لِمَ تَقُولُونَ مَا لَا تَفْعَلُونَ} في سبب
(1) زاد المسير.
نزولها خمسة أقوال:
أحدها: ما روى أبو سلمة عن عبد الله بن سلام قال: قعدنا نفرًا من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقلنا: لو نعلم أي الأعمال أحب إلى الله عز وجل عملناه؟ فأنزل الله: {سَبَّحَ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ
…
} إلى آخر السورة.
والثاني: أن الرجل كان يجيء إلى النبي صلى الله عليه وسلم فيقول: فعلت كذا وكذا، وما فعل، فنزلت:{لِمَ تَقُولُونَ مَا لَا تَفْعَلُونَ} . رواه عكرمة عن ابن عباس رضي الله عنهما وكذلك قال الضحاك: كان الرجل يقول: قاتلت ولم يقاتل، وطعنت ولم يطعن، وصبرت ولم يصبر. فنزلت هذه الآية.
والثالث: أن ناسًا من المسلمين كانوا يقولون قبل أن يفرض الجهاد: لوددنا أن الله تعالى دلنا على أحب الأعمال إليه، فلما نزل الجهاد .. كرهه ناس من المؤمنين، فنزلت هذه الآية. رواه عليّ بن أبي طلحة عن ابن عباس.
والرابع: أن صهيبًا قتل رجلًا يوم بدر، فجاء رجل فادعى أنه قتله وأخذ سلبه، فقال صهيب: أنا قتلته يا رسول الله، فأمره أن يدفع سلبه إلى صهيب. ونزلت هذه الآية، رواه سعيد بن المسيب عن صهيب.
والخامس: أن المنافقين كانوا يقولون للنبي وأصحابه: لو خرجتم .. خرجنا معكم ونصرناكم، فلما خرج النبي صلى الله عليه وسلم .. نكصوا عنه. فنزلت هذه الآية، قاله ابن زيد.
وقال الكلبي (1): قال المؤمنون: يا رسول الله، لو نعلم أحب الأعمال إلى الله لسارعنا إليها؟ فنزلت:{هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى تِجَارَةٍ تُنْجِيكُمْ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ} . فمكثوا زمانًا يقولون: لو نعلم ما هي لاشتريناها بالأموال والأنفس والأهلين؟ فدلهم الله تعالى عليها بقوله: {تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ
…
} الآية. فابتلوا يوم أحد ففروا، فنزلت تعيرهم بترك الوفاء.
(1) القرطبي.