الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
عقاص شعرها، فأحضر رسول الله صلى الله عليه وسلم حاطبًا وقال له: ما حملك عليه؟ فقال: يا رسول الله! لا تعجل عليَّ، ما كنتُ كفرت منذ أسلمت، ولا غششتك منذ نصحتك، ولا أحببتهم منذ فارقتهم، ولكني كنت امرأً ملصقًا في قريش ولم أكن من أنفسها، وكل من معك من المهاجرين لهم قرابات بمكة يحمون بها أهلهم وأموالهم، فأحببت إذ فاتني النسب فيهم أن أصطنع إليهم يدًا يحمون بها قرابتي، وما فعلت ذلك كفرًا ولا ارتدادًا عن ديني. فصدقه رسول الله صلى الله عليه وسلم وقبل عذره. فقال عمر: دعني يا رسول الله أضرب عنق هذا المنافق، فقال صلى الله عليه وسلم: إنه شهد بدرًا، وما يدريك؟ لعل الله اطلع على أهل بدر، فقال: افعلوا ما شئتم فقد غفرت لكم. فنزلت: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِيَاءَ
…
} الآيات.
قوله تعالى: {لَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ
…
} الآيات، سبب نزولها: ما أخرجه البخاري عن أسماء بنت أبي بكر، قالت: أتتني أمي راغبة، فسألت النبي صلى الله عليه وسلم: أَأَصِلها. قال: "نعم". فأنزل الله سبحانه فيها: {لَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ} .
وأخرج أحمد والبزار والحاكم، وصححه عن عبد الله بن الزبير قال: قدمت قُتيلة - مصغرًا - بنت عبد العزى على ابنتها أسماء بنت أبي بكر بهدايا، وكان أبو بكر طلقها في الجاهلية، فقدمت بهدايا صنابٍ - صباغ يتخذ من الخردل أو الزبيب وأقط وسمن - وهي مشركة، فأبت أسماء أن تقبل هديتها وتدخل بيتها حتى أرسلت إلى عائشة أن تسأل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن هذا، فسألت، فأنزل الله: {لَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ
…
} الآية، فأمرها أن تقبل هديتها وتدخلها بيتها.
وقال الحسن وأبو صالح: نزلت الآية في خزاعة، وبني الحارث بن كعب، وكنانة، ومزينة، وقبائل من العرب كانوا صالحوا رسول الله صلى الله عليه وسلم على ألا يقاتلوه ولا يعينوا عليه.
التفسير وأوجه القراءة
1
- {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا} بالله ورسوله {لَا تَتَّخِذُوا} ؛ أي: لا تجعلوا {عَدُوِّي} في الدين، مفعول أول، {وَعَدُوَّكُمْ} في القتل، معطوف عليه، {أَوْلِيَاءَ}؛ أي:
أصدقاء لأنفسكم، مفعول ثان. وأضاف (1) سبحانه العدوّ إلى نفسه تعظيمًا لجرمهم. والعدو مصدر يطلق على الواحد والاثنين والجماعة. والآية تدل على النهي عن موالاة الكفار ومصادقتهم بوجه من الوجوه. وقد تقدم ذكر القصة التي نزلت فيها الآية، وفي تلك القصة إشارة (2) إلى جواز هتك ستر الجواسيس وهتك أستار المفسدين إذا كان فيه مصلحة أو في ستره مفسدة، وأن من تعاطى أمرًا محظورًا ثم ادعى له تأويلًا محتملًا .. قبل منه، وأن العذر مقبول عند كرام الناس.
روي: أن حاطبًا رضي الله عنه لما سمع: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا} غشي عليه من الفرح بخطاب الإيمان، لما علم أن الكتاب المذكور ما أخرجه عن الإيمان؛ لسلامة عقيدته. ودل قوله:{وَعَدُوَّكُمْ} على إخلاصه؛ فإن الكافر ليس بعدو للمنافق بل للمخلص.
{تُلْقُونَ إِلَيْهِمْ} ؛ أي: توصلون إلى أولئك الأعداء {بِالْمَوَدَّةِ} ؛ أي: بالمحبة بالكتاب. والمودة: محبة الشيء وتمني كونه، ويستعمل في كل واحد من المعنيين. أي: توصلون محبتكم بالمكاتبة ونحوها من الأسباب التي تدل على المودة، على أن الباء زائدة في المفعول، كما في قوله تعالى:{وَلَا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ} . أو تلقون إليهم أخبار النبي صلى الله عليه وسلم وأسراره بسبب المودة، التي بينكم وبينهم. فيكون المفعول محذوفًا للعلم به، والباء للسببية، والجملة حال من فاعل {لَا تَتَّخِذُوا}؛ أي: لا تتخذوهم أولياء حال كونكم ملقين المودة إليهم. ويجوز (3) أن تكون الجملة مستأنفة لقصد الإخبار بما تضمنته، أو لتفسير موالاتهم إياهم. ويجوز أن تكون في محل نصب صفة لأولياء. وفي "فتح الرحمن": بدأه هنا بـ {تُلْقُونَ} وفيما سيأتي بـ {تُسِرُّونَ} تنبيهًا بالأول على ذم مودة الأعداء جهرًا وسرًا، وبالثاني على تأكيد ذمها سرًا، وخص الأول بالعموم لتقدمه.
فإن قلت (4): قد نهوا عن اتخاذهم أولياء مطلقًا في قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى أَوْلِيَاءَ} ، والتقييد بالحال يوهم جواز اتخاذهم أولياء إذا
(1) الشوكاني.
(2)
روح البيان.
(3)
الشوكاني.
(4)
روح البيان.
انتفى الحال.
قلت: عدم جوازه مطلقًا لما علم من القواعد الشرعية تبين أنه لا مفهوم للحال هنا ألبتة.
فإن قلت: كيف قال: {لَا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِيَاءَ} والعداوة والمحبة لكونهما متنافيين لا يجتمعان في محل واحد، والنهي عن الجمع بينهما فرع إمكان اجتماعهما؟
قلت: إنما كان الكفار أعداء للمؤمنين بالنسبة إلى معاداتهم لله ورسوله، ومع ذلك يجوز أن يتحقق بينهم الموالاة والصداقة بالنسبة إلى الأمور الدنيوية والأغراض النفسانية، فنهى الله عن ذلك.
وجملة قوله: {وَقَدْ كَفَرُوا بِمَا جَاءَكُمْ مِنَ الْحَقِّ} حال من فاعل {تُلْقُونَ} أو من فاعل {لَا تَتَّخِذُوا} ، ويجوز أن تكون مستأنفة لبيان حال الكفار. و {الْحَقِّ} هو القرآن، أو دين الإِسلام، أو الرسول صلى الله عليه وسلم.
وقرأ الجمهور (1){بِمَا جَاءَكُمْ} بالباء الموحدة. وقرأ الجحدري والمعلى عن عاصم {لما جاءكم} باللام مكان الباء. أي: لأجل ما جاءكم من الحق، على حذف المكفور به. أي: كفروا بالله والرسول لأجل ما جاءكم من الحق، أو على جعل ما هو سبب للإيمان سببًا للكفر توبيخًا لهم.
والمعنى (2): يا أيها الذين آمنوا لا تجعلوا الكفار أنصارًا وأعوانًا وأصدقاه لكم، حال كونكم توصلون إليهم أخبار الرسول صلى الله عليه وسلم التي لا ينبغي لأعدائه أن يطلعوا عليها، من خطط حربية أو أعمال نافعة في نشر دِينه وبث دعوته، بسبب ما بينكم وبينهم من مودة.
ثم ذكر مما يمنع هذا الاتخاذ أمرين:
1 -
{وَقَدْ كَفَرُوا بِمَا جَاءَكُمْ
…
} إلخ. أي: والحال أنهم قد كفروا بالله ورسوله، وكتابه الذي أنزله عليكم، فكيف بكم بعد هذا تجعلونهم أنصارًا وتسرون إليهم بما ينفعهم ويضر رسولكم ويعوق نشر دينكم!؟
(1) البحر المحيط.
(2)
المراغي.
2 -
{يُخْرِجُونَ الرَّسُولَ وَإِيَّاكُمْ} حال من فاعل كفروا؛ أي: كفروا مخرجين الرسول وإياكم من مكة. والمضارع لاستحضار الصورة الماضية.
وقوله تعالى: {أَنْ تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ رَبِّكُمْ} تعليل للإخراج. أي: يخرجونكم لأجل إيمانكم، أوراهة أن تؤمنوا. وفيه (1) تغليب المخاطب على الغائب. أي: على الرسول. والالتفات من التكلم إلى الغيبة، حيث لم يقل: أن تؤمنوا بي للإشعار بما يوجب الإيمان من الألوهية والربوبية؛ أي: يخرجون الرسول وأصحابه من بين أظهرهم، كراهة لما هم عليه من التوحيد وإخلاص العبادة لله وحده، ولم يكن لهم جريمة سوى ذلك. وفي هذا تهييج لهم على عداوتهم وعدم موالاتهم.
ثم زادهم تهييجًا بقوله: {إِنْ كُنْتُمْ خَرَجْتُمْ} من مكة إلى المدينة {جِهَادًا فِي سَبِيلِي} ونشر ديني {وَابْتِغَاءَ مَرْضَاتِي} ؛ أي: وطلبًا لمرضاتي. وهذا مرتبط بـ {لَا تَتَّخِذُوا} ، وجواب الشرط محذوف؛ أي: إن كنتم كذلك .. فلا تتخذوا عدوي وعدوكم أولياء، فكأنه قيل: لا تتولوا أعدائي إن كنتم أوليائي. وانتصاب {جِهَادًا} . {وَابْتِغَاءَ} على أنهما مفعولان لأجله لـ {خَرَجْتُمْ} . أي: إن كنتم خرجتم عن أوطانكم لأجل هذين .. فلا تتخذوهم أولياء، ولا تلقوا إليهم بالمودة. أو على الحال؛ أي (2): إن كنتم خرجتم مجاهدين في سبيلي باغين مرضاتي عنكم .. فلا توالوا أعدائي وأعداءكم، وقد أخرجوكم من دياركم حنقًا عليكم وسخطًا لدينكم. والجهاد - بالكسر -: القتال مع العدو، كالمجاهدة، كما سيأتي بسطه. والمرضاة: مصدر كالرضا. وفي عطف {وَابْتِغَاءَ مَرْضَاتِي} على {جِهَادًا فِي سَبِيلِي} تصريح بما علم التزامًا. فإن الجهاد في سبيل الله إنما هو لإعلاء دين الله لا لغرض آخر. وإسناد الخروج إليهم معللًا بالجهاد والابتغاء يدل على أن المراد من إخراج الكفرة كونهم سببًا لخروجهم بأذيتهم لهم، فلا ينافي تلك السببية كون إرادة الجهاد والابتغاء علة له.
وقوله: {تُسِرُّونَ إِلَيْهِمْ بِالْمَوَدَّةِ} والنصيحة، استئناف وارد على (3) نهج العتاب والتوبيخ، كأنهم سألوا: ماذا صدر عنا حتى عوتبنا؟ فقيل: تلقون إليهم بالمودة سرًا على أن الباء صلة جيء بها لتأكيد التعدية، أو الإخبار بسبب المودة، ويجوز أن يكون تعدية الإسرار بالباء لحمله على نقيضه الذي هو الجهر. وقيل: هو بدل من
(1) روح البيان.
(2)
المراغي.
(3)
روح البيان.
قوله: {تُلْقُونَ إِلَيْهِمْ} بدل بعض لأن إلقاء المحبة يكون سرًا وجهرًا.
وقوله تعالى: {وَأَنَا أَعْلَمُ} حال من فاعل {تُسِرُّونَ} ؛ أي: تسرون إليهم بالمودة والنصيحة، والحال أني أعلم منكم {بِمَا أَخْفَيْتُمْ}؛ أي: بما أضمرتم في صدوركم من مودة الأعداء {وَمَا أَعْلَنْتُمْ} ؛ أي: وما أظهرتم بألسنتكم من الاعتذار وغير ذلك. فإذا علمتم أن الإخفاء والإعلان سيان في علمي .. فأي فائدة في الإسرار والاعتذار. والباء في {بِمَا} زائدة، يقال: علمت كذا، وعلمت بكذا. وهذا على أن {أَعْلَمُ} مضارع. وقيل: هو أفعل تفضيل. أي: أعلم من كل أحد بما تخفون وما تعلنون.
ثم توعد من يفعل ذلك، وشدد النكير عليه، وذكر ما فيه أعظم الزجر، فقال:{وَمَنْ يَفْعَلْهُ} ؛ أي: يفعل الاتخاذ المنهي عنه. أي: ومن يفعل {مِنْكُمْ} أيها المؤمنون ما نهيت عنه من موالاتهم. والأقرب عَوْدُ الضمير إلى الإسرار. أي: ومن يفعل إسرار النصيحة للكفار {فَقَدْ ضَلَّ} وأخطأ {سَوَاءَ السَّبِيلِ} ؛ أي: طريق الحق والصواب الموصل إلى الفوز بالسعادة الأبدية. وهو من إضافة الصفة إلى الموصوف. و {ضَلَّ} متعد، و {سَوَاءَ السَّبِيلِ} مفعوله. ويجوز أن يجعل قاصرًا وينتصب {سَوَاءَ السَّبِيلِ} على الظرفية.
قال القرطبي (1): هذا كله معاتبة لحاطب وهو يدل على فضله ونصيحته لرسول الله صلى الله عليه وسلم وصدق إيمانه، فإن المعاتبة لا تكون إلا من حبيب لحبيب كما قيل من الوافر:
إِذَا ذَهَبَ الْعِتَابُ فَلَيْسَ وُدٌّ
…
وَيَبْقَى الْوُدُّ مَا بَقِيَ الْعِتَابُ
والعتاب: إظهار الغضب على أحد لشيء مع بقاء المحبة بالترك. وقال بعضهم: العتاب: لوم الحبيب حبيبه على أمر غير لائق به، كما في الدمنهوري في العروض.
وفي الآية (2) إشارة إلى عداوة النفس والهوى والشيطان، فإنها تبغض عبادة الله، وتبغض عباد الله أيضًا إذا لم يكونوا مطيعين لها في إنفاذ شهواتها وتحصيل
(1) قرطبي.
(2)
روح البيان.