الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
فالفوز: الظفر مع حصول السلامة، فهم أهل الكرامة في الدارين. وأصحاب النار هم أهل الهوان فيهما.
وفي هذا تنبيه (1) للناس بأنهم لفرط غفلتهم ومحبتهم العاجلة واتباع الشهوات .. كأنهم لا يعرفون الفرق بين الجنة والنار، وبين أصحابهما حتى احتاجوا إلى الإخبار بعدم الاستواء، كما تقول لمن يعق أباه: هو أبوك، تجعله بمنزلة من لا يعرفه، فتنبه بذلك على حق الأبوة الذي يقتضي البرّ والتعطف، فكذا نبه الله تعالى الناس بتذكير سوء حال أهل النار وحسن حال أهل الجنة، على الاعتبار والاحتراز عن الغفلة، ورفع الرأس عن المعاصي، والتحاشي من عدم المبالاة. وروي عن النبي صلى الله عليه وسلم:"إن أدنى أهل الجنة منزلة: من ينظر إلى جناته وأزواجه ونعيمه وخدمه وسرره مسيرة ألف سنة، وأكرمهم على الله: من ينظر إلى وجهه غدوة وعشية، ثم قرأ: {وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ (22) إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ (23)}: وقال صلى الله عليه وسلم: "إن أهون أهل النار عذابًا، من له نعلان وشراكان من نار، يغلي منهما دماغه كما يغلي المرجل، ما يرى أن أحدًا أشد منه عذابًا".
21
- ولما فرغ سبحانه وتعالى من ذكر أهل الجنة وأهل النار، وبين عدم استوائهم في شيء من الأشياء.، ذكر تعظيم كتابه الكريم وأخبر عن جلالته وأنه حقيق بأن تخشع له القلوب وترق له الأفئدة، فقال:{لَوْ أَنْزَلْنَا هَذَا الْقُرْآنَ} العظيم الشأن المنزل عليكم أيها الناس، المنطوي على فنون القوارع أو المنزل عليك يا محمد، أو على محمد، بحسب الالتفات في الخطاب. {عَلَى جَبَلٍ} من الجبال، وهو كل وتد للأرض عظم وطال، كما سيأتي.
ثم إنه لا يلزم في الإشارة وجودُ جملة المشار إليه ذي الأبعاض المترتبة وجودًا، بل يكفي وجود بعض الإشارة حقيقة ووجود بعض آخر حكمًا. ويحتمل أن يكون المشار إليه هنا الآية السابقة من قوله تعالى:{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا} إلخ. فإن لفظ القرآن كما يطلق على المجموع .. يطلق على البعض منه حقيقة، بالاشتراك، أو باللغة، أو مجازًا بالعلاقة، فيكون التذكير باعتبار تذكير المشار إليه.
(1) روح البيان.
{لَرَأَيْتَهُ} ؛ أي: لرأيت ذلك الجبل - يا محمد، أو يا من يتأتى منه الرؤية - مع كونه علمًا في القسوة وعدم التأثر مما يصادمه. {خَاشِعًا}؛ أي: خاضعًا ذليلًا. وهو حال من الضمير المنصوب في قوله: {لَرَأَيْتَهُ} ؛ لأنه من الرؤية البصرية. {مُتَصَدِّعًا} ؛ أي: متشققًا {مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ} سبحانه وخوفه أن يعصيه فيعاقبه.
أي (1): من شأنه وعظمته، وجودة ألفاظه وقوة مبانيه، وبلاغته، واشتماله على المواعظ التي تلين لها القلوب، أنه لو أنزل على جبل من الجبال الكائنة في الأرض .. لرأيته - مع كونه في غاية القسوة وشدة الصلابة وضخامة الجرم - خاشعًا متصدعًا؛ أي: متشققًا من خشية الله سبحانه، حذرًا وخوفًا من أن لا يؤدّي ما يجب عليه من تعظيم كلام الله تعالى. وقرأ طلحة {مصدعًا} بإدغام التاء في الصاد.
والخلاصة (2): لو ركب في الجبل عقل وشعور كما ركب فيكم أيها الناس، ثم أنزل عليه القرآن ووعد وأوعد حسب حالكم .. لخشع وخضع وتذلل وتصدع من خشية الله تعالى، حذرًا من أن لا يؤدّي حق الله تعالى، في تعظيم القرآن والامتثال لما فيه من أمره ونهيه، والكافر المنكر أقسى منه، ولذا لا يتأثر أصلًا. قال العلماء: وهذا بيان وتمثيل وتصوير لعلو شأن القرآن وقوة تأثير ما فيه من المواعظ، أريد به توبيخ الإنسان على قسوة قلبه وعدم تخشعه عند تلاوته وقلة تدبره فيه.
ويدل على هذا قوله: {وَتِلْكَ الْأَمْثَالُ} إشارة إلى هذا المثل المذكور هنا وإلى أمثاله في مواضع من التنزيل؛ أي: هذا القول الغريب في بيان عظمة القرآن ودناءة حال الإنسان وبيان صفتهما العجيبة، وسائر الأمثال الواقعة في القرآن. فإن لفظ المثل حقيقة عرفية في القول السائر، ثم يستعار لكل أمر غريب وصفة عجيبة الشأن، تشبيهًا له بالقول السائر في الغرابة؛ لأنه لا يخلو عن غرابة. {نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ}؛ أي: نبيّنها لهم {لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ} ويتدبرون فيما يجب عليهم التفكر فيه، ليتعظوا بالمواعظ، وينزجروا بالزواجر. وفيه توبيخ وتقريع للكفار حيث لم يخشعوا للقرآن، ولا اتعظوا بمواعظه، ولا انزجروا بزواجره.
أي: نبينها لمصلحة التفكر ومنفعة التذكر. ولا يقتضي كون الفعل معللًا
(1) الشوكاني.
(2)
روح البيان.
بالحكمة والمصلحة أن لكون معللًا بالغرض حتى تكون أفعاله تعالى معللة بالأغراض؛ إذ الغرض من الاحتياج والحكمة: اللطف بالمحتاج، وبينهما فرق.
فإن قلت (1): قال في سورة الزمر: {وَلَقَدْ ضَرَبْنَا لِلنَّاسِ فِي هَذَا الْقُرْآنِ مِنْ كُلِّ مَثَلٍ} بصيغة المضي والإخبار عن الماضي مع أنها مكية، وقال هنا:{نَضْرِبُهَا} بصيغة المضارع والاستقبال مع أن السورة مدنية.
قلت: لعل الأول من قبيل عد ما سيحقق مما حقق لتحققه بلا خلف، والثاني من قبيل التعبير عن الماضي بالمضارع؛ لإحضار الحال الماضية، أو لإرادة الاستمرار على الأحوال، بمعنى: أن شأننا أن نضرب الأمثال للناس.
وفي الحديث: "أعطوا أعينكم حظها من العبادة" قالوا: ما حظها من العبادة يا رسول الله؟ قال: "النظر في المصحف، والتفكر فيه، والاعتبار عند عجائبه". وعن ابن عباس رضي الله عنهما: ركعتان مقتصدتان في تفكر خير من قيام ليلة بلا قلب. وعن الحسن البصري رحمه الله: من لم يكن كلامه حكمة .. فهو لغو، ومن لم يكن سكوته تفكرًا .. فهو سهو، ومن لم يكن نظره عبرة .. فهو لهو. وعن أبي سليمان رحمه الله: الفكرة في الدنيا حجاب عن الآخرة وعقوبة لأهل الولاية، والفكرة في الآخرة تورث الحكمة وتحيي القلب. وكثيرًا ما ينشد سفيان بن عيينة، ويقول:
إِذَا الْمَرْءُ كَانَتْ لَهُ فِكْرةٌ
…
فَفِي كُلّ شَيْءٍ لَهُ عِبْرَةٌ
وعن بعضهم أنه قال: من عجز عن ثمانية .. فعليه بثمانية أخرى لينال فضلها. من أراد فضل صلاة الليل، وهو نائم .. فلا يعص بالنهار، ومن أراد فضل صيام التطوع وهو مفطر .. فليحفظ لسانه عما لا يعنيه، ومن أراد فضل العلماء .. فعليه بالتفكر، ومن أراد فضل المجاهدين والغزاة وهو قاعد في بيته .. فليجاهد الشيطان، ومن أراد فضل الصدقة وهو عاجز .. فليعلم الناس ما سمع من العلم، ومن أراد فضل الحجّ وهو عاجز .. فليلتزم الجمعة، ومن أراد فضل العابدين .. فليصلح بين الناس ولا يوقع العداوة، ومن أراد فضل الأبدال .. فليضع يده على صدره ويرضى لأخيه ما يرضى لنفسه.
(1) روح البيان.
واعلم (1): أن التفكر إما أن يكون في الخالق أو في الخلق:
والأول: إما في ذاته، أو في صفاته، أو في أفعاله. أما في ذاته .. فممنوع؛ لأنه لا يعرف الله إلا الله، إلا أن يكون التفكر في ذاته باعتبار عظمته وجلاله وكبريائه، من حيث وجوب الوجود ودوام البقاء، وامتناع الإمكان والفناء، والصمدية التي هي الاستغناء عن الكل. وأما في صفاته: فهو فيها باعتبار كمالها بحيث يحيط علمه بجميع المعلومات، وقدرته بجميع الأشياء، وإرادته بجميع الكائنات وسمعه بجميع المسموعات، وبصره بجميع المبصرات، ونحو ذلك. وأما في أفعاله: فهو فيها بحسب شمولها، وكثرتها، ومتانتها، ووقوعها على الوجه الأتم، كل يوم هو في شأن.
والثاني: إما أن يكون فيما كان من العلويات والسفليات، أو فيما سيكون من أهوال يوم القيامة وأحوال الآخرة إلى أبد الآباد.
والمعنى: أي وهذه الأمثال التي أودعناها القرآن، وذكرناها في مواضعها التي ضربت لأجلها واقتضاها الحال، من نحو قوله:{وَإِنَّ مِنَ الْحِجَارَةِ لَمَا يَتَفَجَّرُ مِنْهُ الْأَنْهَارُ وَإِنَّ مِنْهَا لَمَا يَشَّقَّقُ فَيَخْرُجُ مِنْهُ الْمَاءُ وَإِنَّ مِنْهَا لَمَا يَهْبِطُ مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ} ، وقوله:{ثُمَّ قَسَتْ قُلُوبُكُمْ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ فَهِيَ كَالْحِجَارَةِ أَوْ أَشَدُّ قَسْوَةً} ، وقوله: {وَلَوْ أَنَّ قُرْآنًا سُيِّرَتْ بِهِ الْجِبَالُ أَوْ قُطِّعَتْ بِهِ الْأَرْضُ أَوْ كُلِّمَ بِهِ الْمَوْتَى
…
} الآية .. جعلناها تبصرة وذكرى لمن كان له قلب أو ألقى السمع وهو شهيد، فمن الناس من وفقه الله واهتدى بها إلى سواء السبيل، وفاز بما يرضي ربه عنه، ومنهم من أعرض عنها وناى، فأخذه الله نكال الآخرة والأولى، وأدخله في سقر، وما أدراك ما سقر؟ لا تبقي ولا تذر.
وقيل (2): الخطاب في الآية للنبي صلى الله عليه وسلم والمعنى عليه أي: لو أنزلنا هذا القرآن - يا محمد - على جبل لَمَا ثبت، ولتصدع من نزوله عليه، وقد أنزلناه عليك وثبتناك له، وقويناك عليه. فيكون على هذا من باب الامتنان على النبي صلى الله عليه وسلم؛ لأن
(1) روح البيان.
(2)
الشوكاني.