المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

وما أفاء الله على رسوله منهم، فما حصلتموه بكد اليمين - تفسير حدائق الروح والريحان في روابي علوم القرآن - جـ ٢٩

[محمد الأمين الهرري]

الفصل: وما أفاء الله على رسوله منهم، فما حصلتموه بكد اليمين

وما أفاء الله على رسوله منهم، فما حصلتموه بكد اليمين وعرق الجبين.

والمعنى (1): أي ما صيره الله إلى رسوله من أموال بني النضير .. فهو لله ورسوله، ولا يجعل غنيمة للجيش يقسم تقسيم الغنائم؛ لأنه لم تقاتل فيه الأعداء بالمبارزة والمصاولة، بل نزلوا على حكم الرسول فرقًا ورعبًا، ولهذا: يصرف في وجوه البرّ والمنافع العامة التي ذكرها الله تعالى في هذه الآيات.

أخرج البخاري ومسلم وأبو داود والترمذي والنسائي، وغيرهم عن عمر بن الخطاب قال:(كانت أموال بني النضير مما أفاء الله تعالى على رسوله خاصة، فكان ينفق على أهله منها نفقة سنة، ثم يجعل ما بقي في السلاح والكراع عدة في سبيل الله تعالى).

{وَلَكِنَّ اللَّهَ} سبحانه؛ أي: ولكن جرت سنة الله تعالى بأن {يُسَلِّطُ رُسُلَهُ عَلَى مَنْ يَشَاءُ} من أعدائه، ويقذف الرعب في قلوبهم، فيستسلمون لهم بلا قتال، ولا مصاولة، ما سلط محمدًا صلى الله عليه وسلم على هؤلاء، فنزلوا على حكمه دون اقتحام مضايق الخطوب ولا مقاومة شدائد الحروب، فلا حق للمقاتلة في الفيء، بل يكون أمره مفوضًا إلى الرسول، يصرفه كيف شاء ولا يقسمه تقسيم الغنائم. {وَاللَّهُ} سبحانه وتعالى {عَلَى كُلِّ شَيْءٍ} شاءه {قَدِيرٌ} فيفعل ما يشاء كما يشاء، تارة على ما يعهد من السنن، وأخرى على غير ما يعهد منها، كما جرى لبني النضير من استسلامهم بلا قتال، على مناعة حصونهم وكثرة عددهم وعُددهم من سلاح وكراع، وما كان المسلمون يظنون أن هذا سيكون.

وبعد أن أتمّ الكلام في إجلاء بني النضير وفيئهم أعقبه بالكلام في حكم ما أفاء الله على رسوله من قرى الكفار عامة،

‌7

- فقال: {مَا أَفَاءَ اللَّهُ} سبحانه ورده {عَلَى رَسُولِهِ} صلى الله عليه وسلم {مِنْ أَهْلِ الْقُرَى} ؛ أي: من أموال الكفار أهل القرى. قال ابن عباس: هي قريظة، والنضير، وفدك، وخيبر وقرى عرينة، وينبع. وهذا بيان لمصارف الفيء بعد بيان إفاءته على رسول الله صلى الله عليه وسلم من غير أن يكون للمقاتلة فيه حق، ولذا لم يعطف عليه، كأنه لما قيل: ما أفاء على رسوله من أموال بني النضير

(1) المراغي.

ص: 109

شيء لم تحصلوه بالقتال والغلبة، فلا يقسم قسمة الغنائم. قيل: فكيف يقسم؟ فقيل: ما أفاء الله .. إلخ. قال في "برهان القرآن": قوله: {وَمَا أَفَاءَ} ، وبعده {مَا أَفَاءَ اللَّهُ} بغير واو؛ لأن الأول معطوف على قوله:{مَا قَطَعْتُمْ مِنْ لِينَةٍ} ، والثاني استئناف لبيان مصارف مطلق الفيء، وليس له به تعلق. وقول من قال: بدل من الأولى، مزيف عند أكثر المفسرين، انتهى. وإعادة عين العبارة الأولى لزيادة التقرير والتأكيد. ووضع أهل القرى موضع قوله:{مِنْهُمْ} أي: من بني النضير؛ للإشعار بأن هذا الحكم لا يختص ببني النضير وحدهم، بل هو حكم عام على كل قرية يفتحها رسول الله صلى الله عليه وسلم صلحًا، ولم يوجف عليها المسلمون بخيل ولا ركاب.

والمعنى: ما رده الله سبحانه على رسوله من كفار أهل القرى، كقريظة، والنضير، وفدك، وخيبر، يصرف في وجوه البرّ والخير، ولا يقسم تقسيم الغنائم؛ أي: لا تعطى أربعة أخماسه للمقاتلة؛ لأن القتال ليس موجودًا في الفيء، بل يخمس الفيء كالغنائم أيضًا، ولكن يصرف أربعة أخماسه في مصالح المسلمين، من سد الثغور، وحفر الأنهار، وبناء القناطر، والمدارس والمساجد، يقدم الأهم فالأهم. وأما الخمس الباقي: فيخمس أيضًا، فتصرف أخماسه في المصارف المذكورة بقوله:{فَلِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ} ؛ أي: يصرف خمس الخمس لله وللرسول يأمران فيه بما أحبّا. وذكر الله للتشريف والتعظيم والتبرك. والمراد: يصرف هذا الخمس لرسول الله صلى الله عليه وسلم ينفق منه أهل بيته قوت سنة، وما بقي في مصالح المسلمين من السلاح والكراع.

وقال الواحدي في تفسيره "الوجيز على القرآن العزيز": وكان الفيء يخمس خمسة أخماس، فكانت أربعة أخماسه لرسول الله صلى الله عليه وسلم يفعل فيها ما يشاء، والخمس الباقي يقسم بين المذكورين في هذه الآية. فأما اليوم فما كان للنبي صلى الله عليه وسلم من الفيء يصرف إلى أهل الثغور والمترصدين للقتال في أحد قولي الشافعي، انتهى.

والمراد: أن للرسول من الفيء خمس، والأربعة الأخماس، يعني: أن لهؤلاء الأصناف المذكورة هنا أربعة أخماس الخمس والباقي للرسول صلى الله عليه وسلم في حياته، وهو أربعة أخماس الفيء وخمس الخمس، وبعده صلى الله عليه وسلم أربعة أخماس الفيء للمرتزقة، وخمس الخمس لمصالحنا. اهـ. "شيخنا" انتهى من "الفتوحات".

ص: 110

{و} يصرف الخمس الثاني {لِذِي الْقُرْبَى} ؛ أي: لذوي قربى رسول الله صلى الله عليه وسلم من مؤمني بني هاشم وبني المطلب، الفقراء منهم، قيل: ولو كانوا أغنياء؛ لأنهم قد منعوا من الزكاة فجعل لهم حقًا في الفيء. وقال في "شرح الآثار" عن أبي حنيفة رحمه الله: أن الصدقات كلها جائزة على بني هاشم وبني المطلب، والحرمة عليهم كانت في عهد النبي صلى الله عليه وسلم لوصول خمس الخمس إليهم، فلما سقط ذلك بموته صلى الله عليه وسلم .. حلت لهم الصدقات. قال الطحاوي: وبالجواز نأخذ، كذا في "شرح الوقاية" لابن الملك. {و} يصرف الخمس الثالث لـ {الْيَتَامَى}؛ أي: يتامى المسلمين؛ أي: أطفال المسلمين الذين هلكت آباؤهم وهم فقراء. جمع يتيم، وهو: صغير لا أب له، وإن كان له جد أو أمّ. {و} يصرف الخمس الرابع لـ {الْمَسَاكِينِ}؛ أي: مساكين المسلمين ذوي الحاجة. {و} يصرف الخمس الخامس لـ {ابْنِ السَّبِيلِ} ؛ أي: للمسافر المنقطع عن ماله ووطنه، ولا يمكن له أن يصل إليه لبعد الشقّة، وانقطاع طرق المواصلات وقد كان ذلك حين كانت طرق الوصول شاقة لكنها الآن سهلة، وهي على أساليب شتى، فيمكن المرء أن يطلب ما شاء بحوالة على أي مصرف في أي بلد على سطح الكرة الأرضية. ومن ثم فهذا النوع لا يوجد الآن.

ثم علل هذا التقسيم بقوله: {كَيْ لَا يَكُونَ} الفيء، {دُولَةً}: علة لمحذوف، تقديره: أي (1) جعل الله سبحانه الفيء قسمة لمن ذكر من الأصناف؛ لأجل أن لا يكون الفيء شيئًا متداولًا {بَيْنَ الْأَغْنِيَاءِ مِنْكُمْ} ؛ أي: شيئًا مخصوصًا بهم يكاثرون به أموالهم، لا يخرجونه إلى المستحقين، ولا يصرفونه للفقراء والمساكين يعيشون بها.

وقرأ الجمهور (2): {كَيْ لَا يَكُونَ} بالياء التحتية. {دُولَةً} - بضم الدال ونصب التاء -؛ أي: كي لا يكون الفيء دولة. وقال الخطيب: وترسم {كي} هنا مفصولة من {لا} انتهى. وقرأ عبد الله، وأبو جعفر، وهشام، والأعرج، وأبو حيوة {تكون} بالتاء الفوقية، و {دَولة} بفتح الدال ورفع التاء. قال عيسى بن عمر، ويونس، والأصمعي، {دولة} بضمها وفتحها، لغتان بمعنى واحد. وقال أبو عمرو بن العلاء: الدولة - بالفتح -: الذي يتداول من الأموال، وبالضم: الفعل.

(1) المراح (كذا في الأصل).

(2)

البحر المحيط والشوكاني.

ص: 111

وكذا قال أبو عبيدة. وال الكسائي، وحذاق البصرة: الدَّولة - بالفتح - في المُلك - بضم الميم -؛ لأنها الفِعْلة في الدهر، وبالضم في الملك بكسرِ الميمِ. والضمير في {تكون} بالتأنيث مع نصب {دولةً} على معنى {مَا} إذ المراد به: الأموال، والمغانم. وذلك الضمير اسم {تكون}. وكذلك من قرأ بالياء أعاد الضمير على لفظ؛ {مَّا} أي: يكون الفيء، وانتصب {دُولَة} على الخبر. ومن رفع {دولةٌ} فتكون تامة، و {دولةٌ} فاعل؛ و {كَيْ لَا يَكُونَ} تعليل لقوله:{فَلِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ} . أي: فالفيء وحكمه لله وللرسول، يقسمه على ما أمره الله تعالى؛ كي لا يكون الفيء الذي حقه أن يعطى للفقراء بلغة يعيشون بها متداولًا بين الأغنياء يتكاثرون به. أو كيلا يكون دولة جاهلية بينهم، كما كان رؤساؤهم يستأثرون بالغنائم، ويقولون: من عزّ بزّ.

والمعنى: كي لا يكون أخذه غلبة وأثرة جاهلية، قاله أبو حيان. وعبارة "الخازن": وذلك أن الجاهلة كانوا إذا غنموا غنيمة، أخذ الرئيس ربعها لنفسه وهو المرباع، ثم يصطفي بعد المرباع منها ما شاء، فجعله الله سبحانه لرسوله صلى الله عليه وسلم يقسمه على ما أمره الله به. اهـ.

والمعنى (1): أي وإنما حكمنا بذلك وجعلناه مقسمًا بين هؤلاء المذكورين لئلا يأخذه الأغنياء ويتداولوه فيما بينهم ويتكاثرون به، كما كان ذلك دأبهم في الجاهلية، ولا يصيب الفقراء من ذلك شيء.

ثم لما بيّن لهم سبحانه مصارف هذا المال. أمرهم بالاقتداء برسوله صلى الله عليه وسلم، فقال:{وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ} ؛ أي: وما، أعطاكم - أيها المؤمنون - الرسولُ من أموال الفيء وغيره {فَخُذُوهُ} منه؛ فهو لكم حلال {وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ}؛ أي: عن أخذه {فَانْتَهُوا} عنه؛ أي: فابتعدوا عنه، ولا تطلبوه، ولا تقربوه، فإن الرسول لا ينطق عن الهوى، كما قال سبحانه:{وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ} .

وقال ابن جريج (2): ما آتاكم من طاعتي .. فافعلوه، وما نهاكم عنه من معصيتي .. فاجتنبوه.

(1) المراغي.

(2)

الشوكاني.

ص: 112

والحق: أن هذه الآية في كل شيء يأتي به رسول الله صلى الله عليه وسلم من أمر أو نهي أو قول أو فعل، وإن كان السبب خاصًا، كما سيأتي، فالاعتبار بعموم اللفظ لا بخصوص السبب. وكل شيء أتانا به من الشرع .. فقد أعطانا إياه وأوصله إلينا، وما أنفع هذه الآية وأكثر فائدتها.

أخرج الشيخان، وأبو داوود، والترمذي في جماعة، عن ابن مسعود قال:(لعن الله تعالى الواشمات والمستوشمات، والمتنمصات والمتفلجات للحسن، المغيّرات لخلق الله. فبلغ ذلك امرأة من بني أسد يقال لها: أم يعقوب، كانت تقرأ القرآن، فقالت: بلغني أنك لعنت كيت وكيت، فقال: وما لي لا ألعن من لعن رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو في كتاب الله عز وجل، فقالت: لقد قرأت ما بين لوْحي المصحف فما وجدته، قال: إن كنت قرأته .. فقد وجدته، أما قرأت قوله تعالى: {وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا}؟. قالت: بلى، قال: فإنه صلى الله عليه وسلم قد نهى عنه).

وعن أبي رافع: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "لا ألفين أحدكم متكئًا على أريكته يأتيه أمر مما أمرت به أو نهيت عنه فيقول: لا أدري، ما وجدته في كتاب الله اتبعناه".

وروي في سبب نزول هذه الآية (1): أن قومًا من الأنصار تكلموا في هذه القرى المفتتحة، وقالوا: لنا منها سهمنا. فنزل {وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ

} الآية. وهذا عام يدخل فيه قسمة ما أفاء الله والغنائم وغيرها، حتى أنه قد استدل بهذا العموم على تحريم الخمر، وحكم الواشمة والمستوشمة، وتحريم المخيط للمحرم.

ثم لما أمرهم بأخذ ما أمرهم به الرسول وترك ما نهاهم عنه .. أمرهم بتقواه وخوفهم شدة عقوبته، فقال:{وَاتَّقُوا اللَّهَ} سبحانه وتعالي بامتثال أوامره، واجتناب نواهيه. فـ {إِنَّ اللَّهَ} سبحانه وتعالى {شَدِيدُ الْعِقَابِ} لمن عصاه، وخالف أمره، وأباه، وارتكب ما عنه زجره ونهاه. ورسوله ترجمان عما يريده لخير عباده

(1) البحر المحيط.

ص: 113