المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

نصرة الله بإعلاء دينه، ونصرة رسوله ببذل وجودهم في طاعته - تفسير حدائق الروح والريحان في روابي علوم القرآن - جـ ٢٩

[محمد الأمين الهرري]

الفصل: نصرة الله بإعلاء دينه، ونصرة رسوله ببذل وجودهم في طاعته

نصرة الله بإعلاء دينه، ونصرة رسوله ببذل وجودهم في طاعته أو مقارنة، فإن خروجهم من بين الكفار مراغمين لهم مهاجرين إلى المدينة نصرة، وأي نصرة {أُولَئِكَ} المهاجرون الموصوفون بما ذكر من الصفات الحميدة، وهو مبتدأ، وخبره {هُمُ الصَّادِقُونَ}؛ أي: الكاملون في الصدق الراسخون فيه، حيث ظهر ذلك بما فعلوا ظهورًا بينًا كأنّ الصدق مقصور عليهم لكمال آثاره.

أي: هؤلاء (1) هم الصادقون في إيمانهم؛ إذ قد فعلوا ما يدل على الإخلاص فيه والرغبة الصادقة من نيل المغفرة والكرامة عند ربهم، فهم قد أخرجوا من ديارهم وهي العزيزة على النفوس المحببة إلى القلوب.

بِلَادِيْ وَإِنْ جَارَتْ عَلَيَّ عَزِيزَةٌ

وَأَهْلِي وَإِنْ ضَنُّوْا عَلَيَّ كِرَامُ

وتركوا الأموال، والمال شقيق الروح، وكثيرًا ما يقتل المرء في سبيل الذود عنه وانتزاعه من أيدي غاصبيه، وما فعلوا ذلك إلا لإعلاء منار الدِّين ورفعة شأنه، وذيوع ذكره. فحق لهم من ربهم النعيم المقيم وجزيل الثواب، بما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر، كفاء ما قاموا به من جليل الأعمال وعظيم الخلال.

روي: أن رجلًا منهم كان يعصب الحجر على بطنه ليقيم به صلبه من الجوع، وكان الرجل يتخذ منهم الحفيرة في الشتاء، ماله دثار غيرها.! وعن أبي سعيد الخدري قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "بشروا صعاليك المهاجرين بالنور التام يوم القيامة، يدخلون الجنة قبل الناس بنصف يوم، وذلك خمس مئة سنة". أخرجه أبو داود.

‌9

- ثم مدح سبحانه الأنصار، وأثنى عليهم حين طابت نفوسهم على الفيء، إذ جعل للمهاجرين دونهم، فقال:{وَالَّذِينَ تَبَوَّءُوا الدَّارَ} ؛ أي: لزموا دار الهجرة، وهي المدينة، {و} أخلصوا {الْإِيمَانَ} لله تعالي، مبتدأ خبره سيأتي. وهو كلام مستأنف مسوق لمدح الأنصار بخصال حميدة، من جملتها: محبتهم للمهاجرين، ورضاهم باختصاص الفيء بهم أحسن رضا وأكمله. ويجوز نصبه على المدح.

(1) المراغي.

ص: 115

وجملة {يُحِبُّونَ} في محل النصب على الحال.

والأنصار (1): بنو الأوس والخزرج، ابني حارثة بن ثعلبة بن عمرو بن عامر بن حارثة بن امرىء القيس بن ثعلبة بن مازن بن الأزد بن الغوث بن نيت بن مالك بن زيد بن كهلان بن سبأ بن يشجب بن يعرب بن قحطان. قال في "القاموس": قحطان بن عامر بن شالخ أبو حيّ انتهى. وهو أصل العرب العرباء. ومن الأنصار: غسان، كشداد، ماء قرب الجحفة نزل عليه قوم من ولد الأزد، فشربوا منه، فنسبوا إليه. يقال: تبوأ المكان، إذا اتخذه منزلًا واستقر فيه. والدار هي المدينة، وتسمي قديمًا: يثرب، وحديثًا: طيبة وطابة.

ومعنى تبوئهم الدار والإيمان: أنهم اتخذوا المدينة والإيمان مباءة، وتمكنوا فيهما أشد تمكن، على تنزيل الحال منزلة المكان. وقيل: ضُمِّنَ التبوؤ معنى اللزوم. وقيل: تبؤوا الدار وأخلصوا الإيمان، أو قبلوه، أو آثروه، كقول من قال:

عَلَّفْتُهَا تِبْنًا ومَاءً بَارِدًا

أي: وسقيتها ماء باردًا فاختصر الكلام، وقيل: غير ذلك.

يقول الفقير: لعل أصل الكلام: والذين تبؤوا دار الإيمان. فإن المدينة يقال لها: دار الإيمان لكونها مظهره ومأوى أصله، كما يقال لها: دار الهجرة. وإنما عدل إلى ما ذكر من صورة العطف تنصيصًا على إيمانهم، إذ مجرد التبوُّء لا يكفي في المدح.

{مِنْ قَبْلِهِمْ} ؛ أي: من قبل هجرة المهاجرين، فلا بدّ من تقدير مضاف، لأن الأنصار لم يؤمنوا قبل إيمان المهاجرين، بل منهم من آمن قبل الهجرة ومنهم من آمن بعدها. قال في "الإرشاد": يجوز أن يجعل اتخاذ الإيمان مباءة، ولزومه وإخلاصه عبارة عن إقامة كافة حقوقه، التي من جملتها إظهار عامة شعائره، وأحكامه، ولا ريب في تقدم الأنصار في ذلك على المهاجرين؛ لظهور عجزهم عن إظهار بعضها، لا عن إخلاصه قلبًا واعتقادًا؛ إذ لا يتصور تقدمهم عليهم في ذلك.

جملة قوله: {يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ} خبر (2) عن الموصول؛ أي: يحبونهم

(1) روح البيان.

(2)

روح البيان.

ص: 116

من حيث مهاجرتهم إليهم لمحبتهم الإيمان، ولأن الله وحبيبه أحباؤهم، وحبيب الحبيب حبيب. {وَلَا يَجِدُونَ}؛ أي: ولا يجد الأنصار {فِي صُدُورِهِمْ حَاجَةً} ؛ أي: وجدًا وحسدًا وغيظًا وحزازة {مِمَّا أُوتُوا} ؛ أي: مما أوتي المهاجرون دونهم، من الفيء وغيره بل طابت أنفسهم بذلك. وفي الكلام مضاف محذوف؛ أي: لا يجدون في صدورهم مس حاجة أو أثر حاجة، وكل ما يجد الإنسان في صدره مما يحتاج إليه .. فهو حاجة. وكان المهاجرون في دور الأنصار، فلما غنم النبي صلى الله عليه وسلم بني النضير .. دعا الأنصار وشكرهم فيما صنعوا مع المهاجرين، من إنزالهم إياهم في منازلهم، وإشراكهم في أموالهم، ثم قال: إن أحببتم قسمت ما أفاء الله علي من بني النضير بينكم وبين المهاجرين، وكان المهاجرون على ما هم عليه من السكنى في مساكنكم والمشاركة لكم في أموالكم. وإن أحببتم أعطيتهم ذلك وخرجوا من دياركم. فرضوا بقسمة ذلك في المهاجرين، وطابت أنفسهم.

{وَيُؤْثِرُونَ} ؛ أي: يقدمون المهاجرين، فالمفعول محذوف. والإيثار (1): تقديم الغير على النفس في حظوظ الدنيا رغبة في حظوظ الآخرة. يقال: آثرته بكذا؛ أي: خصصته به. أي: ويقدم الأنصار المهاجرين {عَلَى أَنْفُسِهِمْ} في كل شيء من أسباب المعاش، جودًا وكرمًا، حتى إن من كان عنده امرأتان كان ينزل عن إحداهما، ويزوجها واحدًا منهم. والإيثار أيضًا: عطاؤك ما أنت تحتاج إليه. وفي الخبر: "لم يجتمع في الدنيا قوم إلا وفيهم أسخياء وبجلاء إلا في الأنصار، فإن كلهم أسخياء، ما فيهم من بخيل. {وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ}؛ أي: حاجة وخلة وفقر. مأخوذة من خصاص البيت، وهي: الفرج التي تكون فيه. شبه حالة الفقر والحاجة ببيت ذي فرج في الاشتمال على مواضع الحاجة. والخص: بيت من قصب وشجر. وجملة قوله: {وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ} في محل نصب على الحال.

وعن أنس رضي الله عنه: أنه قال: (أهدي لرجل من الأنصار رأس شاة، وكان مجهودًا، فوجه به إلى جار له زاعمًا أنه أحوج إليه منه، فوجه جاره أيضًا إلى آخر، فلم يزل يبعث به واحد إلى آخر حتى تداول ذلك الرأس سبعة بيوت إلى أن رجع إلى المجهود الأول).

(1) الشوكاني.

ص: 117

قال حذيفة العدوي: انطلقت يوم اليرموك أطلب ابن عمّ لي ومعي شيء من الماء وأنا أقول: إن كان به رمق سقيته، فإذا أنا به، فقلت: أسقيك، فأشار برأسه أن نعم، فإذا برجل يقول: آه آه، فأشار إلى ابن عمي أن انطلق إليه، فإذا هو هشام بن العاص، فقلت: أسقيك، فأشار أن نعم، فسمع آخر يقول: آه آه، فأشار هشام أن انطلق إليه، فجئت إليه، فإذا هو قد مات، فرجعت إلى هشام، فإذا هو قد مات، فرجعت إلى ابن عمي، فإذا هو قد مات". وهذا من قبيل الإيثار بالنفس، وهو فوق الإيثار بالمال.

وقال في "التكملة": والصحيح: أن الآية نزلت في أبي طلبة الأنصاري رضي الله عنه حين نزل برسول الله صلى الله عليه وسلم ضيف، ولم يكن عنده ما يضيفه به، فقال: ألا رجلًا يضيف هذا رحمه الله، فقام أبو طلحة فانطلق به إلى رحله وقال لامرأته: أكرمي ضيف رسول الله صلى الله عليه وسلم، فنوّمت الصبية وأطفات السراج، وجعل الضيف يأكل، وهما يُرِيان أنهما يأكلان معه ولا يفعلان، فنزلت الآية. وكانت قناعة السلف أوفر ونفوسهم أقنع وبركتهم أكثر، ونحن نؤثر أنفسنا على الغير، فإذا وضعت مائدة بين أيدينا .. يريد كل منا أن يأكل قبل الآخر، ويأخذ أكثر مما يأخذ الرفيق، ولذلك لم توجد بركة الطعام، وينفد سريعًا.

والمعنى: أي والذين سكنوا المدينة وأشربت قلوبهم حب الإيمان من قبل هجرة أولئك المهاجرين، لهم صفات كريمة وشيم جليلة تدل على كرم النفوس ونبل الطباع. فهم:

1 -

يحبون المهاجرين ويتمنون لهم من الخير ما يتمنون لأنفسهم.

2 -

لا يطمحون إلى شيء مما أعطيه أولئك المهاجرون من الفيء وغيره.

3 -

يقدمون ذوي الحاجة على أنفسهم، ويبدؤون بسواهم قبلهم، حتى إن من كان عنده امرأتان ينزل عن إحداهما، ويزوجها واحدًا من المهاجرين.

ثم بيّن سوء عاقبة الشح، فقال:{وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ} والوقاية: حفظ الشيء مما يؤذيه ويضره. والشُّح - بالضم والكسر -: بخل مع حرص، فيكون جامعًا بين ذميمتين من صفات النفس. وإضافته إلى النفس لأنه غريزة فيها مقتضية للحرص على المنع الذي هو البخل. وقيل: الشح أشد من البخل. قال مقاتل: شح نفسه،

ص: 118

حرص نفسه. وقال سعيد بن جبير: شح النفس: أخذ الحرام، ومنع الزكاة. وقال ابن زيد: من لم يأخذ شيئًا نهاه الله عنه، ولم يمنع شيئًا أمره الله بأدائه .. فقد وفي شح نفسه. وقال طاووس: البخل: أن يبخل الإنسان بما في يده، والشح: أن يشح بما في أيدي الناس. وقال ابن عيينة: الشح: الظلم. وقال الليث: ترك الفرائض وانتهاك المحارم.

والظاهر من الآية: أن الفلاح مترتب على عدم شح النفس بشيء من الأشياء التي يقبح الشح بها شرعًا، من زكاة أو صدقة أو صلة رحم أو نحو ذلك، كما تفيده إضافة الشح إلى النفس؛ أي: ومن يحفظ بتوفيق الله شحها وبخلها حتى يخالفها فيما يغلب عليها من حب المال وبغض الإنفاق {فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} .

والإشارة بقوله: {فَأُولَئِكَ} إلى {مَنْ} باعتبار معناها وهو مبتدأ وخبره {هُمُ الْمُفْلِحُونَ} ؛ أي: فأولئك المحفوظون من الشح هم الفائزون بكل مطلوب، الناجون من كل مكروه. والفلاح اسم لسعادة الدارين. والجملة (1) اعتراض وارد لمدح الأنصار، والثناء عليهم. فإن الفتوة هي الأوصاف المذكورة في حقهم، فلهم جلائل الصفات ودقائق الأحوال؛ ولذا قال صلى الله عليه وسلم:"آية الإيمان: حب الأنصار، وآية النفاق: بغض الأنصار". وقال صلى الله عليه وسلم: "للهم اغفر للأنصار، ولأبناء الأنصار، وأبناء أبناء الأنصار".

وقرأ الجمهور (2): {يُوقَ} بسكون الواو وتخفيف القاف، من الوقاية. وقرأ ابن أبي عبلة، وأبو حيوة بفتح الواو وتشديد القاف. وقرأ الجمهور {شُحَّ نَفْسِهِ} بضم الشين. وقرأ ابن عمر، وابن أبي عبلة بكسرها.

والمعنى (3): أي ومن يحفظوا أنفسهم من الحرص على المال والبخل به .. فأولئك هم الفائزون بكل مطلوب، الناجون من كل مكروه.

أخرج الترمذي وأبو يعلى وابن مردويه، عن أنس مرفوعًا:"لا يجتمع غبار في سبيل الله ودخان نار جهنم في جوف عبد أبدًا، ولا يجتمع الإيمان والشح في قلب عبد أبدًا".

(1) روح البيان.

(2)

الشوكاني.

(3)

المراغي.

ص: 119