الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
فيهم ما قيل: قد يؤتى الحَذِرُ من مأمنه. فأجلاهم النبي صلى الله عليه وسلم من المدينة، فذهبت طائفة منهم إلى أذرعات من أعالي الشام، وطائفة إلى خيبر، على أن يأخذوا معهم ما حملت إبلهم.
ثم بيّن أسباب هذا الاستسلام السريع والنزول على حكم الرسول على مناعة الحصون وكثرة العَدد والعُدَد فقال: {وَقَذَفَ فِي قُلُوبِهِمُ الرُّعْبَ} ؛ أي: بث في قلوبهم الهلع والخوف حين جاء رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه إليهم، فلم يستطيعوا إلى المقاومة سبيلًا، ومما كان له بالغ الأثر في هذا الخوف: قتل رئيسهم كعب بن الأشرف غيلة، وما رأوه من كذب وعد عبد الله بن أبي رأس المنافقين في نصرتهم وإرسال المدد إليهم وتغريره بهم، وتوسيع مسافة الخلف بينهم وبين الرسول صلى الله عليه وسلم. فهم قد أوقدوا نارًا كانوا هم حطب لهبها، وفتحوا ثغرة برؤوسهم قد سدوها، ووقعوا في حفرة هم الذين كانوا قد حفروها، فابتلعتهم لا إلى رجعة.
ثم بيَّن مدى ما لحقهم من الهلع والجزع، وكيف حاروا في الدفاع عن أنفسهم، فقال: {يُخْرِبُونَ بُيُوتَهُمْ بِأَيْدِيهِمْ
…
} إلخ؛ أي: يخربون بيوتهم بأيديهم. ليسدوا بما نقضوا منها من الخشب والحجاز أفواه الأزقة، حتى لا يدخلها العدو، وحتى لا تبقى صالحة لسكنى المؤمنين بعد. جلائهم، ولينقلوا بعض أدواتها التي تصلح للاستعمال في جهات أخرى؛ كالخشب والعمد والأبواب. ويخربها المؤمنون من خارج؛ ليدخلوها عليهم، ويزيلوا تحصنهم بها، وليتسع مجال القتال، ويكون في ذلك عظيم التنكيل والغيظ لهم.
ثم ذكر ما يجب أن يجعله العاقل نصب عينيه من عظة واعتبار، فقال:{فَاعْتَبِرُوا يَا أُولِي الْأَبْصَارِ} ؛ أي: فاتعظوا يا ذوي البصائر السليمة والعقول الراجحة بما جرى لهؤلاء، من أمور عظام وبلاء ما كان يخطر لهم ببال، وأسباب تحار في فهمها العقول، ولا يصل إلى عنه حقيقتها ذوو الآراء الحصيفة. وابتعدوا عن الكفر والمعاصي التي أوقعتهم في هذه المهالك، فالسعيد من وعظ بغيره وإياكم والغدر والاعتماد على غير الله، فما اعتمد أحد على غيره إلا ذلّ.
3
- ثم بيَّن أن الجلاء الذي كتب عليهم كان أخف من القتل والأسر، فقال:{وَلَوْلَا أَنْ كَتَبَ اللَّهُ} وحكم في سابق علمه {عَلَيْهِمُ} ؛ أي: على بني النضير
{الْجَلَاءَ} ؛ أي: الخروج من أوطانهم على ذلك الوجه الفظيع. و {لولا} (1) امتناعية، وما بعدها مبتدأ محذوف الخبر. فإن {أَن} مخففة من الثقيلة، واسمها ضمير الشأن المقدر؛ أي: ولولا أنه، و {كَتَبَ اللَّهُ}: خبرها، وجملة {أنْ} في محل رفع على الابتداء، والخبر محذوف، والتقدير: ولولا كتاب الله عليهم الجلاء واقع في علمه أو في لوحه .. {لَعَذَّبَهُمْ فِي الدُّنْيَا} بالقتل والسبي، كما فعل ببني قريظة إخوانهم من اليهود.
قال بعضهم: لما استحقوا بجرمهم العظيم قهرًا عظيمًا .. أخذوا بالجلاء الذي جعل عديلًا لقتل النفس؛ لقوله تعالى: {وَلَوْ أَنَّا كَتَبْنَا عَلَيْهِمْ أَنِ اقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ أَوِ اخْرُجُوا مِنْ دِيَارِكُمْ مَا فَعَلُوهُ إِلَّا قَلِيلٌ مِنْهُمْ} مع أن فيه احتمال إيمان بعضهم بعد مدة وإيمان من يتولد منهم.
وكان (2) بنو النضير من الجيش الذين عصوا موسى عليه السلام في كونهم لم يقتلوا الغلام ابن ملك العماليق، تركوه لجماله وعقله، وقال موسى عليه السلام: لا تستحيوا منهم أحدًا، فلما رجعوا إلى الشام .. وجدوا موسى عليه السلام قد مات، فقال لهم بنو إسرائيل: أنتم عصاة، والله لا دخلتم علينا بلادنا. فانصرفوا إلى الحجاز، فكانوا فيه فلم يجر عليهم الجلاء الذي أجراه بختنصر على أهل الشام؛ فإنه أجلى معظمهم من بلاد الشام إلى العراق، وكان الله قد كتب على بني إسرائيل جلاء، فنالهم هذا الجلاء على يد محمد صلى الله عليه وسلم، ولولا ذلك .. لعذبهم في الدنيا بالقتل والسبي، كأهل بدر وغيرهم. ويقال: جلا القوم عن منازلهم، وأجلاهم غيرهم. قيل: والفرق بين الجلاء والإخراج: أن الجلاء ما كان مع الأهل والولد، والإخراج: قد يكون مع بقاء الأهل والولد. وقال الماوردي: الجلاء لا يكون إلا لجماعة، والإخراج قد يكون لجماعة ولواحد.
وقرأ الجمهور: {الْجَلَاءَ} ممدودًا، والحسن بن صالح، وأخوه عليّ بن صالح مقصورًا. وقرأ طلحة مهموزًا من غير ألف كـ {النبأ} .
{وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذَابُ النَّارِ} ؛ أي: إن نجوا من عذاب الدنيا .. لم ينجوا في
(1) روح البيان.
(2)
البحر المحيط.