المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

فإن قلت: قوله: أنت علي كظهر أمي، إنشاء لتحريم الاستمتاع - تفسير حدائق الروح والريحان في روابي علوم القرآن - جـ ٢٩

[محمد الأمين الهرري]

الفصل: فإن قلت: قوله: أنت علي كظهر أمي، إنشاء لتحريم الاستمتاع

فإن قلت: قوله: أنت علي كظهر أمي، إنشاء لتحريم الاستمتاع بها وليس بخبر، والإنشاء لا يوصف بالكذب.

قلت: هذا الإنشاء يتضمن إلحاق الزوجة المحللة بالأم المحرمة أبدًا، وهذا إلحاق مناف لمقتضى الزوجية، فيكون كاذبًا. وقال بعضهم: لمّا كان مبنى طلاق الجاهلية الأمر المنكر الزور لم يجعله الله طلاقًا، ولم تبق الحرمة إلا إلى وقت التكفير.

والمعنى (1): أي وإنهم ليقولون قولًا منكرًا لا يجيزه شرع ولا يرضى به عقل ولا يوافق عليه ذو طبع سليم، فكيف تشبه من يسكن إليها، وتسكن إليه، وجعل بينه وبينها مودةً ورحمة وصلة خاصة لا تكون لأم ولا لأخت بمن جعل صلتها بابنها صلة الكرامة والحنو والإجلال والتعظيم؟ إلى أن الرجل قوام على المرأة، له حق تأديبها إذا اعوجت، وهجرانها في المضاجع إذا جمحت. ولم يعط ذلك الابن ليعامل به أمه؟ فهذا زور وبهتان عظيم. ولا يخفى ما في هذان الاستهجان وشديد التشنيع على صدور هذا القول منهم.

{وَإِنَّ اللهَ} سبحانه وتعالى {لَعَفُوٌّ غَفُورٌ} ؛ أي: لكثير العفو والمغفرة لما سلف من الذنب متى تاب فاعله منه؛ إذ جعل الكفارة عليهم مخلصة لهم عن هذا القول المنكر الزور. والفرق بين المغفرة والعفو: أن العفو محو للذنوب عن صحف الملائكة، والمغفرة سترها عن أعينهم.

‌3

- ثم فصل حكم الظهار، فقال:{وَالَّذِينَ يُظَاهِرُونَ مِنْ نِسَائِهِمْ} ؛ أي: والذين يقولون ذلك القول المنكر الفظيع لنسائهم {ثُمَّ يَعُودُونَ لِمَا قَالُوا} ؛ أي: ثم يريدون العود إلى ما حرموا على أنفسهم بلفظ الظهار من الاستمتاع. ففيه تنزيل القول منزلة المقول فيه، واللام فيه بمعنى إلى؛ لأنّهما قد يتقارضان. أو يعودون لما قالوا إما بالسكوت عن الطلاق بعد الظهار زمانًا يمكنه أن يطلقها فيه، كما قاله الشافعي، أو إما باستباحة الوطء والملامسة والنظر إليها بالشهوة - كما قاله أبو حنيفة - أو بالعزم على جماعها، كما قاله مالك - {فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ}؛ أي (2): فالواجب عليهم إعتاق

(1) المراغي.

(2)

روح البيان.

ص: 21

رقبة مؤمنة، فلا تجزىء كافرة قياسًا على كفّارة القتل على ما ذهب إليه الشافعي ومالك، واشترطا أيضًا: سلامتها من كل عيب. أو إعتاق أي رقبة مؤمنة كانت أو كافرة، وإن كان الأولى تحرير المؤمنة على ما قاله أبو حنيفة، وهو الظاهر.

والتحرير: جعل الإنسان حرًا، وهو خلاف الرقيق. والرقبة: ذات مرقوق مملوك، سواء كان مؤمنًا أو كافرًا، ذكرًا أو أنثى، صغيرًا أو كبيرًا، هنديًا أو روميًا، عربيًا أو حبشيًا. فيعتقها مقرونًا بالنية، وإن كان محتاجًا إلى خدمتها، فلو نوى بعد العتق أو لم ينو .. لم يجزىء، وإن وجد ثمن الرقبة وهو محتاج إليه .. فله الصيام، كما في "الكواشي". ولا يجزىء إعتاق أمّ الولد، والمدبر، والمكاتب الذي أدّى شيئًا، فإن لم يؤدّ .. جاز. ويجب أن تكون سليمة من العيوب الفاحشة بالاتفاق. واشترط الشافعي الإيمان قياسًا على كفّارة القتل، كما قال تعالى فيها:{فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُّؤمَنَةٍ} . قلنا: حمل المطلق على المقيد إنما هو عند اتحاد الحادثتين واتحاد الحكم أيضًا، وهنا ليس كذلك.

و {الفاء} : فيه رابطة الخبر بالمبتدأ لشبهه بالشرط، وفيها معنى السببية. ومن فوائدها (1): الدلالة على تكرر وجوب التحرير بتكرر الظهار؛ لأن تكرر السبب يوجب تكرر المسبب، كقراءة آية السجدة في موضعين. فلو ظاهر من امرأته مرتين أو ثلاثًا في مجلس واحد، أو مجالس متفرقة .. لزمه بكل ظهار كفارة. هذا عند الأحناف {مِنْ قَبْلِ أَنْ يَتَمَاسَّا}؛ أي: من قبل أن يستمتع كل من المظاهر والمظاهر منها بالآخر جماعًا وتقبيلًا ولمسًا، ونظرًا إلى الفرج بشهوة، ذلك لأنّ اسم التماس، يتناول الكلّي، وإن وقع شيء من ذلك قبل التكفير .. يجب عليه أن يستغفر؛ لأنه ارتكب الحرام. ولا يعود حتى يكفر وليس عليه شيء سوى الكفارة الأولى بالاتفاق. وإن أعتق بعض الرقبة ثمّ مسّ .. فعليه أن يستأنف عند أبي حنيفة، ولا تسقط الكفارة بل يأتي بها على وجه القضاء، كما لو أخّر الصلاة عن وقتها فإنه لا يسقط عنه الإتيان بها بل يلزمه قضاؤها.

وفي الآية دليل على أنّ المرأة لا يجوز لها أن تدع الزوج أن يقربها قبل الكفارة؛ لأنه نهاهما جميعًا عن المسيس قبل الكفارة. قال القهستاني: لها مطالبة

(1) روح البيان.

ص: 22

التكفير والحاكم يجبر عليه بالحبس ثم بالضرب، فالنكاح باقٍ والحرمة لا تزول إلا بالتكفير. وكذا لو طلقها ثم تزوجها بعد العدة أو زوج آخر .. حرم وطؤها قبل التكفير، ثم العود الموجب لكفارة الظهار عند أبي حنيفة هو: العزم على جماعها، كما مر. فمتى عزم على ذلك لم تحل له حتى يكفر، ولو مات بعد مدة قبل أن يكفر .. سقطت عنه الكفارة؛ لفوت العزم على جماعها.

والمعنى (1): أي والذين يقولون هذا القول المنكر الزور ثم يتداركونه بنقضه ويرجعون عمّا قالوا فيريدون المسيس .. فعلى كل منهم عتق عبد أو أمة قبل التماس إن كان ذلك لديه.

ثم بيّن السبب في شرع هذا الحكم، فقال:{ذَلِكُمْ} الحكم بالكفارة أيها المؤمنون. وهو مبتدأ خبره قوله: {تُوعَظُونَ بِهِ} ؛ أي: تؤمرون به أو تزجرون به؛ لأن الوعظ زجر يقترن بتخويف؛ أي: تزجرون به من ارتكاب المنكر المذكور. فإن الغرامات مزاجر من تعاطي الجنايات. والمراد بذكره: بيان أن المقصود من شرع هذا الحكم ليس تعريضكم للثواب بمباشرتكم لتحرير الرقبة الذي هو علم في استتباع الثواب العظيم، بل هو ردعكم وزجركم عن مباشرة ما يوجبه.

والحاصل: أن في المؤاخذة الدنيوية نفعًا لكلّ من المظاهر وغير المظاهر؛ بان يحصل للمُظاهر الكفارة والتدارك، ولغير المُظاهر الاحتياط والاجتناب. وقال الزجاج: معنى الآية: ذلكم التغليظ في الكفارة توعظون به؛ أي: إن غلظ الكفارة وعظ لكم حتى تتركوا الظهار، انتهى.

{وَاللَّهُ} سبحانه {بِمَا تَعْمَلُونَ} من جناية الظهار والتكفير ونحو ذلك من قليل وكثير {خَبِيرٌ} ؛ أي: عالم بظواهرها وبواطنها، ومجازيكم بها، فحافظوا حدود ما شرع لكم، ولا تخلوا بشيء منها.

والمعنى: أي إنه شرع لكم حكم الكفارة عند طلب العودة إلى المسيس ليكون ذلك زاجرًا لكم من ارتكاب المنكر، فإن الكفارة تمنع من وقوع الجرم. والله خبير بأعمالكم، لا يخفى عليه شيء منها، وهو مجازيكم بها، فانتهوا عن قول المنكر،

(1) المراغي.

ص: 23