الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
كناية؛ لأن الانتقال من لا تلهكم إلى معنى قولنا: لا تلهوا .. انتقال من اللازم إلى الملزوم.
وقد كان المنافقون بخلاء بأموالهم؛ ولذا قالوا: {لَا تُنْفِقُوا عَلَى مَنْ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ} ومتعززين بأولادهم وعشائرهم، مشغولين بهم وبأموالهم عن الله، وطاعته وتعاون رسوله صلى الله عليه وسلم فنهى المؤمنين أن يكونوا مثلهم في ذلك. {وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ}؛ أي: التلهي بالدنيا عن الدين، والاشتغال بما سواه عنه ولو في أقل حين. {فَأُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ}؛ أي: الكاملون في الخسران، حيث باعوا العظيم الباقي بالحقير الفاني. وفي الحديث: ما طلعت الشمس إلا بجنبيها ملكان يناديان ويسمعان الخلائق غير الثقلين: يا أيها الناس! هلموا إلى ربكم، ما قل وكفى خير مما كثر وألهى".
ومعنى الآية (1): أي لا يشغلكم تدبير أموالكم والعناية بشؤون أولادكم عن القيام بحقوق ربكم وأداء فرائضه التي طلبها منكم، واجعلوا للدنيا حظًا من اهتمامكم وللآخرة مثله. وهذا ما عناه الحديث:"اعمل لدنياك كأنك تعيش أبدًا، واعمل لآخرتك كأنك تموت غدًا".
وبهذا امتازت الملة الحنيفية السمحة، فما طلب من المؤمنين أن يكونوا ماديين يتكالبون على جمع حطام الدنيا كما يفعل اليهود، ولا أن يكونوا روحانيين يجردون أنفسهم من لذات هذه الحياة ويتبتلون إلى ربهم كما يفعل المسيحيون، كما يرشد إلى هذا قوله تعالى:{قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالطَّيِّبَاتِ مِنَ الرِّزْقِ} ، وقوله:{يَا بَنِي آدَمَ خُذُوا زِينَتَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ وَكُلُوا وَاشْرَبُوا وَلَا تُسْرِفُوا} . ثم توعد من يفعل ذلك، فقال:{وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ} ؛ أي: ومن تلَّه بالدنيا وشغلته عن حقوق الله .. فقد باء بغضب من ربه وخسرت تجارته، إذ باع خالدًا باقيًا واشترى فانيًا زائلًا، وكيف يرضى عاقل بمثل هذه التجارة الخاسرة.
10
- ومن (2) أهم ما يقرب العبد من ربه ويجعله يفوز برضوانه: رحمة البائسين من عباده، وبذل المال في الوجوه التي فيها سعادة الأمة وإعلاء شأن الملة وانتشار
(1) المراغي.
(2)
المراغي.
الدعوة، ومن ثم قال:{وَأَنْفِقُوا مِنْ مَا رَزَقْنَاكُمْ} ؛ أي: بعض ما أعطيناكم تفضلًا من غير أن يكون حصوله من جهتكم، ادخارًا للآخرة. فالمراد (1): الإنفاق الواجب، نظرًا إلى ظاهر الأمر، كما في "الكشاف"، ولعل التعميم أولى وأنسب بالمقام. {مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ} بأن يشاهد دلائله ويعاين أماراته ومخايله. وتقديم المفعول على الفاعل للاهتمام بما تقدم والتشويق إلى ما تأخر ولم يقل: من قبل أن يأتيكم الموت فتقولوا، إشارة إلى أن الموت يأتيهم واحدًا بعد واحد حتى يحيط بالكل. {فَيَقُولَ} عند تيقنه بحلوله: يا {رَبِّ} ؛ أي: يا ربي ويا مالك أمري {لَوْلَا أَخَّرْتَنِي} ؛ أي: هلا أخرتني وأمهلتني، فـ {لَوْلَا} للتحضيض. وقيل: لا زائدة للتأكيد ولو للتمني؛ بمعنى: لو أخرتني؛ أي: هلا أمهلتني وأخرت موتي {إِلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ} وأمد قصير وساعة أخرى قليلة، وقال أبو الليث: يا سيدي! ردني إلى الدنيا وأبقني زمانًا غير طويل. وفي "عين المعاني": مثل ما أجلت لي في الدنيا. {فَأَصَّدَّقَ} ؛ أي: فأتصدق بمالي. وهو بقطع الهمزة؛ لأنها للتكلم وهمزته مقطوعة، وبتشديد الصاد؛ لأن أصله: أتصدق من التصدق، فأدغمت التاء في الصاد، وبالنصب؛ لأنه مضارع منصوب بأن مضمرة بعد الفاء في جواب التحضيض. أو التمني في قوله:{لَوْلَا أَخَّرْتَنِي} . {وَأَكُنْ مِنَ} عبادك {الصَّالِحِينَ} المراعين لحقوق الله وحقوق العباد، بالجزم عطفًا في محل {فَأَصَّدَّقَ} ، كأنه قيل: إن أخرتني أصدق وأكن من الصالحين. وفيه إشارة إلى أن التصدق من أسباب الصلاح والطاعة، كما أن تركه من أسباب الفساد والفسق.
وقرأ الجمهور (2): {فَأَصَّدَّقَ} بإدغام التاء في الصاد، وانتصابه على أنه جواب التمني. وقرأ أبي، وابن مسعود، وسعيد بن جبير:{فأتصدق} بالتاء بدون إدغام على الأصل. وقرأ الجمهور السبعة: {وَأَكُنْ} بالجزم عطفًا على محل {فَأَصَّدَّقَ} ، كأنه قيل: إن أخرتني .. أصدق وأكن. وقرأ الحسن وابن جبير، وأبو رجاء، وابن أبي إسحاق، ومالك بن دينار، والأعمش، وابن محيصن وعبد الله بن الحسن العنبري، وأبو عمرو:{وأكون} بالنصب عطفًا على {فَأَصَّدَّقَ} وكذا في مصحف عبد الله وأبي، ولكن قال أبو عبيد: رأيت في مصحف عثمان {أكن} بغير
(1) روح البيان.
(2)
البحر المحيط.