المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

جاء عوف بن مالك الأشجعي، فقال: يا رسول الله، إن - تفسير حدائق الروح والريحان في روابي علوم القرآن - جـ ٢٩

[محمد الأمين الهرري]

الفصل: جاء عوف بن مالك الأشجعي، فقال: يا رسول الله، إن

جاء عوف بن مالك الأشجعي، فقال: يا رسول الله، إن ابني أسره العدو وجزعت أمه، فما تأمرني؟ قال:"آمرك وإياها أن تستكثروا من قول: لا حول ولا قوة إلا بالله" فقالت المرأة: نِعم ما أمرك، فجعلا يكثران منها، فتغفل عنه العدو فاستاق غنمهم، فجاء بها إلى أبيه، وهي أربعة آلاف شاة، فنزلت {وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا

} الآية. وأخرجه الخطيب في "تاريخه" من طريق جويبر عن الضحاك عن ابن عباس.

قوله تعالى: {وَاللَّائِي يَئِسْنَ مِنَ الْمَحِيضِ

} الآية، سبب نزولها: ما أخرجه البيهقي، والحاكم في جماعة آخرين عن أبي بن كعب: أن ناسًا من أهل المدينة لما نزلت آية البقرة في عِدة النساء قالوا: لقد بقي من عدة النساء عدد لم تذكر في القرآن: الصغار، والكبار اللاتي قد انقطع عنهن الحيض، وذوات الحمل؟ فأنزل الله تعالى في سورة النساء الصغرى، {وَاللَّائِي يَئِسْنَ

} الآية. وروي: أن قومًا، منهم: أبي بن كعب وخلاد بن النعمان، لما سمعوا قوله تعالى:{وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلَاثَةَ قُرُوءٍ} قالوا: يا رسول الله، فما عدة من لا قرء لها من صغر أو كبر؟ فنزلت: {وَاللَّائِي يَئِسْنَ

}.

التفسير وأوجه القراءة

‌1

- {يَاأَيُّهَا النَّبِيُّ} الكريم {إِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ} ؛ أي (1): إذا أردتم تطليق النساء المدخول بهن المعتدات بالأقراء، وعزمتم عليه بقرينة {فَطَلِّقُوهُنَّ} مستقبلات {لِعِدَّتِهِنَّ} متوجهات إليها، وهي الحيض عند الحنفية. فاللام متعلقة بمحذوف دل عليه معنى الكلام، والمراد أن يطلقن في طهر لم يقع فيه جماع ثم يتركن حتى تنقضي عدتهن. فإذا طلقت المرأة في الطهر المتقدم على القرء الأول من أقرائها .. فقد طلقت مستقبلة لعدتها. والأقراء عند أبي حنيفة هي الحيض. وقال الجرجاني: واللام في قوله: {لِعِدَّتِهِنَّ} بمعنى (في)؛ أي: طلقوهن في زمن استئناف عدتهن، وهو الطهر الذي لم يجامع فيه، كما عليه الشافعي، فالأقراء عند الشافعي هي الأطهار، فإذا طلقوهن هكذا .. فقد طلقوهن في عدتهن.

(1) روح البيان.

ص: 402

وتخصيص النداء به صلى الله عليه وسلم مع عموم الخطاب لأمته أيضًا لتحقيق أنه المخاطب حقيقة، ودخولهم في الخطاب بطريق استتباعه صلى الله عليه وسلم إياهم وتغليبه عليهم، ففيه تغليب المخاطب على الغائب.

والمعنى: إذا طلقت أنت وأمَّتك. وقيل: خصه بالنداء أولًا تشريفًا له ثم خاطبه مع أمَّته، أو: الخطاب له خاصة، والجمع للتعظيم، وأمَّته أسوته في ذلك. وفي "الكشاف ": خص النبي صلى الله عليه وسلم بالنداء وعمم بالخطاب لأن النبي إمام أمته وقدوتهم، كما يقال لرئيس القوم وكبيرهم: يا فلان، افعلوا كيت وكيت، إظهارًا لتقدمه واعتبارًا لترؤسه، وأنه لسان قومه، فكأنه هو وحده في حكم كلهم لصدورهم عن رأيه، كما قال البقلي: إذا خاطب السيد .. بأن شرفه على الجمهور: إذ جَمَعَ الجميع في اسمه. ففيه إشارة إلى سر الإتحاد.

وفي "كشف الأسرار": في هذا الخطاب أربعة أقوال:

أحدها: أنه خطاب للرسول صلى الله عليه وسلم، وذكر بلفظ الجمع تعظيمًا له، كما يخاطب الملوك بلفظ الجمع.

والثاني: أنه خطاب له، والمراد أمَّته.

والثالث: أن التقدير: يا أيها النبي والمؤمنون إذا طلقتم، فحذف لأن الحكم يدل عليه.

والرابع: معناه: يا أيها النبي قل للمؤمنين: {إِذَا طَلَّقْتُمُ} ، انتهى. يقول الفقير: هذا الأخير أنسب بالمقام، فيكون مثل قوله:{يَاأَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِأَزْوَاجِكَ} ، {قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ} ، {وَقُلْ لِلْمُؤْمِنَاتِ} ؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم، وإن كان أصيلًا في المأمورات كما أن أمته أصيل في المنهيات؛ إلا أن الطلاق لما كان أبغض المباحات إلى الله تعالى .. كان الأولى أن يسند التطليق إلى أمته دونه صلى الله عليه وسلم مع أنه صلى الله عليه وسلم قد صدر منه التطليق، فإنه طلق حفصة بنت عمر رضي الله عنهما واحدة، فلما نزلت الآية .. راجعها، وكانت علَّامةً كثيرة الحديثِ قريبًا منزلتها من منزلة عائشة رضي الله عنهما: فقيل له صلى الله عليه وسلم: راجعها، فإنها صوامة قوامة، وإنها من نسائك في الجنة، حكاه الطبري. وفي الحديث بيان فضل العلم وحفظ الحديث، ومحبة الصيام والقيام، وكرامة أهلهما عنده تعالى.

ص: 403

قال في "المفردات": أصل الطلاق: التخلية من وثاق، ويقال: أطلقت البعير من عقاله، وطلقته، وهو طالق وطلق بلا قيد، ومنه استعير: طلقت المرأة إذا خليتها، فهي طالق؛ أي: مخلاة عن حبالة النكاح، انتهى. والطلاق اسم مصدر بمعنى كالتطليق كالسلام بمعنى التسليم، والكلام بمعنى التكليم، وفي ذلك قالوا: المستعمل في المرأة لفظ التطليق، وفي غيرها لفظ الإطلاق؛ حتى لو قال: أطلقتك .. لم يقع الطلاق ما لم ينو. ولو قال: طلقتك .. وقع نوى أو لم ينو.

والعدة (1): مصدر عدّه يعده. وفي الحديث: سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم متى تكون القيامة؟ قال: "إذا تكاملت العدتان"؛ أي: عدة أهل الجنة وعدة أهل النار؛ أي: عددهم. وسمي الزمان الذي تتربص المرأة عقيب الطلاق أو الموت عدة؛ لأنها تعد الأيام المضروبة عليها، وتنتظر أوان الفرج الموعود لها.

والمعنى (2): أي أيها المؤمنون: إذا أردتم طلاق نسائكم .. فطلقوهن لزمان محسوب من عدتهن، وهو طهر لا قربان فيه؛ حتى لا يطول عليهن زمان العدة، فإن طلقتموهن في زمان الحيض .. كان الطلاق طلاقًا بدعيًا حرامًا. والمراد بالنساء: المدخول بهن من ذوات الأقراء. أما غير المدخول بهن فلا عدة عليهن، وذات الأشهر سيأتي حكمهن فيما بعد.

أخرج الشيخان، وأبو داود، والترمذي، والنسائي في آخرين عن ابن عمر: أنه طلق امرأته وهي حائض، فذكر ذلك عمرُ لرسول الله صلى الله عليه وسلم، فتغيظ منه، ثم قال:"ليراجعها، ثم يمسكها حتى تطهير ثم تحيض ثم تطهير، فإن بدا له أن يطلقها .. فليطلقها قبل أن يمسا، فتلك العدة التي أمر الله أن تطلق لها النساء".

والخلاصة: أن السنة في الطلاق: أن تطلق المرأة وهي طاهرة، دون أن يكون الرجل لامسها في هذا الطهر، أو أن يطلقها وهي حامل حملًا مستبينًا. ومن هذا قسم الفقهاء الطلاق أقسامًا ثلاثة:

1 -

طلاق سنة، وهو: أن يطلقها طاهرة من غير قربان، أو حاملًا حملًا قد استبان.

(1) روح البيان.

(2)

المراغي.

ص: 404

2 -

طلاق بدعة، وهو: أن يطلقها حين الحيض، أو في طهر قد واقعها فيه فلا يدري أحملت أم لا؟ والسرّ في هذا (1): أنه بعمله هذا أطال عليها العدة؛ لأن هذه الحيضة لا تحسب في العدة، وكذا الطهر الذي بعدها؛ لأنها إنما تكون بثلاث حيضات كوامل.

3 -

طلاق لا هو سنة ولا بدعة، وهو: طلاق الصغيرة، والآيسة من الحيض، وغير المدخول بها. وقد روي عن إبراهيم النخعي: أن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم كانوا يستحبون أن لا يطلقوا أزواجهم للسنة إلا واحدة، ثم لا يطلقون غير ذلك حتى تنقضي العدة، وما كان أخس عندهم من أن يطلق الرجل ثلاث تطليقات. وقال مالك بن أنس: لا أعرف طلاقًا إلا واحدة، وكان يكره الثلاث متفرقة أو مجموعة. وأبو حنيفة وأصحابه يكرهون ما زاد على الواحدة في طهر واحد. وعند الشافعي: لا بأس بإرسال الثلاث، وقال: لا أعرف في عدد الطلاق سُنة، ولا بدعة، بل هو مباح.

والخلاصة: أن مالكًا يراعي في طلاق السنة الواحدة والوقت، وأن أبا حنيفة يراعي التفريق والوقت، والشافعي يراعي الوقت وحده.

{وَأَحْصُوا الْعِدَّةَ} ؛ أي: واحفظوا عدة الأقراء بحفظ الوقت الذي وقع فيه الطلاق، وأكملوها ثلاثة أقراء كوامل لا نقصان فيهن؛ أي: ثلاث حيض، كما عند أبي حنيفة؛ لأن الغرض من العدة استبراء الرحم، وكماله بالحيض الثلاث لا بالأطهار، كما يغسل الشيء ثلاث مرات لكمال الطهارة؛ أي: واحفظوا العدة واحفظوا الوقت الذي وقع في الطلاق، واعرفوا ابتداءها وانتهاءها؛ لئلا تطول على المرأة، واحفظوا الأحكام والحقوق التي تجب فيها.

والمخاطب بالإحصاء هم الأزواج لا الزوجات ولا المسلمون كما قيل، وإلا .. يلزم تفكيك الضمائر، ولكن الزوجات داخلة فيه بالإلحاق، وإنما خوطب الأزواج بذلك دون النساء؛ لأنهم هم الذين تلزمهم الحقوق والمؤن المرتبة عليها.

وقال أبو الليث: أمر الرجال بحفظ العدة: لأن في النساء غفلة، فربما لا

(1) المراغي.

ص: 405

تحفظ عدتها، فالزوج يحيى ليتمكن من تفريق الطلاق على الأقراء إذا أراد أن يطلق ثلاثًا. فإن إرسال الثلاث في طهر واحد مكروه عند أبي حنيفة وأصحابه وإن كان لا بأس به عند الشافعي وأتباعه، حيث قال: لا أعرف في عدد الطلاق سُنة ولا بدعة، وهو مباح، وليعلم بقاء زمان الرجعة ليراجع إن حدثت له الرغبة فيها، وليعلم زمان وجوب الإنفاق عليه وانقضاءه، وليعلم أنها هل تستحق عليه أن يسكنها في البيت أو له أن يخرجها؟ وليتمكن من إلحاق نسب ولدها به وقطعه عنه.

قالوا (1): وعلى الرجال في بعض المواضع العدة:

منها: أنه إذا كان للرجل أربع نسوة، فطلق إحداهن .. لا يحل له أن يتزوج بامرأة أخرى ما لم تنقض عدتها.

ومنها: أنه إذا كان له امرأة ولها أخت، فطلق امرأته .. لا يحل له أن يتزوج بأختها ما دامت في العدة.

ومنها: أنه إذا اشترى جارية .. لا يحل له أن يقربها ما لم يستبرئها بحيضة.

ومنها: أنه إذا تزوج حربية .. لا يحل له أن يقربها ما لم يستبرئها بحيضة.

ومنها: أنه إذا بلغ المرأةَ وفاةُ زوجها فاعتدت وتزوجت وولدت، ثم جاء زوجها الأول .. فهي امرأتهن لأنها كانت منكوحته ولم يعترض شيء من أسباب الفرقة فبقيت على النكاح السابق، ولكن لا يقربها حتى تنقضي عدتها من النكاح الثاني، ووجوب العدة لا يتوقف على صحة النكاح إذا وقع الدخول، بل تجب العدة في صورة النكاح الفاسد أيضًا، على تقدير الدخول.

ومنها: أنه إذا تزوج امرأة وهي حائض .. لا يحل له أن يقربها حتى تتطهر من حيضها.

ومنها: أنه إذا تزوج بامرأة نفساء .. لا يحل له أن يقربها حتى تتطهر من نفاسها.

ومنها: إذا زنى بامرأة ثم تزوجها .. لا يحل له أن يقربها ما لم يستبرئها

(1) روح البيان.

ص: 406

بحيضة

{وَاتَّقُوا اللَّهَ رَبَّكُمْ} في تطويل العدة عليهن والإضرار بهن بإيقاع طلاق ثان بعد الرجعة، فالأمر بالتقوى متعلق بما قبله. والتقوى في الأصل (1): اتخاذ الوقاية، وهي ما يقي الإنسان مما يكرهه ويؤمل أن يحفظه ويحول بينه وبين ذلك المكروه؛ كالترس ونحوه، ثم استعير في الشرع لاتخاذ ما يقي العبد بوعد الله ولطفه من قهره، ويكون سببًا لنجاته من المضار الدائمة وحياته بالمنافع القائمة، وللتقوى فضائل كثيرة ومراتب عديدة.

والمعنى: أي واخشوا الله ربكم ومالككم، فلا تعصوه فيما أمركم به من الطلاق لعدتهن وفي القيام بما للمعتدات من الحقوق، وفي وصفه تعالى بالربوبية مبالغة في وجوب الامتثال لأمره لما في لفظ الرب من التربية التي هي الإنعام والإكرام على ضروب لا حصر لها.

ثم بيّن بعض هذه الحقوق فقال: {لَا تُخْرِجُوهُنَّ} ؛ أي: لا تخرجوا أيها الأزواج المعتدات {مِنْ بُيُوتِهِنَّ} ؛ أي: من مساكنهن التي يسكنها قبل العدة؛ أي: لا تخرجوهن من مساكنكم عند الفراق إلى أن تنقضي عدتهن. وإنما أضيفت إليهن مع أنها لأزواجهن لتأكيد النهي ببيان كمال استحقاقهن لسكناها كأنها أملاكهن، مثل قوله:{وَاذْكُرْنَ مَا يُتْلَى فِي بُيُوتِكُنَّ} وقوله: {وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ} . وفي ذكر البيوت دون الدار إشارة إلى أن اللازم على الزوج في سكناهن ما تحصل المعيشة فيه؛ لأن الدار ما يشتمل على البيوت.

والمعنى: أي لا تخرجوا المعتدات من المساكن التي كنتم تساكنونهن، فيها قبل الطلاق غضبًا عليهن أو كراهة لمساكنتهن أو لحاجة لكم إلى المساكن؛ لأن تلك السكنى حق الله تعالى، أوجبه للزوجات، فليس لكم أن تتعدوه إلا لضرورة؛ كانهدام المنزل، أو الحريق، أو السيل، أو خوف الفتنة في الدين.

ثم لما نهى الله سبحانه الأزواج عن إخراجهن من البيوت التي وقع الطلاق فيها .. نهى الزوجات عن الخروج أيضًا، فقال:{وَلَا يَخْرُجْنَ} المعتدات من بيوتهن

(1) روح البيان.

ص: 407

ولو بإذن منكم، فإن الإذن بالخروج في حكم الإخراج ولا أثر لاتفاقهما على الانتقال؛ لأن وجوب ملازمة مسكن الفراق حق الله تعالى ولا يسقط بإسقاط العبد، كما قال في "الكشاف": فإن قلت: ما معنى الإخراج وخروجهن؟

قلت: معنى الإخراج أي: لا يخرجهن البعولة غضبًا عليهن وكراهة لمساكنتهن أو لحاجة لهم إلى المساكن، وأن لا يأذنوا لهن في الخروج إذا طلبن ذلك، إيذانًا بأن إذنهم لا أثر له في دفع الحظر، ولا يخرجن بأنفسهم إن أردن ذلك، انتهى. وقيل: المراد: لا يخرجن بأنفسهن إلا إذا أذن لهن الأزواج فلا بأس، والأول أولى.

فإن خرجت المعتدة لغير ضرورة أو حاجة .. أثمت، فإن وقعت ضرورة؛ بأن خافت هدمًا أو حرقًا .. لها أن تخرج إلى منزل آخر، وكذلك إن كانت لها حاجة من بيع غزل أو شراء قطن فيجوز لها الخروج نهارًا لا ليلًا، فإن خرجت ليلًا .. أثمت.

{إِلَّا أَنْ يَأْتِينَ بِفَاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ} ؛ أي: بالزنا، فيخرجن لإقامة الحد عليهن ثم يعدن. قال الواحدي: أكثر المفسرين على أن المراد بالفاحشة هنا: الزنا، وقال الشافعي وغيره: هي البذاء في اللسان والاستطالة بها. على من هو ساكن معها في ذلك البيت، ويؤيد هذا ما قال عكرمة: إن في مصحف أبيّ: {إلا أن يفحشن عليكم} وقال بعضهم: {مُبَيِّنَةٍ} هنا بالكسر لازم؛ بمعنى: بيّن متبينة، كمبين من الإبانة؛ بمعنى: بين. والفاحشة: ما عظم قبحه من الأفعال والأقوال، وهو الزنا في هذا المقام، وقيل: البذاء - بالمد -. وهو: القول القبيح وإطالة اللسان، فإنه في حكم النشوز في إسقاط حقهن. فالمعنى: إلا أن يبذون عن الأزواج وأقاربهم، كالأب والأخ، فيحل حينئذٍ إخراجهن. وعن ابن عباس: هو كل معصية.

وهو استثناء من الأول: لا تخرجوهن في حال من الأحوال، إلا حال كونهن آتيات بفاحشة، أو من الثاني للمبالغة في النهي عن الخروج ببيان أن خروجها فاحشة. أي: لا يخرجن إلا إذا ارتكبن الفاحشة بالخروج. يعني: أن من خرجت .. أتت بفاحشة، كما يقال: لا تكذب إلا أن تكون فاسقًا، يعني: إن تكذب .. تكن فاسقًا.

ص: 408

والمعنى: أي لا يخرجن من بيوتهن إلا إذا فعلن ما يوجب حدًا، من زنا أو سرقة أو غيرهما، كما أخرجه عبد بن حميد عن سعيد بن المسيب، أو يبدون على الأحماء أو الأزواج. فيحل إخراجهن من بيوتهن لبذائهن وسوء خلقهن. أو خرجن متجولات عن منازلهن اللائي يجب عليهن أن يكملن العدة فيها، فأي ذلك فعلن فللأزواج إخراجهن من البيوت لإتيانهن بالفاحشة الواضحة التي ارتكبنها.

{وَتِلْكَ} الأحكام {حُدُودُ اللَّهِ} وأحكامه التي عينها لعباده. والحد: الحاجز بين الشيئين الذي يمنع اختلاط أحدهما بالآخر؛ أي: هذه الأمور التي بينتها لكم، من الطلاق للعدة، واحصاء العدة، والأمر باتقاء الله، وأن لا تخرج المطلقة من بيتها إلا أن تأتي بفاحشة مبينة .. هي حدود الله وأحكامه التي حدّها لكم، فلا تتعدوها ولا تتجاوزوها.

ثم بيّن عاقبة تجاوز تلك الحدود، فقال:{وَمَنْ يَتَعَدَّ} أصله (1): يتعدى، فحذفت اللام بـ {مَنْ} الشرطية، وهو من التعدي بمعنى التجاوز؛ أي: ومن يتجاوز {حُدُودَ اللَّهِ} ؛ أي: حدوده المذكورة وأحكامه، بأن أخل بشيء منها، والإظهار في مقام الإضمار لتهويل أمر التعدي، والأشعار بعلية الحكم في قوله تعالى:{فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ} ؛ أي: أضر بها؛ أي: ومن يتجاوز ما شرع الله لعباده من شرائع وما أبيح له إلى ما لم يبح له .. فقد ظلم نفسه وأضر بها من حيث لا يدري.

ثم بيّن علة هذا الضرر، فقال:{لَا تَدْرِي} ولا تعلم أيها المرء. تعليل لمضمون الشرطية؛ أي: فإنك أيها المطلق المتعدِّي لا قدر ولا تعلم عاقبة أمرك وأمر المطلقة. ومفعول الدراية محذوت كما قدرنا. وجملة {لَعَلَّ اللَّهَ

} إلخ، مستأنفة لا تعلق لها بما قبلها؛ لأن الجمهور لم يعدوا {لَعَلَّ} من المعلقات، كما في "السمين". و {لَعَلَّ} بمعنى:{إنَّ} الناصبة؛ أي: لا تدري ولا تعلم أيها المطلق المتعدي بإيقاع ثلاث طلقات عاقبة أمرك وأمر المطلقة، فإن الله سبحانه ربما {يُحْدِثُ} ويوجد في قلبك {بَعْدَ ذَلِكَ} الذي فعلت من التعدي عليها وإيقاع ثلاث طلقات {أَمْرًا} يقتضي خلاف ما فعلته من التعدي، فيبدل ببغضها محبة وبالإعراض عنها إقبالًا إليها، ولا يمكن تداركه برجعة أو استئناف نكاح، فإن القلوب بين

(1) روح البيان.

ص: 409

أصبعين من أصابع الرحمن يقلبها كيف يشاء. وإحداث الأمر: إيجاده بعد أن لم يكن. فالأمر الذي يحدثه الله تعالى أن يقلب قلبه عما فعله بالتعدي إلى خلافه. فالظلم عبارة عن ضرر دنيوي يلحقه بسبب تعديه ولا يمكنه تداركه، أو عن مطلق الضرر الشامل للدنيوي والأخروي. ويخص التعليل بالدنيوي لكون احتراز الناس منه أشد واهتمامهم بدفعه أقوى. وقيل:{لَعَلَّ} معلقة لـ {تَدْرِي} عن العمل في اللفظ، فجملتها في محل نصب سادة مسد المفعولين. والمقصود من الكلام: التحريض على طلاق الواحدة أو الثنتين، والنهي عن الثلاثة. وقوله:{لَا تَدْرِي} خطاب للمتعدي بطريق الالتفات لمزيد الاهتمام بالزجر عن التعدي لا للنبي صلى الله عليه وسلم كما توهم.

والمعنى: ومن يتعد حدود الله .. فقد أضر بنفسه؛ فإنك لا تدري أيها المطلق المتعدي بإيقاع الثلاث وبإخراجها من البيوت أن الله ربما يحدث في قلبك بعد ذلك الذي فعلت - من التعدي بإيقاع الثلاث - أمرًا يقتضي خلاف ما فعلت، فيبدل ببغضها محبة وبالإعراض عنها إقبالًا، ولا يمكنك تدارك ما فعلت من التعدي فتندم.

وفي الآية دلالة (1) على كراهة التطليق ثلاثًا بمرة واحدة؛ لأن إحداث الرجعة لا يمكن بعد الثلاث، ففي إيقاع الثلاث عون للشيطان، وفي تركها رغم له، فإن الطلاق من أهم مقاصده، كما روى مسلم من حديث جابر رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "إن عرش إبليس على البحر فيبعث سراياه - أي: جنوده وأعوانه من الشياطين - فيفتنون الناس، فأعظمهم عنده الأعظم فتنة، يجيء أحدهم فيقول: فعلت كذا وكذا، فيقول: ما صنعت شيئًا، ثم يجيء أحدهم فيقول: ما تركته حتى فرقت بينه وبين امرأته، فيدنيه منه ويقول: نِعْمَ أنت"؛ أي: نِعم المضل أنت، أو الشرير أنت. فيكون (نِعم) بكسر النون فعل مدح حذف المخصوص به، أو نَعَمْ أنت ذاك الذي يستحق الإكرام، فيكون بفتح النون حرف إيجاب.

والخلاصة (2): أن من يتعد حدود الله .. فقد أساء إلى نفسه؛ فإنه لا يدري

(1) روح البيان.

(2)

المراغي.

ص: 410