المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

بعض الأنبياء قد عصاه أمته وآذوه، ولم يعجل تعذيبهم لحكمة - تفسير حدائق الروح والريحان في روابي علوم القرآن - جـ ٢٩

[محمد الأمين الهرري]

الفصل: بعض الأنبياء قد عصاه أمته وآذوه، ولم يعجل تعذيبهم لحكمة

بعض الأنبياء قد عصاه أمته وآذوه، ولم يعجل تعذيبهم لحكمة ومصلحة، علمها عند الله تعالى، انتهى.

ثم إن الله سبحانه يستجيب دعاء الرسول عليه السلام، كما روي: أن عائشة رضي الله عنها سمعت قول اليهود، فقالت: عليكم السام والذام واللعن، فقال عليه السلام:"يا عائشة ارفقي؛ فإن الله يحب الرفق في كل شيء، ولا يحب الفحش والتفحش، أما سمعت ما رددت عليهم فقلت: عليكم، فيستجاب لي فيهم".

والمعنى: أي يفعلون ذلك، ويقولون ما يحرفون من الكلام وإيهام السلام، وهم يريدون شتمه، ويحدثون أنفسهم أنه لو كان نبيًا حقًا لعذبنا الله بما نقول؛ لأن الله يعلم ما نسره، فلو كان نبيًا حقًا .. لعاجلنا بالعقوبة في الدنيا، فرد الله عليهم بقوله:{حَسْبُهُمْ جَهَنَّمُ يَصْلَوْنَهَا} أي: وإن جهنم وما فيها من العذاب الأليم لكافية لعقابهم ونكالهم، وقد أجّل عذابهم إلى هذا اليوم.

‌9

- ثم قال تعالى مؤدبًا عباده المؤمنين: أن لا يكونوا مثل اليهود والمنافقين، فقال:{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا} بألسنتهم وقلوبهم {إِذَا تَنَاجَيْتُمْ} وتحدثتم في أنديتكم وخلواتكم {فَلَا تَتَنَاجَوْا} ؛ أي: لا تتحدثوا {بِالْإِثْمِ} والكذب، والمكر، والكيد بالرسول صلى الله عليه وسلم {و} لا بـ {الْعُدْوَانِ} على المؤمنين باللمز والطعن والتعيير بهم {وَمَعْصِيَتِ الرَّسُولِ} أي: ولا بمعصية الرسول ومخالفته، كما يفعله المنافقون واليهود. ثم بين لهم ما يتناجون به في أنديتهم وخلواتهم فقال:{وَتَنَاجَوْا بِالْبِرِّ} أي: بما يتضمن خير المؤمنين {وَالتَّقْوَى} أي: وبما يتضمن الإتقاء عن معصية الرسول صلى الله عليه وسلم. قال سهل رحمه الله: وتناجوا بذكر الله وقراءة القرآن، والأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر.

وقرأ الجمهور (1): {فَلَا تَتَنَاجَوْا} . وأدغم ابن محيصن التاء في التاء وقرأ الكوفيون، والأعمش، وأبو حيوة، وروش:{فلا تنتجوا} مضارع انتجى. وقرأ الجمهور بضم عين {العدوان} ، وأبو حيوة بكسرها حيث وقع. وقرأ الضحاك:{ومعصيات الرسول} بالجمع، والجمهور على الإفراد. وقرأ عبد الله: {إذا انتجيتم

(1) البحر المحيط.

ص: 37

فلا تنتجوا}.

{وَاتَّقُوا اللَّهَ} ؛ أي: خافوا أيها المؤمنون عقاب الله {الَّذِي إِلَيْهِ} وحده {تُحْشَرُونَ} لا إلى غيره استقلالًا، ولا اشتراكًا فيجازيكم بكل ما تأتون وما تذرون.

والمعنى (1): أي إذا حدث منكم - أيها المؤمنون - تناج ومسارّة في أنديتكم وخلواتكم .. فلا تفعلوا كما يفعل أولئك الكفار من أهل الكتاب ومن مالأهم على ضلالهم من المنافقين، وتناجوا بما هو خير، واتقوا الله فيما تأتون وما تذرون، فإليه تحشرون فيخبركم بجميع أعمالكم وأقوالكم التي أحصاها عليكم، وسيجزيكم بها.

ودلت الآية (2) على أن التناجي ليس بمنهي عنه مطلقًا، بل مأمور به في بعض الوجوه، إيجابًا واستحبابًا وإباحة، على مقتضى المقام.

فإن قيل: كيف يأمر الله بالاتقاء عنه، وهو المولى الرحيم، والقرب منه ألذ المطالب، والأنس به أقصى المآرب، فالتقوى توجب الاجتناب، والحشر إليه يستدعي الإقبال إليه؟

يجاب عنه: بأن في الكلام مضافًا؛ إذ التقدير: واتقوا عذاب الله، أو قهر الله، أو غيرهما.

فإن قيل: إن العبد لو قدر على الخلاص من العذاب والقهر لأسرع إليه، لكنه ليس بقادر عليه، كما قال تعالى:{وَإِنْ يَمْسَسْكَ اللَّهُ بِضُرٍّ فَلَا كَاشِفَ لَهُ إِلَّا هُوَ وَإِنْ يُرِدْكَ بِخَيْرٍ فَلَا رَادَّ لِفَضْلِهِ} ، والأمر إنما يكون بالمقدور {لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا} ؟

أجيب عنه: بأن المراد: الاتقاء عن السبب من الذنوب والمعاصي الصادرة عن العبد العاصي، فالمراد: اتقوا ما يفضي إلى عذاب الله، ويقتضي قهره في الدارين، من الإثم والعدوان ومعصية الرسول التي هي السبب الموجب لذلك. فالمراد: النهي عن مباشرة الأسباب، والأمر بالاجتناب عنها.

وإن قيل: إن ذلك الاتقاء إنما يكون بتوفيق الله له، فإن وفق العبد له فلا حاجة إلى الأمر به، وإن لم يوفقه فلا قدرة له عليه، والأمر إنما يحسن في

(1) المراغي.

(2)

روح البيان.

ص: 38