الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
وتذكيره. والرص: اتصال بعض البناء بالبعض واستحكامه. قال ابن عباس رضي الله عنهما: يوضع الحجر على الحجر ثم يرص بأحجار صغار ثم يوضع اللبن عليه، فيسميه أهل مكة المرصوص.
والمعنى: حال كونهم مشبهين في تراصهم من غير فرجة ولا خلل ببنيان رصّ بعضه إلى بعض، ورصف حتى صار شيئًا واحدًا. وقال الراغب: بنيان مرصوص؛ أي: محكم كأنما بني بالرصاص، وهو قول الفراء. وتراصوا في الصلاة؛ أي: تضايقوا فيها، كما قال صلى الله عليه وسلم:"تراصوا بينكم في الصلاة، لا يتخللكم الشيطان" فالزحمة في مثل هذا المقام رحمة، فلا بد من سدّ الخلل أو المحاذاة بالمناكب كالبنيان المرصوص.
ففي الآية زجر عن التباطؤ، وحث على التسارع، ودلالة على فضيلة الجهاد.
والمعنى: إن الله سبحانه يحب الذين يصفُّون أنفسهم حين القتال، ولا يكون بينهم فُرَجٌ فيه، كأنهم بنيان متلاحم الأجزاء، كأنه قطعة واحدة قد صبت صبًا، وعلى هذه الطريقة تسير الجيوش في العصر الحاضر، وسر هذا أنهم إذا كانوا كذلك .. زادت قوتهم المعنوية، وتنافسوا في الطعان والنزال والكرّ والفرّ إلى ما في ذلك من إدخال الروع والفزع في نفوس العدوّ؛ إلى ما لحسن النظام من إمضاء العمل والدقة والإحكام، ومن ثم أمرنا بتسوية الصفوف في الصلاة، وأن لا يجلس المصلي في صف خلفيّ إلا إذا اكتمل ما في الصف الأمامي، وهكذا تراعي الأمم في عصرنا الحاضر النظام في كل أعمالها، في أكلها ونومها، ورياضتها وتربية أولادها، بحيث لا يطغى عمل على عمل، فللجد وقت لا يعدوه، وللرياضة وقت آخر، وللنوم كذلك؛ ولهذا لا يوجد تواكل، ولا تراخ في الأعمال ولا تخاذل فيها، ومن ثم جاء الأثر:"أفضل الأعمال إلى الله: أدومها، وإن قل".
5
- ولما ذكر سبحانه أنه يحب المقاتلين في سبيله أراد أن يبين أن موسى وعيسى عليهما السلام أمرا بالتوحيد، وجاهدا في سبيل الله، وحل العقاب بمن خالفهما، فقال:{وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ} كلام مستأنف مقرر لما قبله من شناعة ترك القتال. {وَإِذْ} منصوب على المفعولية بمضمر خوطب به صلى الله عليه وسلم بطريق التلوين.
أي (1): اذكر لهؤلاء المؤمنين المتقاعدين عن القتال وقت قول موسى - عليه
(1) روح البيان.
السلام - لبني إسرائيل حين ندبهم إلى قتال الجبابرة بقوله: {يَا قَوْمِ ادْخُلُوا الْأَرْضَ الْمُقَدَّسَةَ الَّتِي كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ وَلَا تَرْتَدُّوا عَلَى أَدْبَارِكُمْ فَتَنْقَلِبُوا خَاسِرِينَ (21)} . فلم يمتثلوا بأمره، وعصوه أشد عصيان، حيث قالوا:{يَا مُوسَى إِنَّ فِيهَا قَوْمًا جَبَّارِينَ وَإِنَّا لَنْ نَدْخُلَهَا حَتَّى يَخْرُجُوا مِنْهَا فَإِنْ يَخْرُجُوا مِنْهَا فَإِنَّا دَاخِلُونَ} إلى قوله: {فَاذْهَبْ أَنْتَ وَرَبُّكَ فَقَاتِلَا إِنَّا هَاهُنَا قَاعِدُونَ} ، وأصروا على ذلك، وآذوه عليه السلام كل الأذية، وقال:{يَا قَوْمِ} أصله، يا قومي، ولذا كسرت الميم، ولولا تقدير الياء .. لقيل: يا قوم بالضم؛ لأنه يكون حينئذ مفردًا معرفة. وهو نداء رفق وشفقة، كما هو شأن الأنبياء ومن يليهم. {لِمَ تُؤْذُونَنِي} بالمخالفة والعصيان فيما أمرتكم. والأذى: ما يصل إلى الإنسان من ضرر، إما في نفسه أو في جسمه أو في أسرته، دنيويًا كان أو أخرويًا، كما سيأتي بسطه.
يقول الفقير: لا شك أن قتل الأعداء من باب التسبيح؛ لأنهم الذين قالوا: اتخذ الله ولدًا، وعبدوا معه الأصنام، فكان في مقابلتهم توسيع ساحة التنزيه، ولذا بدأ الله تعالى في عنوان السورة بالتسبيح، وأشار بلفظ {الْحَكِيمُ} إلى أن القتال من باب الحكمة، وأنه من باب دفع القضاء بالقضاء، على ما يُعرِّفه أهل المعرفة، وبلفظ {الْعَزِيزُ} ، إلى غلبة المؤمنين المقاتلين. ثم إنهم كرهوا ذلك كأنهم لم يثقوا بوعد الله بالغلبة، ووقعوا من حيث لم يحتسبوا في ورطة نسبة العجز إلى الله تعالى، ولذا تقاعدوا عن القتال، وبهذا التقاعد حصلت الأذية له عليه السلام، لأن مخالفة أولي الأمر أذية لهم، فأشار الحق سبحانه بقصة موسى إلى أن الرسول حق، وأن الخروج عن طاعته فسق، وأن الفاسق مغضوب لله تعالى؛ لأن الهداية من باب الرحمة وعدمها من باب السخط، والعياذ بالله تعالى من سخطه وغضبه وأليم عقابه وعذابه.
وجملة النداء مع ما بعدها مقول القول؛ أي (1): إذ قال موسى: يا قوم، لم تؤذونني بمخالفة ما أمرتكم به من الشرائع التي افترضها الله عليكم؛ أو: لم تؤذونني بالشتم والانتقاص، ومن ذلك رميه بالأُدرة، وقد تقدم بيان هذا في سورة الأحزاب. وجملة قوله:{وَقَدْ تَعْلَمُونَ أَنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ} جملة (2) حالية مؤكدة
(1) الشوكاني.
(2)
روح البيان.
لإنكار الأذية ونفي سببها. {وَقَدْ} لتحقيق العلم، لا للتوقع، ولا للتقريب ولا للتقليل. فإنهم قالوا: إن (قد) إذا دخلت على الحال تكون للتحقيق، وإذا دخلت على الاستقبال تكون للتقليل. وصيغة المضارع للدلالة على استمرار العلم؛ أي: كيف تؤذونني والحال أنكم تعلمون علمًا قطعيًا مستمرًا بمشاهدة ما ظهر بيدي من المعجزات أني مرسل من الله إليكم لأرشدكم إلى خير الدنيا والآخرة، ومن قضية علمكم بذلك: أن تبالغوا في تعظيمي، وتسارعوا إلى طاعتي، فإن تعظيمي تعظيم لله وإطاعتي إطاعة له. وفيه تسلية للنبي صلى الله عليه وسلم بأن الأذية قد كانت من الأمم السالفة أيضًا لأنبيائهم والبلاء إذا عم .. خفّ.
وحاصل المعنى (1): واذكر - يا محمد - لقومك خبر عبده ورسوله موسى بن عمران كليم الله، حين قال لقومه: لم تؤذونني وتخالفون أمري، فتتركوا القتال وأنتم تعلمون صدقي فيما جئتكم به من رسالة ربي؟ وفي هذا تسلية لرسوله صلى الله عليه وسلم على ما أصابه من قومه الكافرين ومن غيرهم، وأمر له بالصبر، ولهذا قال صلى الله عليه وسلم:"رحمة الله على موسى، لقد أوذي بأكثر من هذا فصبر". كما أن فيه نهيًا للمؤمنين أن ينالوا من النبي صلى الله عليه وسلم أو يوصلوا إليه أذى، كما جاء في قوله تعالى:{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ آذَوْا مُوسَى فَبَرَّأَهُ اللَّهُ مِمَّا قَالُوا وَكَانَ عِنْدَ اللَّهِ وَجِيهًا (69)} . وذلك أنه صلى الله عليه وسلم لما قسم غنائم الطائف .. قال بعض المنافقين: هذه القسمة ما عدل فيها، وما أريد بها وجه الله، فتغير وجهه الشريف وقال ذلك.
ثم بيّن عاقبة عصيانهم ومخالفة أمره بقوله: {فَلَمَّا زَاغُوا} ؛ أي: أصروا على الزيغ والميل عن الحق الذي جاء به موسى، واستمروا عليه {أَزَاغَ اللَّهُ} سبحانه وتعالى {قُلُوبَهُمْ}؛ أي: صرفها عن قبول الحق والميل إلى الصواب؛ لصرف اختيارهم نحو الغي والضلال. وقال الراكب في "المفردات"؛ أي: لما فارقوا الاستقامة عاملهم بذلك، وقال جعفر: لما تركوا أوامر الخدمة نزع الله من قلوبهم نور الإيمان، وجعل للشيطان إليهم طريقًا، فأزاغهم عن طريق الحق وأدخلهم في مسالك الباطل. وقال الواسطي: لما زاغوا عن القربة في العلم أزاغ الله قلوبهم في الخلقة. وقال بعضهم: لما زاغوا عن العبادة أزاغ الله قلوبهم عن الإرادة. يقول
(1) المراغي.