المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

وعبارة المراغي: ومعنى الآية (1): أي لا ينهاكم الله عن - تفسير حدائق الروح والريحان في روابي علوم القرآن - جـ ٢٩

[محمد الأمين الهرري]

الفصل: وعبارة المراغي: ومعنى الآية (1): أي لا ينهاكم الله عن

وعبارة المراغي: ومعنى الآية (1): أي لا ينهاكم الله عن الإحسان إلى الكفار الذين لم يقاتلوكم في الدِّين ولم يخرجوكم من دياركم ولم يعاونوا على إخراجكم، وهم: خزاعة وغيرهم ممن كانوا عاهدوا رسول الله صلى الله عليه وسلم على ترك القتال والإخراج من الديار، فأمر الله رسوله صلى الله عليه وسلم بالبر والوفاء لهم إلى مدة أجلهم.

وفي الآية مدح للعدل؛ لأن المرء به يصير محبوبًا لله سبحانه. ومن الأحاديث الصحيحة: قوله صلى الله عليه وسلم: "إن المقسطين عند الله على منابر من نور عن يمين الرحمن وكلتا يديه يمين". والمراد بهم الذين يعدلون في حكمهم وأهليهم وما ولوا عليه.

‌9

- ثم زاد الأمر إيضاحًا وبيانًا، فقال:{إِنَّمَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ} سبحانه وتعالى {عَنِ الَّذِينَ قَاتَلُوكُمْ فِي الدِّينِ} وإطفاء نوره {وَأَخْرَجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ} وهم عتاة أهل مكة وجبابرتهم {وَظَاهَرُوا} ؛ أي: عاونوا الذين قاتلوكم {عَلَى إِخْرَاجِكُمْ} وهم سائر أهل مكة ومن دخل معهم في عهدهم {أَنْ تَوَلَّوْهُمْ} وتناصروهم. بدل اشتمال من الموصول، كما سبق. أي: إنما ينهاكم أن تتولوهم. {وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ} ؛ أي: ومن يحبهم ويناصرهم {فَأُولَئِكَ هُمُ} لا غيرهم {الظَّالِمُونَ} لأنفسهم بإقبالها على العذاب. أي: الكاملون في الظلم؛ لأنهم تولوا من يستحق المعاداة لكونه عدوًا لله ولرسوله ولكتابه، فوضعوا المحبة موضع العداوة، فظلموا أنفسهم بتعريضها للعذاب. وحساب المتولي أكبر وفساد التولي أكثر، ولذلك أورد كلمة الحصر تغليظًا، وجمع الخبر باعتبار معنى المبتدأ.

والخلاصة (2): أي إنما ينهاكم عن موالاة الذين ناصبوكم العداوة، فقاتلوكم وأخرجوكم، أو عاونوا على إخراجكم كمشركي مكة؛ فإن بعضهم سعوا في إخراج المؤمنين، وبعضهم أعان المخرجين. وأكد الوعيد على موالاتهم بقوله:{وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ} ؛ لأنهم تولوا غير الذين يجوز لهم أن يتولوهم، ووضعوا ولايتهم في غير موضعها، وخالفوا أمر الله في ذلك.

(1) المراغي.

(2)

المراغي.

ص: 207

الإعراب

{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِيَاءَ تُلْقُونَ إِلَيْهِمْ بِالْمَوَدَّةِ وَقَدْ كَفَرُوا بِمَا جَاءَكُمْ مِنَ الْحَقِّ} .

{يَا أَيُّهَا} : {يا} : حرف نداء، {أي}: منادى نكرة مقصودة، و {ها}: حرف تنبيه، جملة النداء مستأنفة. {الَّذِينَ}: بدل من {أي} ، وجملة {آمَنُوا} صلة الموصول، {لَا}: ناهية جازمة، {تَتَّخِذُوا}: فعل مضارع مجزوم بـ {لَا} الناهية، والواو: فاعل، وجملة النهي جواب النداء. {عَدُوِّي}: مفعول أول، ومضاف إليه، {وَعَدُوَّكُمْ}: معطوف على {عَدُوِّي} ، {أَوْلِيَاءَ}: مفعول ثان، {تُلْقُونَ}: فعل، وفاعل مرفوع بثبات النون، والجملة في محل النصب حال من فاعل {تَتَّخِذُوا} . ويجوز أن تكون في موضع نصب، صفةً لأولياء ويجوز أن تكون تفسيرية، لا محل لها من الإعراب؛ لموالاتهم إياهم. وقيل: هي مستأنفة للإخبار بذلك. {إِلَيْهِمْ} : متعلق بـ {تُلْقُونَ} . {بِالْمَوَدَّةِ} : متعلق بـ {تُلْقُونَ} أيضًا، {وَقَدْ}:{الواو} : حالية، {قد}: حرف تحقيق {كَفَرُوا} : فعل وفاعل، والجملة حال من ضمير {إِلَيْهِمْ} أو من {عَدُوِّي} ، {بِمَا}: جار ومجرور، متعلق بـ {كَفَرُوا} ، وجملة {جَاءَكُمْ} من الفعل والفاعل المستتر صلة لـ {ما} الموصولة، {مِنَ الْحَقِّ}: حال من فاعل {جَاءَكُمْ} .

{يُخْرِجُونَ الرَّسُولَ وَإِيَّاكُمْ أَنْ تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ رَبِّكُمْ إِنْ كُنْتُمْ خَرَجْتُمْ جِهَادًا فِي سَبِيلِي وَابْتِغَاءَ مَرْضَاتِي تُسِرُّونَ إِلَيْهِمْ بِالْمَوَدَّةِ وَأَنَا أَعْلَمُ بِمَا أَخْفَيْتُمْ وَمَا أَعْلَنْتُمْ وَمَنْ يَفْعَلْهُ مِنْكُمْ فَقَدْ ضَلَّ سَوَاءَ السَّبِيلِ} .

{يُخْرِجُونَ الرَّسُولَ} : فعل وفاعل ومفعول، {وَإِيَّاكُمْ}: معطوف على الرسول. والجملة مستأنفة أو مفسرة لكفرهم، فلا محل لها من الإعراب على الحالين. ويجوز أن تكون حالًا من فاعل {كَفَرُوا}. {أَن}: حرف نصب ومصدر، {تُؤْمِنُوا}: فعل وفاعل منصوب بـ {أَن} {بِاللَّهِ} : متعلق بـ {تُؤْمِنُوا} ، {رَبِّكُمْ}: بدل من الجلالة، وجملة {أَن}: المصدرية مع صلتها في تأويل مصدر منصوب على أنه مفعول لأجله؛ أي: يخرجون الرسول وإياكم لإيمانكم بالله ربكم. {إن} : حرف شرط جازم {كُنْتُمْ} : فعل ناقص واسمه في. محل الجزم بـ {إِنْ} والشرطية على كونه

ص: 208

فعل شرط لها، وجملة {خَرَجْتُمْ} خبر {كنتم} ، و {جِهَادًا}: مفعول لأجله؛ أي: لأجل الجهاد، أو حال من فاعل خرجتم؛ أي: حال كونكم مجاهدين في سبيلي. {فِي سَبِيلِي} : متعلق بـ {جِهَادًا} ، {وَابْتِغَاءَ مَرْضَاتِي}: معطوف على جهادًا، وجواب الشرط محذوف دل عليه قوله:{لَا تَتَّخِذُوا} أي: إن كنتم خرجتم جهادًا في سبيلي، وابتغاء مرضاتي .. فلا تتخذوهم أولياء. وجملة {إن} الشرطية مستأنفة. {تُسِرُّونَ}: فعل وفاعل، {إِلَيْهِمْ}: متعلق به، {بِالْمَوَدَّةِ}: متعلق به أيضًا، والمفعول محذوف؛ أي: تسرون إليهم النصيحة، أو {الباء}: زائدة في المفعول، والجملة الفعلية إما مستأنفة أو بدل من {تُلْقُونَ} بدل بعض من كل، لأن إلقاء المودة أعم من السرّ والجهر، {وَأَنَا}:{الواو} : حالية، {أنا}: مبتدأ، {أَعْلَمُ}: خبر على أنه اسم تفضيل، و {بِمَا} متعلق بـ {أَعْلَمُ} ، وجملة {أَخْفَيْتُمْ} صلة {ما} والعائد محذوف تقديره: بما أخفيتموه {وَمَا أَعْلَنْتُمْ} معطوف على {أَخْفَيْتُمْ} ، والجملة الاسمية في محل النصب، حال من فاعل {تُسِرُّونَ}. ويجوز أن يكون {أَعْلَمُ} فعلًا مضارعًا. {وَمَنْ}:{الواو} : استنئافية. {مَنْ} : اسم شرط جازم في محل الرفع مبتدأ، والخبر جملة الشرط أو الجواب أو هما، {يَفْعَلْهُ}: فعل، وفاعل مستتر، ومفعول به مجزوم بـ {مَنْ} الشرطية على كونه فعل شرط لها. {فَقَدْ}:{الفاء} : رابطة لجواب {مَنْ} الشرطية وجوبًا لاقتران الجواب بـ {قد} الحرفية، {ضَلَّ}: فعل ماض وفاعل مستتر في محل الجزم بـ {مَنْ} على كونه جوابًا لها، {سَوَاءَ السَّبِيلِ}: مفعول به، وقيل: منصوب على الظرفية إن قلنا: إن {ضَلَّ} : لازم، وجملة {مَنْ} الشرطية مستأنفة.

{إِنْ يَثْقَفُوكُمْ يَكُونُوا لَكُمْ أَعْدَاءً وَيَبْسُطُوا إِلَيْكُمْ أَيْدِيَهُمْ وَأَلْسِنَتَهُمْ بِالسُّوءِ وَوَدُّوا لَوْ تَكْفُرُونَ (2)} .

{إِنْ} : حرف شرط، {يَثْقَفُوكُمْ}: فعل وفاعل ومفعول به، مجزوم بـ {إِنْ} الشرطية على كونه فعل شرط لها، {يَكُونُوا}: فعل مضارع ناقص، واسمه مجزوم بـ {إِنْ} الشرطية على كونه جوابًا لها، {لَكُمْ}: حال من أعداء؛ لأنه صفة نكرة قدمت عليها، {أَعْدَاءً}: خبر {يَكُونُوا} ، وجملة {إِنْ} الشرطية مستأنفة. {وَيَبْسُطُوا}: فعل وفاعل معطوف على {يَكُونُوا} . {إِلَيْكُمْ} : متعلق بـ {يبسطوا} ، {أَيْدِيَهُمْ}: مفعول به، {وَأَلْسِنَتَهُمْ}: معطوف عليه، {بِالسُّوءِ}: متعلق بمحذوف حال

ص: 209

من الأيدي والألسنة، أي: حالة كونها متلبسة بالسوء. {وَوَدُّوا} : {الواو} : عاطفة، {ودوا}: فعل ماض وفاعل، {لَوْ}: مصدرية، وجملة {تَكْفُرُونَ} صلتها، وجملة {لَوْ} المصدرية مع صلتها في تأويل مصدر منصوب على المفعولية؛ أي: وودوا كفركم. والجملة معطوفة على جملة {إِنْ} الشرطية.

{لَنْ تَنْفَعَكُمْ أَرْحَامُكُمْ وَلَا أَوْلَادُكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ يَفْصِلُ بَيْنَكُمْ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (3)} .

{لَنْ تَنْفَعَكُمْ} : فعل، ومفعول به {أَرْحَامُكُمْ}: فاعل، {وَلَا أَوْلَادُكُمْ}: معطوف على أرحامكم، {يَوْمَ الْقِيَامَةِ}: ظرف متعلق بـ {تَنْفَعَكُمْ} ؛ أي: لن تنفعكم يوم القيامة أرحامكم، فيوقف عليه. أو متعلق بما بعده؛ أي: يفصل بينكم يوم القيامة. والجملة الفعلية مستأنفة، {يَفْصِلُ}: فعل مضارع، وفاعل مستتر يعود على الله، والجملة مستأنفة. {بَيْنَكُمْ} متعلق بـ: يفصل {وَاللَّهُ} : مبتدأ، {بِمَا}: جار ومجرور، متعلق بـ {بَصِيرٌ} ، وجملة {تَعْمَلُونَ} صلة {ما} الموصولة أو المصدرية، و {بَصِيرٌ}: خبر عن الجلالة، والجملة الاسمية مستأنفة.

{قَدْ كَانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ فِي إِبْرَاهِيمَ وَالَّذِينَ مَعَهُ إِذْ قَالُوا لِقَوْمِهِمْ إِنَّا بُرَآءُ مِنْكُمْ وَمِمَّا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ كَفَرْنَا بِكُمْ وَبَدَا بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةُ وَالْبَغْضَاءُ أَبَدًا حَتَّى تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَحْدَهُ} .

{قَدْ} : حرف تحقيق، {كَانَتْ}: فعل ماض ناقص، {لَكُمْ}: خبرها المقدم، {أُسْوَةٌ}: اسمها المؤخر، {حَسَنَةٌ}: نعت لـ {أُسْوَةٌ} . والجملة مستأنفة. {فِي إِبْرَاهِيمَ} : نعت آخر لـ {أُسْوَةٌ} ، أو حال منها؛ لأنها وصفت، أو حال من الضمير المستكن في {حَسَنَةٌ} ، {وَالَّذِينَ}: معطوف على إبراهيم، {مَعَهُ}: ظرف صلة {الذين} ، {إِذْ}: ظرف لما مضى من الزمان، بدل اشتمال من قوله:{فِي إِبْرَاهِيمَ} ، وجملة {قَالُوا} في محل الخفض بإضافة {إِذْ} إليها، {لِقَوْمِهِمْ}: متعلق بـ {قَالُوا} ، {إِنَّا بُرَآءُ} إلى قوله:{إِلَّا قَوْلَ إِبْرَاهِيمَ} : مقول محكي لـ {قَالُوا} . وإن شئت قلت: {إِنَّا} : ناصب واسمه {بُرَآءُ} : خبره، والجملة في محل النصب مقول لـ {قَالُوا} ، {مِنْكُمْ} ؛ متعلق بـ {بُرَآءُ} ، {وَمِمَّا}: معطوف على {مِنْكُمْ} وجملة {تَعْبُدُونَ} : صلة لـ {ما} ، {مِنْ دُونِ اللَّهِ}: حال من العائد المحذوف، أو

ص: 210

من {ما} ، {كَفَرْنَا} فعل وفاعل، و {بِكُمْ}: متعلق بـ {كَفَرْنَا} ، والجملة مفسرة للتبرؤ منهم ومما يعبدون، أو حال من الضمير المستكن في {بُرَآءُ}؛ أي: تبرأنا منكم حال كوننا كافرين بكم. {وَبَدَا} : فعل ماضي، {بَيْنَنَا}: ظرف متعلق بـ {بَدَا} ، {وَبَيْنَكُمُ}: معطوف على {بَيْنَنَا} ، {الْعَدَاوَةُ}: فاعل، {وَالْبَغْضَاءُ}: معطوف عليه، {أَبَدًا}: متعلق بـ {بَدَا} ، والجملة الفعلية معطوفة على جملة {كَفَرْنَا}. {حَتَّى}: حرف جر وغاية، {تُؤْمِنُوا}: فعل وفاعل، منصوب بـ: أن مضمرة بعد {حَتَّى} الجارة، {بِاللَّهِ}: متعلق بـ {تُؤْمِنُوا} ، {وَحْدَهُ}: حال من الجلالة. والجملة الفعلية مع أن المضمرة في تأويل مصدر مجرور بـ {حَتَّى} ؛ أي: إلى إيمانكم بالله وحده، الجار والمجرور متعلق بكل من {كَفَرْنَا} {وَبَدَا} .

{إِلَّا قَوْلَ إِبْرَاهِيمَ لِأَبِيهِ لَأَسْتَغْفِرَنَّ لَكَ وَمَا أَمْلِكُ لَكَ مِنَ اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ رَبَّنَا عَلَيْكَ تَوَكَّلْنَا وَإِلَيْكَ أَنَبْنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ (4)} .

{إِلَّا} : أداة استثناء متصل، {قَوْلَ إِبْرَاهِيمَ}: مستثنى من {أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ} : منصوب؛ لأن القول من جملة الأسوة، فكأنه قيل: لكم فيه أسوة حسنة في جميع أحواله، من قول وفعل إلا قوله كذا. وقيل: هو استثناء منقطع، والمعنى: لكن قول إبراهيم لأبيه: لأستغفرن لك، فلا تتأسوا فيه. {لِأَبِيهِ}: متعلق بـ {قَوْلَ} ، {لَأَسْتَغْفِرَنَّ}:{اللام} : موطئة للقسم، {أستغفرن}: فعل مضارع، في محل الرفع لتجرده عن الناصب والجازم، مبني على الفتح لاتصاله بنون التوكيد الثقيلة، والفاعل ضمير مستتر تقديره: أنا. والجملة في محل النصب مقول القول، {لَكَ}: متعلق بـ {أستغفرن} ، {وَمَا}:{الواو} : حالية أو عاطفة؛ لأن الجملة من تمام قول إبراهيم. {ما} : نافية، {أَمْلِكُ}: فعل مضارع، وفاعل مستتر يعود على إبراهيم {لك}: متعلق بـ {أَمْلِكُ} ، {مِنَ اللَّهِ}: متعلق بمحذوف حال {مِنْ شَيْءٍ} ؛ لأنه في الأصل صفة لشيء، {مِنْ}: زائدة، {شَيْءٍ}: مفعول أملك، وجملة {أَمْلِكُ}: في محل النصب حال من فاعل {أستغفرن} ؛ أي: لأستغفرن لك حالة كوني غير مالك لك من الله شيئًا غير استغفاري، أو معطوفة على {أستغفرن} . {رَبَّنَا عَلَيْكَ تَوَكَّلْنَا

} إلى آخر الآية: مقول محكي لـ {قَالُوا} ؛ لأنه من تتمة مقول إبراهيم ومن معه، فهو من جملة المستثنى منه، فيتأسى بهم فيه، فهو من المعنى مقدم على الاستثناء، وجملة الاستثناء اعتراضية في خلال المستثنى منه. وإن شئت

ص: 211

قلت: {رَبَّنَا} منادى مضاف، وجملة النداء، وما بعدها في محل النصب مقول لـ {قَالُوا}. {عَلَيْكَ}: متعلق بـ {تَوَكَّلْنَا} ، و {تَوَكَّلْنَا}: فعل، وفاعل، والجملة في محل النصب مقول لـ {قَالُوا} ، {وَإِلَيْكَ} متعلق بـ {أَنَبْنَا} وجملة {أَنَبْنَا} معطوف على {تَوَكَّلْنَا}. {وَإِلَيْكَ}:{الواو} : عاطفة، {إليك}: خبر مقدم، {الْمَصِيرُ}: مبتدأ مؤخر، والجملة معطوفة على ما قبلها.

{رَبَّنَا لَا تَجْعَلْنَا فِتْنَةً لِلَّذِينَ كَفَرُوا وَاغْفِرْ لَنَا رَبَّنَا إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (5)} .

{رَبَّنَا} : منادى مضاف أيضًا، {لَا}: ناهية؛ أي: دعائية، سلوكًا مسلك الأدب مع الباري سبحانه، {تَجْعَلْنَا}: فعل مضارع، وفاعل مستتر، ومفعول به أول، مجزوم بـ {لَا} الدعائية، {فِتْنَةً}: مفعول ثان، وهو مصدر بمعنى المفعول كما قاله "البيضاوي"؛ أي: لا تجعلنا مفتونين بهم، بأن تسلطهم علينا فيفتنونا بعذاب لا طاقة لنا باحتماله، أو بمعنى الفاعل؛ أي: لا تجعلنا فاتنين لهم بأن ينتصروا علينا، وتسول لهم أنفسهم أنهم على حق. {لِلَّذِينَ}: متعلق بـ {فِتْنَةً} على الحالين، والجملة الفعدية في محل النصب مقول لـ {قَالُوا} على كونها جواب النداء، وجملة {كَفَرُوا} صلة الموصول {رَبَّنَا}: منادى مضاف، كرره للتأكيد. {إِنَّكَ}: ناصب واسمه، {أَنْتَ}: ضمير فصل أو مبتدأ، {الْعَزِيزُ}: خبر {إنَّ} أو خبر {أَنْتَ} والجملة خبر {إنَّ} . {الْحَكِيمُ} : خبر ثان على كل حال.

{لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِيهِمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَمَنْ يَتَوَلَّ فَإِنَّ اللَّهَ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ (6)} .

{لَقَدْ} : {اللام} : موطئة للقسم، {قد}: حرف تحقيق، {كَانَ}: فعل ماض ناقص {لَكُمْ} : خبر مقدم لها، {فِيهِمْ}: حال من {أُسْوَةٌ} أو متعلق بـ {كَانَ} . {أُسْوَةٌ} : اسمها مؤخر، {حَسَنَةٌ}: صفة {أُسْوَةٌ} ، والجملة الفعلية جواب القسم، لا محل لها من الإعراب، وجملة القسم مستأنفة مؤكدة للأولى. {لِمَنْ}: جار ومجرور بدل بعض من كل من قوله: {لَكُمْ} بإعادة الجار. وقيل: بدل اشتمال {كَانَ} : فعل ماض ناقص، واسمها ضمير مستتر يعود على {مَنْ} ، وجملة {يَرْجُو اللَّهَ}: خبر كان، {وَالْيَوْمَ الْآخِرَ}: معطوف على لفظ الجلالة، وجملة {كَانَ} صلة الموصول، {وَمَن}:{الواو} : استئنافية، {مَنْ} اسم شرط في محل الرفع مبتدأ، والخبر جملة الشرط، أو الجواب، أو هما. {يَتَوَلَّ}: فعل مضارع مجزوم بـ {مَنْ}

ص: 212

على كونه فعل شرط لها، وفاعله ضمير يعود على {مَنْ} ، {فَإِنَّ اللَّهَ}:{الفاء} : رابطة للجواب، والجواب محذوف تقديره: فإن وبال توليه على نفسه. {إن الله} : ناصب واسمه، {هُوَ}: ضمير فصل أو مبتدأ، {الْغَنِيُّ}: خبر لـ {إن} أو لـ {هُوَ} ، {الْحَمِيدُ}: خبر ثان، وجملة {إن} مسوقة لتعليل الجواب المحذوف.

{عَسَى اللَّهُ أَنْ يَجْعَلَ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَ الَّذِينَ عَادَيْتُمْ مِنْهُمْ مَوَدَّةً وَاللَّهُ قَدِيرٌ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (7)} .

{عَسَى} : فعل ماض من أفعال الرجاء، {اللهُ}: اسمها، {أَنْ}: حرف نصب، {يَجْعَلَ}: فعل مضارع منصوب بـ {أَن} ، وفاعله ضمير يعود على {اللَّهُ} ، {بَيْنَكُمْ}: ظرف في موضع المفعول الثاني لـ {جعل} ، {وَبَيْنَ الَّذِينَ}: معطوف عليه، وجملة {عَادَيْتُمْ}: صلة الموصول، والعائد محذوف؛ أي: وبين الذين عاديتموهم، {مِنْهُمْ}: حال من {الَّذِينَ} أو من العائد المحذوف، {مَوَدَّةً}: مفعول أول لـ {يَجْعَلَ} ، وجملة {يَجْعَلَ}: صلة {أَنْ} المصدرية {أنْ} مع صلتها في تأويل مصدر منصوب على كونها خبر {عَسَى} ، ولكنه على تأويل المشتق؛ أي: عسى الله جاعلًا، أو على حذف مضاف؛ أي: ذا جعل، أو عسى، بمعنى: حق، والمصدر المؤول مفعول به؛ أي: حقق الله جَعْلَ مودة بينكم وبينهم. وجملة {عَسَى} مستأنفة. {وَاللَّهُ قَدِيرٌ} : مبتدأ وخبر، والجملة مستأنفة. {وَاللَّهُ غَفُورٌ}: مبتدأ وخبر. والجملة معطوفة على ما قبلها، {رَحِيمٌ}: خبر ثان للجلالة.

{لَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ أَنْ تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ (8)} .

{لَا} : نافية، {يَنْهَاكُمُ اللَّهُ}: فعل، ومفعول وفاعل، والجملة مستأنفة. {عَنِ الَّذِينَ}: متعلق بـ {يَنْهَاكُمُ} ، وجملة {لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ} صلة الموصول، {فِي الدِّينِ}: متعلق بـ {يُقَاتِلُوكُمْ} ، {وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ}: معطوف على {لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ} ، {مِنْ دِيَارِكُمْ}: متعلق بـ {يُخْرِجُوكُمْ} ، {أَن}: حرف نصب، {تَبَرُّوهُمْ}: فعل وفاعل ومفعول منصوب بـ {أَنْ} ، وعلامة نصبه حذف النون، وجملة {أَنْ} المصدرية مع صلتها في تأويل مصدر مجرور على أنه بدل من {الَّذِينَ} بدل اشتمال؛ أي: لا ينهاكم عن برهم وصلتهم. {وَتُقْسِطُوا} : فعل، وفاعل، معطوف على {تَبَرُّوهُمْ} ، {إِلَيْهِمْ}: متعلق بـ {تقسطوا} . {إِنَّ اللَّهَ} : ناصب واسمه، وجملة {يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ} خبره، وجملة {إِنَّ} مستأنفة مسوقة لتعليل ما قبلها.

ص: 213

{إِنَّمَا يَنْهَاكُمُ اللهُ عَنِ الَّذِينَ قَاتَلُوكُمْ في الدِّينِ وَأَخْرَجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ وَظَاهَرُوا عَلَى إِخْرَاجِكُمْ أَنْ تَوَلَّوْهُمْ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ (9)} .

{إِنَّمَا} : أداة حصر، {يَنْهَاكُمُ اللهُ}: فعل ومفعول، وفاعل، والجملة مستأنفة. {عَنِ الَّذِينَ}: متعلق بـ {يَنْهَاكُمُ} ، وجملة {قَاتَلُوكُمْ} صلة الموصول، {في الدِّينِ}: متعلق بـ {قَاتَلُوكُمْ} ، {وَأَخْرَجُوكُمْ}: معطوف على {قَاتَلُوكُمْ} ، {مِنْ دِيَارِكُمْ}: متعلق بـ {أخرجوكم} ، {وَظَاهَرُوا}: معطوف على {قاتلوكم} أيضًا، {عَلَى إِخْرَاجِكُمْ}: متعلق بـ {ظاهروا} ، وجملة {أَنْ تَوَلَّوْهُمْ} في تأويل مصدر مجرور على أنه بدل من {الدِّينِ} بدل اشتمال مثل ما مر آنفًا. {وَمَنْ}:{الواو} : استنئافية، {مِنْ} اسم شرط في محل الرفع مبتدأ، والخبر جملة الشرط أو الجواب أو هما، {تَوَلَّوْهُمْ}: فعل مضارع وفاعل مستتر، ومفعول به، مجزوم بـ {مَنْ} الشرطية على كونه فعل شرط لها. {فَأُولَئِكَ}:{الفاء} : رابطة لجواب {مَنْ} الشرطية، {أُولَئِكَ}: مبتدأ، {هُمُ {هُمُ} ضمير فصل، {الظَّالِمُونَ}: خبر المبتدأ، أو خبر {هُمُ} والجملة الاسمية في محل الجزم بـ {مَنْ} الشرطية على كونها جوابًا لها، وجملة {مَنْ} الشرطية مستأنفة.

التصريف ومفردات اللغة

{تُلْقُونَ إِلَيْهِمْ بِالْمَوَدَّةِ} ؛ أي: ترسلون إليهم أخبار الرسول بسبب المودة التي بينكم وبينهم. وأصله: تلقيون بوزن تفعلون، استثقلت الضمة على الياء فحذفت، فلما سكنت .. التقى ساكنان، فحذفت الياء وضمت القاف لمناسبة الواو. {تسرون}: أصله: تسررون بوزن تفعلون، نقلت حركة الراء الأولى إلى السين، فسكنت فأدغمت في الراء الثانية. {بِالْمَوَدَّةِ}: الود: محبة الشيء وتمني كونه، ويستعمل في كل واحد من المعنيين. {جِهَادًا في سَبِيلِي}: والجهاد - بالكسر -: القتال مع العدو كالمجاهدة، وفي "التعريفات": هو الدعاء إلى الدِّين الحق. وفي "المفردات": الجهاد والمجاهدة: استفراغ الوسع في مدافعة العدو، وهو جهاد العدو الظاهر، وجهاد الشيطان، وجهاد النفس، ويكون باليد واللسان. والمرضاة مصدر كالرضا. {وَأَنَا أَعْلَمُ}: أفعل تفضيل؛ أي: من كل أحد. ويصح أن يكون فعلًا مضارعًا عدي بالباء؛ لأنك تقول: علمت بكذا. {إِنْ يَثْقَفُوكُمْ} في "المصباح":

ص: 214

ثقفت الشيء ثقفًا من باب تعب: أخذته، وثقفت الرجل في الحرب: أدركته، وثقفته: ظفرت به، وثقفت الحديث: فهمته بسرعة، والفاعل: ثقيف. اهـ. وفي "الروح": الثقف: الحذق في إدراك الشيء وفعله، وثقفت كذا إذا أدركته ببصرك لحذق في النظر، ثم قد تجوز به فاستعمل في الإدراك وإن لم يكن معه ثقافة كما في هذا الموضع ونحوه. اهـ.

{يَكُونُوا لَكُمْ أَعْدَاءً} ؛ أي: يظهروا العداوة لكم. وفيه إعلال بالإبدال، أصله: أعداو أبدلت الواو همزة لتطرفها إثر ألف أفعال الزائدة. {فَقَدْ ضَلَّ سَوَاءَ السَّبِيلِ} ؛ أي: أخطأ طريق الحق والصواب، وهو من إضافة الصفة إلى الموصوف، و {ضَلَّ}: متعد، و {سَوَاءَ السَّبِيلِ}: مفعوله كما مر. {وَوَدُّوا لَوْ تَكْفُرُونَ} : أصله، وددوا، أدغمت الدال الأولى بعد تسكينها في الثانية، فهو من باب فعل، بكسر العين في الماضي، وفتحها في المستقبل. {لَنْ تَنْفَعَكُمْ أَرْحَامُكُمْ}؛ أي: قراباتكم. قال الراغب: الرحم: رحم المرأة، وهي في الأصل: وعاء الولد في بطن أمه. ومنه: استعير الرحم للقرابة، لكونهم خارجين من رحم واحد. {وَلَا أَوْلَادُكُمْ}: جمع ولد، بمعنى المولود، يعم الذكر والأنثى. {قَدْ كَانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ فِي إِبْرَاهِيمَ} قال الراغب: الإسوة: بالكسر والأسوة بالضم كما لقدوة والقدوة وزنا ومعنى، وهي: الحالة التي يكون الإنسان عليها في اتباع غيره، إن خيرًا فخير، وإن شرا فشر. يجمع على أسى، بضم الهمزة وكسرها. والأسى: الحزن. وحقيقته: إتباع الفائت بالغم. {بُرَآءُ مِنْكُمْ} : جمع برىء، كظريف وظرفاء. {وَبَدَا بَيْنَنَا} يقال: بدا الشيء بدوا وبداءً؛ أي: ظهر ظهورًا بينًا، والبادية: كل مكان يبدو ما يعن فيه؛ أي: يعرض. {لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ} وفي "المفردات": الرجاء والطمع: توقع محبوب عن أمارة مظنونة أو معلومة. والخوف: توقع مكروه عن أمارة مظنونة أو معلومة. وفي بعض كتب التفاسير: الرجاء يجيء بمعنى توقع الخير، وهو الأمل، وبمعنى توقع الشر، وهو الخوف، وبمعنى التوقع مطلقًا. وهو في الأول حقيقة، وفي الأخيرين مجاز، وفي الثاني من قبيل ذكر الشيء وإرادة ضده، وهو جائز، وفي الثالث من قبيل ذكر الخاص وإرادة العام، وهو كثير.

{لَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ} : فيه إعلال بالقلب، أصله: ينهيكم بوزن يفعل، قلبت الياء ألفًا لتحركها بعد فتح. {تَبَرُّوهُمْ}: أصله: تبررونهم، حدفت نون الرفع للناصب

ص: 215

{إِنَّ} ثم نقلت حركة الراء الأولى إلى الباء فسكنت فأدغمت في الراء الثانية. فهو مضارع بر، من باب فعل بكسر العين، يفعل بفتحها. {أَنْ تَوَلَّوْهُمْ} أصله: تتوليونهم، حذفت نون الرفع لدخول الناصب، وحذفت إحدى التاءين للتخفيف، ثم قلبت الياء ألفًا لتحركها بعد فتح، ثم لما التقت ساكنهّ مع واو الجماعة .. حذفت.

{يَتَوَلَّهُمْ} : أصله: يتولي بوزن يتفعل، قلبت الياء ألفًا لتحركها بعد فتح، وحذفت للجازم، فوزنه يتفع.

البلاغة

وقد تضمنت هذه الآيات ضروبًا من البلاغة، وأنواعًا من الفصاحة والبيان والبديع:

فمنها: صيغة المضارع في قوله: {يُخْرِجُونَ الرَّسُولَ وَإِيَّاكُمْ} لاستحضار الصورة الماضية.

ومنها: تغليب المخاطب على الغائب أي: على الرسول في قوله: {أَنْ تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ رَبِّكُمْ} .

ومنها: الالتفات من التكلم إلى الغيبة في قوله: {أَنْ تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ رَبِّكُمْ} ، حيث لم يقل؛ أن تؤمنوا بي، للإشعار بما يوجب الإيمان من الألوهية والربوبية.

ومنها: عطف {وَابْتِغَاءَ مَرْضَاتِي} على {جِهَادًا فِي سَبِيلِي} تصريحًا بما علم التزامًا. فإن الجهاد في سبيل الله إنما هو لإعلاء كلمة الله ودينه، لا لغرض آخر.

ومنها: إسناد الخروج إليهم في قوله: {إِنْ كُنْتُمْ خَرَجْتُمْ جِهَادًا فِي سَبِيلِي} إلخ. معللًا بالجهاد والابتغاء للدلالة على أن المراد من إخراج الكفرة كونهم سببًا لخروجهم بأذيتهم لهم، فلا ينافي تلك السببية كون إرادة الجهاد والابتغاء علة له.

ومنها: الطباق بين {أَخْفَيْتُمْ} و {أَعْلَنْتُمْ} في قوله: {وَأَنَا أَعْلَمُ بِمَا أَخْفَيْتُمْ وَمَا أَعْلَنْتُمْ} .

ومنها: الإتيان بصيغة الماضي في قوله: {وَوَدُّوا لَوْ تَكْفُرُونَ} للإيذان بتحقق ودادتهم قبل أن يثقفوهم.

ومنها: الاستعارة التصريحية الأصلية في قوله: {لَنْ تَنْفَعَكُمْ} . لأن

ص: 216

الرحم حقيقة في وعاء الولد في بطن أمه، ثم استعير للقرابة لكونهم خارجين من رحم واحدة.

ومنها: تقديم الجار والمجرور على عامله في قوله: {عَلَيْكَ تَوَكَّلْنَا وَإِلَيْكَ أَنَبْنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ} لقصر التوكل والإنابة والمصير على الله تعالى.

ومنها: تكرير المنادى في قوله: {وَاغْفِرْ لَنَا رَبَّنَا} للمبالغة في التضرع والجؤار، فيكون لاحقًا بما قبله. ويجوز أن يكون سابقًا لما بعده توسلًا إلى الثناء بإثبات العزة والحكمة لله، والأول أظهر.

ومنها: طباق السلب في قوله: {لَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ} ثم قال: {إِنَّمَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ

} الآية.

ومنها: الزيادة والحذف في عدة مواضع.

والله سبحانه وتعالى أعلم

* * *

ص: 217

قال الله سبحانه جلَّ وعلا:

{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا جَاءَكُمُ الْمُؤْمِنَاتُ مُهَاجِرَاتٍ فَامْتَحِنُوهُنَّ اللَّهُ أَعْلَمُ بِإِيمَانِهِنَّ فَإِنْ عَلِمْتُمُوهُنَّ مُؤْمِنَاتٍ فَلَا تَرْجِعُوهُنَّ إِلَى الْكُفَّارِ لَا هُنَّ حِلٌّ لَهُمْ وَلَا هُمْ يَحِلُّونَ لَهُنَّ وَآتُوهُمْ مَا أَنْفَقُوا وَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ أَنْ تَنْكِحُوهُنَّ إِذَا آتَيْتُمُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ وَلَا تُمْسِكُوا بِعِصَمِ الْكَوَافِرِ وَاسْأَلُوا مَا أَنْفَقْتُمْ وَلْيَسْأَلُوا مَا أَنْفَقُوا ذَلِكُمْ حُكْمُ اللَّهِ يَحْكُمُ بَيْنَكُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (10) وَإِنْ فَاتَكُمْ شَيْءٌ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ إِلَى الْكُفَّارِ فَعَاقَبْتُمْ فَآتُوا الَّذِينَ ذَهَبَتْ أَزْوَاجُهُمْ مِثْلَ مَا أَنْفَقُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي أَنْتُمْ بِهِ مُؤْمِنُونَ (11) يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذَا جَاءَكَ الْمُؤْمِنَاتُ يُبَايِعْنَكَ عَلَى أَنْ لَا يُشْرِكْنَ بِاللَّهِ شَيْئًا وَلَا يَسْرِقْنَ وَلَا يَزْنِينَ وَلَا يَقْتُلْنَ أَوْلَادَهُنَّ وَلَا يَأْتِينَ بِبُهْتَانٍ يَفْتَرِينَهُ بَيْنَ أَيْدِيهِنَّ وَأَرْجُلِهِنَّ وَلَا يَعْصِينَكَ فِي مَعْرُوفٍ فَبَايِعْهُنَّ وَاسْتَغْفِرْ لَهُنَّ اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (12) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَوَلَّوْا قَوْمًا غَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ قَدْ يَئِسُوا مِنَ الْآخِرَةِ كَمَا يَئِسَ الْكُفَّارُ مِنْ أَصْحَابِ الْقُبُورِ (13)} .

المناسبة

واعلم: أن الكافر المعاند لا يخلو من أحد أحوال ثلاثة:

1 -

أن يستمر على عناده، وإلى مثله أشار بقوله: {قَدْ كَانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ فِي إِبْرَاهِيمَ وَالَّذِينَ مَعَهُ

} الآية.

2 -

أن يرجى منه أن يترك العناد، وإلى مثله أشار بقوله:{عَسَى اللَّهُ أَنْ يَجْعَلَ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَ الَّذِينَ عَادَيْتُمْ مِنْهُمْ مَوَدَّةً} .

3 -

أن يترك العناد ويستسلم، وإلى ذلك أشار بقوله: {إِذَا جَاءَكُمُ الْمُؤْمِنَاتُ مُهَاجِرَاتٍ

} الآية.

قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا جَاءَكُمُ الْمُؤْمِنَاتُ

} الآية، مناسبة هذه الآية لما قبلها: أن الله سبحانه وتعالى لما أمر المسلمين بترك موالاة المشركين .. اقتضى ذلك مهاجرة المسلمين من بلاد الشرك إلى بلاد الإِسلام خوفًا من موالاة الكفار، وكان التناكح من أوكد أسباب الموالاة فبين أحكام المهاجرات من النساء بقوله:{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا جَاءَكُمُ الْمُؤْمِنَاتُ} .

قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَوَلَّوْا قَوْمًا غَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ

} الآية، مناسبة هذه الآية لما قبلها: أن الله سبحانه لما نهى في أول السورة عن موالاة المشركين وذكر الموانع التي تمنع من موالاتهم ثم أوعد على ذلك. ولما كان الأمر

ص: 218

في ذلك جد خطير في سياسة الدولة الإِسلامية ونشر الملة

كرر النهي عن موالاة الكافرين مرة أخرى، يهودًا كانوا أو نصارى؛ ليكون عظة وذكرى لحاطب بن أبي بلتعة ومن نحا نحوه ممن يفضلون توثيق الصلات الدنيوية على مصلحة الدعوة الدينية ويجعلون شؤون الدنيا مقدمة على شؤون الدين.

أسباب النزول

قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذَا جَاءَكَ الْمُؤْمِنَاتُ

} الآية، سبب نزول هذه الآية: ما روي عن ابن عباس رضي الله عنهما: قال: أنه لما جرى الصلح مع مشركي مكة عام الحديبية على أن من أتى النبي صلى الله عليه وسلم من أهل مكة يرده إليهم وإن كان مسلمًا، جاءت سُبيعة - بصيغة التصغير - بنت الحارث الأسلمية بعد الفراغ من الكتاب والشعبي بالحديبية، فأقبل زوجها - وكان كافرًا، وهو صيفي بن الراهب، وقيل: مسافر المخزومي - فقال: يا محمد! أردد عليّ امرأتي فأنت شرطت ذلك، وهذه طينة الكتاب لم تجف بعد. فأنزل الله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا

} الآية، اهـ. "خطيب". فاستحلفها رسول الله صلى الله عليه وسلم فحلفت، فأعطى زوجها ما أنفق، وتزوجها عمر بن الخطاب. اهـ. "بيضاوي".

وأخرج البخاري عن المسور بن مخرمة ومروان بن الحكم: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما عاهد كفار قريش يوم الحديبية جاءه نساء مسلمات، فأنزل الله:{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا جَاءَكُمُ الْمُؤْمِنَاتُ مُهَاجِرَاتٍ} حتى بلغ {وَلَا تُمْسِكُوا بِعِصَمِ الْكَوَافِرِ} . فطلق عمر يومئذ امرأتين كانتا له في الشرك. وأخرجه أيضًا من حديثهما بأطول من هذا، وفيه: وكانت أم كلثوم بنت عقبة بن أبي معيط ممن خرج إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهي عاتق، فجاء أهلها يسألون رسول الله صلى الله عليه وسلم برجعها إليهم حتى أنزل الله في المؤمنات ما أنزل.

وقد اختلف العلماء في المرأة التي كانت سببًا لنزول هذه الآية على ثلاثة أقوال (1):

أحدها: أنها سبيعة، وقد ذكرناه عن ابن عباس.

والثاني: أمّ كلثوم بنت عقبة بن أبي معيط، وقد ذكرناه عن جماعة من أهل

(1) زاد المسير.

ص: 219