المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

العطب في الحيلة. {ثُمَّ} بعد الموت الاضطراري الطبيعي {تُرَدُّونَ} من - تفسير حدائق الروح والريحان في روابي علوم القرآن - جـ ٢٩

[محمد الأمين الهرري]

الفصل: العطب في الحيلة. {ثُمَّ} بعد الموت الاضطراري الطبيعي {تُرَدُّونَ} من

العطب في الحيلة. {ثُمَّ} بعد الموت الاضطراري الطبيعي {تُرَدُّونَ} من الردّ، وهو: صرف الشيء بذاته أو بحالة من أحواله، يقال: رددته فارتد. والآية من الرد بالذات، مثل قوله تعالى:{وَلَوْ رُدُّوالَعَادُوالِمَا نُهُوا عَنْهُ} ، ومن الرد إلى حالة كان عليها قوله تعالى:{يَرُدُّوكُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ} . {إِلَى عَالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ} الذي لا تخفى عليه أحوالكم؛ أي: ترجعون إلى حيث لا حاكم ولا مالك سواه. وإنما وصف ذاته بكونه عالم الغيب والشهادة باعتبار أحوالهم الباطنة وأعمالهم الظاهرة. {فَيُنَبِّئُكُمْ} ؛ أي: فيخبركم سبحانه {بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ} من الكفر والمعاصي، والفواحش الظاهرة والباطنة بأن يجازيكم بها.

ومعنى الآية (1): وماذا يجديكم الفرار من الموت؟ ولماذا تمتنعون من المباهلة خوفًا على الحياة؟ فإنه سيلاقيكم البتة من غير صارف يلويه ولا عاطف يثنيه، فإن كنتم على الحق .. فلا تحفلوا بالحياة، فإن أيام الحياة مهما طال أمدها لا بد من نفاذها، ثم ترجعون بعد مماتكم إلى عالم غيب السماوات والأرض. فيخبركم بما كنتم تعملون في الدنيا من حسن وسيء، ثم يجازيكم على كل بما تستحقون. ولا يخفى ما في هذا من شديد التهديد، وعظيم الوعيد لو كانوا يعقلون.

وقرأ الجمهور (2): {فَإِنَّهُ مُلَاقِيكُمْ} بالفاء الرابطة، لتضمن الاسم معنى الشرط كما مرّ آنفًا. وقد منع هذا قوم منهم: الفراء، وجعلوا الفاء زائدة. وقرأ زيد بن علي {إنه ملاقيكم} بغير فاء، وخرَّجه الزمخشري على الاستئناف، وخبر {إنّ}: هو الذي، كأنه قال: قل إن الموت هو الذي تفرون منه، انتهى. ويحتمل أن يكون خبر {إنّ} هو قوله: إنه ملاقيكم، فالجملة خبر {إنّ} ، ويحتمل أن يكون {إنه} توكيدًا لـ {إِنَّ الْمَوْتَ} ، و {مُلَاقِيكُمْ} خبر {إن} ، لما طال الكلام أكد الحرف مصحوبًا بضمير الاسم الذي لـ {إن} ، ذكره أبو حيان. وفي قراءة (3) ابن مسعود:{تفرون منه ملاقيكم} من غير {فإنه} .

‌9

- {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نُودِيَ} وأذن {لِلصَّلَاةِ} ؛ أي: لصلاة الجمعة. والنداء: رفع الصوت وظهوره، ونداء الصلاة مخصوص في الشرع بالألفاظ المعروفة. والمراد بالصلاة: صلاة الجمعة، والمراد بالأذان عند الجمهور: الأذان

(1) المراغي.

(2)

البحر المحيط.

(3)

المراح.

ص: 297

إذا جلس الإِمام على المنبر؛ لأنه لم يكن على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم نداء سواه. وقد كان لرسول (1) الله صلى الله عليه وسلم مؤذن واحد، فكان إذا جلس على المنبر .. أذّن على باب المسجد، فإذا نزل .. أقام الصلاة، ثم كان أبو بكر وعمر رضي الله عنهما على ذلك، حتى إذا كان عثمان رضي الله عنه وكثر الناس وتباعدت المنازل .. زاد مؤذنًا آخر، فأمر بالتأذين الأول على دار له بالسوق يقال لها: الزوراء؛ ليسمع الناس، فإذا جلس على المنبر .. أذن المؤذن الثاني، فإذا نزل .. أقام الصلاة، فلم يعب عليه ذلك أحد من الصحابة. والأصح عند الحنفية: أن المراد بالأذان: الأذان الأول؛ لأن الإعلام إنما يحصل به لا بالأذان بين يدي المنبر، والمراد بالصلاة: صلاة الجمعة، كما يدل عليه قوله:{مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ} و {من} بيان لـ {إذا} وتفسير لها. أي: لا بمعنى أنها لبيان الجنس على ما هو المتبادر، فإن وقت النداء جزء من يوم الجمعة، فلا يحمل عليه، فكيف يكون بيانًا له؟ بل المقصود أنها لبيان أن ذلك الوقت في أي يوم من الأيام، إذ فيه إبهام، فتجامع كونها بمعنى (في) كما ذهب إليه بعضهم، وكونها (للتبعيض) كما ذهب إليه البعض الآخر. وقال أبو البقاء: إن {من} هنا بمعنى (في) كما في قوله تعالى: {أَرُونِي مَاذَا خَلَقُوا مِنَ الْأَرْضِ} ؛ أي: في الأرض.

وقرأ الجمهور: {الْجُمُعَةِ} بضم الميم (2). وقرأ ابن الزبير، وأبو حيوة، وابن أبي عبلة، وأبو عمرو في رواية، وزيد بن علي، والأعمش بسكونها تخفيفًا، وهي لغة تميم، ولغة بفتحها لم يقرأ بها، وهي لغة عقيل. وجمعها: جمع وجمعات. وإنما سمي جمعة لاجتماع الناس فيه للصلاة، فهو على هذا اسم إسلامي. وقيل: سميت جمعة لأن الله جمع فيها خلق آدم. وقيل: لأن الله فرغ فيها من خلق كل شيء، فاجتمعت فيها جميع المخلوقات. وقيل: أول من سماه جمعة كعب بن لؤي - بالهمزة تصغير لأي - سماه بها لاجتماع قريش فيه إليه. وكانت العرب قبل ذلك تسميه العروبة، بمعنى الظهور وعروبة.

وقيل: إن (3) الأنصار قالوا قبل الهجرة: لليهود يوم يجتمعون فيه في كل سبعة أيام، وللنصارى مثل ذلك، فهلموا نجعل لنا يومًا نجتمع فيه فنذكر ونصلي فيه،

(1) روح البيان.

(2)

البحر المحيط.

(3)

روح البيان.

ص: 298

فقالوا: يوم السبت لليهود، ويوم الأحد للنصارى فاجعلوه يوم العروبة، فاجتمعوا إلى أسعد بن زراة رضي الله عنه بضم الزاي - فصلى بهم ركعتين وذكرهم، فسموه يوم الجمعة لاجتماعهم فيه. وحين اجتمعوا .. ذبح لهم شاة، فتعشوا وتغدوا منها لقلتهم، وبقي في أكثر القرى التي تقام فيها الجمعة عادة الإطعام بعد الصلاة إلى يومنا هذا، فأنزل الله آية الجمعة. فهي أول جمعة في الإِسلام.

وأما أول جمعة جمعها رسول الله صلى الله عليه وسلم فهي: أنه لما قدم المدينة مهاجرًا نزل قباء على بني عمرو بن عوف، يوم الاثنين لاثني عشرة ليلة خلت من شهر ربيع الأول حين امتد الضحى، ومن تلك السنة يعد التاريخ الإِسلامي، فأقام بها يوم الإثنين والثلاثاء والأربعاء والخميس، وأسس مسجدهم، ثم خرج يوم الجمعة عامدًا المدينة فأدركته صلاة الجمعة في بني سالم بن عوف في بطن وادٍ لهم قد اتخذ القوم في ذلك الموضع مسجدًا، فخطب وصلى الجمعة، وهي أول خطبة خطبها رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقال فيها:

"الحمد لله، وأستعينه، وأستهديه، وأومن به، ولا أكفره، وأعادي من يكفر به، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله أرسله بالهدى ودين الحق، والنور والموعظة والحكمة، على فترة من الرسل، وقلة من العلم، وضلالة من الناس، وانقطاع من الزمان، ودنو من الساعة وقرب من الأجل. من يطع الله ورسوله .. فقد رشد، ومن يعص الله ورسوله .. فقد غوى وفرط وضلّ ضلالًا بعيدًا.

أوصيكم بتقوى الله، فإن خير ما أوصى به المسلم المسلم، أن يحضه على الآخرة، وأن يأمره بتقوى الله، وأحذر ما حذركم الله من نفسه، فإن تقوى من عمل به ومخافته من ربه عنوان صدق على ما يبغيه من الآخرة، ومن يصلح الذي بينه وبين الله من أمره في السرّ والعلانية لا ينوي به إلا وجه الله .. يكون له ذكرًا في عاجل أمره وذخرًا فيما بعد الموت حين يفتقر المرء إلى ما قدم، وما كان مما سوى ذلك .. يود لو أن بينه وبينه أمدًا بعيدًا. ويحذركم الله نفسه، والله رؤوف بالعباد، هو الذي صدق قوله، وأنجز وعده، ولا خُلْفَ لذلك، فإنه يقول: {مَا يُبَدَّلُ الْقَوْلُ لَدَيَّ

(1) روح البيان.

ص: 299

وَمَا أَنَا بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ (29)}. فاتقوا الله في عاجل أمركم وآجله، في السر والعلانية، فإنه من يتق الله .. يكفر عنه سيئاته ويعظم له أجرًا، ومن يتق الله .. فقد فاز فوزًا عظيمًا. وإن تقوى الله توقي مقته وتوقي عقوبته وتوقي سخطه، وإن تقوى الله تبيض الوجه وترضي الرب وترفع الدرجة. فخذوا بحظكم ولا تفرطوا في جنب الله، فقد علمكم في كتابه ونهج لكم سبيله ليعلم الذين صدقوا وليعلم الكاذبين. فأحسنوا كما أحسن الله إليكم، وعادوا أعداء الله، وجاهدوا في الله حق جهاده، هو اجتباكم وسماكم المسلمين، ليهلك من هلك عن بينة ويحيى من حي عن بينة. ولا حول ولا قوة إلا بالله، فأكثروا ذكر الله، واعملوا لما بعد الموت، فإن من يصلح ما بينه وبين الله .. يكفر الله ما بينه وبين الناس. ذلك بأن الله يقضي على الناس ولا يقضون عليه، ويملك من الناس، ولا يملكون منه، الله أكبر، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم". انتهت الخطبة النبوية.

ثم إن هذه الآية رد لليهود في طعنهم للعرب، وقولهم: لنا السبت ولا سبت لكم.

{فَاسْعَوْا} ؛ أي: فامشوا، واقصدوا وامضوا {إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ} سبحانه وتعالى؛ أي: إلى الخطبة والصلاة، لاشتمال كل منهما على ذكر الله. وما كان من ذكر رسول الله والثناء عليه وعلى خلفائه الراشدين وأتقياء المؤمنين والموعظة والتذكير .. فهو في حكم ذكر الله، وأما ما عدا ذلك من ذكر الظلمة وألقابهم والثناء عليهم والدعاء لهم وهم أحقاء بعكس ذلك .. فمن ذكر الشيطان، وهو من ذكر الله على مراحل، كما في "الكشاف" وعن الحسن رحمه الله: أما والله! ما هو السعي على الأقدام، ولقد نهوا أن يأتوا الصلاة إلا وعليهم السكينة والوقار، ولكن بالقلوب والنيات والخشوع والابتكار. ولقد ذكر الزمخشري في الابتكار قولًا وافيًا، حيث قال: وكانت الطرقات في أيام السلف وقت السحر وبعد الفجر مغتصة؛ أي: مملوءة بالمبكرين إلى الجمعة يمشون بالسرج.

وقال الفراء (1): السعي والمضي والذهاب في معنى واحد، ويدل على ذلك قراءة عمر بن الخطاب وابن مسعود:{فامضوا إلى ذكر الله} . وقيل: السعي هو

(1) الشوكاني.

ص: 300

العمل، كقوله تعالى:{وَمَنْ أَرَادَ الْآخِرَةَ وَسَعَى لَهَا سَعْيَهَا وَهُوَ مُؤْمِنٌ} ، وقوله:{إِنَّ سَعْيَكُمْ لَشَتَّى (4)} ، وقوله:{وَأَنْ لَيْسَ لِلْإِنْسَانِ إِلَّا مَا سَعَى (39)} . قال القرطبي: وهذا قول الجمهور: أي: فاعملوا على المضي إلى ذكر الله، واشتغلوا بأسبابه، من الغسل، والوضوء، والتوجه إليه تعالى.

وعبر (1) بالسعي إشارةً إلى النهي عن التثاقل عنها، وحثًا على الذهاب بصفاء قلب وهمة، لا بكسل نفس وغمة. وهذا بالنسبة إلى غير المريض والأعمى، والعبد والمرأة، والمقعد والمسافر، فإنهم ليسوا بمكلفين بها.

{وَذَرُوا الْبَيْعَ} ؛ أي: واتركوا المعاملة بالبيع، ويلحق به سائر المعاملات، من الشراء والسلم والإجارة والقراض والمساقاة. قال الحسن: إذا أذن المؤذن يوم الجمعة .. لم يحل الشراء والبيع، ويجوز أن يجعل البيع مجازًا عن المعاملة كلها. وقال بعضهم؛ النهي عن البيع يتضمن النهي عن الشراء؛ لأنهما متضايفان لا يعقلان إلا معًا، فاكتفى بذكر أحدهما عن الآخر. والمراد: الأمر بترك ما يذهل عن ذكر الله من شواغل الدنيا، تجارة وصناعة وحرفة وزراعة وغيرها. وإنما خص البيع والشراء من بينها لأن يوم الجمعة يوم تجتمع فيه الناس من كل ناحية، فإذا دنا وقت الظهيرة .. يتكاثر البيع والشراء، فلما كان ذلك الوقت مظنة الذهول عن ذِكر الله والمضي إلى المسجد .. قيل لهم: بادروا تجارة الآخرة، واتركوا تجارة الدنيا، واسعوا إلى ذكر الله الذي لا شيء أنفع منه وأربح، وذروا البيع الذي نفعه يسير وربحه قليل.

وقرأ كبراء من الصحابة والتابعين (2): {فامضوا} بدل {فَاسْعَوْا} وينبغي أن يحمل على التفسير من حيث إنه لا يراد بالسعي هنا الإسراع في المشي، ففسروه بالمضي، فلا يكون قرآنًا؛ لمخالفته سواد ما أجمع عليه المسلمون.

{ذَلِكُمْ} المذكور من السعي إلى ذِكر الله وترك البيع مبتدأ، خبره {خَيْرٌ لَكُمْ} أيها المؤمنون من مباشرته. فإن نفع الآخرة أجلّ وأبقى {إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ} الخير والشر الحقيقيين. فافعلوا ما أمرتكم به، واتركوا ما نهيتكم عنه.

(1) روح البيان.

(2)

البحر المحيط.

ص: 301