الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
أحسن قول من قال (1): إن ذكر امرأتي النبيين بعد ذكر قصتهما ومظاهرتهما على رسول الله صلى الله عليه وسلم يرشد أتم إرشاد ويلوح أبلغ تلويح إلى أن المراد تخويفهما مع سائر أمهات المؤمنين، وبيان أنهما وإن كانتا تحت عصمة خير خلق الله، وخاتم رسله .. فإن ذلك لا يغني عنهما من الله شيئًا، وقد عصمهما الله تعالى عن ذنب تلك المظاهرة بما وقع منهما من التوبة الصحيحة الخالصة.
ومعنى الآية (2): أي ضرب الله مثلًا يبين به حال الكافرين الذين لم ينتفعوا بعظات المؤمنين الصادقين من النبيين والمرسلين؛ لظلمة قلوبهم وسوء استعدادهم وفساد فطرتهم، امرأة نوح وامرأة لوط؛ إذ كانتا في عصة نبيّين يمكنهما أن ينتفعا بهديهما ويحصلا ما فيه سعادتهما في معاشهما ومعادهما، لكنهما أبتا ذلك وعملتا ما يدل على الخيانة والكفر، فاتهمت الأولى زوجها بالجنون، وكانت الثانية ترشد قوم لوط إلى ضيوفه لمآرب خبيثة، فلم يدفع عنما قربهما من ذينك العبدين الصالحين شيئًا، وحاق بهما سوء ما عملتا، وسيحل بهما عقاب الله، وسيدخلان النار في زمرة داخليها، جزاء وفاقًا لما اجترحتا من السيئات وما دستا به أنفسهما من كبير الآثام وعظيم المعاصي.
11
- وبعد أن ضرب مثلًا يبين به أن وصلة الكافرين بالمؤمنين لا تفيدهم شيئًا .. أرشد إلى عكس هذا، فأفاد أن اتصال المؤمنين بالكافرين لا يضرهم شيئًا، فقال:{وَضَرَبَ اللَّهُ} سبحانه وتعالى {مَثَلًا} مفعول ثان، قدمه للاهتمام به. {لِلَّذِينَ آمَنُوا امْرَأَتَ فِرْعَوْنَ}؛ أي: جعل الله حالها مثلًا لحال المؤمنين، ترغيبًا لهم في الثبات على الطاعة والتمسك بالدين والصبر في الشدة، وأن وصلة الكفار وصولتهم لا تضرهم كما لم تضر امرأة فرعون، وقد كانت تحت أكفر الكافرين، وصارت بإيمانها بالله سبحانه في أعلى غرف الجنان. والمراد بها: آسية بنت مزاحم. يقال: رجل آسي وامرأة آسية، من الأسى. وهو الحزن. قال بعضهم: الحزن حلية الأدباء، ومن لم يذق طعام الحزن .. لم يذق لذة العبادة على أنواعها. أو من الأسو، وهو: المداوة، والآسي - بالمد -: الطبيب.
{إِذْ قَالَتْ} : ظرف للمثل المذكور؛ أي: ضرب الله مثلًا للمؤمنين حالها إذ
(1) الشوكاني.
(2)
المراغي.
قالت: {رَبِّ ابْنِ لِي} (1) على أيدي الملائكة، أو بيد قدرتك، فإنه روي: أن الله تعالى خلق جنة عدن بيده من غير واسطة، وغرس شجرة طوبى بيده. {عِنْدَكَ بَيْتًا فِي الْجَنَّةِ}؛ أي: قريبًا من رحمتك، على أن الظرف حال من ضمير المتكلم، أو ابن لي في أعلى درجات المقربين، فيكون {عند} ظرفًا للفعل، و {فِي الْجَنَّةِ} صفة لـ {بَيْتًا}. وفي "عين المعاني":{عِنْدَكَ} ؛ أي: من عندك بلا استحقاق مني بل كرامة منك. وروي: أنها لما قالت ذلك .. رفعت الحجب حتى رأت بيتها في الجنة من درة بيضاء، وانتزع روحها. {وَنَجِّنِي مِنْ فِرْعَوْنَ} الجاهل {وَعَمَلِهِ} الباطل؛ أي: من نفسه الخبيثة وسوء جوارها، ومن عمله السيء الذي هو كفره ومعاصيه. {وَنَجِّنِي مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ}؛ أي: من القبط التابعين له في الظلم. روي: أنه لما غلب موسى عليه السلام السحرة .. آمنت امرأة فرعون، وقيل: هي عمّة موسى آمنت به، فلما تبين لفرعون إسلامها طلب منها أن ترجع عن إيمانها، فأبت، فأوتد يديها ورجليها بأربعة أوتاد وربطها، وألقاها في الشمس وأراها الله بيتها في الجنة، ونسيت ما هي فيه من العذاب، فضحكت، فعند ذلك قالوا: هي مجنونة، تضحك وهي في العذاب!
وأخرج ابن أبي شيبة (2)، وعبد بن حميد، وابن جرير، وابن المنذر، والحاكم وصححه، والبيهقي في "الشعب" عن سلمان قال: كانت امرأة فرعون تعذب بالشمس، فإذا انصرفوا عنها .. أظلتها الملائكة بأجنحتها، وكانت ترى بيتها في الجنة.
وأخرج عبد بن حميد عن أبي هريرة: إن فرعون وَتَدَ لامرأته أربعة أوتاد، وأضجعها على ظهرها، وجعل على صدرها رحى، واستقبل بها عين الشمس، فرفعت رأسها إلى السماء {قَالَتْ رَبِّ ابْنِ لِي عِنْدَكَ بَيْتًا فِي الْجَنَّةِ} إلى قوله:{مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ} ، ففرج الله لها عن بيتها في الجنة، فرأته. وقيل: اشتاقت إلى الجنة وملت من صحبة فرعون، فسألت ذلك. وفيه دليل على أن الاستعاذة بالله والالتجاء إليه ومسالة الخلاص منه عند المحن والنوازل من سير الصالحين وسنن الأنبياء والمرسلين.
(1) روح البيان.
(2)
الشوكاني.