المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

وإسلامهم إياهم في أشد حاجتهم إليهم وإلى نصرتهم .. كمثل - تفسير حدائق الروح والريحان في روابي علوم القرآن - جـ ٢٩

[محمد الأمين الهرري]

الفصل: وإسلامهم إياهم في أشد حاجتهم إليهم وإلى نصرتهم .. كمثل

وإسلامهم إياهم في أشد حاجتهم إليهم وإلى نصرتهم .. كمثل الشيطان الذي غر إنسانًا ووعده النصرة عند الحاجة إليه إذا هو كفر بالله، واتبعه وأطاعه، فلما احتاج إلى نصرته .. أسلمه وتبرأ منه، وقال:{إِنِّي أَخَافُ اللَّهَ رَبَّ الْعَالَمِينَ} . إذا أنا نصرتك لئلا يشركني معك في العذاب.

والخلاصة: أن مثل اليهود في اغترارهم بمن وعدوهم النصرة من المنافقين بقولهم لهم: {وَإِنْ قُوتِلْتُمْ لَنَنْصُرَنَّكُمْ} ، ولما جد الجد واشتد الحصار والقتال .. تخلوا عنهم وأسلموا للهلكة، كمثل الشيطان إذ سول للإنسان الكفر والعصيان، فلما دخل فيه .. تبرأ منه وتنصل وقال:{إِنِّي أَخَافُ اللَّهَ رَبَّ الْعَالَمِينَ} . ولا تجد مثلًا أشد وقعًا على النفوس، ولا أنكى جرحًا في القلوب من هذا المثل لمن اعتبر وادكر، ولكنهم قوم لا يعقلون.

‌17

- ثم ذكر عاقبة الناصح والمنصوح له، فقال:{فَكَانَ عَاقِبَتَهُمَا} ؛ أي: عاقبة الشيطان وذلك الإنسان. قرأ الجمهور بنصب {عَاقِبَتَهُمَا} على أنه خبر {كان} مقدم على اسمها، واسمها قوله:{أَنَّهُمَا فِي النَّارِ} . وقرأ الحسن، وعمرو بن عبيد وسليم بن أرقم برفعه، على أنه اسم {كَانَ} ، والخبر ما بعده. وهو أوضح في المعنى.

والمعنى: فكان عاقبة الشيطان وذلك الإنسان الذي كفر أنهما صائران إلى النار حال كونهما {خَالِدَيْنِ} ؛ أي: ماكثين {فِيهَا} ؛ أي: في النار مكثًا مؤبدًا لا يبرحان عنها. وهو حال من الضمير المستكن في الجار والمجرور. وقرأ الجمهور {خَالِدَيْنِ} بالياء نصبًا على الحال. وقرأ عبد الله وزيد بن علي والأعمش، وابن أبي عبلة {خالدان} بالألف رفعًا على أنه خبر {أن}. والظرف لغو متعلق به. {وَذَلِكَ}؛ أي: الخلود في النار {جَزَاءُ الظَّالِمِينَ} على الإطلاق دون هؤلاء خاصة.

والمعنى: أي فكان عاقبة الآمر بالكفر والداخل فيه الخلود في النار أبدًا، وهكذا جزاء الظالمين لأنفسهم بالكفر، كيهود بني النضير والمنافقين الذين وعدوهم بالنصرة.

‌18

- ثم رجع سبحانه وتعالى إلى خطاب المؤمنين بالموعظة الحسنة، فقال:

ص: 152

{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا} بالله ورسوله، إيمانًا خالصًا، ويقينًا صادقًا {اتَّقُوا اللَّهَ} سبحانه وتعالى؛ أي: اتقوا عقاب الله في كل ما تأتون، وما تذرون، فتحرزوا عن العصيان بالطاعة، وتجنبوا عن الكفران بالشكر، وتوقوا عن النسيان بالذكر، واحذروا عن الاحتجاب عنه بأفعالكم وصفاتكم بشهود أفعاله وصفاته في كل شيء.

والمعنى: يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله سبحانه، فافعلوا ما به أمر، واتركوا ما عنه نهى، وزجر، أو: اتقوا الله بفعل المأمورات، كما سيأتي مقابله.

{وَلْتَنْظُرْ نَفْسٌ} ؛ أي: ولتتفكر كل نفس - برة أو فاجرة - ولتبحث وتفتش {مَا قَدَّمَتْ لِغَدٍ} ؛ أي: عما تقدمه ليوم القيامة من الأعمال الصالحة أو السيئة، فتختاره وتفعله؛ أي: لينظر أحدكم أي شيء يقدمه لنفسه من الأعمال، وليفكر فيه، وليحصله؛ أي: فليختر هل يقدم لها عملًا صالحًا ينجيها أو سيئًا يوبقها، فإن الدنيا دار الزراعة، والآخرة دار الحصاد، فلا تحصد في الآخرة إلا ما زرعته في الدنيا.

والمتبادر من معنى الغد أنه عبارة عن يوم بينك وبينه ليلة، ويطلق أيضًا على مطلق الزمان المستقبل كقوله:

وَأَعْلَمُ عِلْمَ الْيَوْمِ وَالأَمْسِ قَبْلَهُ

وَلَكِنَّنِي عَنْ عِلْمِ مَا فِيْ غَدٍ عَمِي

وأطلق (1) هنا اسم الغد في قوله: {لِغَدٍ} على يوم القيامة تقريبًا له؛ كقوله: {وَمَا أَمْرُ السَّاعَةِ إِلَّا كَلَمْحِ الْبَصَرِ} فكأنه لقربه شبه بما ليس بينك وبينه إلا ليلة واحدة، أو لأن الدنيا - أي: زمانها - كيوم والآخرة كغده، لاختصاص كل منهما بأحكام وأحوال متشابهة وتعقيب الثاني للأول، فلفظ الغد حينئذٍ استعارة كما سيأتي. وفائدة تنكير النفس: إفادة أن الأنفس الناظرة في معادها قليلة جدًا، كأنه قيل: ولتنظر نفس واحدة في ذلك، وأين تلك النفس؟

يقول الفقير (2): إنما كانت الآخرة كالغد لأن الناس في الدنيا نيام، ولا انتباه إلا عند الموت الذي هو مقدمة القيامة كما ورد به الخبر، فكلّ من الموت والقيامة كالصباح بالنسبة إلى الغافل، كما أن الغد صباح بالنسبة إلى النائم في الليل. ودل هذا على أن الدنيا ظلمانية والآخرة نورانية، انتهى.

(1) الفتوحات.

(2)

روح البيان.

ص: 153

وفائدة تنكير الغد تعظيمه، وتفخيمه وتهويله، كأنه قيل: لغد لا تعرف كل نفس كنه عظمته وغاية هوله، فالتنكير فيه للتعظيم، وفي النفس للتقليل أو للتعريض بغفلة كلهم عن هذا النظر الواجب. وأصله: غدو، حذفوا الواو بلا تعويض عنها كما سيأتي في مبحث التصريف.

وقرأ الجمهور: {وَلْتَنْظُرْ} أمرًا، واللام ساكنة. وقرأ أبو حيوة، ويحيى بن الحارث بكسرها. وروي ذلك عن حفص عن عاصم. وقرأ الحسن بكسرها وفتح الراء، جعلها لام كي، ذكره في "البحر".

{وَاتَّقُوا اللَّهَ} سبحانه وتعالى. كرره للتأكيد والاهتمام في شأن التقوى، وإشارة إلى أن اللائق بالعبد أن يكون كل أمره مسبوقًا بالتقوى ومختومًا بها. أو الأول في أداء الواجبات، كما يشعر به ما بعده من الأمر بالعمل كما سبق، والثاني في ترك المحارم، كما يؤذن به الوعيد بقوله تعالى:{إِنَّ اللَّهَ} سبحانه وتعالى {خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ} ؛ أي: عالم بما تعملونه من المعاصي، فيجازيكم عليها يوم الجزاء.

والتقوى هو: التجنب عن كل ما يؤثم من فعل أو ترك. وقال بعض الكبار: التقوى: وقاية النفس في الدنيا عن ترتب الضرر في الآخرة. فتقوى العامة عن ضرر الأفعال، وتقوى الخاصة عن ضرر الصفات، وتقوى أخص الخواص عن جميع ما سوى الله تعالى.

وفي الآية ترغيب في الأعمال الصالحة.

والمعنى (1): أي ولتنظروا ماذا قدمتم لآخرتكم مما ينفعكم يوم الحساب والجزاء، يوم تذهل كل مرضعة عما أرضعت، وترى الناس سكارى وما هم بسكارى، ولكنهم من توقع العذاب سكارى. واتقوا الله إنه خبير عليم بأحوالكم، لا يخفى عليه شيء من شؤونكم، فراقبوه في جليل أعمالكم، وحقيرها، واعلموا أنه سبحانه سيحاسبكم على النقير والقطمير، والقليل والكثير، ولا يفوته شيء من ذلك.

(1) المراغي.

ص: 154