الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الوجوب على الفقير، وإلّا لاستويا في اللزوم.
فعُلِمَ أن المساواة مدارٌ للوجوب على ذلك التقدير وجودًا وعدمًا، لمطابقتها له في العموم والخصوص. نعَمْ، المساواةُ بينهما في اللزوم على الإطلاق أخصُّ من الوجوب على الفقير، لأن الوجوب [ق 10] على الفقير يُوجَد مع وجود المساواة، ويجوز وجودُه مع عدم المساواة في اللزوم، بتقديرِ أن يجبَ على الفقير دون المدين، فإنه من التقديرات العقلية في الجملة. كما يجوز وجود الوجوب على المدين مع عدم المساواة. وعلى هذه الأغلوطةِ بَنى المموِّهُ كلامَه.
و
جوابُه من وجهين:
أحدهما: أنّا إنما نتكلم على تقدير الوجوب على المدين كما تقدم، وعلى هذا التقدير فليست المساواة في اللزوم بأخصِّ من الوجوب على الفقير كما تقدم.
الثاني: أنّا لا نُسلِّم أنها أخصُّ مطلقًا، فإن المساواة إذا وُجِدتْ وُجِدَ الوجوبُ، وإذا عُدِمتْ عُدِمَ الوجوب على الفقير أيضًا، لأنها إذا عُدِمَت امتنَع رجحانُ الفقير على المدين، لأنه خلافُ الإجماع، فيتعيَّنُ رجحانُ المدين على الفقير، وإذا ثبتَ رجحانُه عليه مع عدم تساويهما في اللزوم لزمَ بالضرورةِ عدمُ الوجوبِ على الفقيرِ، لأنهما إذا لم يتساويا في اللزوم فإمّا أن يتساويَا في عدمِه، أو يلزم أحدهما فيكون هو الوجوب على المدين خاصَّةً، لأنّ الآخر خلاف الإجماع، ومَتى عُدِمَ اللزوم فيهما أو في الفقير فقد لزم عَدَمُ الوجوب على الفقير عند عدم المساواة في اللزوم، فلا تكون المساواة أخصَّ من الوجوب على الفقير، لأنّ الأخصَّ عبارةٌ عما قد يُعدَمُ مع وجودِ
الأعمِّ، وهنا حيثُ عُدِمت المساواة في اللزوم عُدِمَ الوجوبُ على الفقير.
واعلم أنّي إنما نبَّهتُ على فسادِ هذه النكت لأنها مما اعتمدَ عليه بعضُ هؤلاء المموِّهين المغالطين من الجدليين، فإنه بها وبأمثالِها من الكلام الذي لا حاصلَ له يَزعمون أنهم يُثبِتُون ما شاءوا من الدعاوي، وهو كما تراه، فإن هذه النظوم الثلاثة يمكن أن يقال في أيّ تلازم ادَّعاهُ المدَّعي. أما إذا ادَّعى لزومَ عدمٍ أمكنَه تغييرُ العبارة. ولولا أنه ليس هذا موضعَ الاستقصاءِ في إفسادِ خصائص النكت المموَّهة، وإنما الكلام في عمومِ هذه الصناعة التمويهية، لوَسَّعْنا القولَ في ذلك.
والضابطُ في ذلك تحريرُ كلام اللَّبْسِ، وإخراجُ اللفظ المشترك عن
(1)
الاشتراك إلى الإفراد، والتعبيرُ عنه بعبارةٍ ليس فيها اشتراكٌ ولا حَشْوٌ. وحينئذٍ يتبيَّنُ موضعُ المنع الذي لا يمكنه الجوابُ عنه إلّا بالرجوع إلى الأدلة العلمية، وهو في كلّ مادةٍ بحسب ما يليق بها.
أما دليلٌ عامٌّ يثبتُ به كلّ تلازمٍ فقد عَلِمَ كلُّ عاقلٍ بالاضطرار أنّ هذا باطلٌ، وهو مع بُطلانِه عن الفائدةِ [ق 11] عاطلٌ، وهو مع خُلوِّه عن الفائدة متعارضٌ متقابلٌ. فإنّ عامَّة هذه الأدلة العامَّة التي يُثبتونَ بها التلازمَ يُمكِن الاعتراضُ بها بعينها على بطلان التلازم، بأن يُجعَل نقيضُ اللازم لازمًا لعين الملزوم، أو عينُ اللازم لازمًا لنقيضِ الملزوم، وهو قلبٌ للدليل، أو لازمُ اللازمِ لازمًا للازِم نقيضِ الملزوم، أو الملزومُ ملزومًا لملزوم نقيضِ اللازم، أو ملزومُ اللازم ملزومًا لنقيض الملزوم، أو لازمُ الملزومِ لازمًا لنقيضِ اللازم. إلى غير ذلك من التراكيب التي تُناقِضُ صحةَ التلازم، ولولا الإطالةُ
(1)
الأصل: "على".
لذكرنا من ذلك شيئًا كثيرًا.
وأمّا الدليل الخاصّ العلمي فهو أن يقول مثلًا: مالُ المدين مشغولٌ بإعدادِه لقضاءِ الدَّين، وقضاءُ الدين من الحوائج الأصلية بمنزلةِ احتياجه إلى الطعام والكسوة، ولذلك لم يَجِبْ عليه الحجُّ، ولم يجب عليه نفقةُ الأقارب، وجازَ له أخذُ الزكاة لقضاءِ دَينه، كيفَ وكثيرٌ من العلماء يُقدِّمون دينَه على حاجتِه إلى الطعام والكسوة في المستقبل، حتى من يُجرِّدونَه من ماله إلّا ثيابَ البِذْلة. ولذلك قال النبي صلى الله عليه وسلم:"مَا أُحِبُّ أنَّ عندي مثلَ أُحدٍ ذَهَبًا يَمضي عليَّ ثالثةٌ وعندي منه درهمٌ، إلّا درهمًا أَرصُدُه لقضاء دَيْن"
(1)
. وقال: "نَفسُ المؤمنِ مُعلَّقةٌ بدَيِنه حتَّى يُقضَى"
(2)
.
فإذا كانت الحاجةُ إلى قضاءِ الدَّين أَوْكَدَ من الحاجة إلى كثير من ثيابِ البِذْلة وعَبِيْدِ الخدمة، ثم ثبتَ أن الزكاة لا تجب فيما هو مُعَدٌّ لطعامِه وكسوتِه وخدمتِه ومسكنِه، فما هو مُعَدٌّ لقضاءِ دَينِه أولَى. وتحريرُ هذا الكلام في كتب الفقه.
وعلى المعترضِ حينئذٍ أن يقدح في الملازمة، ويُبيِّنَ أنَّ وجوبَها على المدين ليسَ بمستلزمٍ وجوبَها على الفقير، إمَّا بذكرِ الفوارق، وإما بتفريق النصوص، فيقول مثلًا: الفقيرُ ليسَ بيده مالٌ زكوِيٌّ، لأنه إن لم يكن مالكًا
(1)
أخرجه أحمد (2/ 419، 457، 467، 450، 326، 358، 399، 349، 367، 506، 530) من طرقٍ عن أبي هريرة. ورواه البخاري (2389، 7228) ومسلم (991) بنحوه.
(2)
أخرجه أحمد (2/ 440، 475، 508) والترمذي (1078، 1079) وابن ماجه (2413) من حديث أبي هريرة. وحسَّنه الترمذي.
لمالٍ فمُحالٌ إيجابُ الزكاة في غير مالٍ، وإن كان مالكًا لعقارٍ أو عبيدٍ أو خَيلٍ أو بغالٍ أو حميرٍ فهذا جنسٌ غير زكويّ، ولهذا لا يجب فيه الزكاةُ وإن كان فيه فضلٌ عن الحوائج الأصلية، لأن الزكاة إنما تجب في الأموال النامية بنفسها أو بتصريفها، والعقارُ وذوات الحافر ليست كذلك فلم يَصِحَّ تعليلُ امتناعِ الزكاة فيها بحاجة المالك، وإن كان مالكًا لمالٍ زكوِيّ وجبتِ الزكاة.
وأما المدين فهو مالكٌ لمالٍ زكَويّ، فقد انعقد سبب الوجوب في حقه. والمستدلُّ يدَّعي أن الدَّين مانعٌ من تمام السبب أو مانعٌ من حُكمِ السبب، فعليه بيانُ ذلك.
فيقول المستدلُّ: إن الله تعالى أوجب الزكاة على الأغنياء [ق 12] بقوله صلى الله عليه وسلم: "أُمِرتُ أن آخُذَ الصدقةَ من أغنيائكم فأرُدَّها على فقرائِكم"
(1)
. فكلُّ من وجبت عليه الزكاة فهو غنيٌّ الغِنَى الموجب للزكاة، ومَن لا تجبُ عليه فليس بغنيٍّ الغِنى الموجِبَ لها. ومالكُ العقارِ وذوات الحافرِ وعبيدِ الخدمة وثيابِ البِذْلة ليس بغنيٍّ عن ذلك، لأنه يحتاج إلى العقار إمّا لسُكْناه أو لكرائه، ويحتاج إلى ذوات الحافرِ إما لِرُكُوبها أو لِكِرائها، وكذلك العبيد. فلو وجبت الزكاةُ في ذلك لاختَلَّت مصلحتُه، والزكاةُ لا تجبُ على وجهٍ يضُرُّ بالمالك. نعم إن ملك من أَكْرِيَتها أو نَمائِها ما تَجِبُ فيه الزكاةُ وجبت بشروطها، إمّا عند تجدُّدِ المِلكِ كقول ابن عباس، أو عندَ انقضاءِ الحَوْل كقول عامَّة العلماء. بخلاف السائمة فإنَّ لها نسلًا يَسُدُّ مَسَدَّ ما يُخْرَجُ منها. وكذلك عُروضُ التجارة، وكذلك النَقدانِ هما في الأصل خُلِقَا للتجارة،
(1)
أخرجه البخاري (1496 ومواضع أخرى) ومسلم (19) عن ابن عباس بلفظ: "إن الله قد فرض عليهم صدقةً تؤخذ من أغنيائهم فتُردُّ على فقرائهم".
فهما قابلان للنَّماء، فكنزُهما صرفٌ لهما عن الحكمة التي خُلِقَا لها، فلا يُبْطِل حقَّ الله تعالى.
ويتفاضَلان في هذا الكلام وغيره حتى يظهر حُجَّةُ أحدِهما: إما بشهادة النصوص أو الأصول لرجحان اعتباره، أو لاعتضاده بأقوال الصحابة، وهو خطبة عثمان المشهورة
(1)
وغير ذلك، وهما
(2)
جاريان في الاستدلال سؤالا وجوابًا على شروط الجدل المستقيم المبني على أصولِ الفقه الصحيحة.
فأمَّا بعد تسليم التلازم فإنه يلزم من الوجوب على المدين الوجوبُ على الفقير، واللازم منتفٍ فينتفِي الملزوم، وهو المدَّعَى كما قال، لأنَّ عدمَ الملزوم من لوازِم عدم اللازم، بمعنى أنه إذا عُدِمَ اللازمُ لَزِمَ عدمُ أشياء، منها عدم الملزوم كما مرَّ تقريرُه، وعدم اللازم متحققٌ، وهو عدم الوجوب على الفقير، وهذا المعدومُ ملزوم لعدم اللازم الأول، وهو الوجوب على الفقير، فإذا تحقق العدم الملزوم تحقَّق العدمُ اللازم.
فهذا التلازم الثاني جارٍ في كل ملازم، وهو نوعُ تطويلٍ وتكريرٍ، لأنه قد تقدم أنَّ وجود اللازم وعدمَ اللازم إذا تحقَّق تحقَّق [وجود الملزوم و]
(3)
عدمُ
(1)
يعني خطبته وهو محصور في القصر يستنشد الصحابةَ، ويذكر فضائلَه، فأنشدَ له الناس وأجابوه. أخرجه أحمد (1/ 478 رقم 420)، والترمذي برقم (3699)، والنسائي (6/ 236)، وابن خزيمة (2491 - 2493) وابن حبان رقم (6916). قال الترمذي:"هذا حديث حسن صحيح غريب" وصححه ابن خزيمة وابن حبان.
(2)
في الأصل: "وهي".
(3)
زيادة ليستقيم السياق.