الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
نادر، بأن يدل على الدعوى بوجهٍ وعلى الأخرى بوجهٍ.
والثالث: أن يتعددَ، وتكونَ إحداهما من لوازم الأخرى مع اتحاد الدليل، وهو أكثر ما يستعملُه المموِّهونَ، وليس هو من طرق المحققين، وربما نذكره إن شاء الله في موضع آخر.
وقد ظهر بما بيناه أن المستدلَّ لم يُقِم دليلًا صحيحًا، وأن أكثر أَسوِلة المعترض وأجوبة المستدلّ باطلةٌ، وذلك يُوجِبُ أن كلًّا منهما منقطع، فإن من احتجَّ بما لم يُفِد فهو منقطع، ومن أورد ما لا يقدح فهو منقطع، لكن في تفاصيل الكلام قد يحصلُ من المستدلِّ أجوبةٌ صحيحة من ذلك المقام، ومن المعترض أسوِلةٌ قادحة كما بيناه، لكن ذلك كله مبنيٌّ على أصلٍ غير صحيح كما تقدم، فلهذا حكمنا بانقطاع كل منهما.
وإنما ذكرتُ هذا لأن بعض الطلبةِ قال: أُحِبُّ أن تذكر لي في آخر كلامك مَن فَلَج بالحجة من المستدل والمعترض، فذكرتُ ذلك، لأن
الجدل الباطل لا يُفلِحُ فيه مَن سَلكَه استدلالًا وسؤالًا وانفصالًا
، فإن من استدلَّ بالباطل فهو مُبطِلٌ، ومن ردَّ الباطلَ بالباطل ولم يُبيِّن أن الدليل باطل فهو مُبطِلٌ، ومن أجابَ عن الباطل بباطلٍ ولم يُبيِّن أن السؤالَ باطل فهو مُبطِل، وكلُّ مبطلٍ فإنه يكون منقطعًا إذا بُيِّن بطلانُه. والله أعلم.
(فصل ثم القياس قد يكون مخصصًا)
(1)
اعلم أنه لا بدَّ من مقدمتين:
إحداهما: أن تخصيص عموم الكتاب والسنة بالقياس مسألةٌ مشهورة، والخلاف فيها مشهورٌ قديمًا وحديثًا بين الفقهاء والمتكلمين على أقوال:
أحدها: أنه يجوز، وهو قول [ق 113] المالكية أو أكثرهم وأكثر الشافعية وإحدى الروايتين عن أحمد وقول كثيرٍ من أصحابه.
والثاني: لا يجوز، وهو قول بعض الشافعية والحنبلية، وروايةٌ عن أحمد وطوائف من المتكلمين.
والثالث: الوقف، وهو قول الواقفية، وقد رُوي عن أحمد ما يدلُّ على ذلك.
والرابع: إذا كان العموم مخصوصًا بدليلٍ يجوز نسخُ العامِّ به جازَ تخصيصهُ بالقياس، وإلّا فلا، وهو المشهور عن الحنفية.
ثم من المجوِّزين من لا يرى التخصيص إلا بالقياس على الصورة المخصوصة بالنص، وهذا هو المشهور عند أهل الطريقة الجدلية، وهو الذي يسمونه قياس التخصيص.
والخامس: أنه يجوز تخصيصُه بالقياس الجلي دون الخفي، وهو قول طائفة من الشافعية. والجليُّ قد قيل: هو القياس في معنى الأصل، وما نُصَّ
(1)
«الفصول» : (ق 6 أ). وانظر «شرح المؤلف» : (ق 66 أ- 71 أ)، و «شرح السمرقندي»:(ق 62 ب- 65 ب)، و «شرح الخوارزمي»:(ق 59 ب- 64 أ).
على علته، وما كان أولى بالحكم من الفرع. وعلى هذا التفسير فلا يختلف الفقهاء الذين يَخُصُّون العمومَ بخبر الواحد أنهم يخصُّونه بمثل هذا القياس، فإن أكثرهم عندهم هذا من باب دلالات اللفظ دون القياس. وقيل: إن الجلي هو قياسُ المعنى، وهو القياس المناسب ونحوه، دون قياس الشبه، وعلى هذا التفسير فيُجعَل هذا التفريق قولًا رابعًا.
واعلم أن من نظر في مآخذِ الأحكام ودلالات الأدلة عليها: الظواهرِ والأقيسةِ من كلام الشارع تارةً، ومن المعاني المعقولة أخرى، عَلِمَ يقينًا أنه في بعض المواضع يُقطَع برجحانِ العموم، وفي بعضها يقطعُ برجحان القياس، فإن العمومَ أعلاه ما احتفَّ من القرائن ما دلَّ على أن مقصودَ الشارع به العموم، واتّحدتْ أفرادُه، وانضمَّ إليه عمومٌ عقلي. ثم ما تخلَّفَ عنه بعض هذه الأفراد، مثل أن يكون مجرَّدًا عن القرائن المقوية. ثم ما اقترنَ به قرائنُ تُوهن عمومَه وإن لم تَمنع الاحتجاجَ به، كالعموم الخارج على سبب. ثم العموم الذي لم يُقصَدْ به قصد العموم وإنما سِيْقَ الكلامُ لشيء آخر، إن جعل حجةً عند السلامة عن المعارض، كقوله:«فيما سَقَتِ السَّماءُ العُشرُ، وما سُقِي بالدَّوالي والنَّواضِح نصفُ العُشر»
(1)
، حيث قصد به بيان قدر المُخْرَج لا بيان أنواع ما تجب فيه الزكاة.
وكذلك القياس على مراتبَ: أعلاه قياسٌ عُلِمَت علتُه بنص أو إيماءِ نص أو إجماع، والقياس في معنى الأصل، وهو قياس لا فارق وقياس
(1)
أخرجه البخاري رقم (1483)، وأصحاب السنن: أبو داود (1596)، والترمذي (635)، والنسائي:(5/ 41)، وابن ماجه (1817) من حديث ابن عمر رضي الله عنهما.