المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌ أصل هذا الفساد: دعوى التلازم بين مسألتين لا مناسبة بينهما - تنبيه الرجل العاقل على تمويه الجدل الباطل - جـ ١

[ابن تيمية]

فهرس الكتاب

- ‌[فصل في التلازم]

- ‌جوابُه من وجهين:

- ‌ كلُّ تقديرٍ لا ينشأ منه قيامُ مقتضٍ ولا نفيُ معارضٍ فإنه غير مفيد

- ‌ معارضة المستدلّ بما ينفي التلازم على وجوهٍ كثيرة

- ‌ كلام المستدلّ إنما يصحّ إذا كان قد بيَّن التلازمَ بطريقٍ صحيح

- ‌(فصل في الدوران)

- ‌ الدوران يفيد كونَ المدار علةً للدائر، بشرطِ أن لا يُزاحمه مدارٌ آخر

- ‌ المثال الذي ذكره صاحبُ الجدل غيرُ مستقيم أن يحتج فيه بالدوران

- ‌ تخلُّف العلّيةِ مع وجود الدوران كثيرٌ لا يُحصَى

- ‌[فصل في القياس]

- ‌ أكثر الأفعال تجتمع فيها الجهات الثلاث

- ‌ كيف يجوز تعليلُ أحكام الله بالمصالح

- ‌معنى قولنا: «إنه يفعل لا لغرضٍ ولا لداعٍ ولا لباعثٍ»

- ‌ المصالح إنما تكون مصالح إذا تجردت عن المفاسد أو ترجحتْ عليها

- ‌ إثباتَ العلّة بالمناسبة أقوى من إثباتها بالدوران

- ‌ هذا الكلام يقدح في القياس القطعي والظني، وما قَدَح فيهما فهو باطلٌ

- ‌ ثبوت المشترك له ثلاث(2)اعتبارات:

- ‌ مناقشة جدلية

- ‌ الدعاوي إذا تعدَّدت لم ينفع تعدُّدها أن يكون الدليلُ على كلٍّ منها غيرَ الدليل على الأخرى

- ‌ الجدل الباطل لا يُفلِحُ فيه مَن سَلكَه استدلالًا وسؤالًا وانفصالًا

- ‌ قَويَّ العمومِ مقَدَّمٌ على ضعيف القياس، وقويّ القياسِ مقدَّم على ضعيف العموم

- ‌ الشارع لا يُخصِّص العام حتى يَنْصِبَ دليلًا دالًّا على عدم إرادة الصورة المخصوصة عقليًّا أو سمعيًّا أو حسّيًّا

- ‌ التخصيص مشتملٌ على أمر وجودي وعدمي

- ‌الدليل يجوز أن يكون عدميًّا باتفاق العقلاء

- ‌ لفظ المصدر يدلُّ على تمام المقصود

- ‌ منع العموم يحتمل شيئين:

- ‌ المرجع في ذلك إلى استقراء صور الاستعمال

- ‌(فصل في تعدية العدم)

- ‌ تقريرُ كلامِه

- ‌(فصلٌ في تَوْجِيْه النُّقُوض)

- ‌ توجيهٌ ثانٍ للنقض

- ‌(فصل في النقض المجهول

- ‌ اقتضاءَ العلةِ المعلولَ أمرٌ فطريّ ضروري

- ‌ صحَّة الحكم لا يستلزم صحةَ الدليل المعيَّن

- ‌ أصل هذا الفساد: دعوى التلازم بين مسألتين لا مناسبة بينهما

- ‌(فصل

- ‌الواجب في مثل هذا الكلام أن يُقابل بالمُنُوعِ الصحيحة

- ‌(فصل

- ‌ صورة أخرى للجواب عن المعارَضَةِ بالقياس المجهول

- ‌(فصلٌ في التنافي بين الحُكمَين)

- ‌ التنافي إذا صحَّ بطريقٍ شرعيٍّ فإنه طريق من الطرق الصحيحة كالتلازم

- ‌ الطرق الصحيحة في تقرير التنافي

- ‌يُسْتَدل على التنافي بالأدلة المعلومة في كل مسألة

- ‌بيانُ ذلك من وجهين:

- ‌الأمرُ الاتفاقي لا يدلُّ على التنافي؛ لجواز تغيُّر الحال

- ‌(فصل في التمسُّكِ بالنص، وهو الكتابُ والسنة)

- ‌النصُّ له معنيان

- ‌جميعُ وجوه الخطأ منفيةٌ عن الشارع

- ‌أحدها: دعوى إرادة الحقيقة إذا لم ينعقد الإجماع على عدم إرادة الحقيقة

- ‌العمومات على ثلاثة أقسام:

- ‌(الثاني(3): دعوى إرادة صورة النزاع

- ‌(الثالث: دعوى إرادة المقيد بقيدٍ يندرج فيه صورة النزاع

- ‌(الرابع: دعوى إرادة شيء يلزمُ منه الحكم في صورة النزاع)

- ‌ معارضة الدعوى الرابعة

- ‌(فصل

- ‌ مُدَّعي الإرادة لا بدَّ أن يبين جواز الإرادة

- ‌سبيل هذه الدعاوى أن تُقَابل بالمنع الصحيح

- ‌ الاستدلال بالأمر على الوجوب له مقامان:

- ‌فصلُ الخطابِ في هذه المسألة:

- ‌ الشرائع لم تشتمل على قبيح

- ‌لا يجوز أن يراد به نفي الأحكام الشرعية

- ‌ لا يجوز أن يُراد به نفي الإيجاب أو التحريم

- ‌ لا يصح اندراج الإيجاب أو التحريم فيه إلا بإضمار الأحكام

- ‌(فصلٌ في الأثر)

- ‌(فصلٌ في الإجماع المركَّب)

- ‌ التركيب المقبول فُتيا(4)وجدلًا

- ‌(فصلٌ في الاستصحاب)

- ‌ الاستصحاب في أعيان الأحكام

- ‌الطريق الثاني في إفساده:

- ‌الطريق الثالث لإفساده:

الفصل: ‌ أصل هذا الفساد: دعوى التلازم بين مسألتين لا مناسبة بينهما

وقولُه: «لا أعتقدُهُ دليلًا» ينفي قولَه: «هو دليل في نفس الأمر» ؛ لأنه لو كان دليلًا لاعتقده دليلًا؛ لأنَّ الأصلَ في المسألتين الصحة.

ثم يقولُ له المعترض: إن سَلِمَ في نفس الأمر عن هذا النقض فهو منقوض بالفرع، وكلٌّ منَّا يعتقدُ انتقاضه في نفس الأمر بصورة، فقد أجْمَعْنا على أنه ليس بدليل في نفس الأمر. وأما الحكم في الفرع فقد علمت أنه ليس بلازم على التقدير الآخر، وعلى تقدير لزومِهِ فإن الدليلَ باطل منقوض، والمدَّعى هو ثبوتُ الحكم بذلك الدليل، فإذا لم يلزم ثُبُوت الحكم بذلك [ق 208] الدليل على كلِّ واحد من التقديرين بطل المدَّعَى.

واعلم أن‌

‌ أصل هذا الفساد: دعوى التلازم بين مسألتين لا مناسبة بينهما

، فاحْذَرْه فإنه بابٌ عظيمٌ من باب أغاليط هؤلاء المغالطين، وعليك بإحكام أصول الفقه، فإنه يبيِّن لك طُرق استخراج الأحكام الشرعية من الأدلة السمعية.

قوله

(1)

: (وإن لم يكن فالجواب عنه بالفرق، أو بتغيير

(2)

المدَّعى بأن يقال: انتفاءُ

(3)

المجموع المركَّب من العدم هنا، والوجوب ثَمَّة، فإنه

(4)

ثابت؛ لأن الوجوبَ ثمة لا يخلو: إما إن كان ثابتًا أو لم يكن، فإن لم يكن فظاهر، وإن كان فكذلك ضرورة تحقق الوجوب هنا لما بيَّنَّا من الدليل السالم عن التخلُّف).

هذا هو الجواب على تقدير أن لا يكون حُكم الفرع من لوازم عدمِ

(1)

«الفصول» : (ق/8 أ).

(2)

«الفصول» : «إما بالفرق أو بتعيين» .

(3)

«الفصول» : «المدّعى انتفاء» .

(4)

«الفصول» : «وأنه» .

ص: 369

الحكم في صورة النقض، ولعمري جميع التقادير هكذا، لما بيّنا من فسادِ الملازمة.

ومثال ذلك على ما قصَدَه الجَدَليُّ: أن يكون قد قال قائل بقول إحدى الطائفتين في صورة النقض، وبقولِ الأُخرى في الفرع، مثل أحد قولَي الشافعي وأحمد، وقول كثيرٍ من أهل العلم بوجوب الزكاةِ في الحليّ، وبالوجوب في مالِ غيرِ المكلَّف. فلو قال: إن كان العدمُ ثابتًا في صورة النقض ــ وهي مال الصبي والمجنون ــ لزِمَ تحقُّق الوجوبِ في الفرع وهو الحليّ؛ لعدم القائل بالعدم في الموضعَيْن، أو الوجوب في الموضِعَين.

قيل له: قد قال بالوجوب فيهما طائفةٌ من أهل العلم في المذاهب المتبوعة في هذا الزمان وغيرها

(1)

.

وأَبْيَنُ من هذا المثال أن يُقال في مسألة وجوب القَوَد على المكره

(2)

: يجبُ القَوَد قياسًا على المختار، فقال: ينتقضُ بقتل المسلم الذمِّيَّ، وقتل الحرِّ العبدَ، فلا يمكنه أن يقول: إن كان عدمُ الوجوبِ متحقِّقًا في صورة النقض لزم الوجوب في الفرع، لعدم القائل بالفرق؛ لأنَّ الشافعيَّ في قولٍ له لا يوجب

(3)

القَوَد في الجميع، وزُفَر يوجب القَوَد في الجميع. وإنما كان هذا أَبْيَن؛ لأنَّ المسألة الأولى لم يَقُل [فيها] بالعدم في الموضعين أحدٌ في

(1)

كذا في الأصل، وعليه فيكون الضمير عائدًا على المذاهب. ولو كانت «وغيره» لكان أنسب، ويعود الضمير إلى الزمان.

(2)

انظر في مسألة القَوَد على المكره: «المهذب» : (2/ 177)، و «المبسوط»:(24/ 72).

(3)

الأصل: «يجب» ، ولعل الصواب ما أثبت بدليل ما بعده.

ص: 370

المذاهب المتبوعة، فيمكن أن يُقال: إن كان العدم ثابتًا تحقَّق الوجوب [ق 209] في الفرع، لعدم القائل بعدم الوجوب في الفرع بتقديرِ عَدَمِه في صورة النقض.

واعلم أنَّ هذا الكلام لكونه باطلًا يَسْتَثقِلُه القلبُ العاقِلُ، لكن لابدَّ من بيان مقالةِ هؤلاء فيه، وقد علمتَ أنه في الحقيقة وعند كل منصف

(1)

، فإن الواقع هو هذا القسم، فيكون النقض نقضًا صحيحًا.

قال: فالجواب عنه بالفرق، وهو جواب صحيح عند من يجوِّز تخصيصَ العلة لمانع أو مطلقًا، وأما مَن لا يرى تخصيصها فإنه لا يسمع الفرق، بل يعد المستدلَّ منقطعًا إذا توجَّه النقضُ عليه توجيهًا صحيحًا.

وعند هؤلاء إنما يُجابُ النقض بمنع ثبوتِ المشترك في صورة النقض، أو بمَنْع تخلُّف الحكم فيها فقط، فأما إذا سَلَّمَ ثبوتَ المشترك وتخلَّف الحكمُ فقد اعترف بما يُفسد العلة.

والأول هو الذي أطبق

(2)

عليه عامةُ متأخري الجدليين، وهو أشبه بمباحثات الفقهاء وأقرب إلى طريقة السلف.

وصورةُ الفرقِ: أن يبيِّن اختصاصَ صورة النقض بما

(3)

يقتضي عدم الحكم فيها من وجود مانع أو فوات شرطٍ. مثل أن يقول: الصبيُّ والمجنونُ إنما تخلَّف الوجوبُ عن مالهما لعدم التكليف الذي هو شرط وجوب

(1)

كذا في الأصل، وفي الكلام نقصٌ ظاهر!

(2)

غير بينة في الأصل، ولعلها ما أثبته.

(3)

تحتمل: «مما» .

ص: 371

العبادات، كما نبَّه عليه قوله صلى الله عليه وسلم: «رُفِعَ القَلَمُ عن ثلاثة

» الحديث

(1)

. وأنها أحد مباني الإسلام، فلم تجب إلَّا على مكلَّف كالحج. أو تكليفٌ من التكاليف، فلم يتعلَّق بغير المكلَّفين كسائر التكاليف. وحنيئذٍ فإن نازعه المستدلُّ في صحَّةِ الفَرْق، بأن يُبَيِّن أن عدم التكليف لا أثرَ له في سقوط الحقوق المالية، بدليل وجوب العشور في أرضه، والفطرة في ماله، ووجوب النفقات والغرامات في ماله، وأنَّ حقيقةَ التكليف يثبتُ في حقِّ الوليِّ، فإنه هو المخاطَب بالأداء من مال الصبيِّ، كما يُخاطَب بإخراج عُشره وصدقة فطرِه= كان هذا في الحقيقةِ من جنس الأقيِسَة المركَّبة؛ لأن المعترِض لا يقول بعدم الموجب في صورة النقض، والمستدلُّ إنما يبتغي

(2)

الوجوبَ لمأخَذٍ يُثْبِت الوجوبَ في صور النقض، كما يَثْبُت في الفرع. فقد اتفق الفريقان على عدم النقض بهذه الصور مع اختلافِ المأخَذ.

والصواب في هذه النقوض: أنها إن رجعت إلى قاعدةٍ أخرى، بحيثُ

(1)

أخرجه أحمد: (41/ 224 رقم 24694)، وأبو داود رقم (3998)، والنسائي:(6/ 156)، وابن ماجه رقم (2041)، وابن حبان «الإحسان» رقم (142)، والحاكم:(2/ 59) وغيرهم من حديث عائشة رضي الله عنها.

قال الحاكم: «حديث صحيح على شرط مسلم ولم يخرجاه» ولم يتعقبه الذهبي بشيءٍ. وصححه ابن حبان.

ولحديث عائشة شواهد من حديث علي بن أبي طالب، وأبي قتادة رضي الله عنهما.

وانظر: «نصب الراية» : (4/ 162)، و «التلخيص»:(1/ 194)، و «الإرواء»:(2/ 4 - 7 رقم 297).

(2)

الأصل: «ينبغي» ! ولعل الصواب ما أثبته.

ص: 372

تكون صور النقض توجد [ق 210] مع الوصف المشترك ومع

(1)

عدمه ــ كما ذكرناه من النقض بالصبيّ والمجنون ــ فإنها لا تُقبل، وإن قُبِلت سُمِعَ الجواب عنها بإبداء مانعٍ ولم ينازع في صحةِ المانع؛ لأن ذلك خروج من مسألةٍ إلى مسألة، وخروجٌ بالكلامِ عن المقصود إلى غيره.

ويمكنُ المستدل أن يجيبَ بالأجوبة التي تقدَّمت بأن يقول: القياسُ إنما اقتضى وجوبَ الزكاة المعهودةِ أو الشرعية، أو الزكاة الواجبة في المضروب، ونحو ذلك، كما تقدَّمَ في النقض المركب من المذهبين، ومالُ الصبيّ والمجنون عندي ليس بهذه المثابة، أو لا أُسَلِّم أن مالَ الصبيّ والمجنون بهذه المثابة، فيكون قد منع اقتضاء القياس الوجوبَ المعتبرَ في صُوَر النقض، وهذا منعٌ لتحقُّقِ الوصفِ المشترك في صورة النقض ببيان امتناع وجوده

(2)

.

وهذا جوابٌ محقَّقٌ في نفس الأمر. وإن كان النقضُ من تفاريع الجامع المشترك فله أن ينازع المستدلَّ فيه، ويكونُ حاصلُ المنازعةِ إلزامَ المستدلِّ وبيانَ مناقضاته.

وأما قوله: «أو بتغيير المدَّعَى

» إلى آخره.

فمعناه أن يُقال: المدَّعَى انتفاءُ المجموع المركَّب من عدم الوجوب في الفرع، والوجوب في صورة النقض. يقول: أدَّعِي أنه لا يجتمع هذان الأمران: عدمُ الوجوبِ هنا والوجوبُ هناك، فإنَّ انتفاء هذا الاجتماع ثابت، وإذا كان هذا الاجتماع منتفيًا ثبتَ المدَّعَى؛ لأنه إذا لم يثبت المجموع، فإن ثبتَ عدمُ الوجوب في الفرع فقد ثبتَ المدَّعى، وإن ثبتَ الوجوبُ في صُوَر

(1)

الأصل: «ومنع» تصحيف.

(2)

الأصل: «ووجوده» .

ص: 373

النقض تَمَّ الدليلُ وسَلِم عن النقض.

وإنما قلنا: إنَّ انتفاء هذا المجموع المركب ثابت؛ لأن الوجوبَ في صورة النقض إن لم يكن ثابتًا فقد انتفى أحدُ الأمرين وهو الوجوبُ هناك، فلا يكون المجموع ثابتًا، وإن كان الوجوبُ ثابتًا هناك، فقد تحقَّق الوجوبُ في الفرع؛ لأن الدليل حينئذٍ يكون قد سَلِمَ عن التخلُّف، والدليلُ السالم عن النقض مما يجبُ العملُ به.

واعلم ــ أرشدك الله ــ أن هذا الكلام أَفْسَد مما قبله وأقبح من وجوه:

أحدُها: أن تغيير الدَّعوى لا يُسمع؛ لأنه إذا ادَّعى الوجوبَ في الفرع بدليلً ذكره، فقد لزمه تصحيحُ دعواه، فإذا انتقل بعد ذلك إلى دعوى مغايرةٍ لها لم يُقْبل؛ لأن الانتقال إلى دليلٍ آخرَ لا يُقْبَل، فالانتقال إلى دعوى أُخرى أولى أن لا يقبل.

ولو قال: هذه الدَّعوى [ق 211] الثانية تُصَحِّح الدعوى الأولى.

قيل له: إن بَقِيت الدعوى الأُولى على حالها لَزِم النقض المذكور، وإن غُيِّرت عن حالها فهو انتقال.

وتحرير ذلك: أنَّ الدعوى الثانية إما أن تكون هي الأُولى في المعنى أو لا تكون، فإن كانت هي الأُولى فقد وردَ عليها ما ورد على الأُولى، سواءٌ تبدَّلَ اللفظُ أو لم يتبدَّل، وإن لم تكن هي الأولى؛ فإما أن يدَّعي الأُولى مع ادعاءِ الثانية، فالنقضُ وارد على الدعوى الأُولى، فيفسد الدليل، وإن كان لا يفسد على تقدير الثانية؛ لأن المعترض إنما يقدح في الأُولى، وإن رجَعْتَ عن الأولى، فقد حصل المقصود وانقطعْتَ عن إقامة الدّلالةِ عليها، فلا

ص: 374

ينفعك بعد هذا صحةُ دعوى أخرى.

الثاني: أن يقال: ما

(1)

تَعْني بانتفاء المجموع المركَّب مِن العدم هنا والوجوب هناك؛ تعني به انتفاءَ كلٍّ منها، أو انتفاء

(2)

المركب فقط؟ فإن

(3)

عَنَيت انتفاء العدم هنا وانتفاء الوجوب هنا، فهذا أوَّل الدَّعوى ورأس المسألة وترجمة المذهب، فما الدليل عليه؟ وقد ذكرتَ دليلًا يقتضي انتفاءَ العدم وثبوتَ الوجوب فيهما جميعًا، فكيف الجمع بين دعواك ودليلِك الذي يُناقِضها؟! ثم كلامك المذكور يقتضي ثبوتَ أحدِهما، فكيف يجوز ادعاء انتفائهما؟!

وإن عَنَيْت انتفاء المركَّب، فالمركَّب ينتفي تارةً لانتفاء أحدِ مفردَيْه، إما هذا وإما هذا، وتارةً لانتفاء كلِّ واحدٍ من المفردَيْن، فإن ادَّعيت انتفاءَه لانتفاء

(4)

كلِّ واحدٍ من مفردَيه، فهي الدَّعوى الأولى بعينها.

وإن عَنَى به انتفاء المركَّب لانتفاءِ أحدِ مفردَيْه، وهو الذي دلَّ عليه كلامُه.

فيقال له: إمَّا أن تدَّعي انتفاءَ أحدهما وثبوت

(5)

الآخر، أو انتفاءَ أحدهما مع قطع النظر عن الآخر.

(1)

غير بينة في الأصل.

(2)

الأصل: «انفراد» تحريف، ويأتي على الصواب بداية الفقرة التالية.

(3)

الأصل: «وإن» .

(4)

الأصل: «لا ينفي» والصواب ما أثبت.

(5)

رسمها في الأصل: «وتقرب» ولعل الصواب ما أثبت.

ص: 375

فإن عنيتَ انتفاءَ أحدهما وثبوت الآخر، فقد ادَّعَيت انتفاءَ العدمِ في الفرع، وذلك بتحقُّق الوجوبِ فيه وثبوت الوجوب في صورة النقض، وثبوت العدِم في الفرع.

وأيُّما كان فقد ادَّعَيْت ما يخالف دعواك الأولى، ويُناقضُ مذهبَك؛ لأنك ادَّعَيتَ خلافَ مذهبِكَ، إما في الفرع أو في النقض، وهذا اعترافٌ بالعجز عن نصر المذهب.

وإن ادَّعيتَ انتفاءَ أحدهما مع قطع النظر عن الآخر، قيل لك: إذا انتفى أحدُهما [ق 212] فإما أن ينتفي الآخرُ معه أو لا ينتفي؛ لأن الحالَ في نفسِ الأمر لا يخلو عن الأمرين، فإن انتفى أحدُهما مع انتفاءِ الآخر فهو المدَّعى أوّل المسألة، لأن انتفاء العدم في الفرع، وانتفاء الوجوب في النقض هو الحُكْم بالوجوبِ في صورةِ النزاع، وبالنفي في صورة النقض.

وإن انتفى أحدُهما مع ثبوتِ الآخر فهو نقيض المدَّعَى؛ لأنه يستلزمُ حينئذٍ خلاف قوله، إما في الفرع أو في النقض

(1)

، فَعُلِمَ بهذا التقسيم الحاصِر

(2)

أنه لا يمكنه أن يدَّعي إلا ما هو مذهبه من الوجوبِ في الفرع وعدمِ الوجوبِ في النقضِ، فيلزمُه النقضُ المتقدِّم، أو ما يخالف مذهبَه في أحدهما، فيبطل كلامه، ويتبيَّن أن جوابه بتغير المدَّعى إنَّما غيَّر لفظه لا معناه، وأَوْهَمَ بمجيئه بألفاظٍ مشتركةٍ أنه خلصَ من النقض المنقضّ على العبارة الأولى، وهيهات تبدُّل الحقائق بتغيير العبارات!!

(1)

غير محررة في الأصل، ولعلها ما أثبت.

(2)

الأصل بالضاد المعجمة، تصحيف.

ص: 376

الوجه الثالث: أن يقال: ادَّعيتَ انتفاء المجموع المركَّب من العدم هنا، والوجوب ثَمَّةَ.

فيقال: لا نُسَلِّم انتفاءَ المجموع، بل يجوز أن يكون المجموع المركَّب ثابتًا، وهو العدم في الفرع والوجوبُ هناك، وعلى هذا التقدير فالوجوب في الفرع باطل، ولا يضر تَسْليم انتقاضِ الدليل على تقدير عدم الحكمِ في الفرع؛ لأنه تسليمٌ لقياسٍ لا دلالة له، وأنتَ لم تذكر دليلًا على ثبوتِ أحدِ الأمرَين كما سنُبَيِّنه.

الوجه الرابع: أن يُقال: لا نُسَلِّم انتفاءَ المركَّب [و] قوله: «الوجوب هناك لا يخلو إما أن يكون ثابتًا أو لا يكون، فإن لم يكن فظاهر» .

قلنا: لا نُسَلِّم ظهورَه؛ وذلك لأنك ادَّعيتَ انتفاء المركَّب، فإن عنيتَ به انتفاءَ مفردَيْه، أو انتفاءَ أحدهما مع كون الآخر في نفس الأمر منتفيًا، فقد ادَّعيتَ الوجوبَ في الفرع وعدمَه في النقض أو الوجوبَ في الفرع

(1)

. وأيُّما كان فهو الدَّعوى الأُولى بعينها، فأين التغيير المدَّعَى؟!

ثم يلزمُك على معنى هذه الدعوى ما لزمَك على الأولى من النقض المنقض.

وإن عنيتَ به انتفاءَ أحدِ مفردَيْه وثبوتَ الآخر، أو انتفاء أحدِهما مع أنَّ الآخر في نفس الأمر ثابت، فإذا لم يكن الوجوبُ في النقض ثابتًا لزم أن يكون عدمُ الوجوبِ في الفرع متحقِّقًا ثابتًا، وحينئذٍ كيف يكون قولُك ظاهرًا

(2)

مع تضمُّنِه نقيضَ الحكم [ق 213] الذي ادَّعَيْتَه في صورة النزاع؟!

(1)

كذا في الأصل، ولعلّ في الكلام نقصًا.

(2)

الأصل: «ظاهر» .

ص: 377

وحاصله: أنك بَيْن أمرين على هذا التقدير، إما أن تبطلَ قولك بتغيير الدَّعوى، وتقرَّ بأنَّ هذه الدعوى هي الأولى، فيبطل الكلام، أو تعترفَ بخلاف قولك وترجع عن قولك. ومتى بطل قولك على هذا التقدير بطل قولك؛ لأنه لا يتم حتى يَبِيْن حصولُ الغرضِ على كلِّ واحدٍ من التقدِيْرَين، فإنه إذا لم يتم على أحدهما مع جواز أن يكون هو الواقع لم يعلم صحة المدَّعَى، فأيُّ ظهورٍ في هذا؟!

الوجه الخامس: قوله: «وإن كان الوجوبُ ثابتًا في صورة النقض فكذلك» أي: هو ظاهر لتحقُّق الوجوب في الفرع، لسلامة الدليل عن التخلُّف.

قلنا: إذا كان الوجوبُ ثابتًا في صورة النقض؛ فقد بطل قولُكَ في صورة النقض؛ لأنك تعتقدُ عدم الوجوب فيها، فإذا لم يتم حكم الفرع إلا بتقدير الوجوب فيها، لم يتم حكم الفرع إلا بالرجوع عن المذهب في صورة النقض، وهذا من أكبر الانقطاع، وهو مطلوب الخصم، أن يبيِّن أنَّ صحَّةَ هذا القول لا يتم إلا بفساد قولٍ آخر.

وإن قال: أنا ردَدْتُ الكلامَ فلا يضرني لزوم المحذور على أحدِ التقديْرَين، بجواز أن يكون الواقع هو التقدير الآخر.

قيل له: قد بيَّنا أن المحذورَ يلزمُك على كلِّ واحدٍ من التقديرَين، وأيضًا: فقد بيَّنًّا أنَّ غرضك لا يحصُل على واحدٍ من التقديرين؛ لأن الغرضَ إنما يتمُّ بثبوتِ الوجوب في الفرع وعدمِه في الأصل، وهذا المجموعُ لا يحصُل على التقدير الأوَّل، ولا على التقدير الثاني، فبطل كلامُك من كلِّ وَجْه.

ص: 378

الوجه السادس: أنتَ ادَّعيتَ انتفاءَ المركَّب من العدم هنا، والوجوب هناك، وذلك دعوى ثبوت أحدهما، أو دعوى نفيهما، وغرضُك لا يحصل إلَّا بثبوتهما؛ لأنه إن ثبتَ الوجوبُ هنا دون العدم هنا

(1)

، أو بالعكس لم يتمَّ الكلامُ، وإذا كان الغرضُ إنما يحصل بثبوتهما، فأنت لم تذكر على ذلك دليلًا، بل القياسُ الذي ذكرتَه ينفي ثبوتَ العدم والوجوب.

وتلخيصُه أن يقال: هب أنَّ سلَّمنا أن المركَّب من العدم هنا والوجوب هناك منتَفٍ، ولكن إذا لم ينتفِ

(2)

مع وجود أحد مفردَيْه، وهو إما العدم هنا أو الوجوب هناك بطلت الدَّعْوى أو دليلها، فلا بدَّ من نفي مفردَيْه، وأنتَ على [ق 214] أحد التقديرين نفيتَ أحدَ المفردَين وأثبتَّ الآخر، وعلى التقدير الآخر عكست.

فحاصِلُه: أنك لما نفيتَ الوجوبَ هناك، فقد نفيتَ أحدَ الأمرين، ولمَّا أثبتَّه هنا، فقد أثبتَّ الآخر، وإن شئت أن تقول: سلَّمنا أنه لا يجتمع المركَّب من الأمرَين.

الوجه السابع: أن يُعارَض بمثله، بأن يُقال: أحدُ الأمرين لازم، وهو إما العدم هنا، أو الوجوب هناك، وإنما كان يلزم تعيين المدَّعَى؛ لأنه إن كان القياس صحيحًا لزم الوجوبُ هناك، فينتقضُ القياس، وإن كان فاسدًا لَزِم العدمُ في الفرع بالأصل النافي

(3)

السالم عن معارضة القياس الصحيح، ولا ريبَ أنَّ هذا الكلام أَوْجَه من كلامه.

(1)

كذا في الأصل، ولعله:«هناك» .

(2)

الأصل: «إذا لا ينتفي» ، ولعل الصواب ما أثبت.

(3)

الأصل: «الثاني» وسبق نحو هذا التصحيف.

ص: 379

الوجه الثامن: أن يُقَابَل بمثِله، فيقال: المدَّعَى انتفاءُ المجموع المركَّب من الوجوب في الفرع، وعدم الوجوب في صورة النقض، وإذا انتفى المجموع المركَّب من هذين بَطَلَ الدليلُ على ما لا يخفى؛ لأنه إن انتفى المجموعُ لانتفاءِ الوجوب في الفرع، فهو بُطلان المدَّعَى، وإن انتفى لانتفاء عدم الوجوبِ في النقض، فقد لزم الوجوب في النقض، فيتوجَّه النقضُ، فيبطل الدليلُ، فيبطل المدَّعَى.

وإنما قلنا: إن المجموعَ منتفٍ؛ لأنه إن ثبتَ عدمُ الوجوب هناك فقد تَمَّ النقضُ وتوجَّه، ويلزمُ من انتقاضِه بطلانُ الدليل، فيبطل المدَّعَى، وهو الوجوب في الفرع، فينتفي أحدُ الأمرين، فلا يكون المركَّب ثابتًا، وإن لم يثبت عدم الوجوب هناك فقد انتفى الآخر، وهو عدم الوجوب، وهو أحد الأمرين.

وإن شئتَ أن تقول: الوجوبُ في الفرع وعدمُه في النقض لا يجتمعان

إلى آخره.

وإن شئتَ: الوجوبُ هنا وعدَمُه هناك متنافيان .. إلى آخره. وبكلِّ حال؛ فيبطل المدَّعَى، ومعلومٌ أن هذه المعارضة أحسنُ وأَجْوَد.

ص: 380