الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
وأما إذا لزم الثاني وهو عدم الإضافة إلى المشترك فظاهرٌ أنه يلزم عدم الإضافة إلى المشترك.
فيقال: هنا
مناقشة جدلية
ومناظرة علمية:
أما المناقشة فإن الرجل إنما يقول: أحد الأمرين لازمٌ، إذا كان الدليل إنما يدلُّ على أحدهما، فأما إذا دلَّ على كلٍّ منهما دليلٌ مستقل فالواجب أن يقال: كلا الأمرين لازمٌ.
وأيضًا فإن ما ذكره ثانيًا من الدلالة على الإضافة إلى المختصّ وعدم الإضافة إلى المشترك كلاهما يدلُّ على المقصود به دون توسُّط المقدمة الأولى، فتكون ضائعة، لأنه أدخل في الدليل ما ليس منه.
وأيضًا فإنه لو عارض بما يدلُّ على الإضافة إلى المختص وبما ينفي الإضافة إلى المشترك كانتا معارضتين مستقلتين، فلا تُجعَل معارضة واحدة.
وأيضًا فإنه لو عارض بما يدلُّ على الإضافة إلى المختص وحده كان كافيًا، لأن ما ينفي الإضافة إلى المشترك قد تقدم.
واعلم أن مقصود هؤلاء بإبهام الدعاوي وتغيير عباراتها أن يُظَنّ أن الدعوى الثانية غير الأولى، وأن يعجز الخصمُ عن مقابلتها بمثلها، فإذا حُقِّقَ الأمرُ عليهم انكشفَ أن الإبهام والتغيير لا يُفيد إلّا ما أفادته الدعوى الأولى المعينة.
ثمّ المصنِّف لم يذكر في مقدمته ما يُقرِّر هذه المعارضة، فبقيت [ق 94] دعوى قادحة مُقابَلة بمثلها.
وأما الكلام العلمي فمن وجوه:
أحدها: أنّا لا نُسلِّم تحقُّق واحدٍ من الأمرين.
قوله: «المناسبة تدلّ على الإضافة إلى المختص بالأصل من المعاني المناسبة» .
قلنا: لا نُسلِّم أن في الأصل معانيَ مختصّةً به مناسِبةً للحكم، ومعلوم أن ذلك ادّعاءٌ يفتقر إلى دليل. وهذا بخلاف المستدلّ، فإنه زعم أن مصالح المشترك مناسبةٌ للإيجاب، لأن الإيجاب في الجملة يُحصِّل مصالح في الأصل خاصّةً دون الفرع. فهذا لا يُعلَم بدليل إجمالي، فإن بين في الأصل معاني مختصة به فذلك كلامٌ صحيح، وهو استدلالٌ بالأدلة الفقهية، والكلام فيه.
الثاني: أنه وإن كان فيه معاني
(1)
مناسبة مختصة ففيه معاني مناسبة مشتركة، والوجوب طريقٌ صالح لتحصيل مجموع ذلك، فيضاف الحكم إلى المجموع، لا إلى أحدهما دون الآخر. وهذا الكلام يمنع القياس أيضًا، وإنما ذكرناه لبيان أن الإضافة إلى المختص وحده لا يجوز.
الثالث: أنه إذا أضيف إلى القدر المشترك فقد حصل بالوجوب المصالح المطلوبة المختصَّة والمشتركة، أما إذا أضفناه إلى المختصّ وحده لم تحصُل المصالح المطلوبة المشتركة، فتكون إضافته إلى المشترك أولى. وهذا كلامٌ جملي، وإلّا فالمرضيُّ عندنا أنه لو ثبت مناسبة الجميع لم يضفه إلى أحدهما إلّا بدليل يختصُّه، بل يضيفه إليهما. وهذا يقول به من يرى ترجيح العلة المتعدية على القاصرة، وفيه خلاف مشهور.
(1)
كذا الأصل.
الرابع: أنا نضيفه إلى المختص وإلى المشترك، لأن إضافته إلى أحدهما لا تقدح في إضافته إلى الآخر. أما إن قلنا: إن تعليل الحكم الواحد بعلتين جائز ــ كما هو قول الجمهور ــ فظاهرٌ، لأن الحكم في الأصل يكون ثابتًا لكلِّ واحدٍ من المختصّ والمشترك. وإن قلنا: إنه غير جائز، فنقول: ندّعي أنه ثبتَ في الأصل وصفانِ كلٌّ منهما لو انفرد لثبتَ به الحكم استقلالًا، ولا خلافَ في جواز مثل هذا. وهذا الكلام يقوله من لا يرى سؤال الفرق قادحًا. والمرضيُّ عندنا أنه كلامٌ غير صحيح إلّا أن يثبت كون كل واحدٍ من الوصفين علةً للحكم بنصٍّ أو تنبيه أو إجماع أو ثبوتِ [الحكم] به على انفرادِه في موضعٍ آخر، فأما بمجرّد المناسبة فلا، لأن الحكم اقترن بالوصفين، فدعوى أنه لو اقترن بأحدهما يثبت الحكم لا بدَّ له من دليل، ومجرّدُ المناسبة ليست دليلًا إلا بالاقتران، والاقتران إنما حصلَ لهما لا لأحدهما.
الخامس: [ق 95] وأما قوله: «ما تقدم من الأدلة الدالة على عدم الإضافة إلى المشترك» ، فنقول: قد بيَّنا فيما مضى أنه ليس في شيء مما ذكره السائل ما يدلُّ على عدم الإضافة إلى المشترك.
قال الجدلي
(1)
: (ولئن قال: هذا مُعارَضٌ بمثلِه
(2)
، فنقول: بعد المنع المدعى إضافة الحكم في الأصل إلى المشترك أو الحكم في الفرع، وبهذا يندفع ما ذكرتم).
أما قول السائل: «هذا مُعارَضٌ بمثله» فكلامٌ صحيح في هذا الموضع،
(1)
«الفصول» (ق 5 ب).
(2)
في الأصل: «مثله» . والتصويب من «الفصول» .
إذ يقدر أن يقول: الحكم لا يضاف إلى المشترك، أو يضاف إلى ما يُحقِّق إضافتُه إليه عدمَ الإضافة إلى المشترك.
وقد أجاب عنه بجوابين:
أحدهما: منع المعارضة بالمثل، إذ لم يكن المشترك معينًا، بأن يقول: سلَّمنا أنه لا يُضاف إلى المشترك، ولا ينافي ذلك إضافته إلى المشترك إذا كان هناك عدة مشتركات، يضاف إلى بعضها ولا يُضاف إلى بعض.
والثاني: بتغيير الدعوى.
أما الجواب الأول ففاسدٌ من وجوهٍ:
أحدها: أن قوله: «لا يضاف إلى المشترك» اسم جنس مُحَلًّى باللام يقتضي الاستغراق.
الثاني: أن جميع الكلام الذي مضى إنما هو في جميع أنواع المشترك، وإلّا لما انحصرت الصفات في المختص والمشترك.
الثالث: أنه يمكنه أن يقول: لا يضاف إلى مشترك، أو يضاف إلى ما يُحقِّقُ إضافتُه إليه عدمَ إضافته إلى مشترك، أو يقال: يضاف إلى المختص، أو إلى ما يُحقِّق إضافتُه إليه الإضافةَ إلى المختصّ.
الرابع: أن اللام للجنس أو للعهد، وعلى التقديرين فلا يصح ما ذكره.
الخامس: أن المعيَّن لا يمكن هذا المنع فيه اتفاقًا.
وأما الجواب الثاني فهو عامٌّ، وهو متعين إذا كان المشترك معيَّنًا.
فإن قيل: هذه الدعوى مغايرةٌ للأولى، لأن ما لا يكون مختصًّا بالأصل
يجوز أن يكون وجوديًّا، ويجوز أن يكون عدميًّا، بخلاف المشترك فإنه وجوديّ، فصار الأول أعمَّ من الثاني، وقد قام الدليل على كلٍّ منهما، وهو المقتضي إضافةَ الحكم في الأصل إلى المختص، وأيهما كان لزمَ عدم إضافة الحكم إلى المشترك. أما على الثاني فظاهر، وأما على الأول فإنه إذا لم يضف الحكم إلى ما ليس مختصًّا بالأصل لم يضف إلى المشترك قطعًا، لأن المشترك ليس مختصًّا بالأصل، سواء قدر عدم إضافته إلى شيء أصلًا، أو قدر إضافته
(1)
إلى شيء؛ وليس هو مضافًا إلى غير المختصّ، فإنه يكون مضافًا إلى المختصّ، فلا يكون مضافًا إلى المشترك.
قلنا: ما لا يكون [ق 96] مختصًّا بالأصل وإن جاز أن يكون عدميًّا، لكنه هنا وجوديّ، لأن الدليل على الحصر المقتضي لإضافة الحكم إلى المختص، فعُلِم أنه مدعى على التقديرين، لإضافة الحكم إلى المختص، ولأن الحكم يضاف إلى ما ثبت به قطعًا، وهو أمرٌ وجوديّ لا محالةَ، وأنه لا يجوز أن لا يكون مضافًا إلى شيء، لأنه لا بدَّ لكل حكم في نفس الأمر من موجب، وحينئذٍ فالموجب الذي لا يكون مختصًّا يكون مشتركًا.
لكن قد يتوجّه للسائل أن يمنع كون الحكم معلَّلًا أو مضافًا إلى شيء البتةَ، وعلى هذا فيكون السؤال مغايرًا للأول من بعض الوجوه، لكن ليس هذا مبنيًّا على أصول القياسيين، فإن الأحكام عندهم معلَّلةٌ في نفس الأمر، سواء علمنا العلل أو لم نعلمها، وحينئذٍ فإذا كان مضافًا إلى شيء وليس مضافًا إلى غير المختصّ لزمَ أن يكون مضافًا إلى المختص، فلا يكون بينه
(1)
الأصل: «على إضافة» .
وبين الأول [فرق]
(1)
على تقدير صحة القياس، والكلام مبنيٌّ عليه.
فإن قلت: من الأحكام ما هو بعيدٌ.
قلتُ: البعيد هو ما لم تُعلَم عِلَّتُه، فأما أن لا تكون له علةٌ في نفس الأمر فلا.
وهنا بحوثٌ كثيرة ليس هذا موضعَ ذكرها.
ولما ادَّعى السائل عدمَ الإضافة إلى المشترك أو عدمَ إضافةٍ [إلى ما] يلزم منه عدم الإضافة إلى المشترك، قابله المستدلُّ بمثل ذلك، فادَّعى الإضافةَ إلى المشترك أو إلى ما يحقق الإضافة إلى المشترك، أي ما تكون الإضافة إليه محقِّقةً للإضافة إلى المشترك، وهو ما كان ملازمًا له، بحيث يلزم من وجودِه وجودُ المشترك، أو أن يكون سببًا
(2)
للمشترك أو حكمة للمشترك أو سبب سببٍ أو حكمة حكمةٍ، فإن الإضافة إلى واحدٍ من هؤلاء لا ينافي الإضافة إلى الآخر بل يُحقِّقها، فإن السبب متضمن لحصول الحكمة بالحكم، والحكمة إنما يتحقق حصولُها بالحكم عند تحقق السبب.
وهذا كما يقال: أَكلَ لأنه جائعٌ، وأكلَ للشِّبَع، فإضافة الأكل إلى الشبع الذي هو الحكمة تُحقِّق الإضافة إلى الجوع الذي هو منشأ كون الحكم محصِّلًا للحكمة، والإضافة إلى الجوع الذي هو السبب تُحقِّق الإضافة إلى الشبع الذي هو الحكمة التي بها صار الجوعُ سببًا للأكل، كما لم يَصِرْ سببًا
(1)
الأصل: «و» !
(2)
الأصل: «سبب» .
لأكل ما لا يُشبع. والمناسبة المذكورة أولًا تدلُّ على الإضافة إلى المشترك وإلى ما يُحقِّق الإضافة إليه، فإنه وإن كان غير المشترك، لكنه لا يمنع الإضافة إليه كما تقدم.
واعلم أن ما دلَّ على ثبوت وصفٍ فقد دلَّ على ثبوت لوازمه، وما دلَّ على انتفائه فقد دلَّ على انتفاء ملزوماتِه، فإذا ادَّعى المدَّعي أن العلَّةَ في الحكم هي المشترك فقد ادَّعَى أن المشترك متى حصل حصلَ [ق 97] الحكمُ، سواء اقتضاه بنفسه أو بواسطة، وقد ادعى ثبوت لوازم المشترك المساوية وكونها من لوازم العلة وتوابعها، فإذا ادعى بعد ذلك الإضافةَ إلى تلك اللوازم كانت إضافته إلى اللازم المساوي الذي هو ملزوم إضافة إلى ملزومه المساوي، لتلازم الوصفين وتصاحبهما.
فقوله: «إن هذه الدعوى تغاير الأولى» إن قال: تغايرها في الصورة فقد صدق، لكن ليس ذلك بمغايرة. وإن زعم أنها تغايرها في الحقيقة فليس كذلك، وإذا كان كذلك فكل من عارض بدليل هو من لوازم الأول لم يكن في الحقيقة معارضًا إلا بالأول، فلا تكون المعارضة متعددة إلا في الصورة، فتكون المعارضات مجرد تكريرٍ، فلا تُقبل، لأن تعدد المعارضة إنما فائدتُها تقوية الأول بالثاني، فإذا كان الثاني قد انضم إلى الأول فليس فيه قوة زائدة على قوة الأول، وكثيرٌ من كلام هؤلاء مبني على هذا.
وتقريره أن يقال: إنا ندّعي أحد الأمرين، وهو إما إضافة الحكم إلى المشترك أو ثبوت الحكم في الفرع، وأيهما كان لزم ثبوت المدَّعى، لأنه إن حصلت إضافة الحكم إلى المشترك ثبت الحكم في الفرع، وإن ثبت الحكم في الفرع فقد ثبت المدّعى، وهذا مغايرٌ لما تقدم من الدعاوي، وكذلك إن
قال: المدّعَى إضافة الحكم إلى المشترك أو استلزام الحكم في الأصل للحكم في الفرع أو ملزوميته، أو يقول: المدَّعي الإضافة يدَّعي الإضافة إلى المشترك أو مدارية المشترك.
وهذا الجواب أيضًا باطل من وجوهٍ:
أحدها: أن يقال: هَبْ أنك ادعيتَ الإضافة إلى المشترك أو الحكم في الفرع، لكن لا دليل يدل على الحكم في الفرع بدون الإضافة إلى المشترك إلّا أن يذكر دليلًا آخر.
الثاني: أن المعترض يمكنه أن يقول: المدَّعى إضافة الحكم إلى المختص أو انتفاء الحكم في الفرع، أو المدَّعَى انتفاء الإضافة إلى المشترك أو انتفاء الحكمة في الفرع، وتقرير دعواه أسهل.
الثالث: أن يقال: هَبْ أنك تدَّعي أحد الأمرين الإضافة أو الحكم في الفرع، أو الإضافة أو التلازم، أو الإضافة أو الدوران، لكن إذا لم يكن مع الدعوى بينة، فأيّ حجة لصاحبها؟ فليس في هذا الكلام إلّا أنك حكيتَ مذهبك، فبارك الله لك فيما تعتقد، أيَّ شيء نَصنَع إذا كنت مدّعيًا لهذا؟ فإنا نسلِّم أنك تدَّعي هذا، لكن لا نُسلِّم بصحة الدعوى، ولم تَقْرِن بهذه الدعوى ما يدلُّ على صحتها، فيجب ردُّها من حيث بدأَتْ [ق 98] منكوسة على أمِّ رأسها، فإنّ ما تقدم من الكلام إن دلَّ فإنما يدلُّ على الإضافة إلى المشترك، ولم يدل على أحد الأمرين، وحينئذٍ فلا يثبت أحد الأمرين إلا بعد ثبوت الإضافة إلى المشترك، فيكون قد ادّعى الإضافة إلى المشترك عينًا أو دعوى لا دليل عليها، وعلى التقديرين لا يصحّ الجواب.
الرابع: أن دعوى أحد الأمرين إن كانت هي الدعوى الأولى أو ملزومة
للدعوى الأولى فما ينفي الأولى ويعارضها ينفيه وينفي ملزوماتِه، وإن لم تكن هي ولا ما يستلزم ثبوتها
(1)
. وأيضًا فإن من ادعى شيئًا لا يُقبل منه بعد ذلك الرجوعُ عنه ودعوى ما يستلزمه، ومتى بقي على الدعوى الأولى لزم عليها ما تقدم، وإن ادَّعى ما يغاير الأول ولا يستلزم الأول فذاك لا ينفعه، والنكتة أن الدعوى إن غُيِّرتْ لفظًا لم تَنفع، وإن غيّرت في المعنى لم تُقْبل.
الخامس: أن مقابلة الدعوى بالدعوى لا تُجدِي ولا تُفِيد، بل هو بابٌ لا يَنْسَدّ.
فإن قال الخصم: لما عارضني بدعوى عارضتُه بمثلها، ومهما عارضني بدعوى عارضتُه بمثلها، حتى أعارضه بدعوى لا يَقدِرُ على أن يعارضني بمثلها.
قيل له: بل يقدر أن يعارضك بمثلها، فإن المعارضة بالدعاوي بابٌ لا ينسدُّ، إلّا أن يُغلق. وليس أحدٌ من العقلاء مؤمنهم وكافرهم يحتاج أن يعارض الدعوى بالدعوى على سبيل المحاجة والمناظرة، ثم إن كان هو المبتدئ بالمعارضة فيكفيك أن تقابله بدعوى مقابلةً للفاسد بالفاسد إن كنت ترضى بسلوك هذا الطريق الحائد، ولا تزالان هكذا إلى أن تقوم القيامة أو أن يعجز أحدكما عن أن يتم كلامه، فإذا قال لك: هذا مُعارَضٌ بمثله، قُلْ له: وهذا معارَضٌ بمثله.
السادس: أنه يمكنه أن يقول: لا يتحقق أحدهما أصلًا، لأنه لو تحقق أحدهما للزم إضافة الحكم إلى المشترك، فإن اشتراك الأصل والفرع في
(1)
كأن في الجملة نقصًا.
الحكم يُوجِب اشتراكهما في الموجب وإضافته إليه، ولا يتحقق الإضافة إلى المشترك لما تقدم. وهذا سؤال المعترض كما سيأتي.
قال صاحب الجدل الباطل
(1)
: (ولئن قال: لا يتحقق أحدهما أصلًا، وإلا لتحقق إضافة الحكم في الأصل
(2)
إلى المشترك، ولا يكون مضافًا إلى المشترك
(3)
لما بيناه، ولأنه لو كان مضافًا إلى المشترك لكان المشترك علة، والمانع عن
(4)
الحكم متحقق في الفرع، فيتحقق التعارض بينهما، وأنه على خلاف الأصل على ما عُرِف).
حاصل هذا السؤال أنه يقول: لا يتحقق أحد الأمرين، لأنه لو تحقق أحدهما لتحققت الإضافة [ق 99] إلى المشترك، لأن اللازم منهما لا يخلو إما أن يكون هو الإضافة أو ما قُرِن به من الحكم في الفرع ونحوه، فإن كان الأول فظاهر، وإن كان الثاني فالحكم إذا ثبت في الفرع يلزم الإضافة إلى المشترك لوجوهٍ:
أحدها: مناسبة المشترك السالمة عن معارضة تخلف الحكم في الفرع.
الثاني: أن الاتفاق في الحكم دليلُ الاتفاق في المصلحة، إذ [لو] لم يكن كذلك للزمَ إما إلغاء المصلحة الزائدة أو عدم الحكم عند عدمها، وكلاهما ممتنع.
(1)
«الفصول» (ق 5 ب).
(2)
«في الأصل» ساقطة من «الفصول» .
(3)
«إلى المشترك» ساقطة من «الفصول» .
(4)
في «الفصول» : «من» .
الثالث: إذا ثبت الحكم في الفرع فالمشترك بينه وبين الأصل إن لم يكن هو العلة، فالعلةُ: إما ما يختصّ به الفرع، وهو خلاف الإجماع، ولأنه لو كانت العلة ما يختص به الفرع لم تكن إضافة
(1)
الحكم إليها أصلًا يشهد له بالاعتبار؛ وإما ما يختصُّ به الأصل، ولو [كان] ذلك لامتنع إلحاق الفرع به، فلا بدَّ أن يكون المشترك علة على هذا التقدير، وكذلك على تقدير مدارية المشترك، أو على تقدير ملزومية الحكم في الأصل الحكمَ في الفرع، فإنه لا بدّ أن تتحقق الإضافة إلى المشترك على هذه التقادير لما تقدم، أو لا تتحقق الإضافة إلى المشترك إليه لما مرّ، فلا يتحقق أحدهما، إذ المراد به ما يناقض شمولَ العدم لهما في الدلالة على عدم الإضافة، وأنه لو أضيف الحكم إلى المشترك لكان مقتضيًا للحكم المتنازع فيه، فيلزم أن يعارضه المانع من الحكم المتنازع فيه، والتعارض على خلاف الأصل، فلا يكون المقتضي موجودًا، فلا يكون مضافًا إلى المشترك.
واعلم أنه يمكن إقامة الدلالة على عدم الإضافة إلى المشترك من وجوهٍ متعددة من هذا الجنس الذي أثبت به المستدل الإضافة إلى المشترك، لأن عدم الإضافة إلى المشترك من لوازم عدم كون الحكم في الأصل مضافًا إلى شيء، بأن يكون تعبديًّا ونحوه، [و] من لوازم عدم الحكم بما الحكم مضاف إليه في نفس الأمر، ومن لوازم عدم الحكم إلى ما يختص بالأصل، ومن لوازم الإضافة إلى غير المشترك، ومن لوازم علة اختصاص الحكم بالأصل، ومن لوازم رجحان العلة في الأصل على الفرع، ومن لوازم اختصاص الفرع بمانع يمنع الحكم، إلى غير ذلك من الأمور التي يستلزم
(1)
الأصل: «الإضافة» .
كلٌّ منها عدمَ الإضافة إلى المشترك.
فيمكن المعترضَ أن يدَّعيَ واحدًا منهما أو أحد أمرين منهما أيهما شاء أو واحدًا منهما على تقدير عدم الآخر، بأن يدعي الأول على تقدير عدم الثاني أو تقدير عدم الثالث، وكذلك أنها عينه على تقدير أنها عين عدمه غير الأول، أو يدّعي أحدهما أولًا على تقدير عدم أحدهما. [ق 100] وكذلك يدّعي أحدهما ثانيًا على تقدير عدم أحدهما بعدد تلك
(1)
الأمور التي تستلزم عدم الإضافة، وقد عددنا منها سبعة، فإن شاء ذكرها أو ذكر أربعة منها أو أقل أو أكثر، أو يدّعي أحدهما أولًا على تقدير عدم أحدهما ثانيًا، وبالعكس. وكذلك يدَّعي أحدهما ثانيًا وما بعده من المرات.
وذلك لأن هذه الأمور المستلزمة للعدم يثبت بالمدَّعَى بكل واحد منها على التعيين، وبكل واحدٍ منها على الإبهام، وبالمبهم في اثنين أو ثلاثة أو نحو ذلك منها، وبأحدها على تقدير عدم الآخر معينًا ومبهمًا، وبأحدهما أولًا على تقدير عدمه ثانيًا، لأنه يمكنه أن يعدّد المعارضات بعددها، فإذا ثبت الحكم به في مرة من المرات ثبت المدَّعى.
وإذا تبيَّن لك ذلك علمتَ أن جنس ما ينفي الإضافة إلى الأمر المشترك من هذه الأمور العامة أكثر من جنس ما يثبت الإضافة إليه، فيكون جانب المعترض هو الراجح في هذه الطريقة. وهذا كما ذكرناه في التلازم أن ما ينفيه من هذا الجنس أكثر مما يثبته، وهذا من رحمة الله سبحانه، فإنه لم يكن دليل مغلطي مموّه إلّا نصبَ الله من جنسه ما ينفي مقتضاه غير منع مقدماته، فيفيد ذلك مقابلة المستدل به بمثل دليله، فينقطع، ويعلم أن الشيء الواحد
(1)
الأصل: «بعد ذلك» .
إذا دلَّ على نوعه على النقيضين كان نوعُه باطلًا. وهذا مما يُبيِّن فسادَ جميع ما يُستدلُّ به من هذا الجنس من الحجج المموّهة، فلما كان الأمر كذلك احتالوا لإتمام كلام المستدل بما سيأتي ذكره وبيانُ فسادِه وعدمِ تمامِه.
واعلم أن هذا السؤال المذكور في الجواب فاسدٌ عند التحقيق لوجوهٍ، وذلك أن مبناه على أن يقال: لا يتحقق أحدهما، وهو إضافة الحكم إلى المشترك أو الحكم في الفرع، لأنه لو تحقق أحدهما لتحقق إضافة الحكم في الأصل إلى المشترك، لأنه إن كان الثابت إضافة الحكم إلى المشترك فقد لزم إضافة الحكم في الأصل إليه، وإن كان الثابت هو الحكم في الفرع فثبوته في الفرع إنما هو لأجل القدر المشترك، إذ ليس في الفرع ما يوجب اختصاصَه به بالإجماع. ولأن الأصل عدم علة زائدة، ولأنه إذا ثبت في الفرع لزم إضافته إلى المشترك بنفس الدليل الذي دلَّ على أنه ثبت في الأصل، ثبت لأجل القدر المشترك أولى، لأن عامة الأسولة مندفعة عنده. وإذا كان للمشترك فقد لزمت إضافة الحكم إلى المشترك، وهو المدَّعى.
ثم قال: واللازم منتفٍ، وهو إضافته إلى المشترك، لما بيّنا. قال:«ولأنه لو كان مضافًا إلى المشترك [ق 101] لكان المشترك علة، والمانع عن الحكم متحقق في الفرع، فيتحقق التعارض بينهما، وأنه على خلاف الأصل على ما عُرِفَ» ، لأن علة الحكم ما أضيف الحكم إليه، وذلك يوجب ثبوته في الفرع، وفي الفرع ما يمنع ثبوته، فيتعارض المقتضي والمانع، وتعارضُ الأدلة على خلاف الأصل، لاستلزامِه تركَ العمل بأحد الدليلين. وذلك فاسدٌ من وجوه:
أحدها: قوله: «وإلا لتحقق إضافة الحكم في الأصل إلى المشترك، ولا
يكون مضافًا إلى المشترك لما بينا». قلنا: الذي ذكرتَه مما ينفي الإضافة إلى المشترك قد تقدم الجواب عنه بما دلَّ على نقيضه، وبالجواب عنه فلم يبقَ ذلك دليلًا يدل على عدم الإضافة إلى المشترك، حتى يُستدلَّ بها هنا على عدم الإضافة.
الثاني: قوله: «والمانع عن الحكم متحقق في الفرع، فيلزم التعارض» ، قلنا: أيُّ مانعٍ في الفرع؟ فإنك لم تُبْدِ مانعًا في الفرع، لا في أول كلامك ولا في آخره، فلا يُسلَّم وجودُ مانع في الفرع، فعليك بيانه.
فإن قيل: الحكم المتنازع فيه من الأحكام الشرعية لا بدَّ أن يتحقق فيه المقتضي والمانع، إذ المجتهد لا يقول بأحد الحكمين إلا بدليل عنده.
قلنا أولًا: هذا إن صحَّ فهو يوجب وقوعَ التعارض، فلا يُقبل ما ينفي وقوعَه. وإن لم يصحّ فقد بطل الاستدلال على المانع.
وثانيًا: إن الاختلاف يدلُّ على وجود حجة في الجملة، سواء كانت صحيحة أو فاسدة، لكن لا يلزم منه وقوع مانعٍ صحيح. وإذا لم يدلّ على وقوع مانعٍ صحيح فالتعارض بين الصحيح والفاسد ليس على خلاف الأصل.
الرابع
(1)
: أنَّا قدَّمنا ما يدلُّ على ثبوت الحكم في الفرع، وذلك يدل على عدم المانع، لأنه لو كان موجودًا لزم التعارض بينه وبين ما ذكرناه، وذلك على خلاف الأصل.
الخامس: أن يُعارَض هذا الكلام بمثله، فيقال: لو لم يتحقق أحدهما لزم
(1)
كذا في الأصل، وقد سبق قبله وجهان فقط.
إضافة الحكم إلى المختص، وذلك يوجب امتناعَ الإضافةِ إلى المشترك وعدمَ الحكم في الفرع، وهو باطلٌ لما بيّناه، ولأنه لا مانع في الفرع، لأنه لو كان فيه مانع لزم المعارضة بينه وبين المقتضي الذي ذكرناه، والمعارضة على خلاف الأصل.
قال الجدلي
(1)
: (فنقول: لا نُسلِّم بأنه لو تحقق أحدهما لكانت الإضافة متحققةً، بل لا يكون كذلك لما ذكرتم من الدلائل. ولئن منع فذلك مدفوعٌ بالضم، بأن نقول: المدَّعَى أحد الأمرين ابتداءً منضمًّا إلى ما ذكرتم من الدلائل، أو نقول: المدَّعَى أحدهما على تقدير عدم أحدهما).
اعلم أنّ حاصلَ هذا الكلام أن المستدلَّ مَنَعَ إضافةَ الحكم إلى المشترك على [ق 102] تقدير أحدهما، أي على تقدير الإضافة إلى المشترك، وعلى تقدير الحكم في الفرع، بأن قال: لا أسلّم أنه لو تحقق أحدهما لكانت الإضافة إلى المشترك متحققة، بل لا تكون متحققة لما ذكرتم من الدلائل الدالة على عدمها.
فمنعه المعترض دلالةَ الأدلة على تقدير أحدهما، وهو منع ظاهر، فإنه إذا تحقق أحدهما تحققت الإضافة إلى المشترك لما مرّ، فلا تكون الإضافة منتفية بالأدلة النافية على تقدير ثبوتها.
فقال المستدل: هذا مدفوعٌ بالضم، أي بضم الدلائل الدالة على عدم الإضافة إلى المنع والدعوى، وذلك أن يقول المستدل: المدعَى ابتداءً أحدُ الأمرين: إما إضافة الحكم في الأصل إلى المشترك، أو الحكم في الفرع
(1)
«الفصول» (ق 5 ب).
منضمًّا إلى تلك الدلائل الدالَّة على عدم الإضافة إلى المشترك، فإذا ادَّعَى ذلك احتاج السائلُ أن يمنعه مع ذلك القيد، بل يقول: لا يتحقق أحدهما، فإنه لو تحقَّق أحدُهما منضمًّا إلى ما ذكرنا من الدلائل لتحققت الإضافة إلى المشترك، وإذا قال ذلك قيل له: لو تحقق أحدهما مع الدلائل النافية للإضافة إلى المشترك، لم تتحقق الإضافة إلى المشترك، لأن ذلك التقدير المضموم ينفي الإضافة إليه.
وكذلك لو قال: لا يتحقق أحدهما مع الدلائل المضمومة، لأنه لو تحقق معها لتحققت الإضافة.
قيل له: لا يتحقق على ذلك التقدير. ولا يمكنه أن يقول أن يمنع
(1)
عدم تحقق الإضافة على ذلك التقدير، فهذا مما يقوله المموهون في دفع المنع على التقدير كما تقدم.
وقد أجاب المستدل بجواب ثان، وهو أن يقال: المدعى أحدهما على تقدير عدم أحدهما، أي المدعى الإضافة إلى المشترك أو الحكم في الفرع بتقدير عدم أحدهما، وحينئذ فتقدير دلالة الدلائل الدالة على نفي إضافة الحكم إلى المشترك إما أن يكون واقعًا أو لا يكون، فإن كان واقعًا لم تكن الإضافة إلى المشترك واقعة، فيكون المدعى الحكم في الفرع على هذا التقدير، وإن لم يكن واقعًا لزم عدم ما ينفي الإضافة إلى المشترك، وحينئذ فالمدَّعَى الإضافة إلى المشترك على تقدير عدم النافي لهذه الإضافة قد ادعى كل منهما على تقدير عدم الآخر، فلا يضر منع دلالة الدلائل على عدم
(1)
كذا الأصل. ولعل «أن يقول» زائدة.
الإضافة إلى المشترك على تقدير أحدهما، لأنه إنما ادَّعاها على تقدير عدم أحدهما.
ولا يُمكِن المعترضَ أن يقول: لو تحقق أحدهما لكانت الإضافة متحققة كما تقدم، لأن المستدل يقول: لو تحققت الإضافة لتحققت بدون الحكم في الفرع، والمجموع غير واقع، لما مرَّ من الدلائل الدالة على الحكم وعدم الإضافة. وإذا تحقق أحدهما على تقدير عدم أحدهما تحقق في الواقع، لأن عدم أحدهما إن كان واقعًا في الواقع تحقق أحدهما، وإن لم يكن واقعًا تحقق نقيضُه، وهو وجود أحدهما. ولأنه إذا [ق 103] تحقق أحدهما على تقدير عدم أحدهما تحقق افتراقهما أعني تنافيهما على ذلك التقدير، فذلك إن كان واقعًا في الواقع لزم وجود أحدهما ضرورة، وإن لم يكن الاقتران واقعًا لزم انتفاء التقدير، فيلزم انتفاء أحدهما على التقدير.
وقد يدعي أحدهما في الواقع من غير ضمّ، لكن إذا لم يكن التقدير واقعًا عنده بأن يقول: ما ذكره من الدلائل الدالة الواقعة في الواقع إما أن تكون واقعةً أو لا تكون، فإن كانت واقعةً لم يصحَّ منعُها، وإن لم تكن واقعةً في التقدير وهي واقعة في الواقع فالتقدير غير واقع، لاستلزامه رفعَ الواقع في الواقع.
أو يقال: الواقعُ في الواقع واقعٌ على التقدير الممكن في الواقع، وإلا لم يكن التقدير الممكن في الواقع
(1)
ممكنًا في الواقع، وهو محال. وقد تقدم الكلام فيما يُشبه هذا، وسيأتي إن شاء الله.
(1)
تكررت في الأصل عبارة: «التقدير الممكن في الواقع» .
واعلم أن هذا الكلام فاسدٌ أشدُّ فسادًا مما قبله من وجوه:
أحدها: أنه منع ما لا يقبل المنع، وهو قوله:«لا نسلِّم أنه لو تحقق أحدهما لكانت الإضافة متحققة» فإنا قد بيّنا في تقرير السؤال أنه متى لزم إضافة الحكم إلى المشترك أو الحكم في الفرع قد تحقق الإضافة إلى المشترك، لأنه إذا ثبت الحكم في الفرع فالمقتضي له إمّا المشترك أو غيره، أو لا هو ولا غيره، والقسمان الثانيان باطلان بالإجماع وبالنافي وبالأدلة المتقدمة وبالمناسبة وبالدوران، فتعين الأول.
الثاني: أنه منعُ الشيء بعد تسليمه، وذلك غير مقبول، بل هو انقطاع، لأنه قد تقدم قوله: الحكم يضاف إلى المشترك أو إلى ما يحقق الإضافة إلى المشترك، ثم قال: وإنما ندعي لزوم الإضافة إلى المشترك أو لزوم الحكم في الفرع، فلا بدَّ أن يكون الحكم في الفرع يُحقق الإضافة إلى المشترك لئلا يتناقضَ الدعويانِ، فإذا قال بعد هذا: لا نسلّم لزومَ الإضافة إلى المشترك كان منعًا لما ادعاه وسَلَّمه، وهو ثبوت الإضافة إلى المشترك أو ما يُحقّق الإضافةَ إليه، وهو ثبوتُ الحكم في الفرع الذي يُحقّق الإضافة إلى المشترك.
الثالث: أنه لو لم تكن الإضافة محققةً لبطل أصلُ دليله، لأن مَبناه على إضافة الحكم إلى المشترك، فإذا منعه على تقدير صحة دعواه فقد لزم بطلان إضافة الحكم إلى المشترك، أو بطلان تحقق أحد الشيئين: الإضافة أو الحكم في الفرع. وإنما ذلك يُبطِلُ
(1)
دليله، وبيان ذلك أنه لا يخلو إما أن يتحقق أحدهما أو لا يتحقق، فإن تحقق أحدهما فإما أن تتحقق الإضافة أو لا تتحقق، [ق 104] فإن تحققتْ بطل هذا المنعُ، وإن لم تتحقق فالإضافة غير
(1)
الأصل: «بطل» .
متحققة، فلا يصح الدليل، وإن لم يتحقق أحدهما فالمنتفي إما ثبوت الحكم في الفرع، وهو المدعى، فيلزم امتناع ثبوت المدعى، وإما الإضافة، فيبطل الدليل، فكيف يصح الجواب عن نقض معارضات الدليل بإبطال نفس الدليل؟ فعُلِمَ أن هذا المنع موجبٌ لبطلان الدليل، وهو قاطع.
الرابع: قوله: «بل لا تكون محققة لما ذكرتم من الدليل» ، والخصم لم يذكر دليلًا كما بيّناه.
الخامس: أن الدليل الذي ذكره يمنع إضافةَ الحكمِ إلى المشترك، فإن صحَّ هذا الدليلُ بطلَ أصلُ دليل المستدل، وإن لم يصحَّ بطلَ قوله:«بل لا يكون كذلك» ، أعني قوله: لا تكون الإضافة متحققة. وإذا بطل كون الإضافة [غير] متحققةً ثبت كون الإضافة متحققة، فعلم أن قوله: لا تكون الإضافة متحققة، على هذا التقدير كلام باطل.
السادس: أن تحقق أحدهما إما أن يكون مع جملة الأمور الواقعة واقعًا أو غير واقع، فإن كان واقعًا فمن جملة الأمور الواقعة تحققُ الإضافة لما مرّ، وإن كان غير واقع في جملة الأمور الواقعة فقد امتنع إما إضافة الحكم إلى المشترك أو الحكم في الفرع، وإذا بطلَ أحدُهما بطلَ دليلُه أو مذهبُه.
السابع: قوله: «ولئن منعَ فذلك مدفوعٌ بالضمّ، بأن نقول: المدعَى أحد الأمرين ابتداءً منضمًّا إلى ما ذكره من الدلائل» معناه: ولئن منعَ المعترضُ كون ما ذكر من الدلائل دالًّا على عدم الإضافة، على تقدير تحقق أحدهما، وهو الإضافة إلى المشترك أو
(1)
الحكم في الفرع، وهذا المنع قد تقدمَ
(1)
الأصل: «و» .
نظيرُه في التلازم وغيره، فإنه يقول: لا أُسلِّم أن ما ذكرت من الدلائل دالٌّ
(1)
على عدم الإضافة على التقدير الذي ادعاه المستدل: تقدير [تحقُّق] أحدهما. وهو منعٌ صحيح متوجه، وليس عنه جوابٌ يتحقق إلا بتقرير التقدير الذي ادعاه المستدلُ، ولو ثبت له ذلك التقدير لاستغنى عن هذا الكلام. وقد تقدم ذكر توجيهه.
وبيانه هنا أن يقال: ما ذكرتَه من الدلائل الدالة على عدم الإضافة إن كانت سالمةً عن المعارض أو راجحةً عليه فإنه يستلزمُ عدمَ الإضافة، لاستلزام الدليل السالم أو الراجح ثبوتَ مدلولِه، وعدمُ الإضافة يستلزم عدم الحكم في الفرع، لأن الحكم إذا لم يكن مضافًا إلى المشترك كان مضافًا إلى المختص، وحينئذٍ يمتنع ثبوته في الفرع لعدم المختص، كما مرّ تقريره، ولأن المقتضي له إما المشترك أو غيره، وغيرُه منفيٌّ بالأصل والمشترك بما ذكره، فيلزم [ق 105] انتفاءُ الحكم فيه مطلقًا. ولأن المستدل إنما يُثبِت
(2)
الحكمَ في الفرع بالإضافة إلى المشترك، والخصمُ يمنع ثبوتَه مطلقًا، فلو جاز ثبوتُه في الفرع بدون الإضافة إلى المشترك كان على خلاف الإجماع، فما ذكرته من الدليل مستلزمٌ عدمَ الإضافةِ وعدمَ الحكم في الفرع، لكونِ الدليل دالًا على عدم الإضافة وعدم الحكم في الفرع، فلزم
(3)
تحقق أحد الأمرين مع انتفاء كل واحد من الأمرين، وذلك جمعٌ بين النقيضين وهو محال. وهذا المحال إنما لزم من كون الأدلة المانعة من الإضافة مانعةً على
(1)
الأصل: «دالًّا» .
(2)
الأصل: «ثبت» .
(3)
الأصل: «لزم» .
تقدير ثبوت أحدهما، أعني الإضافةَ أو الحكمَ في الفرع، فيكون دلالةُ الأدلة على هذا التقدير مستلزمًا للمحال، وما يستلزم المحالَ فهو محالٌ، لوجوب امتناع الملزومِ عند امتناع اللازم، فعُلِمَ أن المنع منعٌ صحيحٌ ثابتٌ بالبرهان.
الثامن: قوله: «فذلك مدفوعٌ بالضم، بأن نقول: المدَّعَى أحدُ الأمرين ابتداءً منضمًّا إلى ما ذكرتم من الدلائل، أو نقول: المدعى أحدُهما على تقدير عدم أحدهما» .
وحاصل هذا الكلام أن يقول المستدل: أنا أدَّعي ثبوتَ أحد الأمرين، وهو الإضافة إلى المشترك أو ثبوت الحكم في الفرع، منضمًّا إلى ما ذكرتم من الدلائل الدالة على عدم إضافة الحكم إلى المشترك، وإذا ادعيتُ ثبوتَ أحدهما منضمًّا إلى ما ذكرتم من الدلائل لم يصحَّ منعُ دلالة الدلائل مع ثبوت أحدهما، لأنه منعٌ لنفس المدَّعَى. أو يقول: المستدل: أنا أدَّعي أحدهما على تقدير عدم أحدهما، أي أدَّعي أحدَ الأمرين: الإضافة إلى المشترك على تقدير عدم الحكم في الفرع، أو أدّعي الحكم في الفرع على تقدير عدم الإضافة إلى المشترك.
واعلم أن نفسَ تفسير هذا الكلام وتصوّره يُبيِّن لك صحته من فساده، فهل سمعتَ بعاقلٍ قَطُّ يَدَّعي دعوى بعضُها يَنقُض بعضًا وثبوتُها يوجب إبطالها، وكأنه قَصَدَ بهذا ترويجَ هذه العبارة على من لا يفهم معناها، لكنه يسمع: المدعى أحد الأمرين أو المدعى أحدهما على تقدير عدم أحدهما، فيحسب أن هذه دعوى صحيحة أو دعوى ممكنة الصحة، فإذا تَصَوَّر معناها عَلِمَ مقتضاها
(1)
.
(1)
كذا في الأصل، ولعل الصواب:«تناقضها» .
فيقال له: قولك: «المدعى أحدُ الأمرين ابتداءً، منضمًّا إلى ما ذكرتم من نفي الإضافة إلى المشترك» نفي الحكم في الفرع بالإجماع والمناسبة والدوران والنافي لغير ذلك؛ وتسليم المستدل لذلك في أول استدلاله، فإذا ادعيتَ أحدَهما [ق 106] بنفيِهما جميعًا فقد ادعيتَ الجمعَ بين النقيضين، لأنك ادعيتَ وجودَ أحد الشيئين مع انتفائهما جميعًا.
وكذلك أيضًا قوله: المدعى أحدهما على تقدير [عدم] أحدهما.
جوابه أن يقال: ثبوتُ أحدِهما على تقدير [عدم] أحدهما محالٌ وجمعٌ بين النقيضين، لأن أحدهما إن كان هو الإضافة إلى المشترك فلا يصح دعواه على تقدير عدم الحكم في الفرع، لأن وجوده مستلزمٌ للحكم في الفرع، فكيف يكون موجودًا ولازمه معدوم. وإن كان أحدهما هو الحكم في الفرع فهو مستلزم للإضافة إلى المشترك، فكيف يصحُّ دعوى وجودِه مع انتفاء لازمه؟ فحاصله أنهما متلازمانِ لما مَرَّ غير مرةٍ؛ فدعوى أحدهما على تقدير عدم أحدهما دعوى وجود الملزوم مع عدم اللازم، أو دعوى انتفاء اللازم مع وجود الملزوم، وذلك فاسدٌ بالضرورة كما عُرِفَ في التلازم.
التاسع: أن يقال: هَبْ أنك تدّعي أحدهما مع الانضمام إلى الدليل، أو تدّعي أحدَهما على تقدير عدم أحدهما، لكن مجرد الدعوى لا يُحِقُّ حقًّا ولا يُبطِل باطلًا، فلا نسلِّم ثبوتَ المدعى، فعليك إثباته، فإن أثبته بما ذكره من الكلام كان دورًا أو تسلسلًا، وهو باطل. وإن أثبته بغيره فقد احتاج إلى دليل ثانٍ يدل على الحكم في المسألة، وذلك انتقالٌ من دليلٍ إلى دليلٍ قبلَ تمام الأول، فيكون انقطاعًا، أو أن يكون معارضةً صحيحة للمعترض في معارضته ليسلم الدليل الأول، وهذا يكون مقبولًا. والفرق بين الانتقال
والمعارضة أن الانتقالَ يكون قبل ثبوت المقدّمات ولزوم الدليل منها، بل ينتقل إذا منع المقدمات أو عُورِضَ فيها إلى دليل مستقل. والمعارضة تكون بعد ثبوت المقدمات ولزوم الدليل منها، فيعارضه المعترض في المقدمة أو في حكم الدليل، فيعارض المعترض بدليل آخر، إمّا في نفس مقدماته أو بعد ثبوتها، ليسلم الدليل الأول، فإن الدليلينِ راجحانِ على دليل واحد إذا كانت متكافئةً في القوة.
العاشر: أن يُقال: قولك «المدعى أحدهما منضمًّا إلى الدليل المانع من الإضافة» ، فذلك المانع من الإضافة إما أن يكون واقعًا في الواقع أو غيرَ واقع، فإن كان واقعًا فقد بطلت الإضافة إلى المشترك، فيبطلُ أصلُ الدليل، لأن ثبوتَ الحكم في الفرع لم تُثبته إلا بالقياس على الأصل بواسطة الإضافة إلى المشترك، وإن لم يكن واقعًا فقد ادعيتَ أحدَهما [ق 107] منضمًّا إلى أمر غير واقع، فكأنك قلت: أدّعي دعواي إذا كانت الأمور التي ضممتُها إليها غير واقعة، وإذا كانت الضميمةُ غيرَ واقعة لزمَ عدمُ وقوع ملزومها وهو الدعوى، فتكون قد ادعيتَ أحدهما بتقدير كونهما غير واقعينِ، وذلك دعوى وجودِ الشيء بتقدير عدمه، وهو دعوى كون الموجود معدومًا، وهو دعوى المحال.
وكذلك يقال على قوله: «المدعى أحدُهما بتقدير عدم أحدهما» . يقال: عدم أحدهما إن كان غيرَ واقع فقد ادعيتَ أحدَهما بتقدير غير واقع، وهو دعوى المحال كما مرَّ، وإن كان هذا التقدير واقعًا، وهو عدم أحدهما، فذلك المعدوم إن كان حكم الفرع فقد بطلَ أصلُ الدعوى، وإن كان الإضافة إلى المشترك فقد بَطَلتِ الإضافةُ إلى المشترك، فيبطلُ الدليلُ الذي ذكرتَه في
أول المسألة، فيثبت الانقطاعُ.
الحادي عشر: أنّا إذا سلَّمنا صحةَ الدعوى كان حاصلُها أنّا ندَّعي الحكمَ في الفرع على تقدير عدم الإضافة إلى المشترك، امتنع أن يكون المدَّعى هو الإضافة إلى المشترك، فيكون هو الحكم في الفرع، ونحن نسلِّم أن يُدَّعَى ذلك لكن [لا تُقبل دعواه] بغير دليل، فإن استدل بالقياس المذكور كان دورًا، وإن استدل بغيرهِ فذاك دليلٌ مستقل، وذلك انقطاعٌ عن إتمام الدليل الذي استدلَّ به.
الثاني عشر: أنه إذا ادعى هذه الدعوى فقد رجع عن دعوى الإضافة إلى المشترك عينًا، وذلك يُبطِلُ دليلَه.
واعلم أنك إذا فهمتَ حقيقةَ كلامه فلك أن تتصرفَ بالأدلة الدالة على فساده، وتُخالفَ بين تركيباتها، حتى يُمكِنك أن تذكر وجوهًا كثيرةً من صور الاستدلال وأنواعه، الدالة على فساد هذا الكلام الذي قد عُلِمَ فسادُه بالضرورة. فإن ما عُلِمَ صحتُه أو فسادُه بالضرورة لم يمتنع أن تكونَ هناك أدلةٌ تقتضي صحتَه أو فسادَه، بل الواقع كذلك، فإنّ تواردَ الأدلة على المعلومات واقعٌ في الموجودات. لكن قد يقال: الدليل لا يُحتاج إليه، وقد يقال: بل فيه فوائد، وهو خُطور المدلول بالبالِ عند ذهولِه عن حقيقةِ التصور وعن سائرِ الأدلة، والاستدلال بها على من عَسَى ذِهنُه يَقصُرُ عن درك الحقيقة، أو من يَنفِي الحقيقةَ جدالًا وعنادًا، إلى غير ذلك من الفوائد. ومدارُ إبطالِه هنا على الملازمة بين الإضافة إلى المشترك وبين ثبوت الحكم في الفرع كما قدمناه، وعلى أن الدليل الذي شرعَ فيه قد [ق 108] بطلَ، وصَار مُدَّعيًا محضًا.
قال الجدلي
(1)
: (ولئن قال: العدم في المتنازع مما يستلزم عدمَ كل واحد ممّا ذكرتم، والدليل [دلَّ] على العدم
(2)
، فيتحقق هو أو ملزومٌ من ملزوماتِ عدم كل واحدٍ منهما. فنقول: الوجوب في المتنازع مما يستلزم أحدَهما قطعًا، فالدليل دلَّ على الوجوب، فيتحقق هو أو ملزومٌ من ملزوماتِ أحدِهما كما ذكرتم).
هذا أيضًا دعويانِ من نمط تلك الدعاوى، إلا أن العبارة تغيرت. وحاصلهُ أن المعترض قال: عدم الحكم المتنازع فيه يستلزم عدمَ الإضافةِ إلى المشترك وعدمَ الحكم في الفرع، لأن الحكم إذا عُدِمَ فقد عُدِمَ الحكمُ في الفرع بالضرورة، وعُدِمت الإضافةُ إلى المشترك، لأنه يمتنع اجتماعُ الإضافةِ إلى المشتركِ وعدمِ الحكم في الفرع، إذ لا معنى لإضافة الحكم إلى المشترك إلا وجود الحكم معه، ولا يجوز أن يقال: تخلَّفَ عنه لمانعٍ، لأن المشترك هو ما يشترك فيه الصورتانِ من المقتضي للحكم وعدم المانع منه، ويمتنع أن يُضافَ الحكمُ إلى ذلك ويكون معدومًا عن محلِّه، فإذا كانت الإضافة إلى المشترك موجودةً أو أدلتُه موجودة، لزمَ تخلُّفُ المعلولِ عن علَّتِه والمدلولِ عن دليله لا
(3)
لمانع، وهو باطل بالضرورة والإجماع، ولأن الحكم إذا عُدِمَ لم يبقَ
(4)
عليه دليلٌ خالٍ عن معارضةٍ راجحةٍ، ولا علةٌ خاليةٌ عن معارضة، إذ لو كان عليه علةٌ أو دليلٌ راجحٌ لما عُدِمَ. وعَدَمُ الأدلةِ
(1)
«الفصول» (ق 5 ب).
(2)
في «الفصول» : «دل عليه» .
(3)
الأصل: «إلا» . والمثبت يقتضيه السياق.
(4)
الأصل: «لم يبقى» .
والعلل الراجحة يُبطِلُ ما ذكره المستدلُّ من الإضافة الموجبة ثبوتَ الحكم في الفرع، ولأنه يقتضي الإضافةَ بالأدلة النافية السالمة عن معارضةِ اتحادِ الأصل والفرع في الحكم.
ثم قال: والدليل قد دلَّ على عدم الحكم المتنازع فيه من النصوص النافية وغيرها، فيتحقق هو، وهو عدم الحكم في الفرع أو ملزومٌ من ملزوماتِ عدم كلِّ واحدٍ منهما، لأنّ عدمَ الإضافة إلى المشترك وعدمَ حكم الفرع كلٌّ منهما لازمٌ لعدم الحكم المتنازع فيه، فإنَّه إذا عُدِمَ الحكمُ المتنازعُ فيه فقد عُدِمَ حكمُ الفرع وعُدِمَت الإضافةُ إلى المشترك، فإذا تحققَ عدمُ الحكم المتنازع فيه فأحد الأمرين لازمٌ، وهو إما أن يتحقق عدمُه أو يتحقق ملزومٌ من ملزوماتِ عدم كل واحدٍ منهما، وذلك الملزوم هو عدمُ الحكم المتنازع فيه بعينه، فإنه ملزومٌ لعدم الحكم في الفرع وملزومٌ لعدم الإضافة إلى المشترك. أو يقول: فهو [ق 109] ملزوم من ملزوماتِ عدم كل منهما، سواء كان نقيضَ الحكم أو ما يُساوي النقيضَ أو ضدَّ الحكم أو ما يُنافيه. أو يقول: يتحقق عدمُ الحكم في الفرع أو لوازِمه، ومن لوازمه عدمُ كلٍّ منهما. أو يقول: يتحقق الملزوم أو اللازم، وإذا تحقق ما هو مستلزمٌ لعدم كل منهما تحققَ لازمُه، وهو عدمُ كلٍّ منهما، وإذا عُدِمَ كلٌّ منهما بطلَ دعوى وجودِ أحدهما، لامتناع اجتماع النقيضين. فتبيَّن أنه إذا عُدِمَ الحكمُ المتنازعُ فيه فلا بُدّ أن يتحقق هو أو ملزومٌ من ملزوماتِ عدمِ كلٍّ منهما، فيتحققُ عدمُ كلٍّ منهما.
واعلم أن هذا الكلام دعوى عاريةٌ، ليس فيها زيادةٌ على الدعاوى الماضية سوى تغييرِ العبارة وتطويلها بغير فائدةٍ، وسلوكِ الطريق المُعْوجَّةِ المنكوسة،
وما مثل هذا إلّا مثل من قيل له: أين أذنك
(1)
اليسرى؟ فوضعَ يدَه اليمنى فوق رأسِه، ثم نزلَ بها إلى أذنه، وترك أن يوصلها إليها من تحت ذَقَنِه؛ ومثل مَن سلك ما بين فُرضَتَي القوس على ظهره دون وتره، ومثل مَن أراد أن يذهب من الشام إلى مكة، فذهب إلى أرمينية، ثم من أرمينية إلى الصين، ومن الصين إلى الهند، ومن الهند إلى اليمن، ومن اليمن إلى الحجاز. بل مثل مَن رَحَلَ إلى العُلا ثم رجع إلى تبوك، ثم ذهب إلى العُلا ثم رجع إلى مَعَان، ثم ذهب إلى العُلا ثم رجع إلى دمشق، ثم ذهب إلى العُلا، كلما طالَ سفرٌ رجع القهقرى حتى يرجع من حيث بدأ. أو مثل من قال: إن كان فلان وُلِدَ له مولودٌ فهو أبو ابن أبي المولود، أو فهو والدُ ولدِ والدِ المولود، أو مثل من قال: إن كان النهار موجودًا فملزومٌ من ملزوماتِ وجودِه مستلزمٌ لعدم نقيضِه، وقد تحقق الملزوم وهو عدم النقيض، فيتحقق ملزومُه وهو ملزوم وجود النهار، فيتحقق ملزوم وجود النهار، فيتحقق وجود النهار، فيتحقق ملزومه، فيفيد هذا الدليل العظيم أنه إن كان النهار موجودًا فهو موجود، يا لها فائدةً جليلة!
ثم فيه زيادةُ قبحٍ على ما تقدم من وجوه:
أحدها: قوله: «العدم في المتنازع مما يستلزم عدم كل منها» ، فيقال له: العدم في المتنازع إما أن يكون مسلَّمًا لك أو أنت مستدلٌّ عليه، وأيُّهما كان فإذا ثبتَ استغنيتَ عن القدح في دليل المستدل، فإن مقصودك إنما [هو] إبطالُ ما ادعاه، فإذا أثبتَّ نقيضَ مُدَّعاه فهذا غاية الإبطال.
الثاني: أن قولك: «والدليل دلَّ على العدم» تَعني به دليلًا ذكرتَه، أو الدليل في نفس الأمر، أو دليلًا تذكره؟ فإن عنيتَ شيئًا تقدمَ فليس فيما تقدم
(1)
الأصل: «ايدك» !.
ما يقتضي عدمَه، وإن عنيتَ الدليل [ق 110] في نفس الأمر لم نُسلِّم ذلك، فإنّا لا نُسلِّم أن في المسألة نصًّا ينافي الوجوب، وإن عنيتَ دليلًا تذكره فلم تذكره، ثم لو ذكرتَه كنتَ قد ذكرتَ دليلًا، فأنت تريد إبطال دليل المستدلّ بإثبات نقيضِ مُدَّعاه فتكون قد منعتَ مقدمته التي استدل بها بإثبات نقيض ما ادعاه من الحكم المتنازع فيه، وذلك غير مقبول، لأنه غَصْبٌ.
فإن قال: إنما استدللتُ على ذلك بعد فراغه من الدليل.
قيل: لم يذكر دليلًا مستقلًّا على نفي الحكم، وإنما مَنَعَه مقدمةَ الدليل، وعارضَه فيها بما يدل على بطلان الحكم المتنازع فيه، وهذا عَينُ الغَصْب.
الثالث: أن قوله: «العدم في المتنازع مما يَستلزم عدمَ كل واحدٍ مما ذكرتم، والدليل دلَّ على العدم، فيتحقق هو أو ملزومُ عدمِهما» .
قلنا: إن صحّ قيام الدليل على العدم فهو مستلزمٌ عدمَهما، فأنت مستغنٍ عن تحقق ملزوم عدمهما، لأن المقصود من تحقق ملزوم العدم الاستدلال به على تحقق لازمه، وهو العدم أعني عدمَهما، وإذا كان لا يثبتُ ذلك إلا بالدليل على تحقق عدمهما الذي هو لازم قيام الدليل على عدم الحكم المتنازع فيه، فأنت تُثبِت المدلولَ بما لا يثبت إلا بعد ثبوت المدلول، حيث أثبتَّ عدمَهما بتحقق ملزومه الذي يُحقِّق عدمَ ملزومهما، وتحقُّقُ عدم ملزومِهما أعني ثبوتَه وحصولَه إنما أثبتَّه بثبوت ملزومه، وهو عدم الحكم المتنازع فيه، فإنه إذا تحقق عدمُ الحكم فقد تحققَ عدمُ ملزوم عدمهما، وإذا تحققَ عدمُ ملزوم عدمِهما تحققَ لازمُه وهو عدمهما، وإذا تحققَ عدمُهما تحققَ عدمُ الحكم. فأنت أثبتَّ عدمَ الحكم بمقدماتٍ لا تَثْبُتُ إلا بعدَ عدمِ ثبوتِ الحكم، وهذا من أقبح المصادرات.
وحاصله أنه ذكر عَدمين لا حاجة إليهما، فإنه زعم أن الدليل دل على [عدم] الحكم المتنازع فيه، ثم جعل عدم الحكم المتنازع مستلزمًا لعدمِ الأمرين، وهما الإضافة إلى المشترك والحكم في الفرع، وجعلَ عدمَ الأمرين مستلزمًا لعدم الحكم. ولو كان الدليل دلَّ على عدم الحكم المتنازع فيه لم يحتج إلى أن ينفيه بواسطةٍ تنفيها لكونها تَنتفي بانتفائه، فإن الاستدلال على الشيء بنفسه لا يجوز، فكيف الاستدلالُ عليه بما لا يَثبتُ إلا بعدَ ثبوتِ المستدَلِّ عليه؟
الرابع: قوله: «فيتحقق هو أو ملزومٌ من ملزوماتِ عدمِ كلٍّ منهما» .
قلنا: إن أردتَ بالملزوم هو نفسه كان التقدير: يتحقق هو أو هو، فإن قيل: فيتحقق هو، وهو ملزوم من ملزومات عدم كل منهما كان أجود. وإن أردتَ بملزوم من ملزومات العدم [ق 111] غيرَه، فذلك لا يكون ملزومًا إلا بواسطة هذا، فيكون التقدير: فيتحقق هو أو اللازم من لوازمه التي تستلزم عدمَ كلٍّ منهما، ومعلومٌ أن لازمه تابعه، وقد يجوز انفكاكه عنه، فإذا ردَّد الكلامَ أوهمَ جوازَ حصولِ لازمه بدونه، وهو غير جائز.
الخامس: قوله: «والدليل دلَّ على العدم، فيتحقق هو أو ملزوم من ملزومات عدم كلٍّ منهما» لفظ مشترك، فإن حرف «أو» للترديد يقتضي أحد الشيئين، ولو دلَّ الدليلُ على عدم الحكم لتحقق عدم الحكم وما يستلزم عدم كلٍّ منهما، لأن عدم الحكم يستلزم عدم كل منهما، فإذا كان عدم الحكم وعدم ملزوم عدم كل منهما يتحققان إذا عُدِمَ الحكمُ كيف يصح أن يُجعلَ اللازم أحدهما؟ وما هذا إلّا بمثابة أن يقال: إن كان زيدٌ أبا عمرو فزيد ابن أبي عمرو أو أبو عَمرو.
فإن قال: هذه القضية مانعة الخلو لا مانعة الجمع، أي إنه لا يخلو من عدم الحكم أو عدم ما يستلزم عدمهما.
قلنا: والقضية التي تمنع الخلو من الأمرين لا يصح استعماله حتى يكون العلم بامتناع خلو أحدهما لدليلٍ غير امتناع خلو الآخر، كفى إقامة الدليل على امتناع خلو الملزوم، وهنا إنما يعلم تحقق عدم ما يستلزم عدمهما بتحقق عدم الحكم، فكيف يجعل قسيمًا لامتناع الحكم؟ وهذا حكم ظاهر لمن فهمَه. والله يهدي من يشاء إلى صراط مستقيم.
ثم إن الجدلي عارضَ الدعوى بالدعوى مع ما ذكرناه من الكلام الضائع
(1)
، فقال:«فنقول: الوجوبُ في المتنازع مما يستلزمُ أحدَهما قطعًا، فالدليل دلَّ على الوجوب، فيتحقق [هو] أو ملزومٌ من ملزومات أحدهما» . وهذا مثل الذي قبله، فإن الدليل إذا دل على الوجوب من نص أو قياس أو نحوه، فإن الوجوب يستلزم الحكمَ في الفرع أو الإضافةَ إلى المشترك، بل يستلزمهما جميعًا، وإذا كان كذلك فقد تحقق الوجوب، وهو مستلزم أحدَهما، فيتحقق ملزومٌ من ملزومات أحدهما، نحو إرادة الوجوب من النصوص، أو ملزومية وجوب الأصل لوجوب الفرع أو مداريته، كما قيل في السؤال، وأيُّهما كان يلزم الوجوب.
وهذا الكلام بعد تحقق دليل الوجوب صحيح، إلا أنه تطويل ركيكٌ كما تقدم سواء، فقد عاد الأمرُ إلى مقابلة الدعوى بالدعوى، حتى إن السائل يقول في آخر ذلك: ما ذكرتُه راجحٌ، لأنه متعددٌ تعددًا كثيرًا لأنه عدمي، والأمر العدمي لا يفتقر إلى غيره، فيتحقّق على تقدير وجود الغير وعدمه،
(1)
الأصل: «للضائع» .