المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌ معارضة المستدل بما ينفي التلازم على وجوه كثيرة - تنبيه الرجل العاقل على تمويه الجدل الباطل - جـ ١

[ابن تيمية]

فهرس الكتاب

- ‌[فصل في التلازم]

- ‌جوابُه من وجهين:

- ‌ كلُّ تقديرٍ لا ينشأ منه قيامُ مقتضٍ ولا نفيُ معارضٍ فإنه غير مفيد

- ‌ معارضة المستدلّ بما ينفي التلازم على وجوهٍ كثيرة

- ‌ كلام المستدلّ إنما يصحّ إذا كان قد بيَّن التلازمَ بطريقٍ صحيح

- ‌(فصل في الدوران)

- ‌ الدوران يفيد كونَ المدار علةً للدائر، بشرطِ أن لا يُزاحمه مدارٌ آخر

- ‌ المثال الذي ذكره صاحبُ الجدل غيرُ مستقيم أن يحتج فيه بالدوران

- ‌ تخلُّف العلّيةِ مع وجود الدوران كثيرٌ لا يُحصَى

- ‌[فصل في القياس]

- ‌ أكثر الأفعال تجتمع فيها الجهات الثلاث

- ‌ كيف يجوز تعليلُ أحكام الله بالمصالح

- ‌معنى قولنا: «إنه يفعل لا لغرضٍ ولا لداعٍ ولا لباعثٍ»

- ‌ المصالح إنما تكون مصالح إذا تجردت عن المفاسد أو ترجحتْ عليها

- ‌ إثباتَ العلّة بالمناسبة أقوى من إثباتها بالدوران

- ‌ هذا الكلام يقدح في القياس القطعي والظني، وما قَدَح فيهما فهو باطلٌ

- ‌ ثبوت المشترك له ثلاث(2)اعتبارات:

- ‌ مناقشة جدلية

- ‌ الدعاوي إذا تعدَّدت لم ينفع تعدُّدها أن يكون الدليلُ على كلٍّ منها غيرَ الدليل على الأخرى

- ‌ الجدل الباطل لا يُفلِحُ فيه مَن سَلكَه استدلالًا وسؤالًا وانفصالًا

- ‌ قَويَّ العمومِ مقَدَّمٌ على ضعيف القياس، وقويّ القياسِ مقدَّم على ضعيف العموم

- ‌ الشارع لا يُخصِّص العام حتى يَنْصِبَ دليلًا دالًّا على عدم إرادة الصورة المخصوصة عقليًّا أو سمعيًّا أو حسّيًّا

- ‌ التخصيص مشتملٌ على أمر وجودي وعدمي

- ‌الدليل يجوز أن يكون عدميًّا باتفاق العقلاء

- ‌ لفظ المصدر يدلُّ على تمام المقصود

- ‌ منع العموم يحتمل شيئين:

- ‌ المرجع في ذلك إلى استقراء صور الاستعمال

- ‌(فصل في تعدية العدم)

- ‌ تقريرُ كلامِه

- ‌(فصلٌ في تَوْجِيْه النُّقُوض)

- ‌ توجيهٌ ثانٍ للنقض

- ‌(فصل في النقض المجهول

- ‌ اقتضاءَ العلةِ المعلولَ أمرٌ فطريّ ضروري

- ‌ صحَّة الحكم لا يستلزم صحةَ الدليل المعيَّن

- ‌ أصل هذا الفساد: دعوى التلازم بين مسألتين لا مناسبة بينهما

- ‌(فصل

- ‌الواجب في مثل هذا الكلام أن يُقابل بالمُنُوعِ الصحيحة

- ‌(فصل

- ‌ صورة أخرى للجواب عن المعارَضَةِ بالقياس المجهول

- ‌(فصلٌ في التنافي بين الحُكمَين)

- ‌ التنافي إذا صحَّ بطريقٍ شرعيٍّ فإنه طريق من الطرق الصحيحة كالتلازم

- ‌ الطرق الصحيحة في تقرير التنافي

- ‌يُسْتَدل على التنافي بالأدلة المعلومة في كل مسألة

- ‌بيانُ ذلك من وجهين:

- ‌الأمرُ الاتفاقي لا يدلُّ على التنافي؛ لجواز تغيُّر الحال

- ‌(فصل في التمسُّكِ بالنص، وهو الكتابُ والسنة)

- ‌النصُّ له معنيان

- ‌جميعُ وجوه الخطأ منفيةٌ عن الشارع

- ‌أحدها: دعوى إرادة الحقيقة إذا لم ينعقد الإجماع على عدم إرادة الحقيقة

- ‌العمومات على ثلاثة أقسام:

- ‌(الثاني(3): دعوى إرادة صورة النزاع

- ‌(الثالث: دعوى إرادة المقيد بقيدٍ يندرج فيه صورة النزاع

- ‌(الرابع: دعوى إرادة شيء يلزمُ منه الحكم في صورة النزاع)

- ‌ معارضة الدعوى الرابعة

- ‌(فصل

- ‌ مُدَّعي الإرادة لا بدَّ أن يبين جواز الإرادة

- ‌سبيل هذه الدعاوى أن تُقَابل بالمنع الصحيح

- ‌ الاستدلال بالأمر على الوجوب له مقامان:

- ‌فصلُ الخطابِ في هذه المسألة:

- ‌ الشرائع لم تشتمل على قبيح

- ‌لا يجوز أن يراد به نفي الأحكام الشرعية

- ‌ لا يجوز أن يُراد به نفي الإيجاب أو التحريم

- ‌ لا يصح اندراج الإيجاب أو التحريم فيه إلا بإضمار الأحكام

- ‌(فصلٌ في الأثر)

- ‌(فصلٌ في الإجماع المركَّب)

- ‌ التركيب المقبول فُتيا(4)وجدلًا

- ‌(فصلٌ في الاستصحاب)

- ‌ الاستصحاب في أعيان الأحكام

- ‌الطريق الثاني في إفساده:

- ‌الطريق الثالث لإفساده:

الفصل: ‌ معارضة المستدل بما ينفي التلازم على وجوه كثيرة

لأن أحد الأمرين لازم، وهو إمّا عدمُ المقتضي في نفس الأمر أو وجودُ مدلولِه، لأن الحال لا يخلو عن وجودِه أو عدمه. وهذا مثل ما ردَّ به المستدلّ كلام المعترض فإنه يقال هنا، فيبطل كلام المستدلّ قبل أن يَصِلَ إلى إبطال أسوِلةِ المعترض.

ويمكن‌

‌ معارضة المستدلّ بما ينفي التلازم على وجوهٍ كثيرة

، مثل أن يقال: لو وجبت الزكاةُ على المدين لما وجبت على الفقير بالنص أو بالقياس أو بغيرهما من الدلائل. أما النصّ فقوله صلى الله عليه وسلم: "لا صدقةَ إلا عن ظهر غنًى"

(1)

. أما القياس فلأنه لو وجبت للزم إضافة الوجوب إلى المشترك، ولا تجوز إضافته إلى المشترك لما فيه من إلغاء المناسبة التي اختص بها المدين، وهو مِلكُ نصابٍ زكويّ حولًا تامًّا، فإنه مقتضٍ للوجوب بدليل المناسبة والاقتران.

أو يقال: لو وجبت الزكاةُ على الفقير على ذلك التقدير للزمَ تَرْكُ العمل بالنصوص المستعملة في نفس الأمر والأقيسة الموجبة للتفريق بينهما، وهو اختصاص صورةِ المدين بما يقتضي الوجوب، أو اختصاص صورة الفقير بما يُوجب العدمَ.

أو يقال: لو وجبت الزكاة على الفقير على ذلك التقدير فإما أن يكون العدمُ لازمًا للوجوب في الجملة، إلى آخر ما ذكرناه في النكت الثلاث.

ومثل أن يقول: لو لم تجب الزكاة على المدين لوجبت على الفقير، يقرره بنفس ما ذكره المستدلُّ [ق 14] من النص والقياس وغيرهما.

(1)

سيأتي تخريجه (407).

ص: 30

أو يقول: لو لم تجب الزكاة [على الفقير]

(1)

لوجبت على المدين بعين ما نذكره في الدلالة على الوجوب على الفقير.

أو يقول: لو وجبت على الفقير لما وجبت على المدين بالنصّ المانع من الوجوب وبالقياس وبغيرهما من الدلائل، وقد انتفى اللازم ــ وهو الوجوب على الفقير ــ فينتفي ملزومُه، وهو عدم الوجوب على المدين، فيثبت الوجوب على المدين.

إلى غير ذلك من التلازمات المناقضة للزوم المدعى، وتقريرها بمادة كلام المستدلّ، وهو مُفسِدٌ لكلامِه من وجهين:

أحدهما: أنه يُنتج النقيضين، فيُعلم أنه باطل.

الثاني: أنه إما أن يكون صحيحًا أو باطلًا، فإن كان صحيحًا لزمَ ثبوتُ التلازم المناقض لتلازمه فيبطل تلازمُه، وإن كان باطلًا بَطَلَ الدليلُ على تلازمِه، فتبقى دعوى محضة، فينقطع.

واعلم ــ أصلحك الله ــ أن إبطالَ هذا التلازم الذي قد استُدِلَّ عليه بالجدل المموّه له مقامات.

أحدها: منعُ مقدمات دليلِ التلازم، إمَّا منعًا مدلولًا عليه أو غيرَ مدلولٍ عليه، وجميع النكت العامة لا بدَّ فيها من منعٍ صحيح. فعليك بتأمّل موضع المنع، فمتى منعَ منعًا صحيحًا تعذَّر عليه جوابُ المنع إلّا بكلام علمي، وليس في عامة هذه النكت أدلةٌ علميةٌ، لكونها باطلةً في نفسها، وإن كان التلازم نفسُه قد يكون صحيحًا، ومتى عجزَ عن تمشيةِ ما أثبتَ به التلازم

(1)

زيادة ليستقيم السياق.

ص: 31

ظهرَ فسادُ كلامِه وبُطلانُ مَرامِه، ووضَحَ أن الذي قاله من نوع الهذيان. والمُنُوع قد تتعدَّدُ وقد تتحد، وقد يتوجهُ المنعُ على مقدمةٍ على أحدِ التقديرين، وعلى الأخرى على التقدير الآخر.

الثاني: المعارضة ببيان أن تلك الأدلة تدلُّ على نقيض المدعى حسب دلالتها على المدعى، وذلك لقلب التلازم والاستدلال بها عليه كما تقدم، وهنا يمكن المعارضةُ بملازماتٍ كثيرة.

الثالث: المعارضة بما ينفي التلازم أو بما يناقضه من جنس النكت التي

(1)

استدل بها على ثبوته. والفرق بين هذا وبين الذي قبله أن تلك معارضةٌ بعين النكتة، وهنا معارضةٌ بجنسها.

الرابع: المعارضة بدليلٍ صحيح يدلُّ على عدم التلازم، وهو دليلٌ مستقلٌ في نفسه.

وفي كل مقام من هذه المقامات قد تتوجَّهُ أسوِلةٌ كثيرة لا تنضبط إلا بحسب المواد، ومع هذا فالمعترض في مقام منع مقدمة التلازم والمعارضة فيها، فإذا انتقل إلى المعارضة في نفس الحكم المتنازَع فيه بما يدلُّ على نفيه فله حنيئذٍ أن يذكر من جنس أدلة المستدلّ ومن غير جنسها ما شاءَ. [ق 15] فالأولُ إبطالٌ للدليل، وهذا إبطالٌ لحكم الدليل.

ومتى عرفتَ هذا تبيَّنَ لك فسادُ جميع هذا الباب، وأمكنكَ إبطالُ نكتِ هؤلاء المتلبسينَ بأدنى شيء، وعلمتَ أن العاقلَ لا يَرضاهَا البتَّةَ ولا يستحسنُ ولا يستحلُّ الكلام بمثلها.

(1)

الأصل: "الذي".

ص: 32

وقد فتح المصنِّف بابَ الأسوِلة على طريقته وأخذ يجيب عنها، ونحن نذكرُ كلامَه ووجهَ التغليطِ في ذلك.

قال صاحب الجدل

(1)

: (ولئن قال ــ يعني السائل ــ: لا تجبُ الزكاة على الفقير بالمانع على تقدير الوجوب على المديون. فنقول: لا نسلِّم بأن المانعَ متحققٌ على ما ذكرنا من التقدير

(2)

. ولئن قال: المانع

(3)

المستمرّ واقعٌ في الواقع، وإلّا لوجبت الزكاة على الفقير في الواقع

(4)

بالمقتضي السالم عن المعارض

(5)

، وهو المانع المستمرّ، ولم تجب فيوجد المانع. فنقول: ما ذكرتم من الدليل

(6)

وإن دلَّ على وجود المانع على ما ذكر

(7)

من التقدير [إلّا أن عندنا ما ينفيه، فإن المانع إذا كان متحققًا على ذلك التقدير، والمقتضي]

(8)

متحقق، فيقع التعارض بينهما، والتعارض على خلاف الأصل لاستلزامِه التركَ بأحدِ الدليلين، وهو إما المقتضي أو المانع، وما تُرِك على ذلك التقدير فذلك غير متروكٍ في نفس الأمر، لأنّ أحد الأمرين لازم،

(1)

"الفصول"(ق 2 أ).

(2)

في الفصول: "على ذلك التقدير".

(3)

الأصل: "الواقع"، والتصحيح من "الفصول". وسيأتي شرحه في كلام المؤلف فيما بعد.

(4)

"في الواقع" من "الفصول"، وسيأتي (ص 41) نقل المؤلف لهذه العبارة وفيها هذه الزيادة.

(5)

في "الفصول": "المعارض القطعي".

(6)

"من الدليل" لا يوجد في "الفصول".

(7)

في "الفصول": "ذكرنا".

(8)

ما بين المعكوفتين ساقط من الأصل، واستدركناه من "الفصول".

ص: 33

وهو إمّا عدمُ ذلك الدليل أو وجود مدلوله، لقيام الدليل على أحدهما. فإن الحال لا يخلو عن وجود ذلك الدليل في الواقع أو عدمه).

قلت: اعلم أن هذا الكلام أولًا خروجٌ عن كلام العرب الفصيح، فإن حرف الشرط إذا وُكِّدَ باللام كانت هذه اللامُ اللامَ الموطِّئةَ للقسم، ويصير الكلامُ يطلبُ شيئين: جوابَ الشرط وجوابَ القسم، فيأتون بجواب القسم، وهو يَسُّدُّ مَسَدَّ جواب الشرط، كقوله:{وَلَئِنْ شِئْنَا لَنَذْهَبَنَّ} [الإسراء: 86]، {وَلَئِنْ جَاءَ نَصْرٌ مِنْ رَبِّكَ لَيَقُولُنَّ} [العنكبوت: 10]، {لَئِنْ لَمْ يَنْتَهِ الْمُنَافِقُونَ

} إلى قوله: {لَنُغْرِيَنَّكَ بِهِمْ} [الأحزاب: 60]. والمصنف كثيرًا في كلامه ما يقول

(1)

: "ولئن قال"، فحقُّه أن يقول: "لَنقولنَّ

(2)

كذا"، تقديره: والله إن قال لنقولنَّ. فهو يأتي بالفاءِ وليس موضع فاء، ويذكر الفعل المضارع خاليًا عن نون التوكيد، وذلك يدلُّ على نفي الفعل لا على إثبات، كقوله:{تَاللَّهِ تَفْتَأُ تَذْكُرُ يُوسُفَ} [يوسف: 85]، فيكون المعنى: ولئن قال كذا لا نقول له كذا، كأنه اعتقد أن هذا موضع جوابِ الشرط وأنه يَسُدُّ مَسَدَّ جواب القسم وقد ذكر بعضُ الناس لغة أن جوابَ الشرط يَسُدُّ مَسَدَّ جوابِ القسم، واستشهدَ عليه بما لا شهادة له.

واعلم أن هذا الكلام من باب منع مقدمة الدليل وهو التلازم ومعارضة الدليل الدال عليها، كأنه سَلَّم له دلالة الدليل على التلازم الذي هو مقدمة الدليل، ثم عارضه [بما] يدلُّ على انتفاء التلازم، حتى يحتاج المستدل إلى

(1)

كذا الأصل.

(2)

الأصل: "فلنقولن"، والصواب بحذف الفاء، ويدل عليه ما بعده.

ص: 34

ترجيح دليلِ ثبوتِ التلازم على دليلِ [ق 16] عدَمِه، فقال السائل: ما ذكرتَه من الدليل وإن دلَّ على وجوب الزكاة على الفقير إن وجبتْ على المدين، فإن معي ما يدل على أنها لا تجب على الفقير وإن وجبت على المدين، وهي الأدلة النافية لوجوبها على الفقير، كقوله صلى الله عليه وسلم:"ليس فيما دون خمسة أوسُقٍ صدقةٌ"

(1)

، و"أُمِرتُ أن آخذَ الصدقة من أغنيائكم فأردَّها في فقرائكم"

(2)

، و"ليسَ على المسلم في عبدِه ولا فرسِه صدقةٌ"

(3)

، و"لا صدقة إلا عن ظهر غِنًى"

(4)

. وإذا كانت هذه الأدلة تنفي الوجوب على الفقير فقد عارضت ما يدلُّ على وجوبها على الفقير، بتقدير وجوبها على الغني المدين.

وتسميةُ هذا الدليل نافيًا أحسنُ من تسميته مانعًا، لأن المنعَ يقتضي قيامَ المقتضي، ولا مقتضِيَ لوجوبها على الفقير. إلّا أن بعض الناس يقول: المانعُ قد يكون مانعًا للسبب، وقد يكون مانعًا للحكم، فربَّما يجعلون الفقر مانعًا للسبب، وهو المال. وليس بجيِّدٍ أيضًا من جهة أن عدَم المال لا يحتاجُ إلى مانعٍ من وجودِه، بل يكفي في عدمه عدمُ سببِ وجوده، فعدمُ المال يُضافُ إلى عدمِ سببِ وجودِه، لا إلى وجودِ مانعِ وجودِه. وإن فُرِضَ صورةٌ قد انعقدَ فيها سببُ الملكِ، فمَنَعَ من الملكِ الذي هو سببُ الزكاة مانعٌ، فهناك يَصحُّ أن يقال: قامَ المانعُ لسببِ الزكاة، لكن امتناع وجوب الزكاة على الفقير أعمُّ من هذه الصورة.

(1)

أخرجه البخاري (1405، 1447، 1459) ومسلم (979) عن أبي سعيد الخدري.

(2)

سبق تخريجه (ص 27).

(3)

أخرجه البخاري (1463، 1464) ومسلم (982) عن أبي هريرة.

(4)

سيأتي تخريجه (ص 407).

ص: 35

ثمّ الذي يدلُّ على عدمِ الزكاة عليه النصوصُ والإجماع، وهذه الأدلة لا تكادُ تُسمَّى إلَّا نَوافِيَ لوجوب الزكاة.

وبالجملة فهذه مُشاحَّة لفظية، وهذا الكلام من المعترض إذا لم يثبت التلازم بطريق مفصَّلٍ كلامٌ صحيح، وذلك أنه لا يقول: لا يخلو إمّا أن يكون المقتضي لوجوبها على الفقير بتقدير الوجوب على المدين واقعًا أو غير واقع، فإن لم يكن واقعًا انتفى الوجوب، وإن كان واقعًا والنافي للوجوب أيضًا واقعٌ لزِمَ التعارضُ بين المقتضِي والمانع، وهو خلاف الأصل. فإن قال: المانعُ ليس بمتحقق على هذا التقدير، قيل له: والمقتضي ليس بمتحقق على هذا التقدير، فإن ما لزم من أحدِهما لزمَ من الآخر، فليس نَفْيُ تحقُّق أحدِهما حذَرًا من المعارضة بينه وبين الآخر أولى من العكس. وهذا الكلام يمكن تقريرُه من وجوهٍ كثيرة.

قال المستدل: هذه الأدلة تَنفي الوجوب على الإطلاق، وهذا مسلَّم ولكن لِمَ قلت: إنها تنفيه بتقدير وجوبها على المدين، ثم تارةً يُمكِنُه منعُ وجودِ ما يَنفِي الحكم مطلقًا على ذلك التقدير، وهذا يتوجَّه إذا ادعى السائل مانعًا من قياس أو تلازم ونحو [ق 17] ذلك، وتارةً يقول: لا أسلِّم دلالتَه، مثل أن يكون النافي للوجوب نصًّا ونحوه، فلا يمكن منعُ وجودِ النصّ لكن مَنْعُ دلالتِه على الوجوب، إما بمنعِ كونه مرادًا من النصّ أو بمنع كون اللفظ مفيدًا له في الجملة، أو نحو ذلك من دلالات الألفاظ.

وإنما توجَّه مَنْعُ النافي على ذلك التقدير لأن تقدير وجوبها على المدين جاز أن يكون واقعًا في الواقع، وجاز أن لا يكونَ واقعًا، والدالُّ على الحكم دالٌّ على ثبوته على كل تقدير لا ينافيه، أما على كل تقديرٍ سواءٌ كان واقعًا أو

ص: 36

غيرَ واقعٍ، وسواءٌ كان جائزًا أو ممتنعًا فليس بصحيح، لأنه ما من دليل على الحكم إلّا ويمكن أن يُفرَضَ معه وجودُ ما ينفيه، ثم يقال: هذا الدليل دالٌّ على كلّ تقدير، وهذا من جملة التقديرات، وذلك التقدير يمنع وجودَ الحكم، فيلزم الجمعُ بين النقيضين وتعارضُ الأدلة اليقينية، وذلك محالٌ. وإنما لزِم هذا حين فرضنا ثبوتَ الحكم على كل تقديرٍ عُلِمَ أنه واقعٌ أو لم يُعلم أنه واقع، فيكون هذا الفرض مُفضِيًا إلى محالٍ، فيكون محالًا.

وأمثلةُ هذا الكلام المزيّف الذي لا يقوله عاقل كثيرة حتى يتمكن مِن تقوِّلِه مَن استباحَ القضايا المتناقضة من التراكيب الفاسدةِ، مثل أن يقول: الصلاة والزكاة والصيام والحج واجبةٌ بالأدلة الموجبة، وهي مُوجبةٌ لها على كلّ تقدير، ومن التقديرات: عدمُ بعثة رسولٍ وعدمُ نزول

(1)

القرآن، فيجب ثبوتُها على تقدير عدم الرسول.

أو يقول: لا يجب شيءٌ من العبادات، للأدلة الدالة على براءةِ الذمَّة وخُلوّها من الوجوب، وهذا الدليل ثابت على كل تقدير، فيجب العمل به.

أو يقول: لا يجب القصاصُ على الجاني ولا الحدُّ على المجرم، لأنّ القَودَ والحدَّ ضررٌ، فيكون منتفيًا بالأدلة النافية للضرر، فإنها ثابتة على كل تقدير.

وهذا أهونُ مما قبله، لأن تقدير القتل العمد والإجرام ليس مقتضيًا بنفسه لثبوتِ العقوبة، بخلاف اقتضاءِ الوجوبِ وجودَ الرسول، وكون النافي للوجوب مشروطًا بعدم الموجب.

(1)

في الأصل: "ترك".

ص: 37

ومثل هذا أن يقال: السماوات والأرض لا تَفسُد أبدًا، لأن المقتضِيَ لصلاحها موجودٌ، وذلك ثابتٌ على كل تقدير، حتى على تقدير وجود آلهةٍ أخرى.

وكذلك كلُّ محالٍ فُرِضَ واستُدِلَّ بفرضه على استحالةٍ لازمة، فإن امتناع الملزوم يُوجِب امتناعَ اللازم، يَرِدُ عليه هذا السؤال الفاسد

(1)

، فيقال: لا يستحيل اللازم على تقدير وجود الملزوم، لأن المقتضيَ لصحة اللازم وجوازه قائم، وذلك [ق 18] مقتضٍ له على كل تقدير، وفرضُ وجودِ الملزوم أحد التقديرات.

وهذا كلام لا يخفى على أحدٍ بطلانُه، ووجهُ التغليط فيه أنه جعلَ الأدلة الموجبةَ أو النافية دالةً على [كلّ] تقدير، فيقال له: لا نُسلِّم دلالتَها على كل تقدير، لكن على كل تقديرٍ واقع، أو على كل تقدير لا ينفي الدليلَ الدالَّ، أو لا ينفي مدلولَه أو الشيء الثابتَ. أو يُقال: المنتفي ثابتٌ أو منتفي

(2)

على كل تقديرٍ لا يُنافي ثبوته أو انتفاءَه، أو على كلّ تقديرٍ جائزٍ في نفس الأمر، على ما سيأتي تحريرُ المغالِط هنا في استصحاب الواقع.

ثم نقول: أثبِتْ أن هذا التقدير واقعٌ أو جائزٌ في نفس الأمر، أو أنه غير مُنافِي

(3)

للمستصحب، ولا يَقدِرُ أن يُثبِتَ دلالةَ الأدلةِ على كل تقديرٍ، ولا على هذه التقديرات النافعة.

(1)

الكلمة غير واضحة في الأصل.

(2)

كذا في الأصل بالياء، وهو جائز فصيح.

(3)

كذا الأصل.

ص: 38

فهذا موضع المنع الذي ينقطع فيه المغالطُ، بل يقدِر المستدلُّ أن يُثبِت أن الأدلةَ إنما تدلُّ على بعض التقديرات دون بعضٍ [من] وجوه لا تُعدُّ ولا تُحصَى، من نحو ما ذكرناه. وإذا كانت إنما تدلُّ على بعض التقادير فلِمَ قلتَ: إن تقديرَ وجود الملزوم من التقادير التي يدلُّ الدليل النافي للازم معها، ولا تقدر على ذلك إلّا بأن تُثبِت أن الأدلةَ تدلُّ مع جملة الأمور الواقعة في الواقع، وإذا استدلَّ على وقوع الملزوم كما هو مذهبه كان غصبًا لمنصب الاستدلال، وهو غير مقبول كما تقدم، بل هو أردأ منه، لأنه في مقام المعارضة، لا في مقام الممانعة، ولم يكن إتمام معارضته إلّا بإبطال مذهب المستدلّ، فكأنه قال: إن صحَّ مذهبك فَسَدتْ معارضتي، وإن فَسَدَ مذهبُك صَحَّتْ معارضتي، فأنا أُبطِلُ مذهبَك لتصحيح معارضتي.

فيقول له المستدلّ: لو أفسدتَ مذهبي لكنتَ غنيًّا عن المعارضة، وإذا كانت المعارضة لا تتمُّ إلّا بإبطالِ مذهبي، وإبطالُ مذهبي لا يتم إلّا بدليل، وذلك الدليل معارضة مستقلة بنفسها، كان ذِكْرُ المعارضةِ كلامًا ضائعًا، لأنّ ما لا يدلُّ على الحكم إلّا بمقدمةٍ تدلُّ على الحكم بنفسها لا يكون دليلًا على الحكم، فتكون قد عارضتَ بغير دليل ولا شبهة، وهذا من أقبح المعارضات.

ثم إنك جعلتَ الدليل على صحةِ المعارضةِ بطلانَ قولي، وجعلت المعارضة دليلًا على بطلانِ قولي، فجعلتَ كلَّ واحدٍ منهما دليلًا على الآخر، والعلم بالمدلول يتوقف على العلم بالدليل، فيكون العلم بكلٍّ منهما موقوفًا على العلم [ق 19] بالآخر، فلا يَحصُل العلمُ بواحدٍ منهما.

ثمَّ إنك جعلتَ مطلوبَك ــ وهو إبطال مذهبي ــ مقدمةً في الدلالة على

ص: 39

بطلانِه، وجَعْلُ المطلوب مقدمةً في الدليل هو المصادرةُ على المطلوب، وهو من أفسد أنواع الشَّغَبِ والجدل الباطل، لأنّ المصادرات هي المبادئ التي تَصْدُر في العلوم، فتكون إمّا بديهيَّةً أو مسلَّمةً أو مدلولًا عليها في علمٍ آخر، فإذا جعلتَ المطلوبَ مصدرًا في إثبات نفسِه كُنتَ قد جعلتَ الدليلَ نفسَ المدلول، والمعلومَ نفسَ المجهول، والموجِبَ نفسَ المُوجَبِ، وفي هذا ما فيه.

أو بأن يُثبِتَ أن تقدير الملزوم لا يُنافي قيام المانع للوجوب على الفقير، وهذا إذا بيَّنَه بطريقه كان كلامًا صحيحًا في الجملة، وهو مقبول.

وإن قال: تقدير الملزوم جائزٌ لوقوع الخلاف فيه، والدليلُ دالٌّ على كلّ تقدير جائزٍ.

قيل: لا نُسلِّم أن الدليل يدلُّ على كل تقديرٍ جائزٍ، بل على كلِّ تقديرٍ لا يُنافيه، ولو سلَّمنا أنه يدلُّ على تقدير جائز، لكن لا نُسلِّم أنه جائز، لأن الجواز لفظٌ مشتركٌ، وهذا عندنا غيرُ جائزٍ بأحد المعاني. وسيأتي إن شاء الله تعالى تحقيق الكلام في هذا في الاستصحاب

(1)

.

وهذا الذي ذكرناه قد تضمنَ بيانَ قولِ المستدلّ: "لا نُسلِّم أن المانعَ يتحقق على ما ذكرنا من التقدير"، وهو منعٌ صحيح، وله أن يُوَجِّهه، ولا اعتراض عليه إلا أن يُبيِّنَ أن نفس تلك الأدلة توجب الزكاة على ذلك التقدير، وهذا لا سبيلَ إليه إلا ببيان تصريحها بذلك التقدير، لعدم المنافاة بين عدم الوجوب على الفقير وبين الوجوب على المدين، وهذا إذا فعله

(1)

انظر ما سيأتي (ص 578).

ص: 40