الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
والأقيسة المجمع عليها من هذا الباب، فليس هذا شرطًا على الإطلاق.
وإن قال: هو شرط في هذه الصورة.
قلنا: هذا أمر اتفاقي، والأمور الاتفاقية لا تكون شروطًا في الأدلة الشرعية.
الوجه الخامس: أن
هذا الكلام يقدح في القياس القطعي والظني، وما قَدَح فيهما فهو باطلٌ
، يقدح فيهما لأنه إذا اشترط جواز العدم في أحدهما قدح في اليقيني، وإذا كان هو يجوِّزُ عدمَه والمشترك لا يجوز عدمه قَدَحَ في كل قياس جاز عدم العلة فيه عن أحدهما، وذلك قدحٌ في جميع الأقيسة الظنية، بل نفس هذا الكلام يقتضي فسادَ كلِّ قياسٍ يُعلَم أنه باطل.
الوجه السادس: أن قوله: «إلى ما هو جائز العدم والمشترك ثابت قطعًا» إشارة إلى كون العلة قطعية وظنية، والدليل عليه إجماع الناس على أنه يجوز أن يكون ثبوت المشترك في الأصل والفرع قطعيًّا، بمعنى أنه يجب أن يقطع بوجوده فيهما
(1)
وبأن الحكم مضافٌ إليه فيهما، فإن ذلك إذا وُجِد يكون القياس يقينيًّا، وحينئذٍ لا يخالف فيه أحد. وما سوى ذلك فهو القياس الظني، وهو حجة عند القياسيين في الجملة، فلا يُقبَل منعُ الاحتجاج به ممن شرع في الكلام عليه، إذ شروعُه في الكلام عليه تسليمٌ لأصل الاحتجاج به، ثم هو على الخلاف إجماع الفقهاء المعتبرين. وكون الشيء قطعيًّا وظنيًّا نسبةٌ له إلى اعتقاد العباد، وذلك لا يؤثر فيه، فإن حقيقته في نفسه لا تتغيَّر بتغيُّر اعتقاد الناس فيه، وإنما يتغير حكم الناس بتغيُّر اعتقادهم، فإن كان اعتقادهم
(1)
الأصل: «فيها» .
لإضافة الحكم إلى المشترك ولثبوته فيهما قطعيًّا فالقياس قطعي، وإن كان ظنّيًّا فالقياس ظنّي. لكن هذه أمور خارجة عن نفس العلة وصفاتها، فلا يجوز التعويل عليها في نفي علة المشترك.
السابع: أن قولك «الحكم مضاف إلى ما هو جائز العدم في إحدى الصورتين» [ق 86] لفظ مشترك، فإن الجواز من عوارض الماهيات ومن عوارض الاعتقادات، فإذا قيل: العالم جائز أو ممكن، فذلك حكمٌ على ماهيته بقبولها للوجود والعدم. وإذا سُئل الرجل عن وجوب الزكاة في الحليّ فقال: يحتمل أن يكون واجبًا ويحتمل أن يكون غير واجب؛ أو سئل عن رؤية الله بالأبصار، فقال: ليس في العقل ما يوجبها ولا ما يُحيلها، بل يجوز أن تكون واجبةً ويجوز أن تكون ممتنعةً، لكن لمّا دلَّ السمعُ على وقوعها علمَ
(1)
العقل أنها جائزة.
وكذلك كل الأمور التي هي من مواقف العقل ومَحَاراته، فإن الجواز هنا معناه أن الإنسان ليس له علمٌ بما الأمرُ عليه في نفسه، فهو يُجوِّز النقيضين والضدَّين، فالجواز بالمعنى الأول عِلمٌ بحقيقة الأمر، والثاني عدمُ علمٍ بحقيقة الأمر، بل وَقْفٌ وشكٌّ. والأول صفة ثابتة للماهيَّة كانت نسبيةً أو ثبوتيةً أو عدميةً، والثاني
(2)
تردُّدٌ ذهني وتجويزٌ عقليٌّ. والجواز الأول لا يجوز عليه التبدُّل والتغيُّر، بل هو هو في علم كل عالم، والتجويز الذهني لو انكشفت الحقائقُ لصاحبه لظهر أحدُ الأمرين. والفرق بين الجواز الوجودي العيني والجواز العلمي الذهني ظاهر.
(1)
الأصل: «على» .
(2)
في الأصل: «الثانية» .
فقولك: «الحكم يضاف إلى ما هو جائز العدم» تَعْنِي به أنه في حقيقته يجوز أن يكون موجودًا، ويجوز أن يكون معدومًا؟ أم تَعني به أنه في اعتقاده يجوز أن يكون معدومًا؟ إن عَنَيتَ الأوَّلَ فلا نُسلِّمه فجاء الدليل عليه، ثم نقول: لا يجوز أن يكون معدومًا لأنه حكم الله، وحكمُ اللهِ قديم، وهو مضافٌ إلى علمِه القديم، وما ثبتَ قِدَمُه استحالَ عدمُه. فبتقدير أن يكون الحكم ثابتًا لا يجوز عدمُه ولا عدمُ ما يُضاف إليه. ثم لا فرق على هذا التفسير، ثم لا فرق بين الأول والثاني.
ثمّ هَبْ أنه قابلٌ للعدم إذا عني صفة الفعل، لكنه صار موجودًا، والموجود بعد وجودِه لا يجوز أن يكون معدومًا، إذ الجمع بين الوجود والعدم محالٌ.
وإن قال: نحن نُجوِّز أن يكون معدومًا لتجويزنا عدمَ الحكم في الفرع، وكون هذا الجواز ملزومًا لجواز عدم الوصف الذي أضيف إليه الحكم في الأصل.
قيل لك: تجويزنا لعدمِه مستندٌ إلى عدم عِلْمِنا به هل هو موجود أو معدوم، وعدمُ علمنا به لا يجوِّز أن يكون مانعًا من كونه علةً للحكم في الأصل، ولا عِلمُنا بوجودِه يُجوِّز أن يكون جزءًا من العلة في الأصل، ولا شرطًا
(1)
في العلة، لأن العلّة هي الوصف الذي لأجله أثبتَ الله ذلك الحكم، وذلك [ق 87] المناط إذا ما ثبت في علم الله لا يجوز أن يختلف
(2)
، وهو ثابت في علم رسولِه صلى الله عليه وسلم قبل وجودنا وقبل اعتقادنا، فلو جاز أن يكون
(1)
في الأصل: «شرطنا» .
(2)
كذا في الأصل، ولعله «يتخلف» .
علمنا مؤثّرًا فيه وجودًا وعدمًا للَزِمَ أن تكون عقائدنا مؤثرةً فيما ثبتَ في علم الله وعلم رسوله صلى الله عليه وسلم، وذلك لا يجوز.
فإن قال: يجوز أن يكون اعتقادنا علَمًا على الحكم ودليلًا عليه، وعند ذلك يختلف باختلاف كونه قطعيًّا أو ظنّيًّا.
قلت: الأدلة ما يُوجب الاعتقادات، فلو كانت الاعتقادات أدلةً لَزِمَ أن يكون الشيءُ دليلًا على نفسه. ثم الاعتقادات لا بدّ أن تستندَ إلى أدلة، والدليل هو العلة ونحوها، فكيف تستند الأدلةُ إلى الاعتقادات؟ ولو جاز أن يكون الاعتقاد جزءًا من العلة لكان إثباتُ الأحكام ونفيها باعتقادنا، وهذا باطل.
ولسنا نمنع أن يكون الاعتقاد دليلًا على اعتقاد آخر وموجبًا له، وإنما نمنع أن يكون الاعتقاد دليلًا على صحة نفسه أو دليلًا على أن العلة في نفس الأمر هي ذلك الاعتقاد، كما يقال: شرط العلة في الأصل القطعُ بها فيه وعدمُ القطع بكونها في الفروع، فإن القطع وعدمه يتبع دليلَ العلة، فلا يكون دليل العلة.
الثامن: أنه يجوز أن يكون ثبوت الوصف في الأصل قطعيًّا والإضافة إليه ظنية، كعلل الربا من القدر والطعم والقوت، ويجوز أن يكون في الفرع ظنيًّا والإضافة إليه قطعية، كالاتفاق على أن أقرب العصبات أولى بالميراث، فإن هذه الأولوية مضافة إلى كونه أقرب بالاتفاق. ثم اختلفوا في الجدّ أقرب أو هو والأخ مستويان؟ ونحو ذلك.
فقوله بعد ذلك: «وما يضاف إلى ما هو جائز العدم في أحدهما،