الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
بالأصل، أو الوجوب مضافٌ إلى مطلق المصلحة: إلى نوعٍ منها أو إلى قدرٍ منها أو إلى نوعٍ وقدرٍ منها، الأوّل ممنوع، والبواقي وإن سلِّمتْ فلم قلتَ: إن صورة النزاع تشارك الأصل في نوع المصلحة أو قدرها؟ وتوجيه المنع من وجوه:
أحدها: أن المصالح المتعلقة [ق 66] بالوجوب في المضروب إنما تكون ثابتة في الحُليّ إذا ثبت أن الحُليَّ مثل المضروب في تلك المصالح، وهذا لم يدلّ عليه.
الثاني: أن
المصالح إنما تكون مصالح إذا تجردت عن المفاسد أو ترجحتْ عليها
، وإيجابُها في الحليّ ليس كذلك، لأن إيجابها في الحليّ يُفضِي إلى كسرِه وتنقيصِ الحليّ ومنع المتحلِّية من التحلِّي بحلي مباح، وما أفضى إلى منع المباح يكون مفسدةً، فلا تكون مصلحةُ إيجابِه في الحلي خاليةً عن مفسدةٍ، وإيجابُه في المضروب خالٍ عن المفسدة، لأن المضروب إنما اتُّخِذ للإنفاق، وليس في إخراج الزكاة منه منعٌ من شيء مباح.
أو نقول: إن كان فيه مفسدة فهي مرجوحة بدليل إيجاب الزكاة فيه، والمفسدة التي في الحلي لم يثبت أنها مرجوحة، إذ لو ثبت ذلك بإيجاب الزكاة فيه كان دوران ثبت بغيره، فهو دليلٌ مستقل يغني عن المناسبة.
الثالث: أن يقال: إن المصالح المتعلقة بالوجوب لفظٌ مبهم، يحتمل مصالح متعلقة بوجوب الزكاة في كلّ مال، فإن ذلك فيه تَطْهيرٌ وتثميرٌ وتكفيرٌ، ويحتمل تعلُّقها بوجوب الزكاة في الأموال الزكوية في كلّ مقدار، ويحتمل تعلُّقها بالوجوب في الأموال الزكوية في قدر مخصوص، ويحتمل تعلُّق
المصالح بالوجوب في الأموال الزكوية إذا بلغت مقدارًا مخصوصًا وكانت على صفةٍ مخصوصةٍ. فإن ادَّعى القسم
(1)
الأول لَزِمَه أحدُ أمرين: إمّا أن يتخلف المعلولُ عن علّته، أو مخالفة الإجماع، وكلاهما محذورٌ. وإن ادَّعى الثاني فعليه أن يُبيِّن أن المصوغ على صفةٍ تجب فيه الزكاة، ولا يكفي في ذلك ما ادعاه من المناسبة، إذ لا دلالةَ فيها على قدرٍ أو نوعٍ أو صفةٍ.
الرابع: هَبْ أن ما ادعاه من المصالح المتعلقة بالوجوب مقتضٍ لوجوب الزكاةِ، فهو مقتضٍ على كل تقديرٍ وجودَ سائرِ الشروط، وهي الحول والنصاب والنوع وأن يكون المال ناميًا أو مما يُعدُّ للنَّماءِ. فإن ادَّعى الأول فهو باطلٌ بالإجماع، وإن قال: التخلُّف لمانعٍ، لَزِمَه تركُ الدليل المقتضي، وهو خلاف الأصل. وإن ادَّعى الثاني فعليه بيانُ حصولِه في الفرع، وحينئذٍ يحتاج إلى فقه المسألة، فلا تنفعه الصناعة الجدلية.
وإن قال: أحد الأمرين لازم، وهو: إما بطلانُ ما ذكرته من المقتضي أو تركُ العمل به في صورة النقض لمانعٍ من خارجٍ، لكن بطلان ما ذكرنا يلزمُ منه تركُ العمل به فيما عدا صور النقض [ق 67] لمانع
(2)
. وإذا دارَ الأمرُ بين تركِ العمل بالدليل لغير مانعٍ من خارج وبين تركِ العمل به لمانعٍ [من] خارج، كان تركُ العمل به لمانعٍ من خارج أولى، لأن هذا ليس إبطالًا له بالكلية، بخلاف ترك العمل به لا لمانع، ولأنه بتقدير المانع لا يكون [ترك] الدليل موقعًا في الجهل والضلال، كما إذا كان متروكًا لا لمعارض
(3)
.
(1)
في الأصل: «الأقسام» .
(2)
في الأصل: «المانع» .
(3)
في الأصل: «لا معارض» .
قلنا: لا نُسلِّم أن ما ذكرته يدلُّ على صحة ما ادعيتَه من المناسبة على الإطلاق، حتى يكون تركُه في بعض الصور تركًا للدليل، وهذا لأنك إنما رأيتَ الحكيم قد أوجبَ الزكاة في بعض الصور في بعض الأموال، وفي بعض الأنواع على بعض الوجوه، للمصالح المتعلقة بالوجوب. فينبغي لك أن تعتقد المناسبةَ للأمور التي لها تأثير في الإيجاب، وما جاز أن يكون مقتضيًا للوجوب وجاز أن لا يكون مقتضيًا لا يثبته إلا بدليل.
وهذا كرجلٍ غنيّ كثيرِ المال سألَه فقير قريب عالمٌ فأعطاه مئةَ درهم، فقد دلَّت المناسبة على أنه إنما أعطاه لما في الإعطاء على هذا الوجه من المصالح، فلو سأله رجلٌ آخر ليس بفقير أو ليس بقريب، وقد قلَّ مالُ الرجل، وصارَ له عيالٌ ولم يَتركوا له عفوًا، وقد سأله ألف درهم، فإنا لا نعلم أنه يُعطيه لما في الإعطاء من المصلحة، وذلك لأن المصلحة في الإعطاء الأول كان تحصيلُها متيسِّرًا، فجاز أن يكون تيسُّرها أحد الأسباب المقتضية لحصولها، فإنه وصفٌ له تأثيرٌ في الحكم، بخلاف الإعطاء في المرة الثانية، فإذا وجبت الزكاة في مالٍ على وجهٍ فيه تيسيرٌ فلماذا يلزم أن يجبَ على وجهٍ فيه تعسيرٌ؟ وإن ادعى أن لا تعسير فيه خاض في فقه المسألة.
والغرض أن نبين فساد الطريقة الجدلية، وأنه لا بدَّ عند التحقيق من الرجوع إلى المعاني الفقهية والتأثيرات الحكمية، وإذا لم يتبين أن المناسبة المذكورة مقتضيةٌ الزكاةَ على الإطلاق ولا في كل مال لم يكن عدمُ إيجابها في بعض الصور تركًا لدليلٍ أصلًا، بل تكون دعوى ما يوجب تركَ العمل بالدليل من غير دليلٍ على الموجبة
(1)
، وهذا لا يجوز.
(1)
كذا الأصل. ولعلها «الموجبية» .
الخامس: أن يقال: قد ترك العمل بما ذكرته من الدليل في بعض المواضع، وهو ثياب البِذْلة وعبيد الخدمة وإبل الكراء، فتُخصّ منه صورة النزاع بالقياس على تلك الصور، بجامع ما يشتركانِ فيه من الحاجة إلى عين المال، والإخلال ببعض المصالح المباحة [ق 68] بإيجاب الزكاة فيه، ويعود الكلام إلى فقه المسألة. وقياس التخصيص من أقوى الأقيسة عند أصحاب هذا الجدل.
السادس: أن ما ذكرتَه من المناسبة المقتضية للوجوب المطلق يُعارَض بالمناسبة النافية للوجوب، وذلك أن الوجوب منتفٍ عن ثياب البِذْلة وعبيد الخدمة مع قيام المقتضي، وهو ما ذكرته من المناسبة، وما ذاك إلا لمانعٍ فيها، وهو الاحتياج إليها في المنفعة المباحة بشهادة المناسبة والدوران، فإن المانع لو كان للضرورة أو الحاجة الأصلية لوجبتْ فيما زاد على الحاجة من العبيد والثياب والدوابّ.
وهذا المانع يتحقق في صورة النزاع، لأنّ إيجاب الزكاة يَمنع الانتفاعَ المباح، فيتحقق المنع، لأن ما ذكرته من المانع قد ثبتَ مقتضاه عند معارضته ما ذكرته من المقتضي، وثبوتُ دليلِ مدلول أحد الدليلين عند التعارض يُوجب رجحانَه.
ولأن ما ذكرتُه من المانع معتضدٌ بالأصل الثاني للوجوب، والدليلانِ أقوى من دليل.
ولأن ما ذكرتُه من المانع لم يتخلَّف عنه مقتضاه، وما ذكرتَه من المقتضي قد تخلَّف عنه مقتضاه لمانعٍ، والدليل الذي لم يُترَك العمل به راجحٌ على ما تُرِك العمل به.
ولأن ما ذكرتَه من المناسبة يثبت فيها استواؤهما في المصلحة المقتضية للوجوب، لأن الجامع في الأصل والفرع هو المقتضي للحكم، فإذا تميَّزَ قدرًا أو نوعًا كان القائسُ به محيطًا بمأخذ الحكم، بخلاف الجامع المبهم الذي لم يتميَّز عن غيره، فإنّ صاحبه لم يُحِط علمًا بمأخذ الحكم ومناطِه.
ولأنك جمعتَ بالمعنى الأعم، وإنما جمعتُ بالمعنى الأخصَّ. وإذا كانت إحدى
(1)
العلّتين أشدَّ تقريبًا بين الأصل والفرع كانت أولى من التي لا يَشتدُّ تقريبُها، ولا شكَّ أن المعنى الأخصّ يُقرِّب الفرعَ من الأصل أكثر. وإذا كان مدار القياس على التشبيه والتمثيل، فحيثُ ما كان القدرُ المشترك أخصَّ كانت المشابهة والمماثلةُ أتمَّ، فتكون حقيقةُ القياس أقوى، فتكون أولى.
ولأنّ ما ذكرتَه يَقتضي مصلحةً في الوجوب، وما ذكرتُه يَقتضي مفسدة، واحترازُ الحكيم عن المفسدة أشدُّ من طلبِهِ المصلحةَ. ولهذا قال ابن عباس: لا أَعدِلُ بالسلامة شيئًا
(2)
. فإن النجاة رأس المال. وذلك أنه إذا لم يحصل الإيجاب بقي الأمرُ كما كان، أمّا إيجابٌ يتضمن مفسدةً ففيه تغييرٌ للأمر بالإفساد، والاحتراز عنه متعينٌ بما أمكن.
واعلم أن هذه المناسبات المطلقة من غير بحثٍ عن خصوص [ق 69] فقه المسائل لا تُحِقُّ حقًّا ولا تُبطِلُ باطلًا، بل يمكن ردُّها كلها بما ذكرناه وبغيره من الطرق، وهي من جنس إثبات التلازمات العامَّة والدورانات العامة، فإن الجمع بين الأصل والفرع بالقدر المشترك بينهما كائنًا ما كان من
(1)
الأصل: «أحد» .
(2)
أخرجه ابن أبي شيبة (7/ 135) والنسائي في «الكبرى» (11839).
غيرِ دلالةٍ على صحة الإضافة إلى خصوصه ــ كإثبات اللازم على تقدير وجود الملزوم بما يدلُّ على وجودِه مطلقًا من غير اختصاصٍ بذلك التقدير؛ وكتعيين بعض الصفات مدارًا من غير مختصٍّ يُرجِّحه على سائر الصفات المدارية ــ هذا كلُّه مبنيٌّ على محض التحكُّم والترجيح بلا مرجّح، وعليه مبنى عامة كلام الجدليين المموِّهين.
وأما بقية كلامه في قوله: «ونَعنِي بالمناسبة مباشرةَ الفعل الصالح لحصول المطلوب» إلى آخره، فكلامٌ قريبٌ، وهو قولُ من يأخذ بالمناسبات المستنبطة، وهم أكثر الأصوليين
(1)
. ولهذه المناسبة ثلاثة أركان: أن يُباشرَ فعلًا صالحًا لحصولِ مطلوب. ونَعنِي بصلاحية الفعل أن يكون موجبًا له أو مغلِّبًا له، بحيث يكون وجودُه معه أكثر، أو أن يكونَ مدارًا له، بحيث يُوجَد بوجودِه ويُعدَم بعدمه
(2)
.
وقولهم: «مباشرة الحُكم
(3)
أو مباشرة الفعل» جيّد في حقّ العباد، وأما في حقّ الله فلا يَصحُّ هذا اللفظ، لأنه لا يوصف بمباشرة
(4)
الحكم، وليست الأحكامُ إلا كلامَه أو مُوجَب كلامه، وتلك لا يُباشِر [ها].
وأيضًا فإن الأحكام ليست فعلًا بل قولًا من الله.
وعليه سؤالٌ آخر، وهو أن المباشرة ليست هي المناسبة، بل المباشرة المذكورة دليل على أنها إنما وقعت لأجل تحصيل المطلوب، فهي دليلٌ
(1)
في الأصل: «الأصوليون» .
(2)
في الأصل: «بعدمهم» .
(3)
في الأصل: «الحكيم» .
(4)
في الأصل: «مباشرة» .
على أنها علةٌ فاعلةٌ للمطلوب، وأنّ المطلوب علةٌ غائيَّةٌ لها. والاستدلال بالفعل على بعض صفاته أمرٌ واقعٌ كثيرًا.
يُبيِّنُ ذلك أن المناسبة مصدرُ ناسبَ الشيءُ الشيءَ
(1)
يُناسِبُه: إذا وافقَه ولاءَمَه، أو كان بينه وبينه ما يُوجِب نسبةَ أحدِهما إلى الآخر، كنسبة الولد إلى والدِه والحكمِ إلى الوصف. وهذه الخاصَّةُ التي تُوجِبُ انتسابَ أحدهما إلى الآخر لا بدَّ أن تكون ثابتةً لهما بأنفسهما، أو بما يجري مجرى أنفسهما، بحيث يَحسُن في العقلِ إذا أدرك الأمرين أن يقول: هذا منسوب إلى هذا ومضافٌ إليه. ومصدرُ المفاعَلة ليس قائمًا بأحد المتفاعلين دون الآخر، فإذَنْ المناسبةُ صفة إضافية بين الوصف والحكم، وبينه وبين الفعل، وبين الحكم والحكمة، وبين الفعل والحكمة. والمباشرة المذكورة هي الوصف المناسب أو محلُّ الوصف المناسب، فكيف يكون هو المناسبة؟
وهذا [ق 70] كرجلٍ رأيناه يُعطِي فقيرًا، فإن مباشرة الإعطاء الصالح لحصول المطلوب من إغناءِ الفقير يَدُلُّ على أنّ مباشرة الإعطاء إنما كان للفقر، فالإعطاء يناسبُ الفقر، وليس هو مناسبة الفقر.
وتصحيح كلامهم أن يكونوا عَنَوا بالمناسبة نفسَ الشيء المناسب، تسميةَ الفاعلِ بالمصدر، كالعدل والصوم، وعُذْرهم عن إطلاق المباشرة والفعل أنهم أرادوا المخلوق. ثم إذا ثبتَ الحكم فيه فهم المعنى. ومنهم من قال: يُعنَى بالمباشرة إرادة الفعل وإثباته مطلقًا.
قوله: «والوجوب طريق صالح لحصول ذلك المطلوب» كلام صحيح.
(1)
الأصل: «بالشيء» .
قوله: «لو وُجِد يُوجَدُ ذلك المطلوب، ولولاه لا يوجد» مع ما فيه من رِكَّةِ التركيب ليس بجيّد، لأنه لا يلزم من وجود الوجوب وجودُ المصلحةِ المتعلقة من تطهُّرِ المزكِّي إلا إذا فعلَ المكلَّفُ الواجبَ، والمكلَّفُ قد يعصي ويترك الواجب كثيرًا، فكيف يكون مجرَّدُ الإيجاب موجبًا لحصولِ المطلوب؟ فإن المصلحة المتعلقة بالوجوب من تطهير المزكِّي وتمييز المال وتكفير السيئات ومواساة المحتاج وشكر النعمة وغير ذلك من الأمور يَحصُل كثيرًا بدون الوجوب، إمّا بفعلِ الناس على وجه الندب أو بأسبابٍ أُخَر، أو بفِعلِ الله. وإنما الصواب أن يقال: لأن الوجوبَ مُغلِّبٌ لوجودِ تلك المصالح، وعدمُ الوجوب مُقلِّلٌ لها، لأنه إذا وجبَ انبعثَ الداعي إلى الفعل خوفَ العقاب على الترك، فيكثُر الوجود، وإذا لم يجب فَترتِ الهِممُ عن العمل، إلّا نفوسًا تطلبُ الفضائل، وهي قليلةٌ، فيكون حصولُ المطلوب بتقدير الوجوب أكثر، وذلك يوجِبُ اعتقادَ المناسبة. فإن الحكيم كما يسلك طريقًا لا يحصل مطلوبه إلا بها، فيسلك الطريق التي هي أقرب إلى حصولِ مطلوبه.
هذا على ما قرَّره، وإلّا فيمكن تقرير المناسبة على وجه الإيجاب بأن يقال: الوجوبُ محصِّلٌ لهذه المصالح، وعدم الوجوب تَحصُل معه مفاسد، وهو ضررُ المحاويج والحرصُ على حبّ المال وغير ذلك، ولا تندفع هذه المفاسد إلّا بالوجوب، فيكون في الوجوب تحصيلُ المصالح ودَرْءُ المفاسد.
ويمكن تقريرُه على وجهٍ آخر، وهو أن المصالح الحاصلة بالوجوب لا يجوز حصولُها بدونه، إذ لو
(1)
جاز ذلك لكان فيه تعريضُ العباد للعقوبة من غير مصلحةٍ وحكمةٍ، والله أرحمُ بعبادِه من الوالدة بولدها. ولأن مصلحة
(1)
في الأصل: «إذا» . والمثبت يقتضيه السياق.
الوجوب لو سَاوَتْ مصلحة عدم الوجوب لكان الوجوبُ زيادةً عبثًا من غير فائدة، وحكمُ الله لا يجوز خُلوُّه عن فائدة.
قال في تقرير [ق 71] موجبية المناسبة: «لأن الظنّ بالإضافة دار مع المناسبة» إلى آخره، وقد تقدم.
هذا كلامٌ مستدركٌ من وجوهٍ:
أحدها: أن ظنّ الإضافة إلى المطلوب إذا حَصَلَ في صور وجود المباشرة كان ذلك وحدَه دليلًا على صحة إثبات العلة بالمناسبة، وإذا لم يحصل فقد انتقض ركنُ الدوران.
فإن قلتَ: نحن ندَّعي دورانَ كلِّ ظنٍّ مع المناسبة المعتبرة، لدوران الظنّ معها في صورٍ كثيرةٍ وجودًا وعدمًا.
قلتُ: فالظنّ الحاصل في تلك الصور لا بدَّ أن يكون حصولُه ضروريًّا، وإلّا فلو منعَ الخصمُ حصولَ الظنِّ لم يُدفَع إلا بأنه مكابرٌ للحقائق. وإذا كان لا بدَّ من دعوى حصول الظن في بعض صور المناسبات ضرورةً أو في جميعها فإن
…
(1)
وحصول ظن الإضافة إلى الوصف المناسب عند حصول المناسبة المعتبرة أمر ضروري، لا يُمكن العاقلَ أن يدفعه عن نفسه، وذلك أتمُّ من الدوران.
الثاني: أن عدم الدائر مع عدم المدار هنا غير بَيِّن، وذلك لأن الدائر هو ظنُّ إضافة الفعل إلى الأمر المطلوب، والمدار هو مباشرة الفعل المذكور، فإذا عُدِم مباشرة الفعل الصالح فقد عُدِم محلُّ الدائر، لأن ظنّ إضافة الفعل
(1)
هنا كلمة مطموسة ثم بياض بقدر كلمة.
لا يكون إلّا بعد وجود فعل الدوران المعروف أن يبقى محلَّ الدائر حتى يكون انتفاء الدائر عنه تبعًا للمدار دليلًا
(1)
على أن المدار علة، كما إذا قيل: شرب الدواءَ فأطلَقَه، ثم تَركَه فاحتبَسَ، فإذا عُدِمَ الدواء [عُدِم] الإطلاقُ، والبطنُ موجود.
الثالث: أن المناسبة تارةً تفيد اليقين، وتارةً تُفيد الظنَّ كالدوران، فإنا إذا رأينا رجلًا قد أضجعَ رجلًا وبيده مُدْيَةٌ حادَّةٌ، فقطعَ بها رقبتَه، نعلم قطعًا أن مباشرتَه للفعل الصالح للزُّهوقِ كان دليلًا على أنه قَصَدَ الزُّهوق، يعني نحكم
(2)
بأن ذلك [كان] عمدًا، والعمديَّةُ من صفات القلب، ونقتله بذلك. وأمثلتُه كثيرةٌ، فكان ينبغي أن يذكر القدر المشترك بين العلم والظن، وهو الاعتقاد.
الرابع: أن الذي توجبه المناسبةُ قطعًا أو ظاهرًا أو تَستلزِمُه: عِلِّيّةُ الأمر المناسب وإضافة الفعل إليه، بمعنى أن الفاعل قصده. وهذه العليَّة والإضافة أمرٌ ثابت في نفسه، سواء كان هناك من يظنُّ أو لم يكن من يظنُّ. كما أنّ الأكل في نفسِه يستلزم قصد الآكلِ الشبعَ أو التلذذ
(3)
ونحو ذلك. وكذلك سائر الأمور الدالة هي في أنفسها على صفاتٍ تُوجِب مدلولاتها قطعًا أو ظاهرًا. وإنما ظنُّ الإنسان تابعٌ للدليل عليه في نفسه. هذا مذهب المحققين، بخلاف من اعتقدَ أن [ق 72] الظنون أمورٌ اتفاقية لا مُوجِب لها، ولا تقديم فيها ولا تأخير، وبنَى على ذلك أن لا حُكمَ للهِ في الظنيات إلّا ما
(1)
في الأصل: «دليل» .
(2)
كذا الأصل. ولعلها: «حتى نحكم» .
(3)
العبارة لم تحرر، ولعل هذا صوابها.