الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
العلل الحادثة معلولًا بها، وإنما هو كما يقال: الذاتُ مقتضيةٌ للصفات من العلم والقدرة، والصفات مقتضيةٌ للأحكام أو الأحوال من كونه عالمًا وقادرًا، أو العلم والقدرة مشروطة بالحياة، والشرط قبل المشروط، فإن ذلك كلَّه على نحو آخر يتعالى
(1)
على عقول البشر، والله أكبر كبيرًا. لكن لا بدَّ من تقريبٍ إلى العقول يحتاج إلى التوسع في التعبير، لإزاحةِ ما يُتَوهَّم من الشبهات.
والتحقيق على هذا أن يقال: حرَّم الخمر لعلمه بأنها مُسكِرة، وأمرَ بالمعروف لأنه مصلحة. فإن قيل: حرّم الخمر لأنها مسكرة فذاك لأنه قد عُلِمَ أن الله عليمٌ بكل شيء، وقد عُلِمَ إذا قيل: فلانٌ أمرَ بكذا لأنه مصلحة له أو للناس، أنَّما
(2)
فعلَه لعلمه بصلاحه، وإلّا فلو لم يشعر بصلاحه امتنع أن يأمر به كذلك.
وسبب ذلك أن العلم في الحقيقة تابعٌ للمعلوم، لا يُكسِبُه صفةً ولا يكتسب عنه صفة، وإنما نشأت الحكمة من نفس المعلوم، فلما كان كونُه مصلحةً والعلمُ بأنه مصلحةٌ أمرانِ متلازمان مطلوبيَّةُ أحدهما باعتبار الآخر= لم يقدح إضافته إلى الآخر. وإذا قيل: حُرِّمت الخمر لأنها مسكرة فهذا تعليلٌ للحكم الحادث، وهو الحرمة القائمة بها بالصفة الحادثة، [ق 58] وهي الشدّة المُطرِبة.
و
معنى قولنا: «إنه يفعل لا لغرضٍ ولا لداعٍ ولا لباعثٍ»
أنه لا يَبعثُه على الفعل
(3)
باعثٌ من خارجٍ، كما هو صفة المخلوق، فإن كمال المخلوق عن
(1)
الأصل: «معانى» ، ولعل الصواب ما أثبت.
(2)
الأصل: «وإنما» .
(3)
تكررت في الأصل «أنه لا يبعثه على الفعل» .
أفعالِه، وبأفعالِه كَمُل، والله سبحانه فِعلُه عن كمالِه، وأفعالُه صدرت عن كمالِه، ولسنا نعني به أن أفعاله لا تتضمنُ مصلحةً للخلق ورحمةً وحكمةً، فإن هذا ــ مع أنه خلاف الكتاب والسنة والإجماع ــ خلافُ الواقع. ثم هو سبحانَه لا تعود المنفعةُ إليه، وإنما تعود إلى خلقِه، فإنه غني حميد. وإضافةُ الفعلِ إلى مشيئته وإضافةُ مشيئته إلى علمهِ كإضافة حكمِ الفعل إلى أمرِه، وأمرِه إلى علمه.
وهنا نكتةٌ لا بدَّ من معرفتها، فإن الفعل أو الحكم إذا كانت فيه مصلحة فتلك المصلحة إنما تُوجد بعد وجود ذلك الفعل والحكم، وهي المقصودة بذلك الفعل والحكم، فهي متقدمةٌ في العلم والإرادة، متأخرةٌ في
(1)
الحصول والوجود. كما يقال: أولُ الفكرِ آخر العمل، وأولُ البغية آخر الدرك، والفعل علةٌ فاعلةٌ لتلك المصلحة، وتلك المصلحة علةٌ غائيَّة لذلك الفعل. وفي الحقيقة فالعلةُ العلمُ بتلك المصلحة والإرادةُ لها أو الطالب كما تقدم، إذ العلةُ لا تتأخر عن المعلول.
إذا عُلِم هذا فمعنى المناسبة كونُ الحكم الشرعي بينه وبين السبب الذي رتّب عليه نسبٌ، حتى صار ذلك السبب مقتضيًا لذلك الحكم وموجبًا له، مثل الوالد، كما يُولِد الوالد ولده فيصير بينهما مناسبة. ولا بدّ لكل مناسبة من حكمةٍ تَحصُل من الحُكْم باعتبارها تُصيِّرُ الحكمَ ثابتًا، كالتقوى التي هي حكمة الصوم، وسَدِّ الفاقات التي هي من حكمة الزكاة، وحَقْن الدماء التي هي من حكمة القصاص، وحفظ الأنساب والعقول والأديان والأموال والأعراض التي هي حكمة الحدود. فيسمُّون المصلحة الحاصلة
(1)
الأصل: «عن» .
بالحُكْمِ أو بالفعل الذي هو محلّ الحكم: حكمةً، ويُسمَّى نفس ذلك الفعل حكمةً، كما يقال: الصَّمتُ حكمٌ وقليلٌ فاعلُه
(1)
، ويقال: إيجاب القصاص حكمةٌ عظيمة. ويُسمَّى العلمُ بما في ذلك الفعل أو الحُكْمِ من المصلحة والتكلمُ بذلك حكمة، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم:«إن من الشعر لحِكمةً»
(2)
، وقال:«الحكمةُ ضالةُ المؤمن»
(3)
. فالحكيم هو الذي يعلم الصواب ويتبعه، فإن عَلِمَه ولم يتبعه أو عَلِمَه ولم يعلم حقيقته فقد أُوتِيَ شَطْرَ الحكمة.
وقد غَلَب في اصطلاح أهل الجدل من الفقهاء إطلاقُ الحكمة في الأحكام الشرعية على المعنى الأول [ق 59] من المعاني الثلاثة، وهو ما في الفعل أو الحكم من تحصيل مصلحةٍ ودفعِ مفسدةٍ. والمصالح والمفاسد بعد البحث التام تعود إلى ما ينفع
(4)
الناسَ في الدنيا والآخرة وما يَضرُّهم، والمنفعة تؤولُ إلى اللذة التامة التي لا ألمَ فيها في ذاتِ الحيوان، مع أن أنواع تلك اللذات ومقاديرها مما لم يَخْطُر على قلب بشر، لكن كلَّما كان أقربَ إلى حصول ذلك المطلوب كان أبلغ.
وباعتبار انقسام المنافع والمضارّ إلى دنيوية وأخروية انقسم الحكماءُ إلى حكماءِ دنيا وحكماءِ آخرة، والأحكام الشرعية مشتملة على زيادة
(1)
انظر: «الأمثال» لأبي عبيد (ص 44)، و «البيان والتبيين» (1/ 270) و «جمهرة الأمثال» (1/ 569) وكتب الأمثال الأخرى.
(2)
أخرجه البخاري (6145) عن أُبي بن كعب.
(3)
أخرجه الترمذي (2687) عن أبي هريرة، وقال: هذا حديث غريب لا نعرفه إلا من هذا الوجه، وإبراهيم بن الفضل المخزومي ضعيف في الحديث.
(4)
في الأصل: «ما ينتفع» والمثبت يناسب السياق.
الحكمة وتفاوتها، ولهذا قال العلماء: الحكمة هي علم الشريعة والفقه فيها والعمل بذلك، كما نطق به قولُه:{وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ} [آل عمران: 164]، {وَاذْكُرْنَ مَا يُتْلَى فِي بُيُوتِكُنَّ مِنْ آيَاتِ اللَّهِ وَالْحِكْمَةِ} [الأحزاب: 34]. وإذا كانت المناسبة لا تتمّ إلا بالحكمة الحاصلة من الفعل أو الحكم، فأنواع الحِكَم ومقاديرها مما لا يحيط به علمًا إلا الله تعالى. وما زال الناس يبحثون عن أسرار الشريعة، ويطلعون في كل وقتٍ على أنواع من الحِكَم. وكم من شيء يعتقد كثيرٌ من الناس أنه حكمةٌ ومصلحةٌ يجب تحصيلها، أو أنه سَفَهٌ ومفسدةٌ يجب دفعُها، وليس كذلك في نظر الشارع، لأن حقائقَ ما يَنفع الناسَ وما يَضُرُّهم في أمر المعاد بل في أمر الدنيا أيضًا لا تُعلَم إلا بالوحي المنزل من عند الله، فلهذا كان إثبات علِّية الوصفِ بالمناسبة خطرًا، وقد يَغلَط فيه كثيرٌ من الناس أو أكثرهم.
ثم اعلم أن كثيرًا من الأحكام أو أكثرها أو كلّها لا بدَّ لها من أسبابٍ تناسبُ الحكم، ومعنى السبب هنا هو ما يَنشأُ منه كون الفعل أو حُكْمِهِ محصِّلًا للمصلحة والحكمة، ولولا ذلك السبب لم يكن ذلك الفعل أو الحكم موجبًا لتلك
(1)
الحكمة. وإن شئتَ قلتَ: هو الوصف الذي لأجله صارت تلك المصلحة مطلوبةً من الحُكْم، مثل الزنا، فإنه إذا وُجِد أوجبَ كونَ الرجم أو وجوبَ الرجم محصّلًا لمصلحة الانزجار عن الزنا، والانزِجارُ مصلحة وحكمةٌ تحفظُ المياهَ والأنساب، وتلك حكمةٌ تتقي بها الأمة على الوجه المضبوط. وكذلك القتل العمد العدوان
(2)
بشروطه سببٌ
(1)
الأصل: «ذلك» .
(2)
في الأصل: «والعُدوان» .
يُوجب كونَ القَوَد
(1)
أو إيجاب القَوَدِ محصّلًا لحكمة حَقْنِ الدماء. وكذلك الزنا والسَّرقة وشرب الخمر، وكذلك أسباب الكفارات والعبادات، فإن مِلْكَ النِّصاب سببٌ أوجبَ كون إيتاء الزكاة أو وجوب إيتاء الزكاة محصِّلًا لمصلحةِ سَدِّ الفاقات وشُكرِ النعمة وسخاء النفس وإزالةِ الشُّحّ.
إذا [ق 60] عرفتَ هذا فاعلم أن تعليق الأحكام بالأسباب المقتضيةِ حصولَ المصالح من الأحكام أمرٌ مضبوطٌ، فأما الحِكَمُ والمصالح فإن تعليق الأحكام بها عسيرٌ، لكونها قد تكون خفية، وقد تكون غير مضبوطة.
ثم اعلم أن النظر في المصالح
(2)
أولًا، ثم تُطلَب حكمتُه وما فيه من المصلحة. الثاني: أن يعتقد أن للشيء الفلانيّ مصلحةً وحكمةً، ثم يُنظَر هل شُرِعَ حُكمٌ يحصِّل تلك المصلحة والحكمة.
فإن وجدنا حُكمًا يشهد لتلك المصلحة بالاعتبار سميناه مصلحة معتبرة في نظر الشرع، كمصلحة حفظ الأصول الستة.
وإن وجدنا حكمًا يشهد لذلك الأمر الذي اعتقدناه مصلحةً بالإلغاء والإهدار سمَّيناه مصلحةً مُهْدَرةً، وفي حقيقة الأمر لا تكون مصلحةً، بل إما أن تكون مَفسدةً خالصةً أو مفسدةً راجحةً على مصلحةٍ، إذ لو كانت مصلحةً خالصةً أو راجحةً لاعتبرها الشارع، فإنه حكيمٌ لا يُهمِل المصالح، لكن الناظر لقصور نظرِه وإدراكِه يَعتقد أنها مصلحةٌ. وهذا مثل السياسات الجَوْرِية التي أحدَثها الملوك، وحسبوا أنها تحصِّل مصلحة انتظام الأمور.
(1)
«سبب يوجب كون القود» تكررت في الأصل.
(2)
لعل هنا سقطًا، مقتضى السياق أن يكون هكذا: «
…
المصالح [على وجهين؛ الأول: أن يُنظر في الحكم] أولًا
…
».
[و] مثل الأعمال المبتدعة التي استحدثَها بعض المتعبدين، وحسبوا أنها مصلحة لرضوانِ الله وقُربهِ وثوابه. ومثل العقائد والكلمات المبتدعة التي أحدثَها بعضُ المتكلمين، وحسبوا أنها مصلحةٌ لتحقيق الأمور وإدراك الحقائق، أو أنها هي الحقُّ في نفس الأمر.
وإن لم نَجِدْ شيئًا يَشهد لتلك المصلحة سمينَاها مصلحةً مرسلةً ومناسبةً مطلقةً، إن شَهِدَ لها أصلٌ كلّي من أصولِ الشرع، ولم يُغيِّر شيئًا من التفاصيل المشروعة، بَنَينا الأحكام عليها، وإلّا
(1)
توقفنا عن الحكم.
واعلم أن المناسبة لها ثلاثة أركان:
أحدها: اقتران الحكم بالوصف المناسب، وشهادة الشرع له بالاعتبار، حتى لا يكون مناسبةً مرسلةً.
والثاني: أن يُعلَم أن الشيء حكمةٌ ومصلحةٌ
(2)
في نفس الأمر وفي نظر الشرع، لأن اعتقاد كون الشيء حكمةً ومصلحة بمنزلة اعتقاد كون الفعل حلالًا وحرامًا وواجبًا، إذ لا فرقَ بين [قولنا:] هذا الفعل حرامٌ، إذا فعله الفاعل تعرَّض للعقاب، وحَسَنٌ إذا فعلَه حصَل له ثواب؛ وبين قولنا: هذا الأمر مصلحة ومنفعة للخلق في دنياهم وآخرتهم، أو هذا الأمر مفسدةٌ ومضرةٌ على الخلق في دنياهم وآخرتهم، وإلّا فكم من يعتقد المصالح مفاسدَ والمضارَّ منافع، ويسمون هذا المعنى التأثير، فيقولون: هذا المعنى
…
(3)
فيه الوصف الذي
(1)
الأصل: «ولا» .
(2)
الأصل: «ومصلحته» .
(3)
هنا كلمات غير واضحة في الأصل.
أوجب اشتمالَ الحكم على تلك المصلحة، وهذا أمرٌ مهمٌّ لابدّ من الاعتناء به، بل الاعتناء به أوكد من الأول، فإن الشيء إذا عُلِم أن جنسَه مصلحة بالشرع فلا تضرُّ [ق 61] شهادةُ أصل معين له بالاعتبار، أما حكمٌ جاءَ به الشرعُ فقلنا: إنه إنما حكم به لكَيْتَ وكيتَ، لاعتقادنا أن ذلك الأمر مصلحة، وأنه لا مصلحةَ فيه إلّا ذلك، فهذا خطرٌ عظيم، وهو الصَّفا الزلَّال
(1)
.
ومن جرأةِ كثير من الجدليين أنهم يقولون: هذا حكمة ومصلحة في نظر العقلاء أو في عُرف الناس، ويكتفون بذلك في تقرير مناسبة الوصف، وهم يعلمون أن أكثر الأحكام الشرعية مما تقصر العقولُ الكاملة عن درك حِكَمِها ومصالحِها، وأن أكثر الناس أو كلّ الناس لا يعلمون ما هو الحكمة والمصلحة والمنفعة لهم في أمر الدنيا والآخرة، فكيف يُستشهد على حكم أحكم الحاكمين لمجرد قول بعض الناس؟ وهذا لعمري تشبيهٌ في الأحكام قريبٌ من تشبيه القدرية في الأفعال.
الثالث: أن يُعلم أن ذلك الحكم إنما شُرِع لأجل تلك الحكمة، وإلا فقد تكون هناك حكمة غيرها
(2)
يُشرَعُ الحكم لأجلها.
فإذا تبيّنَ هذه الأركان فالمناسبةُ باعتبار ذلك أقسامٌ:
أقواها
(3)
: أن يثبت الحكم محصِّلًا لأمرٍ قد دلَّ الشرع على أنه حكمة ومصلحة، وأن تلك الحكمة مطلوبةٌ من ذلك الحكم، كشَرْع العقوبات
(1)
كذا في الأصل. والمعنى: الحجر الأملس الذي ينزلق فيه القدم ولا يستقر.
(2)
في الأصل: «غيره» .
(3)
في الأصل: «اقعدها» . ولعل الصواب ما أثبت.
محصِّلةً للزجر عن الفواحش والقبائح، وهذا يوجب المناسبة
(1)
، وهذا لا يختلف فيه أحدٌ من أهل العلم، ويسمونه «التأثير» .
ثم ينقسم إلى ما يُؤثِّر عينُه في عين الحكم، كتأثير الشدِّة المُطربة في التحريم تحصيلًا لمصلحة حفظ العقل، التي تحصُلُ به المحافظةُ على ذكر الله وعلى الصلاة، والانكفاف عن العداوة والبغضاء. وكتأثير نقص العقل بالصِّغَر أو الجنون أو السَّفَه في ثبوت الولاية، تحصيلًا لمصلحة حفظ أموالهم. وكتأثير القتل العمد في إيجاب القصاص تحصيلًا لمصلحة الحَقْن.
والأول دلّ عليه قوله: {إِنَّمَا يُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُوقِعَ بَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ فِي الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ وَيَصُدَّكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَعَنِ الصَّلَاةِ} [المائدة: 91]، فعُلِم أن هذه مفسدةٌ أبطلها الشرعُ بتحريم الخمر، ومنشأ هذه المفسدة هو الشدَّة المطربة.
والثاني دلّ عليه قوله: {فَإِنْ آنَسْتُمْ مِنْهُمْ رُشْدًا فَادْفَعُوا إِلَيْهِمْ أَمْوَالَهُمْ} [النساء: 6]، دلّ على أن تسليم المال مع عدم الرشد مفسدةٌ أبطلها الشرعُ بالمنع من التسليم قبل إيناس الرشد.
والثالث دلَّ عليه قوله: {وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ} [البقرة: 179]، دلَّ على أن الحياة مصلحة، إنما جعلها الشرع لنا بإيجاب القصاص، بأن يُسلَّم القاتل، فلا يتعدَّى القتل إلى غيره من الأقارب والجيران، كما كان أهل الجاهلية يفعلون، مما أشعَرَ به لفظ القصاص، وبأن يَعلمَ مَن يُريد القتلَ أنه لا يُقَاد لأولياء المقتول ويُمكَّنون منه، فزجره ذلك عن فعل ما يَهُمُّ به، وربَّما صارَ وازعًا لهم أيضًا.
(1)
الأصل: «يجر المناسبة» ولعل الصواب ما أثبتناه.
وإلى
(1)
ما يُؤثِّر عينُه في نوعِ الحكم، كتأثير بعض الفعل في جنس [ق 62] الولاية، أعني ولاية المال والنكاح والبدن. وكترجيح قرابة الأخ من الأبوين على الأخ من الأب في الميراث عينًا وفي الحقوق نوعًا، حتى يلحق به الغسل والدفن والصلاة.
الثاني
(2)
: أن يثبت الحكم محصّلًا لحكمةٍ ومصلحةٍ في نظر الشرع، ولا يدلّ النصُّ ولا الإجماعُ على أنه شُرِع ذلك الحكم لتلك المصلحة. فهذا أقوى المناسبات التي تثبت بالاستنباط، لأن مناسبة الحكم لتلك الحكمة في الأولى ثبتتْ بنصّ أو إجماع. وينقسم هذا إلى مؤثّرٍ وملائمٍ.
الثالث: أن يشرع الحكم محصِّلًا لأمرٍ هو
(3)
حكمة أو مصلحة في نظر الناس، ولم يُعلَم أنه مطلوب في نظر الشرع. ويسمى المناسب الغريب، ويلزم من ذلك أن لا يكون الشرع قد دلَّ على أنه شرع الحكم لأجله، وما دلَّ الشرع على إضافة الحكم إليه ولم يُعلم أن فيه مصلحةً لا يُعدُّ مناسبًا، مثل أن يقال: القاتل إنما حُرِمَ الإرثَ معاقبةً له بنقيضِ قصدٍ، لأنه استعجلَ ما أحلَّه الله، فمعاقبتُه بالحرمان إذا قَتَل قد يراها الناسُ مصلحةً وحكمةً. وهذا دونَ الذي قبله، لأنه يحتاج إلى شيئين: إلى بيانِ أن هذا الأمر حكمةٌ، وبيانِ أن الشرع إنما حَكَم لأجله. وكلاهما إنما علمه بالاستنباط والنظر.
الرابع: أن يعلم بالشرع أن الأمر حكمة ومصلحة، ولا يشهد الشرع لاعتباره في ذلك السبب المعيَّن. وهي المصلحة المرسلة التي شَهِدَ لها
(1)
هذا القسم الثاني للتأثير.
(2)
أي القسم الثاني من أقسام المناسبة.
(3)
الأصل: «فهو» . والصواب ما أثبتناه.
أصلٌ كلّي بالاعتبار. وهذا كان السلف يعتبرونه كثيرًا، وهو كثير في كلام الفقهاء أهلِ الفتوى، وأما أهل الأصول فقد اختلفوا فيه.
الخامس: أن يعتقدوا أن الأمر حكمةٌ ومصلحة، ولم يشهد الشرعُ بأنه كذلك، ولا اعتبرَه في سبب من الأسباب، كعقوبات الناس بالمصادرات أو بأنواع من العذاب. فهذا لا يكاد يلتفت إليه إلّا شذوذٌ من الناس.
السادس: أن يُعتقَد أن الأمر حكمة، وقد أهدره
(1)
الشارع وحكم بخلافه. فهذا باطلٌ باتفاق الناس، وهو كاعتقادِ إبليسَ أنّ المخلوقَ من نارٍ لا يَسجُد للمخلوق من طينٍ، لأن سجوده له خضوعُ الأعلى للأدنى في نظر إبليس، والحكمة ترفع الأعلى على الأدنى. وكاعتقاد الكفار أن الربا لا مفسدةَ فيه، بل هو كالبيع الذي يُبتغَى به الربح، ففيه مصلحة وحكمة. وكاعتقاد بعض الكفار أن شرب قليل الخمر فيه حكمة ومصلحة من غير مضرة، لأنها تُصلِح المزاجَ ولا تُفسِد العقلَ. وكأنواع هذه العقائد التي فيها مُشَاقَّةُ الرسولِ واتباعُ غير سبيل المؤمنين. وفي مثل هذه الأشياء قيل: أولُ من قاسَ إبليس، وإنما عُبِدَت الشمسُ والقمرُ بالمقاييس
(2)
.
ولا [ق 63] خلافَ بين المسلمين أن ما عارضَ النصوصَ من القياس لم يُلتفَتْ إليه، لكن قد يقع التعارضُ بين بعض دلالات النصوص وبين القياس، فيَقوى ظنُّ بعضِ الناس بصحة القياس، فيعتقد أن الشارع لم يُهدِر تلك المصلحة، ويَقوَى ظنُّ آخرَ بدلالة لفظ الشارع، فيُقدِّمه على ظنِّه
(1)
في الأصل: «اعتبره» . ولعل الصواب ما أثبت.
(2)
أخرجه الطبري في «تفسيره» (8/ 98) وابن عبد البر في «جامع بيان العلم» (2/ 892) عن ابن سيرين. ورويا الجزء الأول منه عن الحسن البصري أيضًا.
ويُحكِّمه على عقله. وهذا مقامٌ فيه للرجال مجالٌ رحب.
إذا تقرَّر هذا فاعلم أن كلامَ أكثر الجدليين إنما يَقعُ في القسم الثاني والثالث، لأن الوصف الذي قد عُلِم إضافةُ الحكم إليه أو الحكمة التي قد عُلِمَ أن الحكم شُرِعَ لأجلها بالنص والإجماع لا يحتاج إلى مناسبته باستنباط المناسبة، والمناسبة التي لم يشهد لها أصل معيَّن فلا يكادون يُدخِلونها في كلامهم، إمّا لاعتقادهم عَدَمَ الاستدلال بها، أو لانتشار الأمر فيها على القياسيين، فإنّ النظر فيها أسهل من المناظرة فيها.
أما القسم الأول فهو أقربُ إلى الصحة، وقد اشتهر الكلام فيه، وأكثر الأصوليين يقولون به في الجملة. ويُعبِّر عنه الخراسانيون أن مباشرة الحكم طريقَ
(1)
الفعل الصالح لحصولِ المطلوب تُوجِب إضافةَ تلك المباشرة إلى ذلك المطلوب. مثل مَن علمنا أن جائعٌ أو عارٍ
(2)
، ورأيناه يَسعَى في تحصيل ما يأكل ويلبس، فإنا نقول: إنما أخذَ هذا الطعامَ ليأكلَه، وهذا الثوبَ ليلبسَه، وإن جاز أن يكون أخذه ليُؤثِرَ غيرَه. وكذلك من رأيناه أعطَى فقيرًا أو أكرمَ عالمًا أو زارَ قريبًا نقول: إنه إنما فعلَ ذلك لأجل الفقر والعلم والقرابة. وكذلك من رأيناه يؤدِّي الفرائضَ ويَجتنبُ المحارمَ نقول: إنه إنما فعل ذلك لطلب الثواب والنجاةِ من العقاب. ومثاله في الأحكام الشرعية أنَّ إعطاءَ المحاويج وسدَّ المَفَاقِر لما كان أمرًا مطلوبًا في نظر الشرع، وهو حكمةٌ ومصلحةٌ، قد علمنا ذلك بنصوصٍ كثيرة، وكذلك البراءة من حبِّ المال وشكرُ اللهِ عليه، ثم رأيناه قد أوجبَ الزكاةَ المفضي من وجوهٍ إلى إعطاءِ المحاويج والبراءةِ من الشُّحِّ
(1)
الأصل: «الطريق» ولعل الصواب ما أثبت، انظر (ص 104).
(2)
في الأصل: «عارى» .
وشُكرِ النعمة= نقول: فرض الزكاة لذلك. وحِفظُ العقلِ لما كان حكمةً في نظر الشرع، حتى حرَّم المسكرات، فإذا أَمَر بالحدِّ لذلك نقول: إنما أمر بالعقوبة على ذلك ليَحفظَ العقول. وأمثلة ذلك كثيرة.
والدليل على ذلك وجوه:
أحدها: أن هذا الحكم لا بدَّ له من حكمةٍ ومصلحةٍ، لأن الحكم العاري عن المصلحة عَبَثٌ. والحكمة إمّا هذا الأمر أو غيره، لكن غيره معدوم بالنافي المستمر، فيتعيَّن هذا الأمر. ولهذا نقول: إذا رأينا [ق 64] أمرًا حادثًا يفتقر إلى سببٍ، ورأينا هناك سببًا صالحًا، أضفناه إليه، كما نضيف الزُّهوق إلى الجرحِ المتقدم، فنوجب جزاءَ الصيد بذلك على المُحرِم، ونوجب القصاص على الفعل، ونُبيح الصَّيدَ للرامي.
الثاني: أنّا إذا تأملنا أكثر الصُّورَ وجدنا الحكم فيها مضافًا إلى تلك الحكمة المعلومة الظاهرة، فيُلحَق الفردُ بالأعم الأغلب. كما إذا علمنا أن الغالب على أهل بلدةٍ صفة، ثم رأينا واحدًا منهم، سَحَبْنَا عليه ذلك الغالب، ولذلك جاز قتلُ مَن في دار الحرب ومَن في صفِّ الكفّار، مع تجويز أن يكون مسلمًا. ولولا أن دِيْلَ الغالبُ على الأفراد، وإلّا لقيلَ
(1)
بالأصل المحرّم لقتل المعصوم.
الثالث: أنّا نجد الناس إذا رأوا فعلًا، ورأوا له سببًا مناسبًا، أضافوه إليه، كما لو رأوا الأمير قد قتل جاسوسًا أو مرتدًّا أو قاطعَ طريقٍ قالوا: قتله لذلك الوصف المناسب، مع تجويز أن يكون هناك سببٌ آخر. ولولا أن علمهم
(1)
في الأصل: «وإلا لما قيل» . وهو عكس المفهوم من السياق.
بأن مباشرة الفعل الصالح لحصول المطلوب تَقتضي إضافة ذلك الفعل إلى ذلك المطلوب لما استجازوا تلك الإضافة. وإذا كان هذا من عُرفِ الناس يَرونَه حسنًا وَجَبَ اتباعُهم لقوله تعالى
(1)
.
الرابع: أنّا إذا رجعنا إلى أنفسنا في مثل هذه الأشياء وجدنا ظنًّا غالبًا على قلوبنا بإضافة الحكم إلى ذلك السبب، كما نجد العلومَ الضرورية عند وجود أسبابها، والعمل بالظنّ الغالب ــ إذا لم يعارضه ما هو مثلُه أو أقوى منه ــ واجبٌ، لأنّا إن اتبعنا الراجح والمرجوح كان جمعًا بين الضدّين، وإن تركناهما جميعًا خَلَتِ الحادثةُ عن حكمٍ، وفي ذلك ضررٌ في الدين والدنيا، وإن عَمِلْنا
(2)
بالمرجوح لم يَجُز بالضرورة، فتعيَّن اتباعُ الراجح، وليس بعده إلا التوقُّف.
ولهذا قال الإمام أحمد
(3)
: ليس القياس على كلّ أحدٍ، وإنما هو على الأمير والحاكم، يَنزِل به الأمرُ، فيجمعُ له الناسَ ويقيس ويشبّه. كما كتب عمر إلى شريح
(4)
: «اعْرِفِ الأشباهَ والأمثالَ، وقِسِ الأمورَ برأيِك» ، فخيَّر من لا يجب عليه الحكم بين القياس لوجود الرجحان وبين التوقف، لجواز
(1)
ليس بعده في الأصل ذِكر الآية.
(2)
في الأصل: «علمنا» ، والمثبت يقتضيه السياق.
(3)
في رواية بكر بن محمد عن أبيه كما في «العُدَّة» لأبي يعلى (4/ 1280) و «التمهيد» للكلوذاني (3/ 365) ولكن لفظه عندهما: «لا يستغني أحد عن القياس، وعلى الحاكم والإمام
…
» إلخ.
(4)
بل إلى أبي موسى الأشعري، كما في المصادر. وقد أخرجه الدارقطني في «السنن» (4/ 207) والبيهقي في «السنن الكبرى» (10/ 115) وابن حزم في «المحلى» (9/ 393) و «الإحكام» (7/ 146) والخطيب في «الفقيه والمتفقه» (2/ 200).
أن لا يكون حقًّا، بخلاف من يجب عليه الحكم، فإن عليه إنفاذ الحكم، ولا يمكنه إلا بما ذكرناه.
الخامس: أن نقول: قد دار إضافة الفعل الصالح لحصول المطلوب على حصول المطلوب مع الفعل الصالح في صور كثيرة تفوق العدَّ والإحصاء، بحيث تُوجَد هذه الإضافة إذا وُجِد الفعل الصالح، وتُعدَم إذا عدم، وذلك يوجب كون المدار علةً للدائر، فعُلِم أن علة الإضافة إلى المطلوب وجود الفعل الصالح لحصول المطلوب، والفعل الصالح حاصلٌ في هذه الصورة، فتوجد الإضافة، وهو المقصود. والاحتجاج [ق 65] بالدوران على صحة المناسبة هكذا أجود، لما سنذكره إن شاء الله.
وإن شئتَ أن تقول: كون السبب المناسب علةً للحكم قد دار مع المناسبة وجودًا وعدمًا في مواضعَ تفوقُ العدَّ والإحصاء، والدوران يُوجب كونَ المدار علةً للدائر، فثبت أن المناسبة توجب كونَ المناسب علةً للحكم.
وأما كلام المصنف فقوله: «الوجوب ثابتٌ في المضروب بالإجماع
(1)
، فكذا في صورة النزاع بالقياس عليه، لأن الوجوب في المضروب إنما كان تحصيلًا للمصالح المتعلقة بالوجوب، كتطهير المزكي وغيره بشهادة المناسبة».
واعلم أن هذا المثال لا يَحسُن أن يمانع في كون الوجوب إنما كان تحصيلًا للمصالح المتعلقة بالوجوب، من تطهير المزكي من الذنوب والأدناس وتزكية نفسه وعمله، كما أشار إليه قوله: {خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً
(1)
الأصل: «صورة الإجماع» وهو خطأ، وقد تقدم كلام المصنف (ص 103).
تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِهَا} [التوبة: 103]، وقوله:{وَسَيُجَنَّبُهَا الْأَتْقَى (17) الَّذِي يُؤْتِي مَالَهُ يَتَزَكَّى} [الليل: 18 - 18]، وقوله:{قَدْ أَفْلَحَ مَنْ تَزَكَّى (14) وَذَكَرَ اسْمَ رَبِّهِ فَصَلَّى} [الأعلى: 14 - 15]، وقوله:{أَلَمْ يَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ هُوَ يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبَادِهِ وَيَأْخُذُ الصَّدَقَاتِ} [التوبة: 104]، وقوله صلى الله عليه وسلم:«الصدقةُ تُطفِئ الخطيئة كما تُطفِئ الماءُ النار»
(1)
. وما فيها من دفع البلايا أشار إليه قوله صلى الله عليه وسلم في الحديث المتفق عليه: «مثلُ البخيلِ والمتصدّق مثل رجلين عليهما جُبّتان أو جُنَّتانِ من لَدُنْ ثُدِيِّهما إلى تَراقِيهما، فأما المنفِق فلا يُنفِق إلّا سَبَغَت أو وَفَرتْ على جلده، حتى تُخْفِيَ بَنَانَه وتَعفُو أثرَه، وأما البخيل فكلما أراد أن يتصدق فلَصِقَتْ وأخذتْ كلُّ حَلْقةٍ مكانَها، فهو يُوسّعها فلا تَتسع» أخرجاه
(2)
. وقوله صلى الله عليه وسلم: «الصدقة
…
»
(3)
وفيها من شكر النعمة ومواساة المحاويج، وغير ذلك من المصالح المطلوبة.
لكن يقال: سلَّمنا أنها وجبت في المضروب لمصالح متعلقة بالوجوب، أو لهذه المصالح المعينة، لكن لِمَ قلتَ: إن هذه المصالح موجودة في الفرع؟ أو لِمَ قلتَ: إن في إيجابها في الحُلِيِّ مصالح فضلًا عن هذه المصالح؟ أو لِمَ قلت: إيجاب الزكاة في المضروب يُضاف إلى القدر المشترك وأن المصالح متعلقةٌ بها؟ وهلّا جاز أن يُضافَ إلى المختص
(1)
أخرجه أحمد (5/ 231) والترمذي (2616) وابن ماجه (3973) عن معاذ بن جبل. قال الترمذي: «هذا حديث حسن صحيح» ، وصححه ابن حبان «الإحسان» رقم (214).
(2)
البخاري (1443) ومسلم (1021) عن أبي هريرة.
(3)
لم يكمل الحديث، ويوجد مكانَه بياض في الأصل بقدر سطرين.