المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌الأمر الاتفاقي لا يدل على التنافي؛ لجواز تغير الحال - تنبيه الرجل العاقل على تمويه الجدل الباطل - جـ ١

[ابن تيمية]

فهرس الكتاب

- ‌[فصل في التلازم]

- ‌جوابُه من وجهين:

- ‌ كلُّ تقديرٍ لا ينشأ منه قيامُ مقتضٍ ولا نفيُ معارضٍ فإنه غير مفيد

- ‌ معارضة المستدلّ بما ينفي التلازم على وجوهٍ كثيرة

- ‌ كلام المستدلّ إنما يصحّ إذا كان قد بيَّن التلازمَ بطريقٍ صحيح

- ‌(فصل في الدوران)

- ‌ الدوران يفيد كونَ المدار علةً للدائر، بشرطِ أن لا يُزاحمه مدارٌ آخر

- ‌ المثال الذي ذكره صاحبُ الجدل غيرُ مستقيم أن يحتج فيه بالدوران

- ‌ تخلُّف العلّيةِ مع وجود الدوران كثيرٌ لا يُحصَى

- ‌[فصل في القياس]

- ‌ أكثر الأفعال تجتمع فيها الجهات الثلاث

- ‌ كيف يجوز تعليلُ أحكام الله بالمصالح

- ‌معنى قولنا: «إنه يفعل لا لغرضٍ ولا لداعٍ ولا لباعثٍ»

- ‌ المصالح إنما تكون مصالح إذا تجردت عن المفاسد أو ترجحتْ عليها

- ‌ إثباتَ العلّة بالمناسبة أقوى من إثباتها بالدوران

- ‌ هذا الكلام يقدح في القياس القطعي والظني، وما قَدَح فيهما فهو باطلٌ

- ‌ ثبوت المشترك له ثلاث(2)اعتبارات:

- ‌ مناقشة جدلية

- ‌ الدعاوي إذا تعدَّدت لم ينفع تعدُّدها أن يكون الدليلُ على كلٍّ منها غيرَ الدليل على الأخرى

- ‌ الجدل الباطل لا يُفلِحُ فيه مَن سَلكَه استدلالًا وسؤالًا وانفصالًا

- ‌ قَويَّ العمومِ مقَدَّمٌ على ضعيف القياس، وقويّ القياسِ مقدَّم على ضعيف العموم

- ‌ الشارع لا يُخصِّص العام حتى يَنْصِبَ دليلًا دالًّا على عدم إرادة الصورة المخصوصة عقليًّا أو سمعيًّا أو حسّيًّا

- ‌ التخصيص مشتملٌ على أمر وجودي وعدمي

- ‌الدليل يجوز أن يكون عدميًّا باتفاق العقلاء

- ‌ لفظ المصدر يدلُّ على تمام المقصود

- ‌ منع العموم يحتمل شيئين:

- ‌ المرجع في ذلك إلى استقراء صور الاستعمال

- ‌(فصل في تعدية العدم)

- ‌ تقريرُ كلامِه

- ‌(فصلٌ في تَوْجِيْه النُّقُوض)

- ‌ توجيهٌ ثانٍ للنقض

- ‌(فصل في النقض المجهول

- ‌ اقتضاءَ العلةِ المعلولَ أمرٌ فطريّ ضروري

- ‌ صحَّة الحكم لا يستلزم صحةَ الدليل المعيَّن

- ‌ أصل هذا الفساد: دعوى التلازم بين مسألتين لا مناسبة بينهما

- ‌(فصل

- ‌الواجب في مثل هذا الكلام أن يُقابل بالمُنُوعِ الصحيحة

- ‌(فصل

- ‌ صورة أخرى للجواب عن المعارَضَةِ بالقياس المجهول

- ‌(فصلٌ في التنافي بين الحُكمَين)

- ‌ التنافي إذا صحَّ بطريقٍ شرعيٍّ فإنه طريق من الطرق الصحيحة كالتلازم

- ‌ الطرق الصحيحة في تقرير التنافي

- ‌يُسْتَدل على التنافي بالأدلة المعلومة في كل مسألة

- ‌بيانُ ذلك من وجهين:

- ‌الأمرُ الاتفاقي لا يدلُّ على التنافي؛ لجواز تغيُّر الحال

- ‌(فصل في التمسُّكِ بالنص، وهو الكتابُ والسنة)

- ‌النصُّ له معنيان

- ‌جميعُ وجوه الخطأ منفيةٌ عن الشارع

- ‌أحدها: دعوى إرادة الحقيقة إذا لم ينعقد الإجماع على عدم إرادة الحقيقة

- ‌العمومات على ثلاثة أقسام:

- ‌(الثاني(3): دعوى إرادة صورة النزاع

- ‌(الثالث: دعوى إرادة المقيد بقيدٍ يندرج فيه صورة النزاع

- ‌(الرابع: دعوى إرادة شيء يلزمُ منه الحكم في صورة النزاع)

- ‌ معارضة الدعوى الرابعة

- ‌(فصل

- ‌ مُدَّعي الإرادة لا بدَّ أن يبين جواز الإرادة

- ‌سبيل هذه الدعاوى أن تُقَابل بالمنع الصحيح

- ‌ الاستدلال بالأمر على الوجوب له مقامان:

- ‌فصلُ الخطابِ في هذه المسألة:

- ‌ الشرائع لم تشتمل على قبيح

- ‌لا يجوز أن يراد به نفي الأحكام الشرعية

- ‌ لا يجوز أن يُراد به نفي الإيجاب أو التحريم

- ‌ لا يصح اندراج الإيجاب أو التحريم فيه إلا بإضمار الأحكام

- ‌(فصلٌ في الأثر)

- ‌(فصلٌ في الإجماع المركَّب)

- ‌ التركيب المقبول فُتيا(4)وجدلًا

- ‌(فصلٌ في الاستصحاب)

- ‌ الاستصحاب في أعيان الأحكام

- ‌الطريق الثاني في إفساده:

- ‌الطريق الثالث لإفساده:

الفصل: ‌الأمر الاتفاقي لا يدل على التنافي؛ لجواز تغير الحال

بمثل ما قلنا، سواء كان ذلك الأمر ــ وهو الذي ضم إليه ضد المدَّعَى ــ من صُوَر الإجماع كما مر، أو من صور الخلاف نحو المركَّب مثلًا، أو كان فيه روايتان عن مجتهدٍ، والترديد لازم بعد اللزوم فيها

(1)

).

واعلم أن التنافي على هذا الوجه مقيَّد في الجملة، وهو مما يمكنُ تمامه، وذلك لأنه إذا ردَّدَ الكلام بين أمرين، وبيَّن أن الاجتماع منتفٍ على كلِّ واحد من التقديرين بدليلٍ يختصُّ ذلك التقدير، كان بمنزلة أن يقيمَ دليلًا يدلُّ بنفسه على امتناع الاجتماع، بأن يُبَيِّن أن ثبوت أحدهما ينفي ثبوتَ الآخر، فإن ذلك قد يمكن في مواضعَ كثيرة؛ لأنه لا فرقَ أن يُبَيِّن تنافيهما وامتناع اجتماعهما بدليل يدلُّ على ذلك، أو يُبَيِّن انحصار الأقسام في أمور، ويُبَيِّن تنافيها على تقدير كلِّ قسمٍ من الأقسام.

وكذلك أيضًا لا فرقَ بين إثبات التلازم بما يدلُّ [ق 233] بنفسه على ذلك، أو ترديد الحال في أمور، وبيان اللزوم على تقدير كلِّ قسم، وهذا ظاهر، بخلافِ ما إذا بيَّن التنافي بدليل يُثبت أحدَهما، وبدليلٍ آخر ينفي الآخر، وليس لدليلِ ثبوتِ أحدِهما إشعارٌ بانتفاء الآخر، ولا لدليل الانتفاءِ إشعارٌ بثبوتِ الآخر، بل يجوز أن يستدلَّ بدليلِ ثبوتِ أحدِهما على ثبوتِ الآخر، كما يستدلُّ على انتفائه، ويجوز أن يمنع الحكم هناك على تقدير خلاف المدَّعَى هناك، وفَرَضْنا ثبوتَ موجب الدليلين= لكان ذلك أمرًا اتفاقيًّا لا لزوميًّا، و‌

‌الأمرُ الاتفاقي لا يدلُّ على التنافي؛ لجواز تغيُّر الحال

الاتفاقية، ولأنه لا مناسبة بينه وبين ما استدلَّ به عليه، ولابدَّ أن يكون بين الدليل والمدلول نوعُ علاقة ورباط، ولأنَّ التنافي هو كون أحدهما ينفي

(1)

«الفصول» : «فيهما» .

ص: 415

الآخر بنفسه، أو بلازِمِه من حيث هو لازِمُه، لا كون هذا اتفقَ انتفاؤُه عند وجود هذا، لاسيما إذا اتفق انتفاؤه عند وجوده وعند عدمه.

لكن إنَّما أثبتوه بجنس أدلَّتِهم في الجملة، وذلك له صور متعدِّدة؛ لأن انتفاء الاجتماع ــ على كلِّ تقدير ــ له أسباب متعدِّدة، منها ما ذكره وهو القياس بأن يقال: المشترك بين الصورتين لا يخلو إما أن يكون مقتضيًا وجوبَ الزكاة، أو لا يكون، ويعني بالمشترك بينهما: حصول المصالح المتعلِّقة بالوجوب منهما، أو كون الوجوب طريقًا إلى تحصيلها، فإن ما يشتركان فيه من ذلك إما أن [يكون]

(1)

موجبًا لوجوب الزكاة أم لا، فإن كان مقتضيًا وجبت الزكاةُ هناك عملًا بالموجب، وحينئذٍ فلا يجتمع الوجوبُ هنا والعدم هناك، وإن لم يكن المشترك مقتضيًا للوجوب لم تجب الزكاة هنا عملًا بالنافي لوجوب الزكاة، السالمِ عن معارضة موجبه المشترك، وحينئذٍ لا يجتمع الوجوبُ وعدمُه.

فحاصله: أنه أثبت الوجوبَ على تقديرٍ بدليلٍ ينشأُ من ذلك التقدير، وأثْبَت عدمها عند عدم ذلك التقدير بدليلٍ ينشأ من عدم ذلك التقدير. وهذا في الجملة له توهيم وتمويه.

فإن قيل: لا تجبُ الزكاةُ هناك على تقدير كون المشترك موجبًا بالمانع من الوجوب؟

قيل له: يعني بالموجب هو: ما يقتضي الزكاة على تقدير وجود المانع وعدمه، بأن يكون راجحًا على ما يعارضُه وينافيه، وحينئذٍ فإذا كان المشترك

(1)

زيادة يستقيم بها السياق.

ص: 416

موجبًا بهذا التفسير لزمت الزكاةُ هناك قطعًا، وإن لم يكن موجبًا فقد سلم ما هنا عن المعارض القطعي، وهو الموجب بكلِّ حال، فيكون الموجب منتفيًا بالنافي السالم عن

(1)

هذا المعارض.

واعلم أن اختصاص السالم النافي بتقدير عدم موجبيَّة المشترك أظهر من [ق 234] اختصاص الموجب بتقدير موجبيَّتِه؛ لأن الوجوب يمكنُ حصوله بغير المشترك، كما يمكن حصوله به، وغير المشترك متعدِّد، أمَّا نفي الوجوب فلا يحصل إلَّا بالنافي السالم عن المعارض، والمعارضُ إما قطعيٌّ أو ظنيٌّ، فقد ذكر أحدَ قِسْمَي عدم الوجوب، فعُلِم أنَّ النافي لا يحصل إلا على هذا التقدير أو تقدير آخر، والموجب يحصل على هذا التقدير وعدَّة تقديرات، فكان الأوَّل أخص.

وإنما لم يمكن المعترض أن يقابل المستدلّ بمثل كلامه؛ لأنه إذا قال: العدم

(2)

هنا مع العدم هناك لا يجتمعان؛ لأن المشترك بين الصورتين إما أن يكون مقتضيًا للوجوب أو لا يكون، فإن كان مقتضيًا للوجوب وجبت الزكاةُ هناك عملًا بالموجب، أو وجبت الزكاة مطلقًا؛ وحينئذ فلا تحقُّقَ للعدم فضلًا عن اجتماع الموجبين. وإن لم يكن مقتضيًا للوجوب، وجبت الزكاةُ هنا بالمقتضي للوجوب، فلا يجتمع العدمان.

قيل له: لا نُسَلِّم أنَّه إذا لم يكن مقتضيًا تجب الزكاة هنا؛ لأن عدم المقتضي الخاص لا إشعار له بالوجوب، بل هو إلى الإشعار بالعدم أقرب.

(1)

الأصل: «غير» والصواب ما أثبت.

(2)

كذا في الأصل، ولعلها:«الوجوب» . وانظر الصفحة الآتية.

ص: 417

ومَنْعُ المستدلِّ هنا ظاهر؛ لأن الوجوبَ عنده غير ثابت، فإن أنشأ المعترضُ الوجوبَ هنا بدليلٍ لم يَحْسُن لوجهين:

أحدهما: أن ذلك الدليل لا ينشأ من هذا التقدير، والأدلَّةُ العامةُ قد تقدَّم الكلامُ على تهافتها وتهاترها

(1)

.

والثاني: أن إثبات الوجوب هنا إثبات الحكم المتنازع فيه، فإذا أبطل به مقدمة المستدل، وهو قوله:«الوجوبُ هنا والعدم هناك لا يجتمعان» = قد قال: الوجوب والعدم يجتمعان؛ لثبوت الوجوب المتنازع فيه بكَيْتَ وكَيْت، وهذا غَصْب لمنصبِ الاستدلال، فلا يُسْمَع. هذا تقرير كلام هؤلاء.

والتحقيقُ أنَّ مثل هذا الكلام لا يُقْبل من المستدلِّ أيضًا لوجوه:

أحدها: قوله: «وإن لم يكن المشترك موجبًا لم تجب الزكاة هنا بالنافي السالم عن معارضة القطعي»

(2)

.

قلنا: إما أن تكون سلامة النافي عن المعارض القطعي كافيةً في العمل بموجبه، أو غير كافيةٍ، فإن كانت السلامة عن المعارض القطعي كافيةً في العمل بموجبه، وجبَ العملُ بكلِّ نافٍ لم يعارِضْه قطعي. وحينئذٍ فلا يجوز إثبات الوجوب بدليل ظَنِّي؛ لأن نافي الوجوب حينئذٍ يكون سالمًا عن المعارض القطعي، وهذا خلاف إجماع الأمة، بل خلاف إجماع العقلاء، فإنَّ الأصل النافي أضعف الأدلة، فأدنى دليل موجب

(3)

يُبْطِل العملَ به،

(1)

أي بطلانها.

(2)

المصنِّف ينقل كلام صاحب «الفصول» بالمعنى، وانظر نصَّه فيما سبق (ص 414).

(3)

تحتمل: «يوجب» .

ص: 418

ولهذا يترك استصحاب

(1)

الحال النافي للوجوب بالظواهر والتلازمات والأقيسة، وغير ذلك، ولهذا [ق 235] تُشْغل الذمم بالأمارات

(2)

التي ليست قطعية، وتقبل أخبار الآحاد، بل الأمارات الظنية في دفع موجب الأدلة النافية من الاستصحاب ونحوه، ومن تأمَّل الشريعة تأصيلًا وتفصيلًا وجد الغالب عليها تقديم الظواهر على النوافي.

وإن قال: أعني بالنافي ما ينفي الوجوب من الاستصحاب والدور المنفي شرعًا، والنصوص النافية للوجوب.

قيل: هذا لو صحَّ لم يَجُز العملُ به إذا عارضه ما يكافئه أو يفوقه من الظنِّيَّات وإن كان سالمًا عن معارضة القطعي، فعُلِمَ أن ذلك وحدَه ليس كافيًا.

وإن لم تكن السلامة عن معارضة القاطع كافيةً في

(3)

العمل بالنافي، كان معنى كلامه: لم تجب الزكاةُ هنا بالدليل الموصوف صفةً قد لا تكفي في العمل به، ومعلومٌ أنَّ الدليل لا يجوزُ اتِّباعه حتى يتَّصف بالصفات التي يجب العمل به عند وجودها.

فإن قال: مجرَّد النافي دليل شرعي، وليس على المستدل به التعرُّض لنفي المعارضات؛ إذ المعارضات لا تنحصر، بل على المستدل إبداء

(4)

المعارض؛ لكن له أن يتعرَّض لنفي ما يشاء من المعارضات، فإنه ليس

(1)

كلمة غير واضحة ولعلها ما أثبت.

(2)

هكذا استظهرتها.

(3)

غير واضحة ولعلها ما أثبت.

(4)

لم تتبيّن في الأصل، ولعلها ما أثبت.

ص: 419

ممنوعًا من ذلك، وقد تعين ما نَصَبَه منها، لكونه قد خطر بباله، أو ببال المناظِرِ له؛ لكونه هو الذي خشي أن يعارض به، أو هو الذي اشتهرت المعارضةُ به، أو لأنه لا يعرف معارضًا غيره، ونحو ذلك. وحينئذٍ فنفْيُه للمعارض القطعي تبرُّع بزيادة في الدليل، لا شرطٌ

(1)

في الاستدلال بالنافي. نعم، الشرط على الناظر أن لا يجد دليلًا أقوى من النافي أو مساويًّا له، وعليه فيما بينه وبين الله أن يبين رُجْحان النافي على ما يَجِده من المعارضات بعد البحث.

أما المُناظِر فلا يُكَلِّف ذلك ــ كما تقدم ــ

(2)

هذا تمسُّكٌ باستصحاب الحال النافي، وعند أكثر هؤلاء الجدليين وأكثر سلفهم المؤصّلين

(3)

إنما يصلح للدفع وإبقاء ما كان على ما كان، وحينئذٍ فلا يجوز الاستدلال به

(4)

في تنافي الحكمين؛ لأن ذلك قدر زائد على الدفع والإبقاء.

وأما عندنا وعند أكثر الناس، فإنه حجة في الجملة، لكن نقول: إن كان دليله لا يتم إلا بالاستدلال بالنافي على إحدى مقدماته فلا حاجة إلى هذا التطويل، فإنَّ النافي وحدَه كاف بأن يقول أولًا

(5)

: لا تجب الزكاة على المدين بالنافي، وعلى المعترض أن يبيِّن ما يوجب الزكاة. أو يقول: تجب

(1)

الأصل: «شرطًا» .

(2)

كلمة غير بينة في الأصل.

(3)

ثلاث كلمات هكذا قرأتها.

(4)

طمس لمكان كلمتين، وما بقي من أثرها يمكن أن يكون كما أثبت، أو «الاستناد إليه» .

(5)

كلمتان هكذا قرأتهما.

ص: 420

الزكاة عليه بالنافي السالم عن

(1)

معارضة القطعي، وإذا كان ما يدلُّ على بعض المقدمات ــ على بعض التقادير ــ يدل بعضُه على الحكم المتنازع كان بقية

(2)

المقدمات والتقديرات خارجةً عن الدليل وزيادةً فيه، ولا يجوز أن [ق 236] يُزاد في الدليل ما ليس من الدليل؛ لأنَّه ضم ما لا يفيد إلى ما يفيد، مثل التكلُّم بالمهمل والمستعمل، والاستدلال على الحكم الشرعي بالأدلة الشرعية بعد تقديم مقدمات حسابية وظنية لا يتوقف الاستدلالُ عليها، وهذا ظاهر لا خفاءَ به، فإنه إذا قال: الوجوبُ هنا والعدمُ يتنافيان، وإذا تنافيا وقد ثبتَ العدم انتفى الوجوب، فهاتان مقدمتان.

ثم يقول: والدليل على الأولى أن المشترك إن كان موجبًا فقد ثبت الوجوبُ فيهما، وإن لم يكن موجبًا انتفى الوجوب عنهما بالنافي للوجوب السالم، وكان قوله في الأول الأمر:«لا يجب هنا بالنافي السالم» ، وإلا كانت تلك المقدمات والتقديرات حشوًا ليس من الدليل.

واعلم ــ أصلحك الله ــ أن نكت هؤلاء المموِّهِين إذا صح بعضُها وكان مبنيًّا على أصول الفقه، فإنه لا بد من حشوٍ وإطالة، وذِكْر ما لا يفيد، ووقف الاستدلال على ما لا يتوقف، وإدخال

(3)

ما ليس من مقدمات الدليل في المقدمات، فهي دائرة بين تغليط وتضييع، وبين الإحالة والإطالة، وبين الباطل الصريح والحشو القبيح.

فإن قلتَ: حُسْن الكلام ليس محصورًا في الإيجاز، بل المتكلم له أن

(1)

الأصل: «على» والصواب ما أثبت.

(2)

هكذا استظهرتها.

(3)

الأصل: «وإذا حال» !

ص: 421

يوجز تارة ويُسْهِب أخرى، فإنهما طريقان من طرق الكلام، كما قيل:

ويُسْهب لكنه لا يُمِلّ

ويوجز لكنه لا يُخِلّ

(1)

قلتُ: هم قد سلَّموا لنا أن ما لا يتوقف الاستدلالُ عليه لا يجوزُ إدْخاله في الدليل، وما ذكرناه كذلك.

ثم نقول: الإسهابُ والإطنابُ حَسَنٌ بليغ إذا أفاد الإيضاح والبيان حتى يصيرَ الخبرُ كالعيان، ولهذا قال الخليلُ بن أحمد: الكلامُ يوجَزُ لِيُحْفَظ، ويُبْسَط لِيُفْهَم

(2)

. وإذا كانت معانيه تكُثُر بكثرة ألفاظه. أما إذا كان بالإطالة يزداد خفاءً وبُعدًا، وما يُزادُ فيه لا حاجةَ إليه أَلبته= لم يجز استعماله باتفاق أهل البيان وأهل النَّظر، فإنه مذموم شرعًا، قبيح عقلًا وطبعًا.

الوجه الثاني

(3)

: أن قوله بالنافي السالم إما أن يعني به براءة الذمم من الوجوب المعلومة بالعقل المُسْتَصْحَبة إلى أن يَرِدَ الناقل، أو يعني به أدلَّةً معينةً تنفي الوجوب، أو يعني القَدْر المشترك، أو يعني شيئًا رابعًا.

فإن عَنَى الأول كان مستدلًّا على نفي وجوب الزكاة عن رجلٍ قد ملك

(1)

البيت لأبي الفتح علي بن محمد البستي الكاتب، نسبه له الثعالبي في «يتيمة الدهر»:(4/ 355) ضمن ثلاثة أبيات قالها في أبي نصر بن أبي زيد وهي:

له قلمٌ غَرْبُه لا يكلّ

إذا كان حدُّ حسام يكلّ

فيوجز لكنه لا يُخلّ

ويُطنب لكنه لا يُملّ

وكيف يُمِل وتوفيقُ من

أفاد العلومَ عليه يُمِلّ

(2)

أخرجه الدينوري في «المجالسة» : (2/ 337 - 338)، وعلَّقه البخاري في «خلق أفعال العباد» (ص 91)، وهو في «التذكرة الحمدونية»:(9/ 244).

(3)

تقدم الوجه الأول (ص 418).

ص: 422

نصابًا لأجل دَينٍ عليه بالبراءة الأصلية. وهذا قد انعقد سببُ الوجوب في حقِّه، وإنما التردُّدُ في كون الدين مانعًا من الوجوب، ومعلومٌ أن [ما] هذا سبيله لا يجوز الاستدلال [ق 237] على عدم الوجوب فيه بالأصل النافي لوجوه:

أحدها: أنَّ الأصل النافي بطل حكمُه بقيام السبب الموجب، فإن الأسبابَ التي جعلها الشرعُ موجبةً رافعةٌ للعدم الأصلي.

الثاني: أن الأصل النافي كما ينفي الإيجاب ينفي المانع من الوجوب، فيكون دليلًا على عدم الوجوب وثبوته، فلا يصح الاستدلال به على عدمه.

الثالث: أنَّ سببَ الوجوب إذا انعقد وقع وقع الشك في حصولِ مانعٍ من الوجوب، فالاستدلالُ بالأصل النافي على عدم المانع أولى من الاستدلال به على عدم الوجوب؛ لأنَّ الأصل الأول قد وقع الخللُ فيه بتخلُّف الحكم عنه كثيرًا، وبقيام السبب الموجب، والثاني ــ وهو عدم كون الدَّيْن مانعًا ــ محفوظٌ عن الخلل، فيتعيَّنُ أن يكون الأوَّلُ أولى.

الرابع: أنَّ ما ينفي الوجوب قد عارضه السببُ الموجبُ الذي انعقد الإجماعُ على كونه سببًا للوجوب، أما النافي للمانع من الوجوب فلا معارِضَ له، فيكون العمل به أولى.

الخامس: أنَّ النافي للوجوب دليلٌ عَقْليّ، والمقتضي للوجوب أدلة سمعية كثيرة اعتضد بها العقلي النافي للمانع، فيكون أوثق

(1)

من حيث إن الحكم الشرعي يرجح فيه ما اقتضته الأدلة السمعية على ما اقتضاه مجرَّد الدليل العقلي لو لم يكن معارضًا، فكيف إذا تعارض؟!

(1)

تحتمل: «أليق» .

ص: 423

السادس: أنَّه إذا قال: العقلُ ينفي الوجوبَ، فأنا أسْتَصْحبه ما لم يجئْ دليلُ التغيير.

قيل: بذلك

(1)

قد جاءت الأدلة النافية

(2)

، وهي كل آية وحديث دخل فيه صورة النزاع، وهي مثل

(3)

قوله صلى الله عليه وسلم: «في كلِّ أربعين بنت لبون، وفي كلِّ خمسين حقة، وفي الرِّقَةِ رُبْعِ العُشْر»

(4)

، و «ما من صاحب ذهبٍ ولا وَرقٍ لا يؤدِّي زكاتَها إلا جُعِلَتْ له صَفائحُ من نارٍ تُكْوَى بها جَبِيْنُه وجَنْبُه وظهْرُه في يومٍ كان مقدارُه خَمسِين ألفَ سنة، فيرى سبِيْلَه إما إلى الجنةِ وإمَّا إلى النارِ»

(5)

.

فإن قال: الدَّيْن مانع من الدخول في العموم، ويمنع من الوجوب.

قيل له: لا نُسَلِّم، فإن الأصل عدم مانِعِيَّتِه.

السابع: أنَّ الذين يُجِيْزون التمسُّك بالأصل النافي يشترطون فيه عدم الناقل؛ لإجماعهم على أنه لا يجوز الاستدلالُ به قبل البحث التام عن النواقل الشرعية، والذين يمنعون الاستدلال به إما مطلقًا أو في غير الدفع والإبقاء ونحو ذلك ينصُّون

(6)

على فساد هذا الاستدلال. أما الآخرون [ق 238] فظاهر. وأما الأولون فلأنَّ شرط الاستدلال عدم النواقل، والنواقل

(1)

الأصل: «ذلك» .

(2)

كذا، ولعل صوابها:«الناقلة» أو نحوها.

(3)

الأصل: «لا مثل» !

(4)

تقدم تخريجه (ص 333 - 334).

(5)

تقدم تخريجه (ص 303).

(6)

هكذا استظهرت هذه الكلمات.

ص: 424

هنا موجودة، وهؤلاء يوجبون على المُناظِر إذا استدلَّ به إبداء عدم الناقل حسب الطاقة، وإن كانوا لا يوجبون ذلك في الأدلَّة الشرعية؛ لأن الأدلَّة الشرعية تدلُّ بنصِّها على الحكم الشرعي، وإنما يُخافُ حصولُ معارض، والأصلُ عدمُه، أما هذا فإنَّما يدل على حكمٍ عقليٍّ كان قبل مجيء الشرعيِّ، وذلك لا يجوز اعتقادُ بقائه حتى يُعلم أنَّ الشرعَ أبقاه، أو أنه قرَّره، وذلك يحتاج إلى دليلٍ شرعيٍّ يدلُّ على التقرير، أو عدم التغيير، والمستدلُّ لم يتعرَّض لهذا.

وأما إن عَنَى بالنافي أدلةً سمعية تنفي الوجوب في صورة النزاع، فلا نسلِّم وجودها أَلْبتة، وعلى المستدل إبداؤه، وهو لم يتعرض له، وهو كالمتعذِّر عليه أن

(1)

يستدلّ بقياس أو بعموم يحتاج إلى نوع تأويل، أو يحتج بحديث عثمان ونحوه

(2)

وحينئذٍ فلا ريب أن ذلك دليل في الجملة، لكن لا تُقبل دعوى وجوده حتى يبديه؛ إذ المعترض يعتقد أن ليس على نفي الوجوب دليلٌ سمعيٌّ، وإن اعتمد على طريقة نفي الضرر ونحوها، فسيأتي بيانُ فسادِها. فيثبتُ بهذا التحرير الواضح أنه لم يثبت نافيًا للوجوب فضلًا عن كون سالمًا.

وإن عَنَى القدر المشترك، أو مطلق النافي، قيل: هو في نفس الأمر إمَّا أن يكون عقليًّا أو سمعيًّا، ويُعادُ الكلام. وإن ادَّعى نافيًا خارجًا عن الأدلة العقلية والسمعية فعليه بيانُه، ولا سبيل إليه.

(1)

كلمة مطموسة لعلها: «يصوره» .

(2)

هكذا قرأت هاتين الكلمتين. ولعل المراد بحديث عثمان قوله رضي الله عنه: «إن هذا شهر زكاتكم، فمن كان عليه دَين فليودّه ثم ليؤدِّ زكاة ما فضل» . رواه مالك (1/ 253) وعبد الرزاق (7086) واللفظ له.

ص: 425

الوجه الثالث

(1)

: أن يُقال: النافي للوجوب إما أن يكون متحقِّقًا في نفس الأمر أو لا يكون، فإن لم يكن متحقِّقًا بطل الاستدلال، وإن كان متحقِّقًا، فإما أن يجب العمل به مطلقًا، أو عند عدم مطلقِ المعارض، أو عند عدم معارضٍ مخصوص، والأوَّل والثاني خلاف الإجماع، بل خلاف ما تقتضيه ضرورة العقل.

وأما الثالث فنقول: ذلك المعارض المقتضي للوجوب لابدَّ أن يكون راجحًا على (النافي)، ولا يُشترط فيه غير ذلك بالاتفاق.

فيقول: أنت لم تعلم سلامته إلا عن معارضة موجبية المشترك بين الصورتين، وهو لم يسلم عن معارضة موجبيَّة المختص بصورة النزاع، ولا عن معارضة موجبية المشترك بين صورة النزاع وسائر صور الوجوب، ولا عن معارضة المركَّب بينها وبين سائر صور عدم الوجوب، وهي معارضات كثيرة لا تكاد تنضبط. وقد عَلِمْنا أن بعضها يُقَدَّم على النافي بالإجماع، وبعضها يُقَدَّم النافي عليه [ق 139] بالإجماع، وبعضها مختلف فيه، ولابدَّ من فصلٍ بين ما تقدَّم على النافي، وما تقدم النافي عليه، فَلِمَ قلتَ: إن مجرَّد موجبيَّة المشترك [هي] التي تُقَدَّم على النافي وسائر المعارضات لا تقدَّم على النافي؟ لأنَّ التخصيصَ لا بدَّ له من مُخَصِّص، فليس في ذلك إلا سلامته

(2)

عن موجب واحد أو نوعٍ واحد من أنواع الموجبات، فامتيازُ هذا عن غيره لا بُدَّ له من سبب، وليس معه أكثر من أنَّ موجبيَّة المشترك تقتضي الوجوبَ فيه.

(1)

انظر الوجه الثاني (ص 422).

(2)

الأصل: «سلامة» .

ص: 426

قيل له: وأيُّ موجبية قامت فيه من جنس موجبيَّة المشترك، فإنها تقتضي ذلك، فما الموجب لتخصيص هذه الموجبيَّة؟

فإن قال: لأنَّ موجبيَّة المشترك تقتضي الوجوبَ في الصورتين، فيحصُل التنافي المدَّعى.

قيل له: حصول المقصود بالأدلة تابعٌ لصحَّة الأدلة في نفسها، فإن الدليل يُتْبَع ولا يَتْبع، فيجب أن تكون الدعوى على مطابقته، ولا يجوز أن يُجْعَل هو على مطابقة الدعوى؛ لأن الأدلة أعلامُ الله التي نصبها أسبابًا

(1)

موصلات إلى العلم بأحكامه، والدعاوى أقوال العباد واعتقاداتهم، والعبادُ مأمورون باتِّباع ما أنزل الله وشرَعَ ونَصَب، فلا يجوز أن يجعلوا ما شرع الله ونصبَ تبعًا لهم.

والمستدلُّ إنما خصَّ موجبيَّة المشترك بالاحتراز عنها دون غيرها بمعنًى فيها يقتضي ذلك= إنما خصَّها لأن دعواه تتمّ بها دون غيرها، وتمامُ دعواه بها ليس لخاصةٍ فيها، بل لنفس الدعوى، فكأنه اعتقد صحة الدعوى. ثم طلب ما يدلُّ عليها، وهذا غير جائز.

والذي يوضِّح ذلك: أن كون المشترك بين صورة المدين والفقير موجبًا للزكاة أمر لم يعتقدْهُ أحدٌ من الأمَّة، ولا يجوز أن يعتقده. وكون المشترك بين المَدِين وبين الغني الجلي

(2)

موجبًا أقرب بالنافي للوجوب على المدين، لا يمكن أن يُعْمَل به حتى يُعتقد عدم موجبيَّة المشترك بين

(1)

الأصل: «أسباب» .

(2)

كذا في الأصل، ولعلها:«الملي» أو «الخلي» .

ص: 427

المَدين والبريء من الديون.

أمَّا عدم

(1)

موجبيَّة المشترك بينه وبين الفقير بالذكر تخصيصٌ من غير مخصِّصٍ يقتضي ذلك في حقيقة الأمر، بل تخصيصٌ بمَحْضِ التحكُّم وصِرْف التشهِّي، بل تخصيصٌ لِمَا يصحِّح الدَّعوى، وتخصيصُه بالذِّكْر موقوفٌ على صِحَّة الدعوى. وإذا كان كذلك لم يكن في ذلك ما يدلُّ على خصوص الدعوى، بل يكون كسائر الأدلة العامة التي اعترضوا بأنه [لا دلالة]

(2)

فيها؛ إذ لا فرق بين قول القائل: «يجب العمل بالنافي على تقديرِ عدمِ هذا المعارض وإن لم يكن لتخصيصه موجِب» ، وبين قوله:«يجبُ على هذا التقدير وإن لم [يكن] دليل [ق 240] الوجوب مختصًّا بالتقدير» ، فإنَّ التحكمَ بتقديرٍ لقيامِ مقتضٍ لا يختصُّ بذلك

(3)

التقدير، كالتحكُّمِ بتقديرٍ يقومُ منه مانعٌ لا يختصُّ بذلك التقدير، فإنَّ قيام المقتضي إذا لم يكن ناشئًا من التقدير ولوازمه، والمانعُ إذا لم يكن ناشئًا من التقدير ولوازمه= لم يكن فرق بينَه ــ على ذلك التقدير ــ وبينه على غير ذلك التقدير، ومعلومٌ أنَّ هذا لا يجوز التعويلُ عليه، فافهم هذا فإنه سرُّ عدم دلالة هذا النظر مع أنه في ظاهره قد يختل.

الرابع: أنَّ الدليل ما كان النظرُ فيه مُفْضيًا إلى علم أو ظنٍّ غالب، ومن عَلِم أن الأصل ينفي وجوبَ الزكاة مطلقًا، وإنما خولفت في مواضع لقيام أسباب موجبيَّتِه، ثم عرضت عليه صورة قد علم أن أمرًا من الأمور لا يوجب

(1)

كذا ولعل صواب العبارة: «أما [تخصيص] عدم

فتخصيص من .. ».

(2)

الأصل: «الأدلة» !

(3)

الأصل: «ذلك» .

ص: 428

الزكاة فيها ولا في غيرها منتفٍ عنها، ولم ينظر هل فيها أسباب غيره توجب الزكاة أم لا، ثم قيل له: هل يكون علمك بالأصل النافي مع علمك بعدم هذا الأمر الذي لا يوجب الزكاة قط عنها محصِّلًا لظنك عدم الوجوب؟ لَعَلِم بالاضطرار أن مجرَّد هذا لا يفيد ظنًّا بجواز أن تكون الصورة من صور الوجوب، أو من صور عدم الوجوب، وأن الذي علمنا انتفاءه عنها ليس مما يوهم الوجوب، وهذا ظاهر.

الخامس: النافي لوجوب الزكاة قد

(1)

تخلَّف عنه مقتضاه في مواضع لا تُحصى، ونحن نعلمُ أن تلك المواضع امتازت عن غيرها بأسباب موجبة، والمستدلُّ لم يذكر انتفاءَ سببٍ من الأسباب الموجبة عن صورة النزاع، فإن المشترك بينه وبين الفقير ليس موجبًا إجماعًا، وإذا لم يكن موجبًا في نفس الأمر لم يكن مانعًا من العمل بالنافي، فيكونُ قد استدلَّ بمجرد النافي الذي لم يظن سلامته عن شيءٍ من المعارضات، وهذا لا يجوز إجماعًا.

السادس: أنَّ المشترك لا يكون معارضًا للنافي إلا بتقدير الوجوب فيهما، وهذا التقدير غير ثابتٍ إجماعًا، فلا يكون مُعَارضًا أصلًا، فقولُه بعد هذا:«بالنافي السالم عن معارضة القطعي» غير مُسَلَّم؛ لأنه لا يَسْلَم عن معارضةِ شيءٍ له حقيقة، وإنما يتعارض لنفي المعارض إذا كان له في الجملة حقيقة، ولو على بعض التقادير الواقعة، فأمَّا ما لم يوجد ولا يجوز أن يوجد، فلا يجوز أن يتوهَّم معارضته ليحترز عنها، وحينئذٍ يكون استدلالًا بمجرَّد النافي للوجوب، وهو غير صحيح.

السابع: ما ذكرته من النافي وإن دلَّ على عدم الوجوب، لكن الأمور

(1)

تصحفت في الأصل إلى: «هو» .

ص: 429

الموجبة من النصوص العامة والأقيسة وغيرها دالَّة على الوجوب، فإن تعارضا وَقَفَ الاستدلال [ق 241] ثم الترجيح معنا

(1)

؛ لأنه إذا اجتمع النافي للزكاة والموجب لها قُدِّم الموجِب؛ لأن عامة صور الوجوب قد قُدِّم فيها المقتضي على النافي، وتقديمُ مدلولِ أحدِ الدليلين عند التعارض دليلٌ على رجحانه.

وليس له أن يقول: وقد قُدِّم النافي على الموجب في صورة عدم الوجوب.

لأنَّا نقول: العدمُ هناك إنما كان لعدمِ الموجب، لا لقيام المانع، والموجب هنا موجود، فإن مَنَع الموجب ــ على التقدير ــ فعنه جوابان:

أحدهما: أنّا نقول بموجب

(2)

النصوص الشاملة لصورة النزاع، وندّعي عدم إرادة صور العدم فيها فإنه معلومٌ قطعًا، والمقتضي لإرادة صورةِ النزاع ــ وهو شمول اللفظ لصورته ولم يقم

(3)

دليلٌ أرجح من العموم على عدم إرادتها ــ قائم، فإن ادَّعى الدليل المانع من الإرادة قيل: الأصل عدمه، فعليك بيانه.

الثاني: أنَّه يمنع قيام المقتضي للوجوب ــ أيضًا ــ على تقدير ملك النصاب المعتبر، إذ لا فرق بين [الأمرين]

(4)

.

(1)

تحتمل: «معًا» .

(2)

مقدار كلمتين مطموسة، ولعلها ما أثبت.

(3)

كذا قرأتها.

(4)

مطموسة في الأصل وهكذا قدَّرتها.

ص: 430

فإن قال: الموجب لا يختص هذا التقدير.

فعنه جوابان:

أحدهما: أني أُثْبِت بهذا الدليل الوجوبَ مطلقًا، وهو المقصود، فإنَّه إذا صحَّ بطل الدليل.

الثاني: أنه إذا

(1)

لم يختص التقدير فدليل النافي لا يختص أيضًا تقدير عدم هذا المعارض المذكور؛ إذ لا فرقَ بينَ قيام موجبٍ في صورة النزاع على تقدير عدم الوجوب في صورة الفقير، وعدم كون المشترك بينها وبين صورة المَدِين موجبًا، وبين قيام ما به من الوجوب، على تقدير عدم الوجوب هناك، وعدم كون المشترك موجبًا، فإنَّ ما يدلُّ على الوجوب في هذه الصورة أو العدم فيها من الأدلة العامة لا اختصاصَ له بتلك الصورة وجودًا ولا عدمًا.

وإن قال: إثبات الوجوب غَصْب.

فعنه جوابان:

أحدهما: أن إثباته بعد فراغ المستدلِّ ليس غصبًا، وهذا على تقدير أن لا أمنع المقدمة بإثباته.

الثاني: أنه وإن كان غصبًا فنفي الوجوب مصادرة على المطلوب، وكلاهما سواء، بل المصادرة أقبح؛ لأن ما ذكره المستدل من التنافي لا يتم إلا بما ينفي الوجوبَ في صورة النزاع، وما ذكره المعترض لا يتم إلا بما يُثبت الوجوب في صورة النزاع، بل فِعْل المعترض أجمل لأوْجُه:

(1)

تحتمل: «إن» .

ص: 431

أحدها: أنه مفعول على سبيل المقابلة، فلا يكون قبيحًا.

الثاني: أنه جائز عند بعض الناس في الجملة.

الثالث: أنه يذكره على وجه المعارضة المستقلة، أو على وجه المعارضة في المقدمة، والأول [ق 242] جائز بالاتفاق.

أما المصادرة على المطلوب، أو الاستدلال على المقدمة بنفسِ ما يدلُّ على المدَّعَى= فقبيحٌ بالاتفاق، وإن كان الأول قبيحًا غير مقبول أصلًا، والثاني قبيح مقبول مع سماجته.

واعلم أنَّ هذا الوجه يتضمنُ وجهين:

أحدهما: معارضةٌ مستقلَّة.

والثاني: معارضته بجنس دليله، وهو السؤال الذي زعم أنَّ المعترض لا يمكنُ أن يقولَه، وقد قرَّرْناه لهم، فقد بيَّنا أنه يمكن المعارضة به، وأن إثبات النافي بهذا الجنس كإثباته بالجنس الذي سلَّموا فساده سواء، وأجبنا

(1)

عما كنَّا ذكرناه لهم من جواب المعترض، وهو ظاهر بيِّن لمن أَنْصف. هذا إذا كان الحكم الذي ضمَّ إليه ضد المدَّعى اجماعيًّا، وهو عدم الوجوب على الفقير، فإنه ضم ضد المدَّعى ــ وهو الوجوب على المَدِيْن ــ إلى هذا العدم المتَّفَقِ عليه، وادَّعى تنافيهما، وأحدُهما ثابت قطعًا. فيتعيَّن أنهما ضدُّ المدَّعى المساوي لنقيضِه أو غير نقيضِه، فيلزم المدَّعى.

وأما إن كان من صور الخلاف، مثل النصاب المركَّب من الذهب والفضة، فإنَّ العلماء اختلفوا في ضمِّ أحدِ النقدين إلى الآخر في تكميل

(1)

هكذا استظهرت هاتين الكلمتين.

ص: 432

النصاب، فذهب أكثرُهم مثل: أبي حنيفة ومالك وأحمد في إحدى روايتَيْه إلى الضم، وذهبَ الشافعيُّ وأحمد ــ في الرواية الأخرى ــ إلى عدمه

(1)

، والذين قالوا بالضمِّ منهم مَن قال: يُضَم بالأجزاء، ومنهم مَن قال: يُضَم بالأحَظّ للمساكين من القيمة أو الوزن، ومنهم مَن قال: يُضَم بالقيمة.

وسواء كان الخلاف بين العلماء، أو عن بعض العلماء المجتهدين كالروايات والأقوال المأثورة عن الأئمة المتبوعين، وكالوجوه والطرق الموجودة في مذاهبهم= فإنَّ ذلك كلَّه خلاف مقيد

(2)

، فإذا كان المستدلُّ يعتقد عدمَ الوجوب على المَدِين مثلًا، والوجوب في المركَّب، أو في الحلي، أو في مال الصبي، أو في المال الضائع، ونحو ذلك.

= قال: الوجوب على المدين مع العدم في النصاب المركَّب لا يجتمعان. أمكنه ــ عند هؤلاء ــ أن يثبت التنافي بما شاء من الأدلة، كالنصوص والأَقْيِسَة والتلازمات الدالَّة على الوجوب، أو على عدمه، بخلاف ما إذا كان المضموم إليه مُجْمَعًا عليه، فإنَّه يكون قد ادَّعى أحدَ أمرين، أحدهما لازمُ الانتفاء، وهنا ادعى

(3)

أحدَ أمرين، ليس أحدُهما لازمَ الانتفاء، لأنه إذا قال: إما أن يَجِب هنا أو لا يجب هناك، أو لابدَّ من الوجوب هنا أو عدمه هناك، فليس الوجوبُ [هنا] ولا العدم هناك معلومَ الانتفاء، لوقوع الخلاف فيه، ولا يمكن الخصم أن [ق 243] يعارضه بمثله

(1)

انظر للمسألة: «المغني» : (4/ 204 - 205)، و «الانصاف»:(3/ 134) و «الوسيط» : (2/ 472)، و «روضة الطالبين»:(2/ 257).

(2)

كذا، ويحتمل:«معتدل» أو «مفيد» .

(3)

تكررت في الأصل.

ص: 433

في جميع الصور.

فإذا قال: العدم هنا والعدم هناك لا يجتمعان، فلابدَّ أن يقول: إما أن يجب عينًا، أو يجب هنا

(1)

ولا يجب هناك، لم يجب أن يستدلَّ بعين ما استدلَّ به المستدلّ؛ إذ لا إجماع هنا على العدم هناك. ويمكن أيضًا أن يُسْتَدل على التنافي بما تقدَّم من الترديد، وهو أن يقول: الوجوب على المَدين مع عدمه في المركَّب لا يجتمعان؛ لأنَّ المشترك بينهما لا يخلو؛ إما أن يكون موجبًا أو لا يكون، فإن كان موجبًا لزم الوجوب، وإن لم يكن موجبًا لزم عدمُه بالنافي السالم، وعلى التقدِيرَين فقد لزم التنافي، ويلزم من تنافيهما وعدم اجتماعهما عدم الوجوب على المَدِين؛ لأن الوجوب في المركَّب إما أن يكون ثابتًا أو لا يكون، فإن لم يكن ثابتًا، فإنه لا يجبُ هنا؛ لما تقدم من أن الوجوب هنا والعدم هناك لا يجتمعان، وإن كان ثابتًا فإنه لا يجب أيضًا هنا؛ لأن الوجوبَ لا يشمل الصورتين بالاتفاق.

أمَّا عند العراقي ومن يوافقه في فصل المَدِين فلانتفاءِ الوجوبِ في فصل المَدِين، وأما عند المخالف له ــ إن كان شافعيًّا ــ فلانتفاء الوجوب في فصل المركَّب، وهذا معنى قوله:«والترديد لازم بعد اللزوم فيهما» أي بعد أن يلزم الوجوب في إحداهما والعدم في الأُخرى، أو بعد أن يلزم عدمُ الاجتماع في ما كان من صور الخلاف، أو كان فيه روايتان عن مجتهد يلزم الترديد بأن يقول: الوجوبُ هناك إما أن يكون ثابتًا أو لا يكون، فإن لم يكن ثابتًا لم يجب هنا، لتنافي الوجوب هنا والعدم هناك، وإن كان ثابتًا فإنه لا يجبُ هنا؛ لأن الوجوب لا يجتمع في الصورتين بالاتفاق.

(1)

الأصل: «هناك» .

ص: 434

واعلم أنَّ الاتفاق قد يُعْنَى به اتفاق الأُمة، وقد يُعنى اتفاق مذهب المُتناظِرَين، أمَّا الأول فإن أمْكَن فهو أجْوَد، إلا أنه لا تكاد تتأتَّى الإحاطةُ به في مسألتين مُختلِفَتي المأخذ، وأما الثاني فهو الغالب على كلام الجدليين.

ثم العدم في المدَّعى والوجوبُ فيما ضُمَّ إليه إما أن يكون متفَقًا عليه في مذهب المستدلّ، أو على الأول دون الثاني، أو الثاني دون الأول، أو مختلفًا فيهما، وعلى التقديرات الأربع فإما أن يكون الوجوبُ في محلِّ النزاع، والعدمُ في الصورة التي ضُمَّ إليها متفقًا عليه في مذهب المعترض أو مختلفًا في الأول فقط، أو في الثاني [ق 244] فقط، أو فيهما، فهذه ستة عشر تقديرًا، لكنها تتداخل إلى سبعة:

الأول: أن يكون المذهبان متفِقَين على التناقض في الحكمين، مثل أن يقول المالكي والشافعي أو الحنبلي: وجوب صدقة الكافر، أو وجوب الغَنَم فيما زاد على عشرين ومائة، مع عدمه في المغشوش الغالب عليه الغش، أو مع عدم وجوب صدقة الفطر في عبيد التجارة، أو عدم وجوب بنتَي لبونٍ وحِقَّة في ثلاثين ومائة من الإبل لا يجتمعان؛ لأن المشترك إن كان مقتضيًا للوجوب ثبتَ الوجوبُ فيهما، وإن لم يكن مقتضيًا انتفى الوجوب بالنافي السالم.

أو يقول: تجبُ في مال الصبي والمجنون بالنص والأَقْيسة الموجبة، ولا تجب في صورة العدم بالأدلة النافية، فثبَتَ أنَّ الوجوبَ والعدم لا يجتمعان، وعلى التقديرَين يلزم عدم اجتماعهما، ويلزم من ذلك عدم الوجوب هنا؛ لأن الوجوبَ في فِطْرة العبد الكافر، وفي الغنم في ما زاد على العشرين ومائة من الإبل، إما أن يكون ثابتًا، أو لا يكون، فإن لم يكن ثابتًا؛

ص: 435

لزم عدمُ ثبوتِهِ في صدقة فطر عبيد التجارة، وبنتي لبون وحقة في ثلاثين ومائة من الإبل؛ لأن العدمَ هناك والوجوبَ هنا لا يجتمعان، وإن كان ثابتًا هناك لزم عدم الثبوت هنا؛ لأن الوجوب لا يشمل الصور بالاتفاق، وهذا مُعَارَض بمثله سواء، مثل أن يقول الحنفيُّ: عدمُ الوجوب هنا مع الوجوب هناك لا يجتمعان؛ لأن المشترك إما موجب فيثبت الوجوب فيهما، أو غير موجب فلا يثبت الوجوب بالنافي السالم، وعلى التقديرَين فلا يجتمعان، ويلزم من ذلك عدم الوجوب فيهما، لأن الوجوب هناك إمَّا ثابت أو غير ثابت، فإن كان ثابتًا لزم الوجوب هنا، لعدم اجتماع العدم هنا والوجوب هناك، وإن لم يكن ثابتًا لزمَ الوجوب هنا؛ لأن شمولَ العدم لهما يخالف الإجماع، وإذا كان كذلك لم يتم. سلَّم

(1)

هؤلاء الجدليون ذلك.

الثاني: أن يكون قد اختُلِف في الوجوب هنا في مذهب المستدل، سواء اتفق على الحكمين في مذهب المعترض، أو اختلف في الأوَّل، أو الثَّاني، مثل مال المَدِين عند الشافعيِّ وأحمد، فإنه مُخْتَلفٌ عنهما فيه في الجملة

(2)

، أي في الأموال الظاهرة

(3)

، وكذلك الحُلي عندهما، فإذا قال من يستدلُّ به لعدمِ الوجوبِ في الحلي: «الوجوبُ فيه مع العدمِ في مالِ [ق 245] الصبيِّ والمجنونِ لا يجتمعانِ

» وساقَ الكلامَ إلى آخره، وإذا لم يجتمعا لزم الوجوبُ في الحلي؛ لأن الوجوبَ في مالِ الصبيِّ إن لم يكن ثابتًا لزم

(1)

لعله سقط شيء من الكلام هنا.

(2)

انظر «المغني» : (4/ 264 - 265).

(3)

هي: السائمة والحبوب والثمار، عند الحنابلة، كما في «المغني»:(4/ 264)، وانظر ما سبق في كتابنا هذا (ص 10). على خلافٍ عند الحنفية والشافعية، انظر:«القاموس الفقهي» (ص 344) لسعدي أبو جيب.

ص: 436

عدمُ الوجوبِ في الحليِّ، لامتناع الوجوبِ هنا والعدمِ هناك، وإن كان ثابتًا لزم عدمُ الوجوبِ في الحليِّ؛ لأنَّ الوجوبَ لا يعمُّ الصورتين بالاتفاق، فهذا لا يتمُّ؛ لأن فيهما قولًا بالوجوب فيهما، لكن كلام المعترضِ هُنا يتمُّ إن لم يكن قد اخْتُلِفَ عنده في العدم هناك.

الثالث: أن يكون قد اختُلِفَ في الوجوب هنا، أو العدم هناك، كما لو استدلَّ الشافعيُّ أو الحنبليُّ في مسألةِ صدقةِ الفطر عن العبد والكافر، أو إيجاب الغنم بعدَ إيجاب الإبل= بأنَّ عدمَ الوجوبِ هنا مع الوجوب في مال العبد عند أحمد، أو مال المَدِين عند الشافعي.

أو يقال: العدمُ في مالِ الصبيِّ مع الوجوب في الحليِّ لا يجتمعان؛ بأنَّ الوجوبَ هنا والعدمَ في مال المَدِيْن لا يجتمعان، فهذا يتم؛ لأنه يمكنه أن يقول في آخره: لأن الوجوب لا يشمل الصورتين بالاتفاق، ولا يتمكَّنُ

(1)

المعترضُ أن يقول: لأن العدم لا يشمل الصورتين بالاتفاق؛ لأنَّ الشافعيَّ والحنبليَّ يمنعُ ذلك.

وكذلك مسالةُ النصابِ إذا استدل الحنفيُّ في مسألة الدَّين. وضَمَّ إليه النصاب المركَّب أمكنه أن يقول: الوجوبُ لا يشمل الصورتين بالاتفاق لوجهين:

أحدهما: أنَّ له في الدَّيْن قولًا بالعدم، فعلى هذا يكون العدم شاملًا.

الثاني: أنَّ صاحِبَيْ أبي حنيفة لا يوجبان في المركَّب الذي تمَّ بالقيمة

(1)

كذا، ولعلها:«ولا يمكن» .

ص: 437

دون الوزن

(1)

، فيكون العدم شاملًا للصورتين في الجملة. وإن كان الكلام مع حنبليٍّ لم يُسَلِّم عدمَ شمول الوجوب، ولم يمكنه أن يدَّعِي عدمَ شمولِ العدم بالاتفاق؛ لأن في المسألتين عنده خلافًا، وأكثر استدلالِ هؤلاء من هذا النوع.

الرابع

(2)

: أن يكون قد اخْتُلِف في الموضعين في مذهبه، سواء اتفقَ مذهبُ المستدلِّ فيهما، أو اختلف في الأول أو الثاني منه، كما لو استدلَّ الحنبليُّ على عدمِ الوجوبِ في الحليِّ: بأن الوجوبَ فيه والعدم على المَدِيْن لا يجتمعان، فهذا ــ أيضًا ــ لا يتمُّ؛ لأنه لا يمكنه أن يقول: الوجوبُ ثَمَّ شاملٌ بالاتفاق، ولا يمكن المعترض أن يقول: العدمُ غير شامل بالاتفاق.

الخامس: أن يكون مذهبُه غير مختلف في العدمِ هنا والوجوبِ هناك [ق 246] لكن مذهب المعترض مُخْتَلِف في الوجوب هنا دون العدم هناك، فهذا يتم أيضًا؛ لأنه يمكنه أن يقول: الوجوبُ ليس شاملًا لهما بالاتفاق.

هذا كما لو قال المالكيُّ أو الشافعيُّ أو الحنبليُّ في الخضروات وما دون النصاب من المُعَشَّرات: الوجوبُ هنا والعدم في مال الصبي والمجنون مما لا يجتمعان، فهذا يتم ما يقولونه؛ لأنه يمكنه أن يقول: لأن الوجوب غيرُ شامل لهما بالاتفاق؛ لأن صاحِبَيْ أبي حنيفةَ يقولان بشمول العدم.

السادس: أن يكون مذهبه متفقًا هنا وهناك، ومذهب المعترض مختلفًا

(1)

انظر «المبسوط» : (3/ 20 - 21) للسرخسي، و «مختصر اختلاف العلماء»:(1/ 430) للجصاص.

(2)

من التقديرات، انظر الثالث في الصفحة السابقة.

ص: 438

في السالم؛ فهذا معترَض عليه بمثله؛ لأنه إذا قال: الوجوبُ ليس شاملًا بالاتفاق، قال المعترض: العدمُ غير شاملٍ بالاتفاق؛ لأنه قد اخْتُلِفَ عنده في العدم، ولم يختلف عنده في الوجوب هنا، فلم يقل أحدٌ بالعدم في الموضعَيْن.

السابع: أن يكون مذهبُه متفقًا فيهما ومذهب المعترض مُخْتَلِفًا فيهما، فهذا لا يتم له ولا للمعترض؛ لأنه قد قيل في مذهب المعترض بالوجوب فيهما والعدم فيهما.

ومثالُ هذا والذي قبله أن يقال: وجوبُ الفِطْرة عن العبد الكافر مع عدم وجوب الزكاةِ على الفور لا يجتمعان، فهذا لا يتم للمستدل؛ لأنه لا يمكنه أن يقول: والوجوب غير شامل لهما إجماعًا؛ لأنَّ أبا يوسف يقول بالوجوب في الموضِعَيْن

(1)

لكن يتم هذا للمعترض.

أو يقول الشافعي للحنبلي: وجوبُ الزكاة في مالِ العبد مع عدم وجوبها في الصغار منفردة عن الكبار لا يجتمعان، فهذا لا يتم من الطرفين؛ لأنه لا يمكن أن يقال: الوجوبُ غير شامل فيهما بالإجماع، ولا شامل فيهما بالإجماع.

واعلم ــ أصلحك الله ــ أن كلّ ما

(2)

ذكرناه من الأدِلَّة على فساد القول

(1)

الذي نقله السرخسي في «المبسوط» : (2/ 169) عن أبي يوسف في مسألة وجوب الزكاة على الفور: أنه يسع تأخيرها؛ لأن الأمر بها مطلق. وهو قول أبي حنيفة ومحمد، وانظر في مسألة وجوب الفطرة عن العبد الكافر:«المبسوط» : (3/ 103)، و «المغني»:(4/ 283 - 284).

(2)

الأصل: «كما» .

ص: 439

بالدليل المذكور في التنافي إذا كانت إحدى الصورتين إجماعيَّة فهو موجودٌ هنا، ويزيدُ هذا النوع بوجوهٍ ظاهرةٍ في فساده.

أما الكلامُ في بطلان التنافي، فقد تقدَّم نفيُ الكلامِ هنا في لزوم المدَّعى على تقدُّم التنافي والفساد في قوله: «وإن كان الوجوبُ ــ يعني في الصورة المنافية لنقيض المدَّعَى ــ غير ثابت لزم عدمُ الوجوبِ على المَدِين ضرورةَ تنافي الوجوب هنا والعدم ثمَّ، وإن كان الوجوبُ ثابتًا هناك، لزم عدمُ الوجوب هنا ــ أيضًا ــ لأن الوجوبَ لا يشمل الصورتين بالاتفاق؛ لأن البعضَ يقول بالوجوبِ هنا

(1)

والعدم هناك، والبعضُ يقول بعكس ذلك».

فنقول: الكلامُ عليه من وجوه:

أحدُها: أن التنافي إما أن يُثبته بما يدلُّ [ق 247] على ثبوتِ

(2)

الوجوبِ مطلقًا، أو على انتفائه مطلقًا، أو بما يدلُّ على ثبوته على تقدير كون المشترك موجبًا، وعلى انتفائه على تقدير كونه غير موجب. فهذه الأدلة إما أن تكون صحيحةً أو فاسدة، فإن كانت فاسدةً بطل التنافي

(3)

فبطل الدليل، وإن كانت صحيحةً فهي دالَّة على الوجوب مطلقًا، أو على انتفائه مطلقًا، فإثباتُ الوجوبِ على تقديرٍ، وعدمِهِ على تقديرٍ آخر تحكُّم

(4)

لم يدلَّ عليه الدليل، فيكون باطلًا.

الثاني: أن أقوى أدلة التنافي إثباتُه بتقدير إيجاب المشترك، وبتقدير

(1)

الأصل: «هناك» .

(2)

الأصل: «ثبوته ثبوت» والظاهر أن الكلمة الأولى سبق قلم من الناسخ.

(3)

الأصل: «النافي» .

(4)

الأصل: «بحكم» .

ص: 440

عدم إيجابه.

فنقول: إن كان المشترك موجبًا لزم الوجوب فيهما معًا، وإن لم يكن موجبًا لزم العدمُ فيهما معًا، فقولهم بعد هذا: إن كان الوجوبُ ثابتًا هناك لزم عدم الوجوب هنا إثباتُ الوجوبِ في أحدهما والعدمِ في الآخر، وذلك خلاف مدلول الدليل المذكور، فإن كان دليلُ التنافي صحيحًا بطلت المقدِّمة الثانية، وإن كان باطلًا بطل الدليلُ كلُّه.

أو نقول: إن كانت المقدِّمةُ ثابتةً صحيحة ــ وهو لا ينازع اجتماع وجوبِ أحدهما وعدم الآخر ــ بطل التنافي؛ لأن التنافي امتناع الوجوبِ في صورة والعدم في أُخرى، وإذا بطل التنافي بطلت المقدمة؛ لأن صحتها مَبْنية عليه، وإن لم تكن صحيحة بطل الاستدلال بها.

وبالجملة؛ فإن

(1)

كونهما متلازمين وجودًا وعدمًا، وكون أحدها ملزومًا لعدمِ الآخر تناقضٌ ظاهر، ولا يجوز تأليف الدليل من مقدِّمتين متناقِضَتَيْن متضادَّتين.

الثالث: قوله: «الوجوبُ لا يشمل الصورتين» .

قلنا: لا نُسَلِّم ذلك، وقولُه «بالاتفاق» دعوى غير صحيحة؛ لأن العلماء لم يجمعوا أن المسألتين مستويتان في الوجوب أو في انتفائه، ولا أنَّ حكمَ إحداهما مستلزمٌ لحكمِ الأخرى، وإنَّما تكلَّموا في كلِّ واحدٍ منهما على حِدَة، فالقولُ بالوجوبِ في صورةٍ وعدمِهِ في أُخرى= موافقة هؤلاء في مسألةٍ وموافقة هؤلاء في مسألةٍ أخرى، وهذا جائز بالاتفاق، فإنَّ المسلمين

(1)

تحتمل: «وإن» .

ص: 441

مجمعون على أنَّ من وافق بعض المجتهدين في الوجوب في مسألة لم يجب عليه أن يوافقه في الوجوب في كلِّ مسألة، وكذلك لو وافقه في عدم الوجوب. وهذا مما أجمع عليه المسلمون إجماعًا ضروريًا، فإنَّ أحدًا لم يخالف في أنَّ من وافقَ بعضَ العلماءِ في حكمِ حادثةٍ لا يجبُ أن يوافقه في حكم حادثةٍ أخرى ليست متعلِّقة بها.

وقولهم: «لا قائل بالفرق» إنما يصحُّ إذا كان مأخَذُ المسألتين واحدًا، مع أن الأكثرين [ق 248] على جواز التفريق ما لم يصرحوا بالتسوية، وهذا نكتة الدليل، وهو أحد قولَي هؤلاء المموِّهِين، وهو من القواعد التي حكى غيرُ واحدٍ إجماعَ المسلمين على فسادها، وسيأتي إن شاء الله كلامٌ في ذلك أطول من هذا

(1)

.

الرابع: قوله: «الوجوبُ لا يشمل الصورتين بالاتفاق

(2)

» يعني به: أن شموله لهما ليس متفقًا عليه، أو يعني به: أن نفي شمولِهِ لهما متفق عليه، وذلك أن «الباء» يجوز أن تكون متعلِّقة بالفعل، ويجوز أن تكون متعلِّقة بنفي الفعل، فإذا علَّقها بالفعل كان التقديرُ: أن شموله لهما بالاتفاق ليس بواقع، وإن علَّقها بالنفي كان التقديرُ: أن انتفاء الشمول متفقٌ عليه. فإن عنيتَ هذا المعنى الثاني فهو غير مُسَلَّم ولا صحيح، فإنَّ أهلَ الإجماع لم يتكلَّموا في الشمول بنفي ولا إثبات، فلا يجوز إضافة نفيه أو إثباته إليهم. وإن عَنَيْتَ الأول فهو مُسَلَّم، لكن عدم الإجماع على الحكم ليس دليلًا على بطلانه، وأنا أُسَلِّم أنهم لم يُجمعوا على شمول الوجوب للصورتين، لكن الفرق بين

(1)

تقدم الكلام فيها تفصيلًا (ص 341 - 439 وسيأتي ص 469).

(2)

الأصل: «والاتفاق» تحريف.

ص: 442

عدم الإجماع على الشمول، والإجماع على عدم الشمول ظاهر.

الخامس: أنهم إن لم يُجْمِعوا على عدم شمول الوجوب للصورتين جاز إثباتُ الشمول، وبطلت هذه المقدمة، وإن أجمعوا على عدم شمول الوجوب للصورتين فقد أجمعوا على الوجوب في إحدى الصورتين، والعدم في الأُخرى، وحنيئذٍ لا يجوز أن يُقَدَّم دليل على الوجوب فيهما؛ ولا على العدم فيهما؛ لأنَّ ذلك يخالف الإجماع، فيكون باطلًا.

السادس: أنهم أجمعوا على الوجوب في إحداهما والعدم في الأُخرى، والتنافي يمنعُ الوجوب في إحداهما والعدم في الأخرى، فيكونُ التنافي باطلًا.

فإن قيل: التنافي دلَّ على أنَّ الوجوبَ هنا والعدمُ هناك لا يجتمعان، والإجماع لم يُعَيِّن هذه الصورة.

قلنا: دليلُ التنافي عامٌّ مُطْلق ليس فيه تخصيص، والإجماع المدَّعى عامٌّ مطلق ليس فيه تخصيص، فتخصيص التنافي من هذه الأدلَّة يفتقر إلى دليل على صحته، ولا دليلَ على صحَّته إلا الذي يدلُّ على بطلانه، فتعذَّرَ تصحيحُه إذًا، والله أعلم وأحكم.

ص: 443