المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌ المثال الذي ذكره صاحب الجدل غير مستقيم أن يحتج فيه بالدوران - تنبيه الرجل العاقل على تمويه الجدل الباطل - جـ ١

[ابن تيمية]

فهرس الكتاب

- ‌[فصل في التلازم]

- ‌جوابُه من وجهين:

- ‌ كلُّ تقديرٍ لا ينشأ منه قيامُ مقتضٍ ولا نفيُ معارضٍ فإنه غير مفيد

- ‌ معارضة المستدلّ بما ينفي التلازم على وجوهٍ كثيرة

- ‌ كلام المستدلّ إنما يصحّ إذا كان قد بيَّن التلازمَ بطريقٍ صحيح

- ‌(فصل في الدوران)

- ‌ الدوران يفيد كونَ المدار علةً للدائر، بشرطِ أن لا يُزاحمه مدارٌ آخر

- ‌ المثال الذي ذكره صاحبُ الجدل غيرُ مستقيم أن يحتج فيه بالدوران

- ‌ تخلُّف العلّيةِ مع وجود الدوران كثيرٌ لا يُحصَى

- ‌[فصل في القياس]

- ‌ أكثر الأفعال تجتمع فيها الجهات الثلاث

- ‌ كيف يجوز تعليلُ أحكام الله بالمصالح

- ‌معنى قولنا: «إنه يفعل لا لغرضٍ ولا لداعٍ ولا لباعثٍ»

- ‌ المصالح إنما تكون مصالح إذا تجردت عن المفاسد أو ترجحتْ عليها

- ‌ إثباتَ العلّة بالمناسبة أقوى من إثباتها بالدوران

- ‌ هذا الكلام يقدح في القياس القطعي والظني، وما قَدَح فيهما فهو باطلٌ

- ‌ ثبوت المشترك له ثلاث(2)اعتبارات:

- ‌ مناقشة جدلية

- ‌ الدعاوي إذا تعدَّدت لم ينفع تعدُّدها أن يكون الدليلُ على كلٍّ منها غيرَ الدليل على الأخرى

- ‌ الجدل الباطل لا يُفلِحُ فيه مَن سَلكَه استدلالًا وسؤالًا وانفصالًا

- ‌ قَويَّ العمومِ مقَدَّمٌ على ضعيف القياس، وقويّ القياسِ مقدَّم على ضعيف العموم

- ‌ الشارع لا يُخصِّص العام حتى يَنْصِبَ دليلًا دالًّا على عدم إرادة الصورة المخصوصة عقليًّا أو سمعيًّا أو حسّيًّا

- ‌ التخصيص مشتملٌ على أمر وجودي وعدمي

- ‌الدليل يجوز أن يكون عدميًّا باتفاق العقلاء

- ‌ لفظ المصدر يدلُّ على تمام المقصود

- ‌ منع العموم يحتمل شيئين:

- ‌ المرجع في ذلك إلى استقراء صور الاستعمال

- ‌(فصل في تعدية العدم)

- ‌ تقريرُ كلامِه

- ‌(فصلٌ في تَوْجِيْه النُّقُوض)

- ‌ توجيهٌ ثانٍ للنقض

- ‌(فصل في النقض المجهول

- ‌ اقتضاءَ العلةِ المعلولَ أمرٌ فطريّ ضروري

- ‌ صحَّة الحكم لا يستلزم صحةَ الدليل المعيَّن

- ‌ أصل هذا الفساد: دعوى التلازم بين مسألتين لا مناسبة بينهما

- ‌(فصل

- ‌الواجب في مثل هذا الكلام أن يُقابل بالمُنُوعِ الصحيحة

- ‌(فصل

- ‌ صورة أخرى للجواب عن المعارَضَةِ بالقياس المجهول

- ‌(فصلٌ في التنافي بين الحُكمَين)

- ‌ التنافي إذا صحَّ بطريقٍ شرعيٍّ فإنه طريق من الطرق الصحيحة كالتلازم

- ‌ الطرق الصحيحة في تقرير التنافي

- ‌يُسْتَدل على التنافي بالأدلة المعلومة في كل مسألة

- ‌بيانُ ذلك من وجهين:

- ‌الأمرُ الاتفاقي لا يدلُّ على التنافي؛ لجواز تغيُّر الحال

- ‌(فصل في التمسُّكِ بالنص، وهو الكتابُ والسنة)

- ‌النصُّ له معنيان

- ‌جميعُ وجوه الخطأ منفيةٌ عن الشارع

- ‌أحدها: دعوى إرادة الحقيقة إذا لم ينعقد الإجماع على عدم إرادة الحقيقة

- ‌العمومات على ثلاثة أقسام:

- ‌(الثاني(3): دعوى إرادة صورة النزاع

- ‌(الثالث: دعوى إرادة المقيد بقيدٍ يندرج فيه صورة النزاع

- ‌(الرابع: دعوى إرادة شيء يلزمُ منه الحكم في صورة النزاع)

- ‌ معارضة الدعوى الرابعة

- ‌(فصل

- ‌ مُدَّعي الإرادة لا بدَّ أن يبين جواز الإرادة

- ‌سبيل هذه الدعاوى أن تُقَابل بالمنع الصحيح

- ‌ الاستدلال بالأمر على الوجوب له مقامان:

- ‌فصلُ الخطابِ في هذه المسألة:

- ‌ الشرائع لم تشتمل على قبيح

- ‌لا يجوز أن يراد به نفي الأحكام الشرعية

- ‌ لا يجوز أن يُراد به نفي الإيجاب أو التحريم

- ‌ لا يصح اندراج الإيجاب أو التحريم فيه إلا بإضمار الأحكام

- ‌(فصلٌ في الأثر)

- ‌(فصلٌ في الإجماع المركَّب)

- ‌ التركيب المقبول فُتيا(4)وجدلًا

- ‌(فصلٌ في الاستصحاب)

- ‌ الاستصحاب في أعيان الأحكام

- ‌الطريق الثاني في إفساده:

- ‌الطريق الثالث لإفساده:

الفصل: ‌ المثال الذي ذكره صاحب الجدل غير مستقيم أن يحتج فيه بالدوران

إلا بدليل، فلو جاز أن يقتطع الإنسان ما شاء من تلك الصفات ويجعلها علةً ومدارًا لم يَعجِزْ عن ذلك أحدٌ، وذلك يوجب وَضْعَ الشرع بالرأي من غير دليل.

وأيضًا فإنّا نعلم اضطرارًا إذا كان هناك أمورٌ قد دارَ الحكم معها وهي صالحة لإضافته إليها، فإنه ليس دعوى أن المدار هذا بأولى من دعوى أن المدار هو الآخر، وإذا ادَّعَى مُدَّعٍ

(1)

أن بعضها صالح للتعليل وبعضها غير صالح فلا بدّ من التأثير لما يدَّعي صلاحه، حتى يفصل الحاكم [ق 45] بين الخصمين.

وإذا تبيَّن هذا فهذا‌

‌ المثال الذي ذكره صاحبُ الجدل غيرُ مستقيم أن يحتج فيه بالدوران

، وذلك أن العلماء اتفقوا على أن الجماع الذي أفسد به صوم رمضان متعمدًا

(2)

أول مرة يُوجب الكفارة العظمى، مستندين في هذا الإجماع إلى حديث الأعرابي المشهور

(3)

. ثم اختلفوا في ضابط ما يوجب الكفارة:

فقال مالك: مُطْلَقُ الإفطار عمدًا مُوجبٌ، حتى بالحصاة والنَّواة، وسواء كان وردَ على صوم أو منعَ انعقادَ الصوم.

وقال أبو حنيفة: الموجب هو الإفطارُ عمدًا بمتبوع

(4)

جنسه أو بأحد الثلاث كما ذكره المصنف.

(1)

في الأصل: «مدعي» .

(2)

الأصل: «معتمدًا» .

(3)

أخرجه البخاري (1936 ومواضع أخرى) ومسلم (1111) عن أبي هريرة.

(4)

في الأصل: «لمتبوع» .

ص: 86

وقال الشافعي: الموجب هو الوقاع المانع من الصوم الواجب في نهار رمضان عمدًا.

وقال أحمد: هو الوقاع في نهار رمضان ممن وجبَ عليه الإمساك، وربما قال: هو المباشرة الموجبة للغسل. وأوجبَه على من طلعَ عليه الفجرُ ولم يَنْزِع. وأوجبه على من أكلَ أو شربَ أو لم يَنوِ أو جامعَ ثم كفَّر، [ثم جامع]

(1)

.

وتفصيل مآخذهم له موضع آخر.

وإذا قال المستدل: المدار هو هَتْكُ صوم رمضان بالأفعال الثلاثة

إلى آخره.

قيل له وجوه:

أحدها: لا نسلِّم أن الحكم دارَ مع هذا الوصف وجودًا، لأن دورانَه معَه وجودُه في جميع مواضع وجودِه، أو وجوده في صورٍ كثيرة من صور وجودِه فلا يُغنيك بيانُ وجودِه في صورة واحدة من صور وجود المدار. فإن ادعيتَ في إثباتِ نفسِه فذلك

(2)

غير جائز، وإن أثبتَّ بالدليل وجودَه في جميع صور المدار المدَّعَى كان ذلك مُغنِيًا لك عن دعوى أن هذا الدوران علةٌ للدائر، فإن مقصودك بإثبات هذا الدوران إثباتُ الحكم في صورةِ النزاع، فإذا لم يمكن بيان الدوران إلّا ببيان ثبوت الحكم في جميع صور النزاع كان ثبوت كلٍّ منهما متوقفًا على ثبوت الآخر، وذلك دَورٌ باطل.

وهذا قَدْحٌ بيِّنٌ، فينبغي أن يتفطَّن له، فإن هؤلاء المغالطين بالدورانات الفاسدة يُثبِتون دورانَ الحكم مع الوصف وجودًا بثبوتِه في صورةٍ من صور

(1)

زيادة ليستقيم المعنى. وانظر «مجموع الفتاوى» (25/ 261).

(2)

الأصل: «وذلك» وهو خطأ.

ص: 87

وجودِه دون سائرِ صور وجودِه، وليس هذا معنى الدوران.

الثاني: لا نُسلِّم أنه دار معه عدمًا، وقوله «فظاهر» ليس بظاهر، لأن انتفاء الكفارة

(1)

فيما عدا هذه الصور إمّا أن ثبتَ بنصٍّ أو إجماع أو قياس، وليس في المسألة نصٌّ ولا إجماع

(2)

، فإن مالكًا يوجبها في كل إفطارٍ، والإفطار بغير الثلاث من جملة صور العدم. وأحمد يوجبها بالوقاع المحرَّم [ق 46] في نهار رمضان وإن لم يكن إفسادًا، فيوجبها بكلّ هَتْكٍ لحرمة الزمان الذي وجب صومه عليه، سواءٌ صامَه أو لم يَصُمه. والثلاثة يوجبونها على مَن جامعَ قبل طلوع الفجر واستدامَ بعد طلوعِه، وليس هناك إفساد صوم. فكيف يصح مع هذا الخلاف أن يقال: عدم الكفارة عند عدمِ [هذه الصور] ظاهر؟ ولم يذكر على ذلك دليلًا [ولا] قياسًا.

الثالث: أن يقال: كما دار مع ما ذكرتَ من الضابط فقد دار مع الوقاع الهاتكِ حرمةَ رمضانَ، وقد دارَ مع الإفطار الهاتك، وقد دارَ مع الوِقاع الهاتك لحرمة الصيام، فَلِمَ عَيَّنْتَ إحدى المداراتِ بالعِلِّية دون الأُخر؟

الرابع: قوله: «دوران الأثر مع الشيء آية كون المدار علةً للدائر» .

قلنا: لا نُسلِّم ذلك في شيء [من] المواضع، ولم يذكر على ذلك دليلًا. والنظائر التي أحالَ عليها لم يُثبتها، وكلُّ موضع يُثبت إضافة الحكم إلى وصفٍ لم يُسَلَّم أن ذلك يُعرَف بالدوران، فإن لم يَقُم الدليل على أن ذلك عُرِفَ بالدوران، وإلّا لم يتم. وهذا سؤالُ مَن يقول: إن الدوران لا يفيد

(1)

في الأصل: «الكفار» .

(2)

في الأصل: «والإجماع» .

ص: 88

العِلَّيّة، وهو مذهب مشهور.

الخامس: سلَّمنا أن الدوران يُفيد العِلّيّة، لكن إذا

(1)

لم يُزاحِم المدَّعى مدارٌ آخر، وعلى الإطلاق فلا بدّ من دليل يدل عليه، وإن ادّعاه إلا عند المزاحمة فالتزاحم هنا لموجود

(2)

.

وإن قال: الشرط كون المدار صالحًا للعِلَّيّة.

قلنا: هذه المدارات كلُّها صالحة للعلّية، فلِمَ عينتَ أحدَها دونَ الأُخر؟

وهذه أسوِلةٌ صحيحةٌ ليس عنها جواب سديدٌ، وهي تَهْتِكُ سِرَّ هذه التلبيسات.

فإن قيل: أما السؤال الأول والثاني فبناؤهما على أن الدوران لا بدّ فيه من وجودِ الدائر في كل صورة من صور وجود المدار، وانتفائِه في كل صورة من صور انتفائه، وهذا لا يصحّ، لأن مقصودَ الدوران الاستدلال على علة الحكم في المحل المعلوم لتعلُّقِه بها في محلٍّ آخر، فإن كان العلم بالعلّية موقوفًا على العلم بجميع صور وجود العلة وعدمها مع العلم بوجود الحكم وانتفائه لكُنّا قد علمنا جميع موارد الحكم وجودًا وعدمًا، وذلك يُغنِينا عن إثبات الحكم بالعلة المعلولة بالدوران.

قلنا أولًا: قد تكون فائدة الدوران إضافة الحكم إلى المشترك في صور الوجود، لا أصل ثبوت الحكم.

وثانيًا: أنه قد يقال: لا بدَّ من الدوران في جميع الصور التي وُجِدت

(1)

الأصل: «متى إذا» .

(2)

كذا الأصل.

ص: 89

ليُستَدلَّ [به] على الحكم في الصور التي لم توجَد بعدُ. أو يقال: لا بدّ [ق 47] من الدوران في جميع الصور الثابتِ حكمُها بالنصّ أو الإجماع، ليُستدَلَّ به على مواضع السكوت أو النزاع.

وثالثًا: لا بدَّ إذا قلنا: «دارَ الحكمُ معه وجودًا» أن يثبت بالدليل أنه وجد معه في الصور التي علمنا وجودَه، وانتفَى معه في الصور التي علمنا انتفاءَه، فأما إذا وُجِد معه في صورة واختُلِف

(1)

في انتفائِه معه في صورة أخرى، فما لم يقم الدليل على الوجود والعدم لم يثبت الدوران.

وأما السؤال الرابع فجوابه من وجوه:

أحدها: الدورانُ يُغلِّب على الظنّ عِلَّيةَ المدار، كما يشهد به العُرْف

(2)

، فإن الناسَ إذا رأوا أنواعَ الأدوية دارتْ معها أنواعُ الأشفية، غَلَبَ على ظنِّهم أن ذلك الدواء سببٌ لذلك الشفاء، وإن كان جاز أن يكون أصلُ ذلك عُلِمَ بوحي. وكذلك من رأوه يغضب أو يفرح أو تتغيَّر

(3)

أحواله النفسانية وأعراضه الجسمانية عند سبب، ويزول ذلك الأثر عند زوالِه قَضَوا بإضافة ذلك الحكم إلى السبب. وإذا كان يُفيد غلبةَ

(4)

الظنّ عند تجريد النظر إليه وجبَ اتباعُه ما لم يُعارِضْه مثلُه أو أقوى منه، لأن هذا مقتضى جميع الأدلة.

الثاني: أن ذلك الحكم لا بدَّ له من سبب، والأصل عدمُ ما سِوَى المدار، فتعيَّنَ المدار.

(1)

في الأصل: «واختلفا» .

(2)

الأصل: «العرب» !

(3)

هنا كلمة غير واضحة، ولعلها ما أثبت.

(4)

في الأصل: «علية» تصحيف.

ص: 90

الثالث: أن دورانه معه ليس اتفاقيًّا، لأن الاتفاقي لا يكثُر ولا يدوم، فلا بدّ أن يكن لزوميًّا، والشيء لا يلازمُ الشيءَ إلّا أن يكون علةً أو معلولَ علةٍ واحدةٍ، وإلّا فلو فُرِض عدمُ الاقتضاء بينهما كان اتفاقيًّا. فدروان أحدهما مع الآخر يقتضي أن يكون المدارُ شيئًا يستلزم المدار عليه للآخر، وذلك يفيد في الجملة أن المدار وما هو ملازمٌ له هو العلة، ثم التمييز بينهما يكون بصلاح أحدهما للعلة دون الثاني.

قال الجدلي

(1)

: (ولئن قال: وجوب الكفارة كما دارَ وجودًا وعدمًا

(2)

مع الهتك، فكذلك دارَ مع الوِقاع وجودًا وعدمًا، ومتى كان الوقاع مدارًا لا يمكن أن يكون الهتكُ مدارًا وجودًا وعدمًا، وإلّا

(3)

يلزم اجتماع النقيضين، وهو الوجوب مع العدم فيما ذكرتم من الصورة).

اعلم أن هذا سؤالٌ صحيح

(4)

، فإن الجماع إن كان هو المدار لزم عدمُ الكفارة عند عدم الجماع، وإن كان المدار إفساد الصوم على الوجه المذكور لزم إثبات الكفارة مع عدم الوقاع، وذلك جمعٌ بين النقيضين. ولم يُجَبْ عنه جوابٌ صحيح.

قال

(5)

: [ق 48] (فنقول: نحن لا ندّعي المداريَّة

(6)

وجودًا في فصل

(1)

«الفصول» (ق 4 أ).

(2)

«وجودًا وعدمًا» ليست في «الفصول» .

(3)

في الأصل: «ولا» ، والتصويب من «الفصول» .

(4)

الأصل: «صح» .

(5)

«الفصول» (ق 4 أ).

(6)

في الأصل: «المدار به» تصحيف.

ص: 91

الوقاع على التعيين، بل ندّعي في كلّ صورةٍ من صور الوجوب أولًا. والدورانُ على هذا التفسير لا يدلُّ إلّا على مداريَّةِ

(1)

الهتك وجودًا وعدمًا).

اعلم أن المستدلّ إنما أجابَ بهذا لأنه إذا ادَّعَى مداريَّة الإفساد في كل صورة من صور وجوب الكفارة من غير تعيين فصل الوقاع، فإن الهتك موجود فيها كلها، والوجوب معه، لأن تلك الصور إما صور الوقاع أولًا أو الأكل، والهتكُ متحقق فيها. والمعترض لا يمكنه أن يدّعي مداريَّةَ الوقاع في كل صورةٍ من صور الوجوب، لأنه يحتاج أن يقول: تلك الصور هي صور الوقاع، وهذا دعوى، لأن المستدلّ يقول: لا أسلِّم الخطأ والوجوب في صور الوقاع، بخلاف المستدل فإنه لم يدَّعِ أن صور الأكل من صور الوجوب، وإنما قال: لا يخلو إما أن يكون أو لا يكون، وبكلّ حالٍ فالهتكُ والإفساد موجودٌ فيها، ولهذا أمكنَ المستدلَّ دعوى مداريَّة وصفِه في صور الوجوب، ولم يُمكنِ المعترضَ ذلك.

هذا تقرير

(2)

كلامِهم، وهو باطلٌ من وجوهٍ:

أحدها: لا نُسلِّم تحقُّقَ مدارِه في صور الوجوب. وقوله: «تلك الصور إما صور الوقاع والأكل والشرب» غير مسلَّم، فإن مطلق الإفطار من صور الوجوب عند مالك، والجماع المانع من صور الوجوب عند أكثرهم، والجماع الثاني وجماع الناسي من صور الوجوب عند أحمد. فدعوى الخصم غير مقبول، كما لم يقبله من المعترض لما ادَّعاه في صور الوقاع.

(1)

في الأصل: «مداراته» تصحيف.

(2)

الأصل: «تقدير» .

ص: 92

الثاني: أن يقال: هَبْ أنك ادعيتَ المداريَّةَ في جميع صور الوجوب، لا في صورة الوقاع على التعيين، لكن لم تأتِ على هذه الدعوى ببينة، فلا تكون مقبولةً. بل هذه الدعوى هي حكاية المذهب، ونَقْل المذهب لا يكون حجةً على صحته. فأنتَ بين أمرين:

إمّا أن تدَّعي المداريَّة في الوقاع بعينه، فيُعارَض بمدارية الوقاع المفطر، وبمدارية الوقاع الهاتك، وبمدارية الإفطار المطلق.

وإما أن تدَّعي المدار في جميع الصور التي تدَّعي الوجوب فيها، فيُطَالب بالدليل على صحة الدوران، وهو وجود الوجوب مع المدار وعدمه مع عدمه، ولا يقدر على ذلك إلّا بإقامة الدليل على صحة الدعوى، وذلك مصادرةٌ على المطلوب وتطويلٌ للكلام، واستدلالٌ [ق 49] بكل واحدٍ من الأمرين على الآخر.

الثالث: أنه إن عَنَى بصور الوجوب ما يثبت الوجوب فيها بنصّ أو إجماعٍ فليس إلا صور الوقاع، وإن عَنَى به ما يدّعي أنه من صور الوجوب فالدوران فيها موقوف على ثبوت الوجوب، فلو أثبت الوجوب فيها بالدوران لزمَ الدَّور.

الرابع: أن المعترض يمكنه دعوى مداره في صور الوجوب، أي الصور التي ثبت فيها الوجوب، وأما ما يدَّعي الخصم أنه من صور الوجوب فلا يجب على المستدلّ بيانُ تحقُّق الدوران فيه بالإجماع، لأن الدوران فيها مجرَّد مذهب الخصم، فلا يكون حجةً له ولا حجةً على غيره، ولو صحَّ ما أمكنَ أحدًا أن يثبت المدار في صورٍ حتى يُسلِّم لخصمه ما يدَّعيه من صور الوجوب، أو يكون دعواه أوسع من دعوى خصمه. ومعلومٌ أن هذا فاسدٌ بالضرورة، لأنه

ص: 93

يعود إلى إثباتِ المذهب بالمذهب، أو إلزام الخصم نفسَ المذهب.

الخامس: أنه قد يمكن الخصمَ دعوى مدار في صور الوجوب إذا أثبت الوجوب في صورةٍ لم يثبتها المستدلُّ، كما في هذا الموضع، وحينئذٍ ينقطع المستدلّ، فافطَنْ له.

قال الجدلي

(1)

: (ولئن قال: دارَ معَ ما يكون مختصًّا

(2)

بتلك الصورة، فنقول: دارَ مع ما يكون مشتركًا بينها وبين صورة النزاع).

يعني أنه قد دارَ مع ما يختصّ بصورة الوقاع، وهو مدارٌ آخر، وإذا كان المختصُّ مدارًا لم يجب في صورة النزاع، أو أنه وإن دار في كل صورةٍ من صور الوجوب فيجوز أن يكون المدار في كلّ صورةٍ خصوص تلك الصورة، فلا يكون المدار المدَّعَى مدارًا

(3)

.

وأجاب بأنه دارَ مع القدر المشترك بين صورة النزاع وتلك الصورة، وبينها وبين سائر الصور، وإضافةُ الحكم إلى ما يشمل الصورَ أولَى من إضافته

(4)

إلى ما يختصُّ بكل صورةٍ صورةٍ على انفرادها، لأن الأصل اتحادُ العلة لا تعدُّدُها

(5)

، ولأن خصوص كلِّ صورة لم ينتفِ الحكمُ مع عدمها إلا عنها، والمشترك قد انتفى الحكم مع عدمِه عن جميع المواضع، فتكون المداريّة به أولى.

(1)

«الفصول» (ق 4 ب).

(2)

في الأصل: «مخصتان» .

(3)

في الأصل: «مدار» .

(4)

في الأصل: «إضافة» .

(5)

في الأصل: «تعدده» .

ص: 94

وهذا جيد

(1)

لو كان السائل قصدَ المدارية مع خصوص كلّ صورة، وأما إذا قصدَ المدارية مع ما يختصُّ بصور الوجوب الذي يثبت بالنص أو بالإجماع فإنه سؤالٌ جيد.

وحاصلُه أن المستدلّ كلّما ادّعى مدارًا يثبت به الحكم في صورة النزاع عارضَه السائل بمدارٍ ينتفي به الحكم في صورة النزاع، فأيُّهما كان عددُ مَداراتِه أكثر قَضَوا له بالفَلْج

(2)

، لأن تلك [ق 50] المدارات من الجانبين اجتمعت في الأصل، فجاز أن يكون كلٌّ منهما هو المدار المعتبر، فإذا ترجح أحد الجانبين بزيادة مدارٍ سلم له عن المعارضة، وجاز أن يكون هذا المدار من غير معارض، فوجب تعليقُ الحكم به.

وهذا أيضًا من قواعدهم الفاسدة التي يبنون عليها كثيرًا من كلامهم، فيُرجّحون أحدَ الخصمين بكثرة دعاويه، كما يرجحونه بإبهام دعواه. ولا يخفى على عاقلٍ أنّ هذا باطل، فإن نفس تلك الأمور التي هي مداراتٌ ليست أدلةً بانفرادها حتى يترجَّح أحد الجانبين بكثرة العدد، وإنما الدليل دورانُ الحكم معه وجودًا وعدمًا كما تقدم، فإذا دار معه أكثر من واحدٍ لم يكن اعتقادُ أن العلة أحدهما أولى من العكس. وإذا كان في الأصل عدة صفات يثبت الحكم في الفرع بتقدير علّية أكثرها، ولا يثبت علّيته بتقدير علِّية بعضها، وليس مع البعض الأكثر ما يقتضي أنه هو العلة= لم يجز اعتقاد أنه علة بمجرد ذلك، لجواز أن يكون العلة هو ذلك الواحد، لاسيما إن لم يكن المدار إلّا واحدًا.

(1)

في الأصل: «خير» .

(2)

الأصل: «بالشلح» .

ص: 95

وحاصلُه أن المدار لا يثبت أنه علة إلا بشرط انتفاء المزاحم وواحد من ألف مزاحم

(1)

. وأيضًا فإنه إذا اجتمع في الأصل عدة صفاتٍ كلٌّ منها صالحٌ للتعليل، فإضافة الحكم إلى جميعها أولى من إضافته إلى البعض، وحينئذٍ يترجَّح كلامُ السائل في هذه المسألة. ولعلَّنا نعود إلى الكلام في هذا الأصل إن شاء الله.

ولما كان هذا أصلهم فلا بدّ أن يكون المدار الثاني خيرًا من الأول، وكان قد ادَّعَى أولًا أنّ الهتكَ مدارٌ، ثم ادَّعَى ثانيًا أن المشترك مدارٌ. فنقول: المشترك يجوز أن يكون الهَتْك، ويجوز أن يكون غيره، وإن كان الهتك مشتركًا، وهذا ضعيف، فإن دعوى المغايرة غير تجويز المغايرة. ثم إن المشترك مستلزمٌ للهتك، لكن هذا الجواب من جنس السؤال.

قال الجدلي

(2)

: (ولئن قال: دارَ مع المختصّ، وإلا لما ثبت

(3)

، فنقول: دارَ مع المشترك، وإلّا لا يجب ثمة).

هذا سؤالٌ [من] نمط الذي قبله، يقول: دار مع المختص تلك الصورة، إذ لو لم يَدُرْ معه لما ثبتَ وجوبُ الكفارة للأصل الباقي للوجوب السالم عن المعارض

(4)

القطعي، وهو مداريَّةُ المختصّ.

وجوابه أنه قد دار مع المشترك، إذ لو [لم] يَدُرْ معه لما وجبت الكفارة

(5)

للباقي السالم عن معارضة القطعي، وهو مدارية المشترك بين

(1)

كذا في الأصل.

(2)

«الفصول» (ق 4 أ).

(3)

في «الفصول» : «وإلا لا يجب ثمة» ، وفي هامشه:«لا يلزم» .

(4)

الأصل: «المتعارض» .

(5)

في الأصل: «الزكاة» خطأ.

ص: 96

تلك الصورة وصورة النزاع. ولم يعارض السائل بما يدلّ على مداريَّة المشترك إلّا ذكر المشترك من جنسه [ق 51] بما يدلُّ عليه المشترك، وسلَّم له ما ادَّعاه أولًا، وهو علّية المدار في صورة الوجوب. وقد تقدم الكلام على ذلك، وبيَّنّا أنه لا يمكنه تحقيقُ الدوران على الوجه الذي ذكره.

قال الجدلي

(1)

: (ولئن قال: سلَّمنا أنّ

(2)

الدوران متحقق، ولكن لِمَ قلتم بأنه يفيد علِّيةَ المدار؟ بل لا يفيد، وإلّا لكان مفيدًا

(3)

في الأمور الاتفاقية، فإن الآثار حادثة في الأمكنة والأزمنة، فلا يكون

(4)

المدار علةً للدائر. فنقول: الكلام فيما إذا كان المدار صالحًا للعلِّية، فلو كان المدارُ فيما ذكرتم صالحًا فلا نسلِّم بأنه لا يكون علّة

(5)

، وإن لم يكن

(6)

فلا يتّجه نقضًا).

هذا الكلام مع ما فيه من العجمة، وهو جواب «لو» بـ «لا» والفاء، مما قد تكرَّر ذلك منه، فإنّ حقَّه أن يقول:«لَم نُسلِّم» إلى آخره. وقد ادَّعى الجدلي أن كل موضع يدور الأثر مع ما يصلح للعلِّية فلا بدّ أن يكون المدار علّة

(7)

للدائر، وإن كان لا ينتقض. وجعل ذلك جوابًا عن النقض بتخلُّفِ علّية المدار عن بعض الدائرات.

(1)

«الفصول» (ق 4 أ).

(2)

في «الفصول» : «بأن» .

(3)

في الأصل: «مفيد» .

(4)

في «الفصول» : «ولا يكون» .

(5)

في الأصل: «عليه» تحريف.

(6)

في «الفصول» : «لم يكن علة» .

(7)

في الأصل: «عليه» تصحيف.

ص: 97

وهذا الكلام فيه نظرٌ من وجوهٍ:

أحدها: أن يقال: ما تَعنِيْ بصلاحيته للعلِّية؟ أتَعِني به أن يكون مناسبًا للحكم؟ أو تَعنِي إمكانَ ترتُّبِ الحكم عليه؟ وهو أن يكون بحالٍ لا يُعلَم أنه ليس بعلةٍ، أو تَعنِي به شيئًا آخر؟ كما تقدم تقريره.

فإن عنيتَ به المناسبة فليست شرطًا في المدارات، بل هي طريق آخر. ثم إذا لم يمكن تقريرُ علِّيّةِ المدار إلّا بعد إثبات المناسبة، فلا حاجةَ إلى الدوران، لأنّ المناسبة إذا تمَّت كَفَتْ.

وإن عنيتَ مطلق الإمكان فهذا موجودٌ في صورٍ لا تُحصَى، مع أن علّيّة المدارِ غيرُ حاصلةٍ، لاسيما على تفسيره الدوران واكتفائِه بالدوران وجودًا أو عدمًا.

وإن عَنَى به شيئًا ثالثًا فلا بدَّ من بيانِه.

الثاني: أن نقول: من رأيناه أعطى إنسانًا عالمًا فقيرًا قريبًا منه مرةً بعد مرة، فقد دار الإعطاء مع هذه المدارات الصالحة للعلّية، فإن أضفتَ الإعطاء إلى المجموع أو إلى أحدٍ بعينه قبل الدليل كنتَ مخطئًا، لأنك قد تسألُ الرجلَ المعطيَ، فيقول: إنما أعطيتُه لقرابتِه مني أو لفقرِه أو لعلمِه، ولم ألتفت إلى الوصف الآخر ولم أشعُرْ به.

وكذلك من تجسَّسَ أو سَبَّ السلطانَ وانتهكَ حُرمتَه مراتٍ متعددةً، وهو يُعاقِبُه، قد يجوز أن يقول: إنما عاقبتُه لكذا دونَ كذا، وهو كثير.

فقوله: «لو كان المدار فيما ذكرتم صالحًا لم نُسلِّم أنه لا يكون علةً» منعٌ للواقع المعلوم بالضرورِة.

ص: 98