الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
قوله
(1)
: (ولئن قال: شيءٌ يلزم منه عدم الحكم في صورة النزاع مراد من هذا النص، فنقول: نعني به ما يستحيل انفكاك الحكم في صورة النزاع عن
(2)
إرادته. ولئن منع فنعيّن صورةَ النزاع، أو نقول: نعني به ما لا يُغاير صورةَ النزاع في الوصف ولا يمكن الخصم أن يقول بمثل ما قلنا).
اعلم أنَّ هذه
معارضة الدعوى الرابعة
، فإن المستدل إذا قال: شيءٌ يلزم منه الحكم في صورة النزاع جائز الإرادة، فيكون مرادًا.
قال له المعترض: شيءٌ يلزم منه عدم الحكم في صورة النزاع جائز الإرادة، فيكون مرادًا، وهذا بعيدٌ في الدلالات المعروفة؛ لأن الكلام الواحد لا يكون دالًّا على النقيضين
(3)
، إلا أنه يَنْفُق على طريقة: لا قائل بالفرق في مسألتين مختلفتين، وقد عرفتَ ما فيها
(4)
.
مثالُ ذلك أن يقال في مسألة علة الربا: التقديرُ بالكيل أو الوزن شيءٌ يلزم منه تحريم بيع المكيل والموزون بجنسِه مرادٌ من هذا النص؛ لأنه إذا باع الجِصّ والنورة، أو القطن والحرير بجنسِه متفاضلًا، فَحُرْمَةُ أَخْذ ذلك الشيء الفاضل جائزة الإرادة مع هذا النص؛ لأنه لو أُرِيْد من هذا النص لم يكن ذلك خطأً في اللغة، فيكون تحريم أخذ
(5)
ذلك الفاضل مرادًا من هذا النص، وإذا كان مرادًا لزم منه تحريم بيع المكيل والموزون بجنسِه متفاضلًا؛
(1)
«الفصول» : (ق/9 ب).
(2)
«الفصول» : «من» .
(3)
تحتمل: «النقيض» .
(4)
فيما تقدم (ص 442).
(5)
الأصل: «أكل» والصواب ما أثبت.
لأنه تحريم الشيء المأخوذ بالعقد يستلزم تحريم العقد، لعدم الأسباب المحرمة غيره، فيكون مرادًا.
فيقول له المعترض: شيءٌ يلزمُ منه عدم الحكم في صورة النزاع مرادٌ من هذا النص؛ لأنَّ تحريم بيعِ الخيارِ والقِثَّاء والبطيخ بجنسه متفاضلًا جائز الإرادة من هذا النص، فيكون مرادًا، وهو شيء يلزمُ منه عدم التحريم في الجِصّ والنُّورة والقطن والكتان؛ لأنه لا قائل بالفَرْق بينَ الحكمين، بحيث يقول بالتحريم في الجميع أو التحليل في الجميع، فمن قال بالتحريم في هذا قال بالتحليل في هذا.
واعلم أن طريقة: لا قائلَ بالفرقِ هنا أجود ممَّا مضى
(1)
، لأن أصل المسألتين شيءٌ واحد، وهو أن علة التحريم هي الطُّعْم والتماثل في الجنس، وقد أجمعَ الخصمان [ق 262] على أن أحدَ القولين ينفي الآخر، فليس للمستدلِّ أن يأتي في هذا الأصل بقولٍ ثالث يخرج عنهما، وهو دعوى إرادة الجميع. لكن هذا إلزامٌ جدليٌّ، وإلا ففي المسألة قولٌ آخر، وهو: أن العلة الطُّعْم والتماثل، فيكون قد سوَّى بين تلك الصور في التحليل.
وفيها قول آخر لبعض الأتباع، وهو أن العلة التَّمَوُّل، فيجري في جميع الأجناس، فقد قيل بالتحريم في الجميع، فبطل قوله:«لا قائل بالفرق» ، على أنه لو لم يقل أحدٌ بالفرق في هذه المسألة، فهل يجوز الفرقُ فيها؟ قولان مشهوران لأهل الفقه والأصول ــ كما تقدم ــ لكنَّ القولَ بعدم جواز الفرق هنا متوَجِّه، وإن كان الصحيحُ خلافَه.
(1)
غير واضحة بالأصل، ولعل الصواب ما أثبت.
وهذا البحث إنما هو في المثال المذكور، فإذا أوْرَد المعترضُ مثلَ هذا السؤال قال المستدلُّ: يعني به ما يستحيلُ انفكاك الحكم في صورة النزاع عن إرادته، يقول: يعني بالشيء المستلزم للحكم في صورة النزاع متى يستلزم الحكم بالضرورة، بحيث لا يجوز انفكاك الحكم عن إرادته كما ذكرناه، فإنَّ إرادةَ تحريم الفاضل من الجِصّ والقطن إرادةُ شيءٍ مستلزم لتحريم العقد بحيثُ لا يجوز انفكاكُ تحريم العقد ــ وهو محلُّ النزاع ــ عن إرادته بخلاف
(1)
تحريم الخيار والقثاء الزائد، فإنه شيء ليس مستلزمًا بالضرورة، لعدم تحريم العقد المشتمل على التفاضل في الجِصّ والقطن؛ لأنه يجوز أن ينفكّ عدمُ الحكمِ في صورة النزاع ــ وهو عدم تحريم التفاضل في المكيل والموزون ــ عن تحريم التفاضل في المطعوم، بأن يكون في المسألة قولٌ ثالث بالتحريم فيهما، فإنَّ تجويزَ قولٍ ثالث أمرٌ ممكن جائز، فليست الملازمة ضرورية، بخلاف تحريم المبيع من حيث هو مبيع مع تحليل العقد فإنه مستلزمٌ له بالضرورة.
وأما قوله: «ولئن منع فنُعَيِّن صورةَ النزاع» .
يعني إنْ مَنَع أنَّ شيئًا يستحيل انفكاك الحكم في صورة النزاع عنه جائز الإرادة عيَّنَّا
(2)
صورة النزاع، فيثبت استحالة الانفكاك.
وقوله: «أو نقول: نعني به ما لا يُغاير صورةَ النزاعِ في الوصف، ولا يمكن الخصم أن يقول بمثل ما قلنا» .
اعلم أن المستدل قد يدَّعي إرادةَ شيء يلزم من إرادته الحكم في صورة النزاع، وقد يدَّعي إرادة شيء يلزم منه الحكم، فإن ادَّعَى الأول جائز أن يضمن
(1)
أنه محلُّ النزاع؛ لأن محلَّ النزاع شيء يلزم من إرادته الحكم في صورة النزاع، وإن ادَّعى الثاني لم يجز أن يضمن نفسَ محلِّ النزاع؛ لأن نفسَ محل النزاع ليس شيئًا يلزم منه الحكم، وإنما يلزم الحكم [ق 263] من إرادته، وبَيْنَ المعنيين فرق.
إذا عرفتَ هذا، فالمصنِّف إنما ذكر إرادةَ شيءٍ يلزمُ منه الحكم في صورة النزاع، وهذا لا يجوز أن يفسَّرَ بمحلِّ النزاع؛ لأن محل النزاع لا يلزم منه الحكم، وقد قال:«فنُعَين صورةَ النزاع، أو نقول: نعني ما لا يُغاير صورةَ النزاع في الوصف» ، وهذا تعيينٌ للشيء الذي يلزم منه الحكم في صورة النزاع بأنَّه محلُّ النزاع، وهو كما ترى، إلا أنه يمكن أن يقال: لا فرقَ من جهة المعنى بين ما يستلزم إرادته الحكمَ وبين ما يستلزمُ هو الحكم بتقدير كونه مرادًا، ونحن ندَّعي أنَّ محلَّ النزاع يستلزم الحكم إذا كان مرادًا، لاسِيَّما ومن اللغة الفصيحة التسامح في مثل هذا الكلام عند ظهور القصد وحَذْف المضاف وإقامة المضاف إليه مُقَامه.
قولنا: «إرادة شيء يلزم منه الحكم» ، أي يلزم من إرادته الحكم، ودلَّ على المحذوف قولُه:«إرادة شيء» .
قولُنا بعد ذلك: «يلزم منه» ، أي: يلزم من هذا الشيء المراد من حيث هو مراد
(2)
، أو يلزم من إرادته.
(1)
هكذا استظهرتها، بدليل ما سيأتي بعدها.
(2)
الأصل: «مرادًا» !
وعلى هذا؛ فينبغي في المثال الذي ذكرناه أن يدَّعي إرادةَ تحريم بيع الكيل بالكَيْلَين أو الرطل بالرطْلَيْن من كلِّ مال متماثل، ثم نعين ذلك إذا منع.
أو نقول: نعني به ما لا يُغاير صورةَ النزاع في الوصف؛ لأن ما ذكرناه لا يغاير صورةَ النزاع في الوصف، بخلاف بيع البطيخة بالبطيختين، والخيارة بالخيارتين، فإنه يغاير صورةَ النزاع في الوصف، وهذا معنى قوله:«ولا يمكن الخصم أن يقول بمثل ما قلنا» .
لكنَّ الاعتراض في الحقيقة لا يندفع بهذا، إلا أنَّ الخصمَ يقول: هب أن الذي تعنيه
(1)
ما يستحيل انفكاك الحكم في صورة النزاع عن إرادته، أو ما لا يغاير صورةَ النزاع في الوصف، لكن وجه الدلالة فيه: أنه شيء يلزم منه الحكم في صورة النزاع، وأنَّه مراد، وأنا معي شيءٌ يلزمُ منه عدم الحكم في صورة النزاع، وهو مراد، فافتراقهما بعد ذلك بأنَّ أحدهما لا ينفكُّ عن الحكم، أو لا يغاير صورة النزاع= افتراقٌ في شيءٍ لا تأثير له وجودًا ولا عدمًا، فلا يصلح جوابًا للمعارضة ولا ترجيحًا، وهذه المعارضة تدفعُ أصلَ الاحتجاج بجواز الإرادة؛ لأنه يلزم منها مثل هذه النقائص.
وقد اختلف الناس في آية الربا والبيع هل هما من قبيل العمومات والظواهر، أو من قبيل المجملات؟ فمن سلك المسلك الأول يجوِّز الاحتجاجَ بعمومها، ومن سَلَك الثاني لا يُجَوِّزه، ولولا أن كان ذكر
(2)
هذه الآية على سبيل المثال؛ لبينَّا وجوهَ الاستدلال الصحيح منها والاعتراض عليه والجواب عنه.
(1)
تحتمل غير هذه القراءة.
(2)
غير بينة، ولعلها ما أثبت.