الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
يقول: هو إرادة الفعل بالقول على وجهِ الاستعلاء، أو يقول: هو نفس الاقتضاء القائم بنفس المقتضي سواءٌ كان على وجهِ الاستعلاء، أو لم يكن، فإن هذه المعاني لازم لما ذكرته.
وقوله: «اللازم
…
» إلى آخره.
يقول: قد قامَ الدليلُ على ثبوت الأمر، فإن كان الأمر هو اللازم، فهو أحد الشيئين، وإن لم يكن هو اللازم، فهو ذلك بالدليل المقتضي لوقوع الأمر السالم عن معارضةِ كون الأمر أمرًا.
قوله
(1)
: (على أنَّ أحدهما أمر في قوله: {وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلَائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ} [البقرة: 34]، بدليل قوله:{مَا مَنَعَكَ أَلَّا تَسْجُدَ إِذْ أَمَرْتُكَ} [الأعراف: 12].
يقول: اللفظُ الدالُّ على طلب الفعل، أو لازم هذا اللفظ، وهو الطلب مثلًا في هذه الآية، بدليل تسميته أمرًا، فيجب أن يكون أمرًا في جميع المواضع دفعًا للاشتراك أو المجاز.
قوله
(2)
: (وهذا يدلُّ على أنه للوجوب؛ لأنه لو لم يكن للوجوب ما
(3)
ذمَّه الله تعالى على التَّرْك).
اعلم أنَّ
الاستدلال بالأمر على الوجوب له مقامان:
أحدهما: تحقُّق الأمر وثبوته، فإن كانت الصيغة صريحة مثل قوله:{إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْأَمَانَاتِ} [النساء: 58]، {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ}
(1)
«الفصول» : (ق/10 أ).
(2)
المصدر نفسه.
(3)
«الفصول» : «لما» .
[النحل: 90]، {يَأْمُرُهُمْ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَاهُمْ عَنِ الْمُنْكَرِ} [الأعراف: 157]، ونحو ذلك= فلا كلام. وإن كانت الصيغة ظاهرة، وهي صيغة «افعل» ، و «ليفعل» ، ونحوهما، وصيغةُ الخبر إذا اسْتُعْمِلت بمعنى الأمر، كقوله [ق/269]:{وَالْوَالِدَاتُ يُرْضِعْنَ} [البقرة: 233]، فالذي عليه عوامُّ الخلائق: أن مقتضى هذه الصيغة ومعناها الطلبُ والاستدعاء، وأنها بمطلقها أمر، ولا يُصْرَف عنه إلا بقرينة، وذهبت الواقفة إلى أنها متردِّدَة بين الأمر وبين سائر المعاني التي اسْتُعْمِلت فيها من الإباحة والتهديد والتعجيز والتكوين والتسخير والتسوية والتمني والدعاء وغير ذلك من المعاني.
ثم منهم من جزم بالاشتراك، ومنهم من توقَّف، وليس هذا الخلاف مما يُلْتفتُ إليه في الأمور العلمية، فإنَّا باضطرار نعلمُ أن هذه الصيغة إذا تجرَّدت عن القرائن فإن معناها الاستدعاءُ والاقتضاءُ.
ثم تلك المعاني هل فيها هذا المعنى ــ وهو الاستدعاء والاقتضاء ــ أو في بعضها بحيث تبين العلاقة بين الحقيقة والمجاز، أو يثبت التواطؤ، أو ليس فيها شيء من معنى الطلب؟ فيه بحوث دقيقةٌ ليس هذا موضِعَها، وإثبات هذا المقام سهل
(1)
، وعليه تُبْنى صيغة «افعل» الواردة بعد الحَظْر؛ هل هي أَمْر أو إذن.
المقام الثاني: إذا ثبت الأمرُ إما صريحًا أو ظاهرًا بلفظةٍ أو بقرينةٍ؛ فهل مقتضاه إيجاب الفعل؟ فالذي عليه جماهير الفقهاء من الطوائف الأربعة وغيرهم أنَّ المجرَّد منه للإيجاب، وذهب بعضُهم وطوائف من المتكلمين
(1)
لعلها: «أسهل» .
إلى أنه إنما يفيد الندب، ومنهم من قال: إنما يفيد القَدْرَ المشترك، وهو مُطْلق الاستدعاء من غير تعرُّضٍ لتجويز الترك، أو المنع من الترك، وهذا أقرب من الذي قبله، ومنهم من يزعم أنه مشترك بينهما، ومنهم من توقَّف في الجميع.
والخلافُ هنا أقربُ من الخلافِ في الذي قبله. وقد استدلَّ عليه المصنِّف ببعضِ الأدلة المشهورة:
منها: قوله: {مَا مَنَعَكَ أَلَّا تَسْجُدَ إِذْ أَمَرْتُكَ} [الأعراف: 12].
وجه الدليل: أن الله أمر الملائكة وإبليسَ معهم بالسجود لآدم، ثم لما امتنعَ إبليسً من السجود ذمَّه الله وعاقبَه على ترك الامتثال، ولو لم يُفِد الأمرُ الإيجابَ لما استحقَّ الذَّمَّ والعقابَ على الترك، لأنَّا لا نعني بالإيجاب إلا كون التَّرْك سببًا للذَّمِّ والعقاب، وكون إبليس مأمورًا مع الملائكة لا خلاف فيه بعد قوله:{إِذْ أَمَرْتُكَ} ، سواء قيل: هو من الملائكة حقيقة أو تبعًا.
ودعوى أن الأمرَ كانت معه قرينة تُفيد الوجوب، يُجاب عنه: بأن الأمرَ المحكيَّ في القرآن مطلق، وهو قوله:{فَقَعُوا لَهُ سَاجِدِينَ} [الحجر: 29]، {وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلَائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ} [البقرة: 34]، والأصلُ عدم القرائن الحالية، ولو كانت لذُكِرت لبيان المقتضي للعن الشيطان
(1)
.
ثم قوله: {إِذْ أَمَرْتُكَ} كالنص في ترتُّب الذَّمِّ على مخالفة مجرَّدِ الأمر. ودعوى أن إبليس إنما استحقَّ ذلك لتركه تكبُّرًا لا لمجرَّد الترك لا [ق 270] تستقيم؛ لأن التركَ [جزءٌ] من سبب الذمِّ والعقاب؛ إذ لو لم يكن
(1)
غير واضحة، واستظهرت منها ما أثبتُّ، وتحتمل غير ذلك.
جزءًا
(1)
لبقي الكبر الذي في نَفْسِه الذي لم يتضمَّن تركَ واجب ولا فعل محرم، وذلك [و] إن كان عظيمًا، لكن سنة الله أن لا يجزي الناس على ما في ضمائرهم حتى يبتليهم، وإلَّا فذلك الكبر كان موجودًا قبل هذا؛ ولأن الله ــ سبحانه ــ بيَّن أن الذَّمَّ والعقابَ عن مخالفة الأمر بقوله:{إِلَّا إِبْلِيسَ كَانَ مِنَ الْجِنِّ فَفَسَقَ عَنْ أَمْرِ رَبِّهِ} [الكهف: 50]، وقوله:{إِلَّا إِبْلِيسَ أَبَى وَاسْتَكْبَرَ وَكَانَ مِنَ الْكَافِرِينَ} [البقرة: 34]، فذَمَّه على الإباء والاستكبار والمصير
(2)
من الكافرين، فعُلِم أن كلًّا
(3)
من الإباء والاستكبار له مَدْخل في استحقاق الذَّم.
وأيضًا فينبغي أن يُقال: إنَّ ترك امتثال الأمر على وجه الشهوة جائز، وعلى وجه الكبر غير جائز، ومعلوم أن هذا قولٌ يخالف الإجماع، وإن كان التركُ كِبْرًا أعظمَ عند الله وأشدَّ عقوبة وأقبحَ عاقبة.
الدليل الثاني: قوله
(4)
: (وكذلك قوله تعالى: {فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ
(5)
أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} [النور: 63]).
حذَّر الله المخالفين عن أمره أن تصيبَهم فتنة، وهي الكفر، أو يصيبهم عذاب أليم، فلولا أن المخالفة ينعقد معها سبب الفتنة أو العذاب لما حذَّر منها، ومعلومٌ أنه لو كان الفعل بعد الأمر على حاله قبل الأمر مِن جهة عدم
(1)
الأصل: «حرا» مهملة النقط.
(2)
غير واضحة في الأصل، وتحتمل قراءتها: المعتبر.
(3)
الأصل: «كل» .
(4)
«الفصول» : (ق/10 أ).
(5)
الآية في «الفصول» إلى هنا ثم قال: «الآية» .
الضرر على تركه لم ينعقد بتركه سببُ الكفر أو العذاب، ألا ترى أن صلاة الضحى أو صيام أيام البيض لا يقال لمن تركه: احْذر أن ترتدَّ عن دينك، أو يعذِّبك الله عذابًا أليمًا.
وهذه الآية تُصَدِّق التي قبلها، فإن إبليسَ خالفَ عن أمرَ ربِّه فأصابته الفتنة بأن صارَ كافرًا، وآدمُ عصى ربَّه فأُخْرِجَ عن الجنة.
الدليل الثالث: قوله
(1)
: (ولأن التارك عاصٍ بقوله: {أَفَعَصَيْتَ أَمْرِي} [طه: 93]، والعاصي يستحقُّ العقابَ لقوله: {وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَإِنَّ لَهُ نَارَ جَهَنَّمَ} [الجن: 23]، وكذلك تارك الأمر).
وهذا أيضًا دليل جيِّد؛ لأن من تَرَك امتثال الأمر فقد عصاه بقوله: {أَفَعَصَيْتَ أَمْرِي} ، وبقوله:{وَلَا أَعْصِي لَكَ أَمْرًا} [الكهف: 69]، قوله:{لَا يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ} [التحريم: 6]، ومَن عصى أمْرَ الله ورسوله فقد عصى الله ورسوله، وإلا أمكن كلَّ أحدٍ أن يقول: إنما عصيتُ أمرَ الله، ولم أعص الله، فلا يكون أحد قد عصى الله {وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَإِنَّ لَهُ نَارَ جَهَنَّمَ} [الجن: 23].
واعلم أنَّ هذه الأدلَّة عليها أسْوِلَة ليس هذا موضع استقصائها.
وقول المصنِّف: «وكذلك تارك الأمر» عليه مناقشة؛ لأنه قد قال: تاركُ الأمر عاصٍ، والعاصي يستحقُّ العقابَ، وهذا يُنْتج أنَّ تارك [ق 271] الأمر يستحق العقابَ، فإدخالُ «كاف التشبيه» هنا لا معنى له؛ لأنه يقتضي أن تارك
(1)
«الفصول» : (ق/10 أ).
الأمر مُشَبَّه بالعاصي، لا أنه قِسْم من العاصين؛ إذ المُشَبَّه غير المُشَبَّه به.
والجوابُ عن هذا ــ على دقة فيه ــ: أن الجزء قد يُشَبَّه بالكلِّ، ومن هنا سُمِّي هذا النظم قياسًا، فكأنَّه قال: كما استحقَّ العاصي العقاب يستحقه تارك الأمر؛ لأنه قِسم منه، فهو تشبيه لاستحقاق النوع باستحقاق الجنس.
قوله
(1)
: (ولئن قال: لو كان الأمر للوجوب لكان الترك معصيةً في كلِّ صورةٍ من صور الأمر صيغةً، وليس كذلك.
فنقول: الكلامُ فيما إذا كان عاريًا عن القرينة النُّطْقية والعقلية).
لا شكَّ أن الأمر يدلُّ على أن الآمِر أوجبَ الفعلَ إلا أن يدل دليل على أنه لم يوجِبْه، وإنما نَدَب إليه، وهذا شأن جميع الأدلة التي تُتْرَك لما هو أقوى، فإنَّ تَرْكَ مدلول الدليل مقرونًا بمانعٍ لا يُبْطل دلالَتَه، ولو بطلت دلالتُه بتركه لمانعٍ لما صحَّ الاستدلال بدليل يمكنُ تخلُّف مدلوله عنه من الأمر والنهي والعموم والخصوص والمطلق والمقيَّد، وخبر الآحاد والقياس، والشهادة والفتوى والاستصحاب.
نعم، هل الدليل مجموعُ الأمرين ــ الأمر وعدم القرينة ــ حتى يُقال: الأمر المجرَّد هو الدليل، أو الدليل هو نفس الأمر، والقرينة معارض لذلك الدليل؟ هذا فيه منازعة لفظية.
وقوله: «إذا كان عاريًا عن القرينة النُّطْقية [والعقلية» ، لو قال:]
(2)
(1)
«الفصول» : (ق/10 أ).
(2)
ما بين المعكوفين زيادة يستقيم بها السياق ويدل عليها عبارة صاحب «الفصول» ، وكلام المؤلف بعدها.
«والحالية» لكان عامًّا وذلك لأن القرينةَ قد تكون حالة
(1)
للمتكلم كما يظهرُ من صورته أو يُعلم من سيرته، وقد تكون حالًا للمأمور، وقد تكون ما يُعْلم من شأن المأمور به، وقد تكون دليلًا قوليًّا أو فعليًّا، أو قياسًا يدلُّ على عدم الوجوب.
فإن قال: كل ما ليس بقوليٍّ فهو عقليٌّ.
قيل له: إن أردت أنه يُدْرك كونه قرينةً صادقة بالعقل، فالنطق كذلك، وإن أردت أنَّ العقلَ يستقلُّ بدَرَكِه، فأكثر هذه المواضع لا يستقلُّ العقلُ بدَرَكِها، اللهمَّ إلا أن يقول: أردتُ بالنطقيِّ الدلائل النقلية السمعية، وبالعقليِّ الدلائل العقلية، فيعودُ الكلامُ الذي تقدَّم في أوِّل هذا الكتاب
(2)
.
(1)
تحتمل: «حال» ، ويكون صوابها:«حالًا» .
(2)
أول هذا الكتاب ساقط من النسخة، وفيه الكلام على الدلائل العقلية والنقلية. انظر «فصول في الجدل» (ص 605 ــ في الملحق).
(فصل
(1)
ثم النهيُ وهو: طلب الامتناع عن الفعل على طريق الاستعلاء مما يقتضي الحرمة).
اعلم أن حقَّه أن يحدَّ النهيَ بحدٍّ يُقابل حدَّ الأمر، فيقول: هو اللفظُ الدالُّ على طلب الامتناع بالقول على وجه الاستعلاء. وأما مجرَّد الطلب، أو الطلب بغير القول [ق 272]ــ وإن سُمي نهيًا ــ ففي كونه حقيقةً أو مجازًا خلافٌ مشهور، والذي عليه الجماهير أنه مجاز.
وأما قولُه: «طلب الامتناع» فهنا بحثٌ، وهو أن المطلوبَ بالنهي ما هو ــ بعد الاتفاق على أن المطلوبَ به الترك ــ؟
فالذي عليه أكثرُ الأصوليين أن المطلوبَ به أمرٌ وجوديٌّ، وهو فعلُ ضدِّ المنهيِّ عنه، وهو الكفُّ مثلًا، أو الامتناع.
وذهب بعضُ المتكلِّمين إلى أن المطلوب به عدم المنهيِّ عنه، وهو نفس أن لا يفعل المنهيَّ عنه؛ لأن مقصود الناهي عدم ذلك الأمر المنهيِّ عنه، وقد لا يخطر بباله الاشتغالُ بضدِّه.
نعم، ذلك من باب ما لا يتمُّ الواجبُ إلا به، وهو مبنيٌّ على أنَّ النهي عن الشيء أمرٌ بضدِّه.
ووَجْه الأول: أن النهي طلب واقتضاء، والمطلوب المقتضى لابدَّ أن يكون مُسْتَطاعًا للعبد ومقدورًا عليه له، والعدمُ المحض والنفي الصِّرْف ليس مقدورًا له، ولا هو من آثار قدرته واستطاعته، فامتنع أن يكون مطلوبًا منه.
(1)
«الفصول» : (ق/10 ب). وانظر: «شرح المؤلِّف» : (ق/96 أ- 98 أ)، و «شرح السمرقندي»:(ق/76 أ- 77 ب)، و «شرح الخوارزمي»:(ق/89 أ- 90 ب).