الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
ومن هذا الباب أن يُقال: حُليّ
(1)
فلا تجب الزكاة فيه كحُليِّ الصَّبِيَّة، أو يُقال: مالُ غيرِ مكلَّفٍ، فلا تجبُ الزكاة فيه كحُليِّ الصَّبِيَّة.
وأقبحُ من هذا أن يقيس على صورتين، كما يقال: قهقهته في صلاته تُبطل وضوءه، كما لو قَهْقَه ومسَّ ذكرَه، أو مسَّ ذكرَه فانتقض وضوءُه، كما لو قهقه ومسَّ.
فإنه في الأولى
(2)
قاسَ على حادثةٍ واحدة اجتمع فيها الوصفان، وهنا قاس على حادثتين.
القسم الثاني
(3)
:
التركيب المقبول فُتيا
(4)
وجدلًا
، وهو أن يشعر القياس بمأخذ الحكم، مثل قياس زكاة مال الصبي والمجنون على عُشْر أرضه، وقياس أَخْذ الأطراف بالطرف على الأنفس بالنفس، ونحو ذلك، فإنَّ بين الأصل والفرْع هنا مناسبة ظاهرة، لكنَّ المأخذَ عند أبي حنيفة: أن العُشْر حق الأرض، فهو كالخراج، وأنَّ الأطراف تجري مجرى الأموال، فتعتبر فيها المماثلة. فهنا للمستدلِّ أن يبيِّن صحَّةَ عِلَّته، ويُعَدِّيها إلى فروعها، ثم إن كان هذا [ق 310] إجماعًا من الأمة، فهو حجة في نفسِ الأمر، وإن كان إجماعًا بين المتناظرين، فهو حجة إلزامية، لا حجة حقيقية.
القسم الثالث: المقبول جدلًا لا فُتيا
(5)
، وهو ما أشعر بمناقضة
(1)
هنا سقط كلمة أو أكثر.
(2)
غير بيِّنة وهكذا استظهرتها.
(3)
الأول تقدم (ص 568).
(4)
الأصل: "يقينا" ولعل الصواب ما أثبت.
(5)
الأصل: "يقينا" والصواب ما أثبت، وتقدم نحو هذا التصحيف.
المخالف، ولم يُشْعِر بمأخَذِ الحكم الذي يدَّعِيه المستدلُّ.
وأما التركيبُ في الوصف، فمثل أن يقول في مسألة: لا يُقتل المسلم الذي [قَتَلَ] من لا يُقتل به إذا قتله بالمثقل لا يقتل به إذا قتله بالمحدَّد
(1)
، كالأب مع ابنه، فإن هذا من جنس التركيب الأول.
فحاصله: أن يُسْتَدل بعدم وجوبِ القصاص بالمثقَّل على عدم وجوبِه بالمحدَّد، وعدم الوجوب بالمثقَّل عنده لعدمِ المكافأة، وعند مُخالِفِه لوجودِ الشبهة.
ولو كان المصنَّف قَصَد التركيبَ في القياس لبسطنا القولَ فيه، ولكنه إنما قصد الثاني، وهو التركيب في الإجماع.
وهو: تركيبُ قولِ العلماء في مسألتين، بأن تقول طائفةٌ بالنفي فيهما، أو بالإثبات فيهما، أو بالنفي في إحداهما دون الأخرى، وتقولُ الأخرى بعكس ذلك في المسألتين، فهل يجوزُ لمن بعدهم أن يقول بقول هؤلاء في مسألة، وبقول الآخرين في مسألة؟
وقد تقدم القولُ في هذا عند النقض بالمركب
(2)
، وذكرنا ما حاصله: أن أهل الإجماع إن صرَّحوا بالتسوية لم يَجُز التفريق بين المسألتين إلا عند طائفة قليلة، وإن لم يصرَّح بالتسوية فالجمهور على جواز التفريق بين المسألتين، بأن يوافقَ هؤلاء في مسألة، وهؤلاء في مسألة.
وذهب طوائف من الفقهاء إلى أنَّ مأْخَذَ الحكمِ إذا كان واحدًا لم يَجُز
(1)
هكذا العبارة في الأصل وفيها اضطراب.
(2)
(ص 328 - فما بعدها).
التفريقُ، وعلى هذا القول ينبني ما ذكره المصنِّف، وهو قولٌ قويٌّ في الجملة في بعض المواضع.
وأما إن كان المأخَذُ مختلفًا، فجوازُ التفريقِ قولُ عوامِّ الخلائق، ولم يعتمد على وجوب التسوية إلا شُرَيْذِمَةٌ من متأخِّري الجدلِيِّين، وكلامُ المصنِّف وضُرَبائه من الجدليِّين يقتضي سلوكَ هذه الطريقة، كما تقدَّم ذكره في القياس.
قولُه
(1)
: (وهو اتفاق الطرفين بعلتين مختلفتين، كما يقال: لو جاز نكاح الثيِّب الصغيرة لما جاز نكاح البكر البالغة؛ لأن الإجماع منعقدٌ على انتفاءِ هذا المجموع، وهو الجواز هنا، مع الجواز ثمة، على أن الاختلاف في القولين اتفاقٌ على بطلان قولٍ ثالث، كما في النظائر).
يقول: هو اتفاق الطائفتين؛ طائفة المستدلِّ، وطائفة المعترض على أمر من الأمور، لكن بعلتين مختلفتين، كالمثال الذي ضربه، فإن أبا حنيفةَ ومن وافقَه ــ كرواية عن أحمد ــ يقول: الموجب للإجبار هو الصغر، فتُجْبَر الثيِّب الصغيرة، ولا تُجْبَر البكر البالغة، والحجازيون يقولون: الموجب للإجبار هو البكارة، فتُجْبَر البكر البالغة، ولا تُجْبَر الثيِّب الصغيرة
(2)
، فالقائل قائلان؛ قائل بالجواز هنا دون الجواز هناك، وقائل بالعكس.
وهذه المسألة التي فَرَضها إجماعًا بين الخصمين فقط [ق 311] فهي تصلح للجدل الإلزامي، وهو [غير] الجدل العلمي، لأن من العلماء مَن
(1)
"الفصول": (ق/11 أ).
(2)
انظر: "المغني": (9/ 407)، و"بدائع الصنائع":(2/ 242).
يقول: كلٌّ من الصغر والبكارة موجِبٌ للإجبار، فتُجْبَر البكر البالغة للبكارة، والثيِّب الصغيرة للصغر، كرواية معروفة عن أحمد.
ومنهم من يقول: الموجب للإجبار مجموعُ الوصفين، فلا تُجبر إلا البكر الصغيرة خاصة، فأما الثيِّب أو البكر البالغة فلا تُجْبَر، وهذه رواية رابعة منصوصة عن أحمد
(1)
.
وفي الجملة فهذا من أجود الإجماعات المركَّبة، وهو حجة عند كثير من الفقهاء، وفي الحقيقة ليس بإجماع؛ لأنه لو نظر ناظرٌ فرأى صحةَ العِلَّتين حتى قال بالجواز فيهما، أو صحَّة مجموعِ العِلَّتين حتى قال بالنفي فيهما لم يكن هذا محالًا
(2)
.
مثال ذلك: اختلافهم في أن علة الرِّبا هي التماثل أو الطَّعْم، فلو قال قائل: المجموع هو العلة، كما هو قول ابن المسيب وقول الشافعي ورواية عن أحمد، لم يكن مُحالًا. ولو فرضنا أنه قام دليل على صحة التعليل بكل واحد من تلك العلل؛ لم يكن الأخذُ بذلك مخالفًا للإجماع، فمن
(3)
أنعم النظر على صِحَّة قول أكثر الفقهاء في أنه يجوز أن يُؤخذ بقول هؤلاء في مسألة، وبقول هؤلاء في مسألة، فإنَّ العصمة مضمونة للأمة فيما اتَّفقوا عليه، وهم اتفقوا في كلِّ صورة على قولين، والمخالفُ لا يخرج عن ذَيْنِك القولين، ولم يتفقوا على انحصار المأخَذ في كذا أو كذا، أو على التسوية بين الصورتين. وفي الجملة، المسألة في محلِّ النظر، وللكلام فيها مجالٌ رَحْب.
(1)
انظر لروايات أحمد: "الإنصاف": (8/ 56).
(2)
غير بيِّنةٍ في الأصل، وهكذا استظهرتها، ويدلُّ عليه ما بعده.
(3)
كذا.
وحُجَّةُ من يحتجّ بهذا الإجماع المركَّب، فيقول: الإجماعُ منعقد على انتفاء المجموع، وهو الجواز في الموضِعَيْن؛ لأن القائل قائلان: قائل بالجواز هنا
(1)
، دون الجواز هناك، وقائل بعكس ذلك فيهما، فالجواز في الموضعين أو عدمه فيهما منتفٍ بالإجماع.
والاعتراضُ عليه أن يقال: لا نُسَلِّم أن الإجماع منعقد على انتفاءِ المجموع؛ لأن الإجماع: اتفاق أهل الحلِّ والعقد على حكم حادثة، وهم لم يتفقوا على امتناع اجتماع هذين، ولا على لازمهما، وليس ذلك من لوازم اجتماعهم، وإنما هو اتفاق عارض لإجماعهم، كما لو كان أحدُهم بالشام، والآخر بالحجاز، ونحو ذلك من الأوصاف العديمة التأثير، فإن أحدهم قال: تُجْبَر الصغيرة، ولا تُجْبَر الكبيرة، والآخر قالَ: تُجْبَر البكر، ولا تُجْبَر الثيِّب، فمن قال: تُجْبَر الصغيرة، أو البكر، أو لا تُجْبَر إلا الصغيرة البكر= لم يخرج عن أقوالهم، إذ لم ينطقوا بإجماع على الملازمة.
قوله: "على أن الاختلاف في القولين اتفاق على بطلان قول ثالث، كما في النظائر".
اعلم أنهم إذا اختلفوا في مسألة على قولين كالتحريم والتحليل، لم يَجُز إحداث قول، وهو الإيجاب أو الندب، وكذلك [ق 312] لو قالوا بالإيجاب والاستحباب لم يَجُز إحداث قول ثالث بالتحريم أو الكراهة، أو استواء الطرفين.
هذا مذهب جميع العلماء من الفقهاء وغيرهم إلا شرذمة لا خَلاقَ لهم
(1)
الأصل: "هناك" والصواب ما أثبت، وقد مرّ على الصواب (ص 572).
من المتكلِّمين، زعموا أنه يجوز إحداثُ قولٍ ثالث؛ لأنه لا إجماع مع الاختلاف. ولا يخفى على من له أدنى بصر أنَّ هذا قولٌ فاسد؛ لأنهم إذا أجمعوا على الأضحية، فقال بعضُهم: هي واجبة، وقال بعضهم: هي مستحبة، أو الوِتر= فمن قال بعد ذلك: الأُضحية أو الوتر مكروهٌ، أو مباح مستوي الطرفين؛ لزم من قوله أن تكون الأمة مُجْمِعين على الخطأ؛ لأن هذا القولَ الثالثَ إن كان صوابًا وقد أفتى كلٌّ بخلافه، فقد أفتى كلٌّ منهم بضدِّ الصواب، وضدُّ الصواب خطأ، فكلٌّ من الأمة قد أخطأ في عين
(1)
هذه الواقعة، ولا معنى لكونهم مُجْمِعين على الخطأ إلا هذا، فعُلِمَ أنه خطأ، وأن كلًّا منهم يعتقد أنه خطأ، فقد أجمعوا على أنه خطأ، وهذا ظاهرٌ لا خفاءَ به.
وكذلك إذا اختلفوا في الغِناء المُجَرَّد فقال قائل: إنه محرم، وقائل: إنه مكروه. وقائل: إنه مباح، فمن زعم أنه مُسْتحبّ أو واجب فقد خرق الإجماع، وخرج عن قول الأمة.
لكن احتجاجه بهذا في هذه المسألة ليس بمستقيم؛ لأن الاختلاف على قولين اتفاق على بطلان قولٍ ثالث، وموافقةُ هؤلاء في بعض الصور، وهؤلاءِ في بعض الصور ليس قولًا ثالثًا، بل هو قولٌ مركَّبٌ من القولين، فإنَّ من كان معه كِيسان في أحدهما عَيْنٌ، وفي الآخر وَرِقٌ، فأخذ بعضَ هذا وبعضَ هذا فجعله في كيسٍ ثالثٍ، لم يكن ما في ذلك الكيس خارجًا عما في الكيسين، ولا مخالفًا لهما. بخلاف ما لو وضع فيه فلوسًا.
قوله
(2)
: (ولئن قال: المجموع متحقِّق بالإجماع ضرورةَ تحقُّقِ الجوازُ
(1)
الأصل: "غير" ولعل الصواب ما أثبت.
(2)
"الفصول": (ق/11 أ).
عندكم في تلك الصورة وعندنا في هذه الصورة، فنقول: ما ذكرتم مُعارَض بمثله، بخلاف ما ذكرنا؛ لأنا نتمسَّكُ بقول كلِّ واحدٍ من المجتهدين على انتفاء المجموع).
حاصله: أن المعترض يقول: المجموع، وهو الجواز في الموضعين متحقِّق بالإجماع؛ لأنَّ الحجازيَّ يقول بالجواز في البِكْر البالغة، والعراقيَّ يقولُ بالجواز في الثيب الصغيرة، فقد أجمعوا على الجواز في الموضعين.
ولا شكَّ أن هذا كلامٌ فاسد؛ لأن تحقُّق الشيءِ المركَّب بالإجماع إنما معناه أن يتحقَّق كلُّ جزء من أجزائه بالإجماع، فأما تحقُّق بعضِ أجزائه بقول مجتهد، وتحقُّق الجزءِ الآخر بقول مجتهدٍ آخر، فليس هذا تحقُّقًا له بالإجماع، وإنما هو تحقُّقٌ لكلِّ جزءٍ من أجزائه عند العلماء. وهذا الذي قال بالجواز هنا ليس هو الذي قال بالجواز هناك، وإنما هو آخر، فصار هذا قائلًا بالجواز هنا، وذاك قائلٌ بالجواز هناك، فلم يُجْمعوا على الجواز لا هنا ولا هناك. [ق 313] ولهذا عارَضَه المستدلُّ بمثل كلامه بأن يقال: المجموعُ منتفٍ بالإجماع؛ لأن الحجازيَّ
(1)
يقول بالنفي في الثيب الصغيرة، والعراقيَّ يقول بالنفي في البكر البالغة، فصار هذا الإجماع، وهو قول كلِّ طائفة في صُوَر يصحُّ ادعاؤه في النفي والإثبات، فلا يكون حجة؛ لأنَّ الحجة لا تدلُّ على النقيضين، بخلاف الإجماع المركَّب، فإن كلًّا من المجتهدين قال بالنفي في صورةٍ والإثبات في الأخرى، فمن ادعى الإجماع على نفي المجموع، أو ملازمة النفي الإثباتَ فقد أخذَ بقولِ كلِّ مجتهد؛ لأن
(1)
الأصل: "الحجازيون"، وما أثبته الصواب.
كلًّا من المجتهدَين يقول: المجموع
(1)
غير ثابت.
والاعتراضُ عليه ــ على طريقة أكثر الفقهاء ــ أن يقال: قولُ كلِّ واحدٍ من المجتهدين "إن المجموع غير ثابت" معناه: أنَّ هذين الجوازَيْن غير ثابِتَيْن، وأما الثابت: جواز إجبار البكر البالغة، فقد أجمعوا على نفي المجموع؛ لاعتقادِ كلٍّ منهم ثبوتَ أحدِ الجوازَيْن وانتفاء الآخر، فكان إجماعًا اتفاقيًّا. فإذا وافقَ هؤلاءِ في ثبوت أحدهما، والآخرين في ثبوت الآخر، أو بالعكس، فقد زال الأمر الاتفاقي، ولم يخرج عن الإجماع الحقيقيِّ.
(1)
الأصل: "الإجماع" والصواب ما أثبت، كما سيأتي قريبًا.