المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌ تقرير كلامه - تنبيه الرجل العاقل على تمويه الجدل الباطل - جـ ١

[ابن تيمية]

فهرس الكتاب

- ‌[فصل في التلازم]

- ‌جوابُه من وجهين:

- ‌ كلُّ تقديرٍ لا ينشأ منه قيامُ مقتضٍ ولا نفيُ معارضٍ فإنه غير مفيد

- ‌ معارضة المستدلّ بما ينفي التلازم على وجوهٍ كثيرة

- ‌ كلام المستدلّ إنما يصحّ إذا كان قد بيَّن التلازمَ بطريقٍ صحيح

- ‌(فصل في الدوران)

- ‌ الدوران يفيد كونَ المدار علةً للدائر، بشرطِ أن لا يُزاحمه مدارٌ آخر

- ‌ المثال الذي ذكره صاحبُ الجدل غيرُ مستقيم أن يحتج فيه بالدوران

- ‌ تخلُّف العلّيةِ مع وجود الدوران كثيرٌ لا يُحصَى

- ‌[فصل في القياس]

- ‌ أكثر الأفعال تجتمع فيها الجهات الثلاث

- ‌ كيف يجوز تعليلُ أحكام الله بالمصالح

- ‌معنى قولنا: «إنه يفعل لا لغرضٍ ولا لداعٍ ولا لباعثٍ»

- ‌ المصالح إنما تكون مصالح إذا تجردت عن المفاسد أو ترجحتْ عليها

- ‌ إثباتَ العلّة بالمناسبة أقوى من إثباتها بالدوران

- ‌ هذا الكلام يقدح في القياس القطعي والظني، وما قَدَح فيهما فهو باطلٌ

- ‌ ثبوت المشترك له ثلاث(2)اعتبارات:

- ‌ مناقشة جدلية

- ‌ الدعاوي إذا تعدَّدت لم ينفع تعدُّدها أن يكون الدليلُ على كلٍّ منها غيرَ الدليل على الأخرى

- ‌ الجدل الباطل لا يُفلِحُ فيه مَن سَلكَه استدلالًا وسؤالًا وانفصالًا

- ‌ قَويَّ العمومِ مقَدَّمٌ على ضعيف القياس، وقويّ القياسِ مقدَّم على ضعيف العموم

- ‌ الشارع لا يُخصِّص العام حتى يَنْصِبَ دليلًا دالًّا على عدم إرادة الصورة المخصوصة عقليًّا أو سمعيًّا أو حسّيًّا

- ‌ التخصيص مشتملٌ على أمر وجودي وعدمي

- ‌الدليل يجوز أن يكون عدميًّا باتفاق العقلاء

- ‌ لفظ المصدر يدلُّ على تمام المقصود

- ‌ منع العموم يحتمل شيئين:

- ‌ المرجع في ذلك إلى استقراء صور الاستعمال

- ‌(فصل في تعدية العدم)

- ‌ تقريرُ كلامِه

- ‌(فصلٌ في تَوْجِيْه النُّقُوض)

- ‌ توجيهٌ ثانٍ للنقض

- ‌(فصل في النقض المجهول

- ‌ اقتضاءَ العلةِ المعلولَ أمرٌ فطريّ ضروري

- ‌ صحَّة الحكم لا يستلزم صحةَ الدليل المعيَّن

- ‌ أصل هذا الفساد: دعوى التلازم بين مسألتين لا مناسبة بينهما

- ‌(فصل

- ‌الواجب في مثل هذا الكلام أن يُقابل بالمُنُوعِ الصحيحة

- ‌(فصل

- ‌ صورة أخرى للجواب عن المعارَضَةِ بالقياس المجهول

- ‌(فصلٌ في التنافي بين الحُكمَين)

- ‌ التنافي إذا صحَّ بطريقٍ شرعيٍّ فإنه طريق من الطرق الصحيحة كالتلازم

- ‌ الطرق الصحيحة في تقرير التنافي

- ‌يُسْتَدل على التنافي بالأدلة المعلومة في كل مسألة

- ‌بيانُ ذلك من وجهين:

- ‌الأمرُ الاتفاقي لا يدلُّ على التنافي؛ لجواز تغيُّر الحال

- ‌(فصل في التمسُّكِ بالنص، وهو الكتابُ والسنة)

- ‌النصُّ له معنيان

- ‌جميعُ وجوه الخطأ منفيةٌ عن الشارع

- ‌أحدها: دعوى إرادة الحقيقة إذا لم ينعقد الإجماع على عدم إرادة الحقيقة

- ‌العمومات على ثلاثة أقسام:

- ‌(الثاني(3): دعوى إرادة صورة النزاع

- ‌(الثالث: دعوى إرادة المقيد بقيدٍ يندرج فيه صورة النزاع

- ‌(الرابع: دعوى إرادة شيء يلزمُ منه الحكم في صورة النزاع)

- ‌ معارضة الدعوى الرابعة

- ‌(فصل

- ‌ مُدَّعي الإرادة لا بدَّ أن يبين جواز الإرادة

- ‌سبيل هذه الدعاوى أن تُقَابل بالمنع الصحيح

- ‌ الاستدلال بالأمر على الوجوب له مقامان:

- ‌فصلُ الخطابِ في هذه المسألة:

- ‌ الشرائع لم تشتمل على قبيح

- ‌لا يجوز أن يراد به نفي الأحكام الشرعية

- ‌ لا يجوز أن يُراد به نفي الإيجاب أو التحريم

- ‌ لا يصح اندراج الإيجاب أو التحريم فيه إلا بإضمار الأحكام

- ‌(فصلٌ في الأثر)

- ‌(فصلٌ في الإجماع المركَّب)

- ‌ التركيب المقبول فُتيا(4)وجدلًا

- ‌(فصلٌ في الاستصحاب)

- ‌ الاستصحاب في أعيان الأحكام

- ‌الطريق الثاني في إفساده:

- ‌الطريق الثالث لإفساده:

الفصل: ‌ تقرير كلامه

صورة عدم المشترك).

قلتُ: حاصلُ هذا أنه يقول: عدم الحكم في الأصل يدلُّ على أحد أمرين، أو هو مستلزم لأحد أمرين؛ إما عدم الحكم في الأصل والفرع، وإما عدم كون المشترك بينهما علةً للوجوب أصلًا؛ لأنه لو لم يلزم العدم فيهما، أو عدم عِلِّية المشترك، لكان الحاصل إما وجود الحكم فيهما، أو وجود عِليَّة المشترك، وعلى التقديرَين يلزم الوجوب في الأصل، واللازم منتفٍ، فينتفي الملزوم، وهو وجود أحد الأمرين، فثبتَ عدمُ أحد الأمرين، وأيهما ثبت لزم الحكم؛ لأنه إن ثبت عدم الحكم فيهما فظاهر، وإن ثبتَ عدمُ عِلِّية المشترك لزم انتفاء الوجوب؛ لأن الوجوب لو حصل لأضيف إلى المشترك؛ لأن المشترك مناسب للوجوب؛ لما فيه من تحصيل مصلحة الإيجاب، أو بالدوران، وهو دوران الوجوب مع المشترك وجودًا في صورة وجود المشترك، وهي هذه الصورة، صورة الأصل، وعدمًا في صورة عدم المشترك، والدورانُ يدلُّ على أن المدارَ عِلَّةٌ للدائر.

هذا‌

‌ تقريرُ كلامِه

، وهو من أفسد الكلام؛ وطريقُ إظهار فسادِه بمَنْع كلِّ واحدةٍ من المقدِّمتين، فإن فسادها عند تحليلها ظاهر، وذلك من وجوه:

أحدها: لا نُسلِّم أنه لو لم يتحقَّق العدم فيهما، أو لم يكن المشترك علةً للوجوب لوجبت الزكاة في الأصل، وذلك لأن انتفاء تحقُّق العدم فيهما يكون تارةً بوجود الحُكم فيهما، وتارة بوجود الحكم في الأصل، وتارة بوجوده في الفرع؛ فإنه على كلِّ واحدٍ من [ق 168] هذه التقديرات لا يتحقَّقُ العدمُ فيهما لوجود الحكم في الأصل، فلا يلزم من انتفاء تحقق العدم فيهما الوجوب ثَمَّ، بل ينتفي تحقق العدم فيهما، ويحصل الوجوبُ في الأصل. فقد منعت المقدمة الأولى، وتبيَّن بطلان الدليل عليها.

ص: 296

الثاني: أن يقال: لا نسلِّم لو لزمَ عدمُ كون المشترك علَّة لزم عدم الحكم فيهما؛ لأن عدمَ عِلِّيَّة المشترك عدمُ عِلَّةِ وصفٍ مخصوصٍ، أو عدمُ علَّةٍ مخصوصةٍ؛ فإن المناسبة أو الدوران إنما يدل على أن المشتركَ علةٌ للوجوب بتقدير الوجوب، وذلك لا يمنع من ثبوتِ علةٍ أخرى في الفرع، فيكون من عدم المشترك عدم الإضافة إليه، ويلزمُ من عدمِ الإضافة إليه عدمُ الحكم في الفرع، أما عدم الحُكم في الأصل فلا يلزم.

أو يقول: لا يلزمُ من عدم المشترك عدم الحكم لا في الأصل، ولا في الفرع، وذلك أن العكسَ في العلل الشرعية غير واجب، فلا يلزم من عدم العلة المعيَّنَة عدم المعلول.

فإن قال: لأنَّ الأصل عدم علة الوجوب في الأصل، فإذا انتفى كون المشترك علة، فالأصل ينفي عدم الوجوب، وينفي عدم علَّةٍ أخرى لعدم الوجوب، وينفي علَّةً أخرى لعدم الوجوب، فليس دعوى وجود الحكم حينئذٍ لانتفاء علةٍ معيَّنَةٍ توجبُ العدم، بناءً على أنَّ الأصل عدم غيرها= بأولى من دعوى العدم بمقتضى الأصل، أو من دعوى كون الأصل عدمَ كونِ عدمِ المشترك علةَ عدمِ الوجوب، بل هذا أولى؛ لأن الأصل النافي ينفي الحكم بنفسه، وعدم المشترك إنما ينفيه بواسطة الأصل النافي، وإذا كان أحدُ الدليلَين متوقِّفًا على الآخر، والآخر ليس بمتوقف عليه= كان الغنيُّ عن غيره أولى؛ لأنَّ كلَّ ضعفٍ في الغنيّ موجود في المحتاج من غير عكس.

الثالث: أن يقال: لا نُسَلِّم أن المناسبة أو الدوران يدل على عِلِّية المشترك بتقدير الوجوب في الأصل، وذلك لأن هذا تقدير ممتنع، فجاز أن يلزمه حكم ممتنع كما في قوله:{لَوْ كَانَ فِيهِمَا آلِهَةٌ إِلَّا اللَّهُ لَفَسَدَتَا} [الأنبياء:

ص: 297

22] وليس عدمُ كون المناسبة والدوران عِلَّة بأكثر من الأمور الممتنعة، فلا يضر تحقُّقُ هذا العدم على تقديرٍ ممتنعٍ.

الرابع: أن يقال: لو سلَّمنا ثبوتَ الوجوب في الأصل لم يلزم كون المشترك عِلَّة؛ لأن الأحكامَ المتماثلة يجوز أن تُعَلَّل بعللٍ مختلفة، كالملك فإنه نوع يثبت بعللٍ من البيع والهبة والإرث، فيجوز أن يثبت الوجوب في الأصل بعلةٍ، وفي الفرع بأخرى، فلا يكون المشترك علة.

الخامس: [ق 169] المناسبةُ والدورانُ قد دلَّا على عدم عِلَّيَّةِ المشترك في الأصل مع النص والإجماع، فإنه لو كان علةً لثبتَ الوجوبُ في الأصل والفرع، وهذا خلاف الإجماع، فلا يجوز أن يدلَّا على كون المشترك علةً بتقدير الوجوب في الفرع؛ لأن الوجوبَ في الفرع إن كان واقعًا، لزم دلالة الدليل الواحد على النقيضين، وهو محال، وإن لم يكن واقعًا، فتقدير ما ليس بواقع لا يوجبُ تغييرَ الأدلة الشرعية عن موجباتها ومقتضياتها؛ لأن التقديرات الممتنعة، أو التقديرات التي لا حقيقة لها لو أوجبَت تغيير دلالة الأدلة، وانعكاس موجبها= لكانت الأمور العدمية، أو الأمور الممتنعة مغيِّرةً للأمور الوجودية، ومزيلةً لها عن صفاتها. فعُلِمَ أنَّ المناسبةَ والدوران اسم جنس، والدالُّ منه على عدم عِلِّية المشترك فردٌ من أفراده، والدالُّ منه على عِلِّية المشترك بتقدير الوجوب في الفرع فردٌ آخر، فلا يلزم أن يكون الدالُّ على النفي هو الدال على الإثبات على ذلك التقدير، ولا تغيير الأدلة.

فيقال: هذان الفردان إما أن يكونا

(1)

دليلين باعتبار ما بينهما من القدر المشترك، وهو كونهما مناسبة أو دورانًا، أو باعتبار ما اختصَّ به كلٌّ منهما.

(1)

الأصل: «يكون» .

ص: 298

فإن كان الأول؛ فقد لزمَ إبطالُ دلالةِ المناسبة والدوران بالتقديرات الممتنعة، وإن كان الثاني؛ فالدليل إذًا مركَّب من مسمَّى المناسبة والدوران ومن خَصِيْصة أخرى، وهو خلاف ما ذكره المستدلُّ.

قوله

(1)

: (أو نقول: لو وَجَبت لكانت العلةُ محقَّقة

(2)

لا محالة، وغير المشترك ليس بعلَّة؛ لأنه غير ثابت، أو غير علة بالأصل).

هذا الكلامُ أقرب مما تقدَّم. ومعناه أنه يقول: لو وَجَبت الزكاةُ في الحلي لكان للوجوب علة، فإما أن تكون العلة ما بَيْنَه وبين الحلية الجوهرية من المشترك، أو غير ذلك، والثاني معدوم بالأصل النافي لوجوده أوَّلًا، وبالأصل النافي لعِلِّيَّتِهِ ثانيًا

(3)

، فإن الأصلَ عدمُ ثبوته، والأصل بعد ثبوته عدم كونه علة، وإذا دلَّ الأصلُ على عدم ما سوى المشترك تعيَّن كونُ المشترك علة، ولو كان المشترك علةً للزم الوجوب في الصورتَين، والثاني باطل فالمقدم

(4)

مثله.

وهو كلام فاسدٌ أيضًا من وجوه:

أحدهما: لا نسلِّم أنه لو وَجَبت لكانت العلة محققة؛ لأن الأحكام منقسمة إلى ما يُعَلَّل وما لا يُعَلّل، والمُعَلَّل في نفس الأمر منقسم إلى ما تعقل عِلّته، وإلى ما لا تعقل عِلّته، فلِمَ قلتَ: إنَّ هذا من الأحكام المعلَّلة المعقولة علَّتُها؟

(1)

«الفصول» (ق 7 أ).

(2)

«الفصول» : «متحققة» .

(3)

رسمها في «الأصل» : «ثابتًا» .

(4)

الأصل: «بالمقدم» .

ص: 299

ولكن جواب هذا أن يقال: الأصل في الأحكام [ق 170] أنها معللة، والأصل فيها كون عِلَلِها معقولة، ولولا تسليم هذين الأصلين لم يصح ادَّعاء علة مستنبطةٍ بمناسبةٍ ولا دوران.

الثاني: أن يقال: قولك: «غيرُ المشترك ليس بعلة؛ لأنه غير ثابت» ، ليس بصحيح، فإنَّا نعلم بالاضطرار [أن] هناك صفات موجودة في الحُلي غير المشترك بينه وبين الحِلْية، مِن كونه ذهبًا أو فضة، [و] من كونه من جنس النقدين، ومن كونه في الأصل مُعَدًّا للثَّمنيَّة. والأصلُ النافي إنِّما نحتجُّ به فيما لم يُعْلَم وجوده، أما ما عُلِم وجودُه بالضرورة فلا يجوز نفيُه بالأصل النافي.

فيقال: الأصلُ النافي ينفي كون المشترك علة، كما ينفي كون غير المشترك علة؛ إذ لا فرق في اقتضائه النفي بين المشترك والمميز، فإما أن يَعْمل به فيهما، أو يتركه فيهما، أما استعمالُه في أحدهما دون الآخر فيحتاج إلى مفرق بين الموضعين، وحينئذٍ يحتاج إلى البحث الفقهي عن الجوامع والفوارق بين الحُلي والحِلْية، أو يقال: من رأس

(1)

الأصل النافي؛ إذ لا فرق بين الموضِعَين.

الوجه الثالث: أن يقال: لا نُسَلِّم أن الأصل عدم كون غير المشترك علة لذلك؛ لأن العلة في الحقيقة هي علم الله سبحانه بما اشتمل عليه الحكم من المصالح، فيجوز أن يكون الله سبحانه قد علم أن المشترك هو المشتمل على تمام المصلحة، ويجوز أن يكون قد علم أن المشترك والمميز تمام المصلحة.

(1)

كلمة لم تتبيِّن، وهذا ظاهر رسمها.

ص: 300

ولا يقال: الأصلُ عدم هذا العلم؛ لأن القديم لا يجوز نفيه، وإنما يجوز نفي ما عُلِم أنه ليس بقديم؛ لأنه كان في الأزل معدومًا، والأصلُ بقاءُ ما كان على ما كان.

فأما القديم فلم يكن معدومًا قطُّ حتى يُسْتصحبَ عدمه، إلا أن يقال: الأصلُ عدمُ علمنا بكونه عِلة، ونحن مُتَعَبَّدون بما علمنا دون ما لم نعلمه، وتجويز أن يكون في نفس الأمر علةً لم نعلمها، لا

(1)

يَمْنَعُنا أن نضيف الحكم إلى ما ظهر لنا، لكن يَمْنَعُنا من القطع واليقين، ونحن إنَّما ندَّعي الظنَّ، وهو حاصل، فهذا قد يتسمَّى.

الوجه الرابع: الوجوب في الحُلِيّ إما أن يكون واقعًا أو غير واقع، فإن كان واقعًا بطل استدلال المستدلِّ؛ لأنه يستدلُّ على عدم وقوعه، والاستدلالُ على عدم وقوع الواقع باطل، وإن لم يكن واقعًا فالأصل النافي يقتضي عدم وقوعه، ويلزم من ذلك عدم علةٍ للوقوع سواء فرضت القدرَ المشترك، أو القدر المختص، إذ لو كانت للوقوع علة للزم الوقوع، والتقديرُ خلافُه، وحينئذٍ فلا يصح الاستدلال بالأصل [ق 171] النافي على عدم عِلِّيَّة بعض الأمور الموجودة في الأصل، وهي المشتركة دون المختصَّة؛ لأن ذلك مستلزم لِعِلِّيِّة البعض دون البعض، وهو خلاف موجِب الدليل، بل وهو خلاف الواقع، فعُلِم أن الاستدلالَ على عِلَّية المشترك دون المختصّ بالأصل بالنافي لا يصح على التقديرين.

الخامس: أن الوجوبَ في الحُلِيّ إن كان واقعًا فلا يصح الدلالة على

(1)

الأصل: «ولا» ، والمثبت يقتضيه السياق فإن «لا يمنعنا» خبر التجويز.

ص: 301

عدمه، وإن لم يكن واقعًا امتنع أن يكون هناك ما يدلُّ على عِلِّيةِ

(1)

المشترك؛ لأنه يلزم من عِلِّية المشترك ثبوت الحكم في الأصل والفرع، وهو خلاف الواقع فيهما

(2)

؛ لأنَّا نتكلَّم على ذلك التقدير، وهو خلاف الإجماع في الأصل، وإذا لم يكن المشترك عِلَّة فالاستدلال بالأصل النافي إن لم يُفِد

(3)

عِلَّيةَ المشترك فلا منفعة فيه، وإن أفادها فهو باطل لما ذكرناه.

السادس: ــ وفيه كشفُ سِرِّ هذا التغليط ــ أن يُقال: لا نُسلِّم أن غير المشترك ليس بعلَّةٍ بالأصل، وذلك لأنَّا نتكلَّم على تقدير وجوب الزكاة في الحلي؛ لأنك قلتَ: لو وَجَبت الزكاةُ فيه لكانت العِلَّة محققة لا محالة، وإذا كُنَّا نتكَلَّم على هذا التقدير فالأصل النافي المنتفي، إما هو منتفٍ في نفس الأمر، والمنتفي في نفس الأمر منتفٍ على كلِّ تقدير واقع؛ إذ الانتفاءُ الواقع لا يرفع الأمورَ الواقعة، ولا يلزم أن يكون منتفيًا على كلِّ تقدير، سواء كان واقعًا أو غير واقع؛ لأن من التقديرات تقديرات وجوده أو

(4)

أسباب وجوده لا يجوز أن يكون منتفيًا على هذا التقدير. وحينئذٍ فالوجوب في الحلي إن كان واقعًا بطل الاستدلال من أصله، وإن لم يكن واقعًا كان الاستدلالُ على انتفاءِ شيء على تقدير غير واقع، والأصل النافي لا يدل على انتفاء الأشياء على التقديرات غير الواقعة، ولا يدل على انتفاء الأشياء على كل تقديرٍ غير واقع، لجواز أن يكون ذلك التقدير موجبًا لوجود المنتفي بالأصل، فلا يصحّ

(1)

في الأصل: «عليته» .

(2)

الأصل: «فيهما» .

(3)

الأصل: «تقدر» ، والصواب ما أثبتناه بدليل ما بعدها.

(4)

غير محررة في الأصل. وفي هذا السياق نقص.

ص: 302

نفيه بالأصل حينئذٍ؛ لتردد الأصل بين أن يكون دليلًا أو لا يكون، حتى يتبيَّن أنَّ ذلك التقدير ليس بموجب لثبوت ما دلَّ الأصل على عدمه، ولا يمكن ذلك هنا؛ لأن ذلك التقدير يوجب ثبوتَ علَّةٍ يجوز أن تكون هي المشترك، ويجوز أن تكون هي المشترك والمختصّ، ويجوز أن تكون هي المختصّ

(1)

، ويجوز أن تكون مركَّبة من المشترك والمختص، ويجوز أن تكون بعض المشترك، ويجوز أن [ق 172] تكون بعض المختص.

فإذا كان التقديرُ يوجبُ بعضَ هذه الأمور لم يَجُز تعيينُ واحدٍ منها بالنفي بالأصل، دون الآخر؛ لأن ذلك تحكُّمٌ يقابَلُ بمثِله، وترجيحٌ من غير مرجِّح، وهو غير جائز.

السابع: أن يُعارض فيقال: لو وجبت الزكاةُ لكانت العلة محقَّقَة، ولكانت هي المختصّ بالحليِّ من كونه مالًا ناميًا، أو من جنسِ النقدين؛ لأن هذه علَّةٌ منصوصة بقوله:{وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ} [التوبة: 34]، وبقوله صلى الله عليه وسلم: «ما مِن صاحِب ذهَبٍ ولا فِضَّةٍ لا يُؤدِّي زَكَاتَها

»

(2)

الحديث.

أو يقال: لا يجوز أن يكون المشترك علَّةً؛ لأن المشترك كونُه متحلٍّى به، وهذا المعنى لا يصلح أن يضافَ إليه الوجوب، بل إضافة الوجوب إليه تعليق على العلة ضدَّ مقتضاها؛ لأن التحلِّي به هو استعمال له في أمرٍ مباح، وذلك بكونه مانعًا من الوجوب أشبه منه بكونه مقتضيًا.

(1)

تكررت في الأصل عبارة: «ويجوز أن تكون هي المشترك، ويجوز أن تكون هي المشترك والمختص» .

(2)

أخرجه مسلم (987) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.

ص: 303

أو يقال: لو وَجَبت الزكاةُ لكان المختصّ علةً للوجوب؛ لأن العلةَ محقَّقَة، وغير المختصِّ ليس بثابت، أو ليس بعلة بالأصل، وهذه معارَضَات يبطل بأحدِها كلامُ المستدل.

ثم تقريرها أظهر من تقرير كلام المستدل، فإن إيماءَ النص والمناسبة والدوران يدل على عِلِّية المختص على هذا التقدير، وما ذكره في تقرير عِلِّية المشترك على تقدير الوجوب، فإنه يعارَض بما يدلُّ على عِلِّية

(1)

المختص بمثل كلامه، والنوعُ الواحدُ من الأدلة إذا استلزم النقيضين عُلِمَ أنه باطل.

قال

(2)

: (أو يقال

(3)

: إباحةُ التَّرْك متحقِّقة في تلك الصورة، فكذا في المتنازع فيه، كما في القياس الوجوديِّ، ويلزمُ منه العدمُ هنا).

يقول: إباحةُ تَرْك أداء الزكاة متحقِّقَة في الحلية الجوهرية، فكذا في الحِلية الثمنيَّة، كما في القياس الوجودي، وهو: القياسُ بجامعٍ ما يشتركان فيه

(4)

، وبيان عِلِّية المشترك بالمناسبة، وهو أن كونه متحلًّى به أو مستحلًّا لاستعمال مباح مناسبٌ

(5)

لإباحة ترك زكاته؛ لكون الزكاة فيه تخلُّ بهذا الأمر المباح، وقد شهد لهذا المناسب بالاعتبار الأصلُ المذكورُ، وهو الحلية الجوهرية، وعُدِما في المضروب، فيكون المدار عِلَّة للدائر، وإذا ثبتَ إباحةُ ترك أداءِ الزكاة لزمَ منه عدم الوجوب في الحليّ، وهو المُدَّعَى.

(1)

الأصل: «عليته» .

(2)

«الفصول» (ق 7 أ).

(3)

«الفصول» : «نقول» .

(4)

الأصل: «منه» .

(5)

الأصل: «مناسبًا» ، والصواب ما أثبت.

ص: 304

واعلم أنَّ هذا الكلام أجودُ مما قبله؛ لكن لا يتمُّ إلا بذكرِ فقهِ المسألةِ، وبيانِ الجوامع والفوارق، وما اعتبره الشرع بإيماءِ [ق 173] النصوص، أو بشهادة الأصول مما ألغاه، وحينئذٍ تكونُ مناظرة فقهيَّة، ومجادلة علمية، فيختلف بحسب الموادِّ التي لكلِّ مسألة مسألةٍ على انفرادها.

وإذا ابْتُدِيَت

(1)

المآخِذُ العلميَّةُ أمكن المستدلَّ أن يقرِّرَها بصورٍ شتَّى، مثل أن يقول: عدمُ الزكاةِ في الحِلْية الجوهرية إنما كان لكونها مالًا معدولًا به عن جهة الاستنماء، أو مالًا مُعدًّا لاستعمالٍ مباح، بشهادة المناسبة والدوران، وهذا الوصف مشترك بينها وبين الحلية النقدية، فيلزم انتفاء الوجوب فيها.

أمَّا دعوى كون عدم الوجوب في الأصل يدلُّ على عدم عِلِّيَّة المشترك، أو على عدم الوجوب في الفرع بالأدلة العامة التي ادّعاها الجدليُّ= فكلام باطل كما تقدم.

واعلم أنه إن أُثْبتت عِلِّية المشترك بين الإباحتين بالأدلة العامة التي تنفي الزكاة، وهي كونها خَرزًا ونحو ذلك، وبكونه سالمًا عن معارضة الوجوب في الأصل= فهي من جنس الكلام الأول، والاعتراضُ على هذا النظم الخاص أن يُعترض على القياس الوجودي الذي يذكره هنا بمثل ما اعترض به على القياس الوجودي الذي تقدَّم في إيجاب الزكاة في الحلي، سواءٌ كان الاستدلال على عِلِّية المشترك عامًّا أو خاصًّا كما تقدم.

* * * *

(1)

كذا في الأصل، ولعلها:«أبديت» .

ص: 305