الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
(فصل
(1)
وإذا لم يكن المقيس [عليه]
(2)
مُعَيَّنًا، فعلى السائل أن يعيِّنَ صورةً هي راجحة على صورة النزاع، ويقول
(3)
: المقيس عليه يساوي تلك الصورة لاستوائهما في الحكم. أو يُعيِّن صورةً هي راجحة على صورة معينة لا يترجح المقيس عليها، إذا لم يكن المقيسُ معينًا أيضًا).
اعلم ــ أصلحك الله ــ أن هذا هو القياس على أصلٍ مجهول معلوم الحكم، وقد اختلفَ فيه أربابُ الجدل؛ فالذي عليه أهلُ العراق أنَّه لا يصح، وذهبَ أهل الجدل [ق 215] المُحْدَث من الخراسانيين إلى أنه يصح. واحتجُّوا بأن مناطَ الحكمِ إنما هو العلة، والركنُ الأعظم في القياس إثبات عِلِّيَّة المشترك، وذلك ممكن بدون تعيين الأصل، بأن يقال: ثبتَ الحكم في صورةٍ من الصور لكذا، فيجبُ ثبوتُهُ في صورة النزاع لوجود المشترك، وتثبت عِلِّيَّة المشترك بالمناسبة والدوران من غير تعيين الأصل، فتثبتُ إضافةُ الحكم إلى المشترك، فيلزم ثبوته في الفرع.
ولهذا لو سمعنا أن السلطانَ أعطى رجلًا عالمًا غلب على ظنِّنا أنه إنما أعطاه لعلمه، وإن لم نَعْرِف عَيْنَه، وكذلك لو علمنا أنَّ رجلًا شرب دواءً فأعقبه إسهالًا غلبَ على ظنِّنا أن ذلك الدواء كان سبب الإسهال، وإن لم نَعْلَم عينَ الرجل.
(1)
«الفصول» : (ق/8 ب). وانظر: «شرح المؤلِّف» : (ق/81 أ- 82 ب)، و «شرح السمرقندي»:(ق 69 ب- 70 ب)، و «شرح الخوارزمي»:(ق/74 أ-76 ب).
(2)
زيادة من «الفصول» .
(3)
«الفصول» : «وقال» .
وحجَّة الأوَّلين: أن شرط القياس ثبوت العلة في الأصل، وثبوت كونها علة، ولهذا يتوجَّه المنع على وجودها في الأصل، وعلى عِلِّيتها، فإذا لم يكن الأصلُ معلومًا امتنعَ العلمُ بحصول العِلَّة فيه؛ لأن العلمَ بالصِّفَة فرعُ العلمِ بالموصوف، وإذا لم يعلم بحصول العلة فيه لم يصح القياس؛ لانتفاء شرِطه، وامتنع أيضًا العلم بعلِّية الوصف المدَّعَى كونه علةً، لأن عِلِّيته لا تثبتُ إلا في محلٍّ، فإذا لم يُعْلَم محلُّها
(1)
لم يُعْلَم ثبوتها، وذلك لأن عِلِّيَّته لو ثبتت بدون أصلٍ تقوم به لكانت مناسبةً مطلقةً ومصلحةً مرسلةً، وذلك ليس من القياس الذي يُقاس فيه فرع على
(2)
أصل، فإنه حينئذٍ ليس هناك مقيس عليه، لا معلومًا ولا مجهولًا.
وهذا القولُ هو الصواب، وعليه أهلُ الفقه والأصول، لكن لا يجبُ العلم بصفاتِ الأصل التي لا تأثير لها في الحكم، وهذا هو فَصْل الخطاب في المسألة، فإن الأصل على ثلاثة أقسام:
أحدها: أن لا يُعلَم شيءٌ من صفاته، فهذا يستحيل القياس عليه قطعًا.
الثاني: أن يُعلَم بِعَينه، فهذا يصح القياس عليه قطعًا.
الثالث: أن يُعلَم بعضُ صفاتِه دون بعض، مثل أن تُعلَم صفاتُه العامة دون الخاصة، أو يُعلَم نوعُه ولا يُعلَم شخصُه، أو جِنْسُه ولا يُعلَم نوعُه، فهذا قسمان:
أحدهما: أن يُعلم أن المجهول من صفاته لا تأثير له في الحكم، مثل أن
(1)
الأصل: «محلًّا لها» ولعل الصواب ما أثبت.
(2)
الأصل: «على فرع» ولعل الصواب ما أثبت.
يُعلم أن رجلًا وقع على امرأته في رمضان فأمره النبيُّ صلى الله عليه وسلم بالكفارة، فليس علينا أن نعلم عينَه باسمِه ونسبِه، وكونه طويلًا أو قصيرًا، أو أسود أو أبيض، أو عربيًّا [ق 216] أو عجميًّا لِعِلْمنا بعدمِ تأثير هذه الصفات. وعلينا أن نعلمَ هل هو مسلم أو كافر، مقيمٌ أو مسافر؛ لاختلاف الحكم باختلاف هذه الصفات.
والثاني: أن يكون المجهولُ من صفاتِه يجوزُ أن يكون مؤثِّرًا، ويجوز أن لا يكون مؤثِّرًا، فهنا إن قام دليلٌ من نصّ أو إجماع
(1)
على عِلِّيَّة الوصف المعلوم، فلا شكَّ أنه حجة، وإن لم يقم دليلٌ فهذا موضع الخلاف؛ لأن الدوران والمناسبة قد انتظما الصفات المعلومة والمجهولة انتظامًا واحدًا، فلا يمكن إضافة الحكم إلى ما عُلِمَ من صفاته دون ما جُهِل.
وقولهم: إن إثبات عِلَّية المشترك ممكن
(2)
بدون التعيين.
قلنا: أما التعيين الشخصِيُّ فليس مشروطًا بالاتفاق، وإنما المشروط التعيينُ النوعيُّ، وهو ما لا تختلف آحادُه بالنسبة إلى ذلك الحكم إلا في العدد فقط. وما ذكروه من صور الاستشهاد، فإنَّا قد علمنا أنَّ الشارب للدواء إنسانٌ، والعلم بهذا كافي، وقد علمنا أنَّ المُعْطَى رجلٌ عالم، وذلك عِلْم بنوعِه، حتى لو فرضنا أن ذلك الرجل يجوز أن يكون فيه صفات مؤثِّرَةٌ من النسب والفقر والصداقة غير العلم لم يُضف الإعطاء إلى العلم.
واعلم ــ أصلحك الله ــ أن التعيين في باب القياس الشرعي لا يُرَاد به
(1)
كلمة غير واضحة، ولعلها ما أثبت، وانظر (ص 384).
(2)
تحتمل: «يمكن» .
التعيين الشخصي أصلًا، اللهم إلا في صورة نادرة، وعند المحقِّقين ليس ذلك بقياس؛ لأن حُكْمَ الله لا يختلف باختلاف أشخاص الأفعال، وأشخاص الفاعلين، وأشخاص مواضع العلل، ومواضع الحِكَم، مثل هذا البُرّ، وهذا الخمر، وهذا الحلي، وهذا الصبيّ، وإنما يُراد بالتعيين التعيين النوعيّ، مثل أن يقيس على بعض صور وجوب الزكاة. ولا شكَّ أنها تجب في الماشية وفي النقدين وفي الحرث، ولكل واحدٍ من ذلك أحكامٌ تخصُّه.
إذا علمتَ فلا يُقْبل من القائس إلا قياسٌ على أصلٍ معلومِ النَّوْع بأخصِّ صفاته، أو على أصل قد عُلِمَت عِلِّية المشترك بينَه وبين الفرع بنصٍّ أو إِجماع أو تنبيه، كما عليه أهلُ العراق، ولكن نحن نذكرُ ما اصطلحَ عليه هؤلاء الخراسانيون.
مثالُ ذلك أن يقول: الزكاةُ واجبة في صورةٍ من الصور، فيجب في محلِّ النزاع قياسًا عليه بجامع ما يشتركان فيه من تحصيل مصلحةِ [ق 217] الإيجاب، وتثبت عِلِّية المشترك بالمناسبة والدوران كما تقدَّم.
واعلم أن هذا القياس فاسدٌ من وجوهٍ كثيرةٍ قد تقدَّم ذكرُ بعضها
(1)
، فإنه مجهول الأصل، مجهول الجامع. والمناسبةُ أو
(2)
الدورانُ، لا يدل على عِلِّية مشتركٍ، لا يُدْرَى ما هو، ولا يُدْرَى أين هو! لأنه لابدَّ أن يقول: المشترك مناسِبٌ للحكم، أو مدار الحكم معه وجودًا وعدمًا.
فيقال له: لا نُسَلِّم أن المشترك مناسِبٌ، أو أنه مدار؛ لأن الحكم على
(1)
في أول الفصل.
(2)
الأصل: «و» ولعل الصواب ما أثبت.
الشيء فرعُ تصوُّرِه، ونحن لا نعلم المشترك؛ لأن العلم بالمشترك بين الشيئين فرعُ العلم بالمشتركين، فمن لم يعلم المشتركين كيف يعلم المشترك بينهما؟!
أكثرُ ما علمنا أنَّ الوجوبَ موجودٌ في بعض الصور، وأنَّ له علةً موجودةً في تلك الصور، أمَّا أن تلك العلة هي المشترك بينَه وبينَ محلِّ النِّزاع فهذا لم نَعْلَمْه، فلابُدَّ أن يضطرَّ إلى بيانِ وصفٍ يعلم أنه مشترك، مثل أن يقول: كونه مالكًا لمال ونحو ذلك، وحينئذٍ تنهالُ الأسولةُ القادحة على هذا المشترك؛ لأن الوصفَ المذكور قد دار معه أوصافٌ كثيرة، وهو منقوضٌ بصورٍ كثيرة ومناسبة غير صحيحة؛ لانخرامها بما هو أقوى منها؛ ولأن إضافة الحكم إليه موجبُ انتقاضِها.
وإن كان أكثر الأصوليين يقولون: لا ينخرم بالمعارضة، فمعناه عندهم: أن الحكم إذا ثبت أنَّ فيه مصلحة وجبَ إضافته إليها وإن كان فيه مفسدة؛ لأن الشارع قد حَكَم به، فلا بد أن يكون جانبُ المصلحة راجحًا عند الشارع.
أمَّا إذا كانت المفسدةُ ناشئة من إضافة الحكم إلى المشترك، لا من مجرَّدِ الحكم، أو كانت ناشئة من الحكم على تقديرِ إضافته إلى وصفٍ دون إضافته إلى وصفٍ أحسن، فلا ريبَ أنَّ هذا يُفْسِد قياسَ القائس، ويُبطل ما ادَّعاه من المناسبة.
وبالجملة؛ فمن قَبِلَ هذا النوع من القياس ولم يُحَاقّ
(1)
صاحبه ــ كما
(1)
أي: ولم يخاصم ويعترض عليه.
ذكرناه ــ فلا بدَّ من أن يكون عنده ما يعترض به عليه، لئلا يلزم نَفَاق الأقيسة الفاسدة.
قال المصنف: الاعتراض عليه أنَّ يُعَيِّن السائل صورةً هي راجحة على صورة النزاع، ويقولون
(1)
: المقيس عليه يساوي تلك الصورة، لاستوائهما في الحكم.
مثاله: إذا قاسَ الوجوبَ في الحليّ على صورة من [ق 218] صور الوجوب، قيل له: الوجوب ثابتٌ في الماشية، وهي راجحة على الحليّ؛ لأنها مال نامٍ بنفسِه، لا مؤونةَ على صاحبه، ولا هو مُعَدٌّ للانتفاع بعيِنه على وجهٍ تنقصُ الزكاةُ منفعتَه، وهذه الصورة راجحة على صورة النزاع، فإن الحُليّ ليس بنامٍ بنفسه، وهو مُعَدٌّ لمنفعةٍ مباحةٍ، متى أُخرجت منه زكاة نقصت منفعتُه، والأصل المقيس عليه مساوٍ لهذه الصورة المذكورة لاستوائهما في الحكم وهو الوجوب، والاستواءُ في الحكم دليلُ الاستواءِ في المصلحة؛ لأنه لو كانت هذه الصورة راجحة على الأصل، فإما أن يكون ذلك الرجحان معتبرًا أو غير معتبر، فإن لم يُعتبر لزم إلغاءُ المصالح وإهدارُها، والشارعُ حكيم لا يهتك المصالح، وإن كان معتبرًا فإما أن يفيد ذلك الحكم بعينه أو أَزْيَدَ منه، فإن كان الأول لزم تعليل الحكم الواحد بالعين بعلتين، وهو غير جائز. وإن أفاد أزْيَد منه لزم الاختلاف في الحكم، ونحن نتكلَّمُ على تقدير الاستواءِ في الحكم، ولأن الحكم الموجود في صورٍ كثيرةٍ مشتركةٍ في معنًى مناسب يُضاف إلى ذلك المعنى الخاص، دون
(1)
كذا في الأصل، ولعلها:«ويقول إن» .
ما تختصُّ به كلُّ صورة.
كما يقال: كلُّ حكمٍ ثبتَ للأعمِّ فالأعم عدم التأثير فيه؛ لأن المعنى العام قد عُلِمَت عِلِّيته باستقلاله بالحكم مع عدم تلك الخصائص، والإضافةُ إلى ما عُلِمَت عِلِّيته أولى، فلو استوت الصورتان في الحكم مع تفاوت المصلحة، لَزِم التعارضُ بين المقتضي للإضافة إلى جميع المصلحة، والمقتضي للإضافة إلى المعنى العام المشترك، وهو على خلاف الأصل. وإذا كان الاستواءُ في الحكم دليل الاستواء في المصلحة، وقد استوى الأصلُ المقيسُ عليه، والصورةُ التي أبداها المعترضُ في الحكم، فقد استويا في المصلحة مع رُجحان أحدهما على صورة النزاع، فقد ترجَّحَ الأصلُ على صورة النزاع، فيمتنع القياسُ لوجود الفارق.
وحاصل هذا: أنَّ المستدلَّ ثبَّتَ رُجْحان الأصل المجهول بمساواته للصورة المعيَّنة الراجحةِ في الحكم.
وقوله: «أو يعين صورةً هي
(1)
راجحة على صورة معينة، لا يترجَّح المقيس عليها [ق 219] إذا لم يكن المقيسُ معيَّنًا أيضًا».
هذا إذا لم يكن المقيسُ معيَّنًا، بأن يقول: الحكمُ ثابت في محلِّ الإجماع، فثبت في محلِّ النزاع بالقياس عليه. أو ثابت في صورةٍ من الصُّوَر فيثبت في صورة النزاع قياسًا عليه بالجامع المشترك، ولا يُعَيِّن صورةَ النِّزاع ولا يذكرها، لئلَّا يتمكَّن المعترِضُ من الكلام.
(1)
الأصل: «هي صورة» والمثبت من «الفصول» ، وقد تقدم نقله على الصواب (ص 381).