المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌الدليل يجوز أن يكون عدميا باتفاق العقلاء - تنبيه الرجل العاقل على تمويه الجدل الباطل - جـ ١

[ابن تيمية]

فهرس الكتاب

- ‌[فصل في التلازم]

- ‌جوابُه من وجهين:

- ‌ كلُّ تقديرٍ لا ينشأ منه قيامُ مقتضٍ ولا نفيُ معارضٍ فإنه غير مفيد

- ‌ معارضة المستدلّ بما ينفي التلازم على وجوهٍ كثيرة

- ‌ كلام المستدلّ إنما يصحّ إذا كان قد بيَّن التلازمَ بطريقٍ صحيح

- ‌(فصل في الدوران)

- ‌ الدوران يفيد كونَ المدار علةً للدائر، بشرطِ أن لا يُزاحمه مدارٌ آخر

- ‌ المثال الذي ذكره صاحبُ الجدل غيرُ مستقيم أن يحتج فيه بالدوران

- ‌ تخلُّف العلّيةِ مع وجود الدوران كثيرٌ لا يُحصَى

- ‌[فصل في القياس]

- ‌ أكثر الأفعال تجتمع فيها الجهات الثلاث

- ‌ كيف يجوز تعليلُ أحكام الله بالمصالح

- ‌معنى قولنا: «إنه يفعل لا لغرضٍ ولا لداعٍ ولا لباعثٍ»

- ‌ المصالح إنما تكون مصالح إذا تجردت عن المفاسد أو ترجحتْ عليها

- ‌ إثباتَ العلّة بالمناسبة أقوى من إثباتها بالدوران

- ‌ هذا الكلام يقدح في القياس القطعي والظني، وما قَدَح فيهما فهو باطلٌ

- ‌ ثبوت المشترك له ثلاث(2)اعتبارات:

- ‌ مناقشة جدلية

- ‌ الدعاوي إذا تعدَّدت لم ينفع تعدُّدها أن يكون الدليلُ على كلٍّ منها غيرَ الدليل على الأخرى

- ‌ الجدل الباطل لا يُفلِحُ فيه مَن سَلكَه استدلالًا وسؤالًا وانفصالًا

- ‌ قَويَّ العمومِ مقَدَّمٌ على ضعيف القياس، وقويّ القياسِ مقدَّم على ضعيف العموم

- ‌ الشارع لا يُخصِّص العام حتى يَنْصِبَ دليلًا دالًّا على عدم إرادة الصورة المخصوصة عقليًّا أو سمعيًّا أو حسّيًّا

- ‌ التخصيص مشتملٌ على أمر وجودي وعدمي

- ‌الدليل يجوز أن يكون عدميًّا باتفاق العقلاء

- ‌ لفظ المصدر يدلُّ على تمام المقصود

- ‌ منع العموم يحتمل شيئين:

- ‌ المرجع في ذلك إلى استقراء صور الاستعمال

- ‌(فصل في تعدية العدم)

- ‌ تقريرُ كلامِه

- ‌(فصلٌ في تَوْجِيْه النُّقُوض)

- ‌ توجيهٌ ثانٍ للنقض

- ‌(فصل في النقض المجهول

- ‌ اقتضاءَ العلةِ المعلولَ أمرٌ فطريّ ضروري

- ‌ صحَّة الحكم لا يستلزم صحةَ الدليل المعيَّن

- ‌ أصل هذا الفساد: دعوى التلازم بين مسألتين لا مناسبة بينهما

- ‌(فصل

- ‌الواجب في مثل هذا الكلام أن يُقابل بالمُنُوعِ الصحيحة

- ‌(فصل

- ‌ صورة أخرى للجواب عن المعارَضَةِ بالقياس المجهول

- ‌(فصلٌ في التنافي بين الحُكمَين)

- ‌ التنافي إذا صحَّ بطريقٍ شرعيٍّ فإنه طريق من الطرق الصحيحة كالتلازم

- ‌ الطرق الصحيحة في تقرير التنافي

- ‌يُسْتَدل على التنافي بالأدلة المعلومة في كل مسألة

- ‌بيانُ ذلك من وجهين:

- ‌الأمرُ الاتفاقي لا يدلُّ على التنافي؛ لجواز تغيُّر الحال

- ‌(فصل في التمسُّكِ بالنص، وهو الكتابُ والسنة)

- ‌النصُّ له معنيان

- ‌جميعُ وجوه الخطأ منفيةٌ عن الشارع

- ‌أحدها: دعوى إرادة الحقيقة إذا لم ينعقد الإجماع على عدم إرادة الحقيقة

- ‌العمومات على ثلاثة أقسام:

- ‌(الثاني(3): دعوى إرادة صورة النزاع

- ‌(الثالث: دعوى إرادة المقيد بقيدٍ يندرج فيه صورة النزاع

- ‌(الرابع: دعوى إرادة شيء يلزمُ منه الحكم في صورة النزاع)

- ‌ معارضة الدعوى الرابعة

- ‌(فصل

- ‌ مُدَّعي الإرادة لا بدَّ أن يبين جواز الإرادة

- ‌سبيل هذه الدعاوى أن تُقَابل بالمنع الصحيح

- ‌ الاستدلال بالأمر على الوجوب له مقامان:

- ‌فصلُ الخطابِ في هذه المسألة:

- ‌ الشرائع لم تشتمل على قبيح

- ‌لا يجوز أن يراد به نفي الأحكام الشرعية

- ‌ لا يجوز أن يُراد به نفي الإيجاب أو التحريم

- ‌ لا يصح اندراج الإيجاب أو التحريم فيه إلا بإضمار الأحكام

- ‌(فصلٌ في الأثر)

- ‌(فصلٌ في الإجماع المركَّب)

- ‌ التركيب المقبول فُتيا(4)وجدلًا

- ‌(فصلٌ في الاستصحاب)

- ‌ الاستصحاب في أعيان الأحكام

- ‌الطريق الثاني في إفساده:

- ‌الطريق الثالث لإفساده:

الفصل: ‌الدليل يجوز أن يكون عدميا باتفاق العقلاء

الثالث: سلَّمنا أنه عدمي، لكن لا نُسلِّم أنه علةٌ لكون اللفظ حقيقةً في المعنى، وإنما هو دليل على أن حقيقة اللفظ ذلك المعنى، وذلك لأن العلة ما يؤثّر في وجود المعلل، وكلّ واحد من عموم اللفظ للمعنى وعموم المعنى للفظ واختصاصه ليس مؤثّرًا في وجود كون اللفظ حقيقةً للمعنى، وإنما المؤثر فيه هو الوضع، سواء كان الوضع متقدمًا على الاستعمال أو كان نفس الاستعمال وضعًا، وذلك يرجع إلى إرادة الواضع وقصده، ثم يتبع ذلك العموم والخصوص المتقدم. نعم العموم والخصوص والتلازم والدوران دليلٌ وعَلَمٌ على الوضع المستند إلى قصد الواضع، و‌

‌الدليل يجوز أن يكون عدميًّا باتفاق العقلاء

، فإن عدم الشرط العقلي والشرعي دليلٌ على عدم المشروط، وعدم العلة المعيّنة دليلٌ على عدم المعلول، وعدم اللازم دليلٌ على عدم الملزوم، وعدم الفساد في العالم دليلٌ على عدم شريكٍ للإله الحق.

وكما يجوز أن يكون دليلًا على الأمور العدمية يجوز أن يكون دليلًا على الأمور الوجودية، كالاستدلال بعدم الشيء على وجود نقيضه، وبعدم الناقل عن

(1)

الأصل على بقاء الأمر على ما كان عليه منضمًّا إلى استصحاب الحال، وبعدم علامات الأسماء والأفعال على كون الكلمة حرفًا، وبعدم الآيات [ق 136] على كذب المتنبئ، وبعدم إتيان القاذف بأربعة شهداء على أنه عند الله من الكاذبين، وبعدم الإسلام والعهد على حلِّ الدم والمال، وبعدم الوارث من النسب على استحقاق الوارث بالولاء، وبعدمهما على استحقاق أهل بيت المال. وكذلك الاستدلال بعدم الطبقة الأولى من

(1)

في الأصل: «على» .

ص: 241

الوقف على استحقاق الطبقة الثانية، والاستدلال بزوال ملك المورث على وجود ملك الوارث، والاستدلال بانقضاء مدة الإجارة الذي هو عدم استحقاق المستأجر على عود المنافع إلى ملك المؤجِر، والاستدلال بعدم الضدّ على وجود الضدّ الآخر إن لم يكن له إلّا ضدٌّ واحدٌ

(1)

، وعلى وجودِ واحدٍ من إضدادِه إن كان ذا أضدادٍ. وهذا كثيرٌ يفوق الإحصاء، وإن كان لا بدَّ في عامّة هذه المواضع من أمر وجوديّ، إذ الحكم هنا أمرٌ وجودي، فمُوجِبُه

(2)

لا يكون إلّا وجوديًّا.

الرابع: سلَّمنا أنه عدميٌّ، لكن ليس بعلة، وإنما هو جزء من العلة، إذ العلة مجموع الأمرين: عدم المعنى وعدم وجوده في مورد لفظٍ آخر، فلِمَ قلتَ: إن العدم لا يكون جزءًا من العلة؟ وهذا لأنه يكون شرطًا لتأثير العلة بالاتفاق، لتوقف تأثير المؤثر على عدم الموانع، فلمَ قلت: إنه لا يكون جزءًا؟ فإن العلة قد يُعنَى به مجموع ما يجب الحكم عند وجودِه، وعلى هذا فعدم الموانع جزءٌ من العلة. وقد يُعنَى به ما يكون موجبًا إن لم يُعارِضْه غيرُه، وعلى هذا فعدمُ المانع ليس بجزء، فلا يُقدَّمُ أحد التفسيرين.

الخامس: لا نسلِّم أن العدم لا يكون علةً ولا جزءًا من العلة، لأن العلة إنما هي علامةٌ وأمارةٌ، وذلك يكون عدميًّا كما تقدم. وما ذكره من الدليل فإن ما يدلّ على ذلك هي العلة الموجبة، فإن العدم المخصّص محالٌ أن يوجب وجوده، أما المعرّف فلا نسلّم ذلك فيه، وفي الداعي تردُّدٌ.

(1)

في الأصل: «ضدًّا واحدًا» .

(2)

الأصل: «بموجبه» .

ص: 242

السادس: أن العدم لا يكون علةً ولا

(1)

جزءًا، لكن للحكم الوجودي أو العدمي. الأول مسلَّم، والثاني ممنوع، فإنّ الناس مجمعون على جواز تعليل العدم بالعدم، كما يقال: عدمُ الطهارة علة لعدم الصلاة، وعدم الاستطاعة علة عدم وجوب الحج، وعدم كونه ماءً أو ترابًا علة

(2)

عدم صحة طهارتَي الحدث أو الجنب

(3)

، ونحن إنما جعلنا العدم هنا علة لعدم كونِ غير هذا اللفظ حقيقةً، فإن عمومَه يقتضي كونَه حقيقةً، وخصوصه يمنع كونَ غيرِه حقيقةً، إذ لولا اختصاصه بهذه الموارد لكان معنى آخر يعمّ تلك الموارد، فتوجب كونه حقيقةً، ولو كان معنى آخر [ق 137] غيره حقيقةً لصار اللفظُ مشتركًا، وهو خلاف الأصل، فما ذكرناه عدمٌ يوجب عدمَ حقيقةٍ أخرى لا وجودَ هذه الحقيقة.

السابع: العدم لا يكون علّةً للموجود مطلقًا أو إذا تضمَّن أمرًا وجوديًّا. الأول ممنوع، والدليل المذكور لم يعمَّه؛ والثاني مسلَّمٌ، والدليل عليه أن الفقهاء بل والعقلاء كالمجمعين على إضافة الحكم إلى عدم المانع إذا كان المقتضي ظاهرًا، وكذلك يضيفونه إلى أمر عدمي إذا كان مستلزمًا لوجودي، [كقولهم]: مات لعدم الطعام والشراب، وأصابَهم المطرُ لعدم السَّقف، ويُباحُ قتلُ الحربي لأنه لا ذمَّة له، وتجب الصلاة على الحائض ونحوِها إذا انقطع الدم قبل خروج الوقت لزوالِ المانع. ونظائر ذلك كثيرة، وما نحن فيه كذلك، كما تقدم بيانه.

(1)

في الأصل: «والا» .

(2)

في الأصل: «عند» .

(3)

في الأصل: «الحدث أو الحدث أو الجنب» .

ص: 243

الثامن: أن هذا نفي المانع والمعارض، لكن المانع إذا كان ظاهرًا مشهورًا فلا بدَّ من الاحتراز عنه، حَذَرًا من انفتاح باب الكلام وخروج الأمر إلى الانتشار والخصام. ولهذا كلّ من تمسَّك بالاستصحاب ونحوِه من الأدلة التي كثر تخلُّف مدلولاتِها عنها فلا بدَّ أن يضمّ إليه عدم المعارض.

التاسع: أن عدم الاحتراز من هذا المانع يُفضِي إلى انتقاضِ أكثرِ صُوَرِ هذا الدليل، والاستدلالِ بما لا يدلُّ أكثر من الاستدلال بما يدلّ، وذلك أكثر مشقةً على أهل الحق وأعظمُ ضررًا على المعترض على الباطل.

بيان ذلك: أن المعاني العامة لموارد الاستعمال وهي حقيقة اللفظ أضعافُ أضعافِ المعاني العامة التي هي حقيقة اللفظ بألوفٍ مؤلَّفةٍ، وذلك أنه ما من معنى عام إلّا ومعناه يعمُّ موارد استعمال كل لفظ أخص من الأخص، حتى ينتهي إلى ما لا شركةَ فيه، وفي ذلك من الدرجاتِ والتفاوت ما لا يعلمه إلا الله، فإن لفظَ «شيء» و «موجود» و «معلوم» و «مذكور» و «ذات» و «عين» و «نفس» و «حقيقة» و «ماهية»

(1)

يعمُّ موارد استعمال كل لفظٍ من الألفاظ، وليس حقيقة إلّا في معنى واحدٍ. فإذا كان الشيء الواحد يدلُّ على مدلولِه في صورٍ، ويَدُلُّ على غير مدلولِه في أضعافِ تلك الصور كان عدمُ دلالتِه أغلبَ على القلب من دلالته، فإن الكثرة دليل الرجحان، والأصل إلحاق الفرد بالأعم الأغلب.

وقد احتجَّ هؤلاء الجدليون على أن عموم المعنى موارد الاستعمال يدلُّ

(2)

على كون اللفظ حقيقةً بأشياءَ:

(1)

الأصل: «ما فيه» .

(2)

في الأصل: «يدلون» .

ص: 244

أحدها: أن حقيقة اللفظ موصوفةٌ بأنها واحدةٌ، وبأنها عامة لموارد [ق 138] الاستعمال، وبنحو ذلك. فإذا رأينا هذا المعنى موصوفًا بهذه الصفات غلبَ على ظنِّنا أنه هو القاضي، ولهذا لو كتب قاضٍ إلى قاضٍ بحقّ على فلان بن فلان الفلاني، فقامت البينةُ بأنه فلان بن فلان الفلاني، فادَّعى أن له شركاء في هذا الاسم، لم يُقبَل منه حتى تقوم البينةُ بشريكٍ، ولولا أنه يُستدلُّ على عينٍ بكثرة الصفات التي لم يُعلَم فيها شريكٌ لم يكن كذلك.

الثاني: أن جَعْلَه حقيقةً في المعنى يَدفَعُ عن اللفظ فسادَ الاشتراك والمجاز والتعطيل، لأنه لو لم يكن حقيقةً في ذلك المعنى، فإن كان حقيقةً فيما يختصُّ بكلِّ فردٍ من الأفراد لَزِمَ الاشتراكُ، وإن كان حقيقةً فيما يختصُّ ببعض تلك الأفراد دون بعضٍ لزمَ أن يكون مجازًا في الباقي، وإن لم يكن حقيقةً في شيء لزمَ تعطيلُ اللفظ. فإذا جعلناه حقيقةً في الجميع اندفعَ الاشتراك والمجاز، وإذا كان دفعُ هذا الفساد مطلوبًا، وهذا الطريق يخصُّه لدفع هذا الفساد كان سلوكُه جائزًا، وإن كان له طريقٌ آخر كسلوك طريقٍ من الطُّرق المُفضِية إلى المطلوب.

الثالث: أن هذا المعنى عامٌّ، والأصل عدم معنى آخر عام، وحقيقة اللفظ لا بدَّ أن تكون عامَّةً، فهذا المعنى حقيقة اللفظ.

والجواب عن الأول: أن الظن الذي ذكروه مشروطٌ بعدم العلم بالشريك، وقد بيَّنا وجودَ الشركاء في المعنى العامّ لموارد الاستعمال، فهو نظير ما إذا كان الحق على محمد بن علي أو عبد الله بن محمد ونحو ذلك من الأسماء التي وقعت فيها الشركة. وكذلك أيضًا لو وصف القاضي الفردَ بصفاتٍ قد عُلِمَ فيها الشركة.

ص: 245

فقوله: «حقيقة اللفظ واحدة عامة لموارد الاستعمال» .

قلنا: وهذه صفة أشياء ليست حقيقة، وهي كل معنى أعمّ من حقيقة اللفظ.

والجواب عن الثاني: أن دفع الفساد لا يكون مقصودًا إلّا بعد قيام المقتضي موجودًا، ويكون معدومًا لعدم المقتضي، فدفعُ المجاز والاشتراك والتعطيل لا يكون مقصودًا إلّا إذا قام المقتضي له، والمقتضي له انعقادُ السبب الموجب للمجاز أو الاشتراك أو التعطيل، ولا يسلّم وجود السبب.

وأيضًا فإن هذا المحذور قد تعيَّن لدفعِه طريقٌ واحد، وهو حمل اللفظ على حقيقته، لأن حَمْلَه على بعض الحقيقة محذور، فلِمَ قلتَ: إن هذا الطريق هو طريق دفعه، بخلاف ما إذا ذكر النظائر، فإن الغرض يحصل بكل طريق، وهنا لا يحصل إلا بطريقٍ [ق 139] واحدٍ.

وأيضًا فإن جَعْله حقيقةً في المعنى العام المدَّعَى كما أنّ فيه دفعَ هذه المفاسد، ففيه أيضًا المفاسدُ التي قدَّمناها أو احتمالُ تلك المفاسد، وليس في ترك جَعْلِه حقيقةً إلّا السكوت، ومَن خُيِّر بين ركوبِ طريقٍ فيها دفعُ مفسدةٍ واحتمالُ مفسدة وبين تركِها كان التركُ أولى به. ولهذا سُئِل ابن عباس عن رجلين أحدهما كثير الطاعة والذنوب، والآخر قليل الطاعة والذنوب، فقال: لا أَعدِلُ بالسلامة شيئًا

(1)

.

وعن الثالث: أن الأصل النافي إنما يحتج به في موضعٍ لم يكثر الوجود بخلافه، أو موضعٍ لم يُعلم أن هناك وجودًا يخالف الاستصحاب. وقد بيّنا

(1)

تقدم (ص 129).

ص: 246

أنه ما من لفظٍ إلّا وهناك معاني

(1)

كثيرة كلُّها عامٌ لمواردِ استعماله، فتخصيص أحدها بكونه حقيقةً يحتاج إلى دليل. فيقال في مثل هذه الصورة: كونه لم يرد مع تناول اللفظ معنى يعمّ استعمال لفظ الخصوص، ويعمّه أيضًا كونه معنى لفظٍ، وكونه مخرجًا، وكونه غير مدلولٍ عليه، وكونه غيرَ مرادٍ باللفظ ونحو ذلك، وشيء من ذلك ليس بحقيقة لفظ التخصيص، وإنما حقيقة لفظ التخصيص واحدٌ من هذه الأشياء، وذلك لأن هذه المعاني أعمُّ من مواردِ استعمال لفظ العموم، وحقيقة اللفظ لا بدَّ أن تكون مساويةً لموارد الاستعمال كما تقدم.

واعلم أن التخصيص عدم إرادة المعنى من اللفظ مع تناوله له بالطريقة التي ذكرناها، وهو مطابقة المعنى لموارد الاستعمال عمومًا وخصوصًا، لأنّ كلَّ مورد للّفظ المخصّص عُدِمَتْ فيه الإرادة واللفظ متناولٌ له سُمِّي تخصيصًا، كعدم إرادة من لا يَرِث من قوله:{يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلَادِكُمْ} [النساء: 11] ونظائِره من العمومات، وكلّ موضع سُمِّي تخصيصًا فقد عُدِمت [فيه] الإرادة مع تناول اللفظ لجميع التخصيصات، فإثباتُ حقيقةِ اللفظِ ومسمَّاه يَثبتُ بهذا الذي ذكرناه من الطرد والعكس، وهو الدوران والتلازم والمطابقة والمساواة عمومًا وخصوصًا. ومَن أنصفَ عَلِمَ أن مستند العلم بجميع اللغات هو ما ذكرناه من الدوران، لا مجرّد عمومِ المعنى. والكلام في ذلك يطول.

واعلم أن قولهم: «عموم موارد الاستعمال» إنما يَصحُّ في حقيقة

(1)

كذا الأصل.

ص: 247

الألفاظ الكلية، وهو ما لا يمنع نفسُ معناه من وقوع الشركةِ فيها، أو

(1)

في الألفاظ العامة، وهو ما لها موردانِ وأكثر حتى تكون هناك موارد يمكن دعوى عمومِ المعنى لها. فأما المعنى الجزئي كما دَلّ عليه لفظ العَلَم [ق 140] والإشارة والمعرَّف بلام العهد إذا كان معيّنًا، ونحو ذلك، فهنا لا يمكن إثبات المسمَّى بذلك. وأما على ما ذكرناه من مطابقة المعنى لموارد اللفظ فيمكن ذلك.

واعلم أيضًا أن قولهم: «موارد الاستعمال» فيه إشكال، وهو أن مورد استعمال اللفظ هو الموضع الذي استعمل اللفظ فيه، فإما أن يكون هو المعنى الذي ادُّعِي أنه مسماه أو غيره، فإن كان هو الأول كان التقدير عموم المعنى موارد المعنى، وإن كان غيره لم يكن ما استعمل فيه اللفظ هو معنى اللفظ.

وجوابه أن يقال: معنى «عموم المعنى الموارد» أن هذا المعنى موجود في كلّ موضع وردَ فيه اللفظُ، ويَحصُل التغايُر بين المعنى وبين الموارد باعتبار أن المعنى ذهني والموارد خارجة، أو باعتبار أن المعنى كليٌّ والموارد جزئيّة، أو باعتبار أن المعنى المدَّعى هو جملة الموارد، والجملة من حيث هي جملةٌ مغايرةٌ لأجزائها، وهذا قريب من التقدير الثاني، والله أعلم.

واعلم أن على المصنّف هنا استدراكًا واضحًا بعد تسليم صحة هذه القاعدة، لأنّا لم نقصد بالكلام على هذه القاعدة مُحاقَّتَه، وإنما حَاقَقْنا فيها من عدَّها قاعدةً من نظرائه الجدليين أصحابِ الجدل المحدث. وأما ما

(1)

كلمة غير واضحة في الأصل، ولعلها ما أثبت.

ص: 248

يختصّه فقوله: «وعمومه موارد استعمال اسم التخصيص في الشرع» ، وذلك أن الألفاظ الشرعية هي ما كانت موجودةً في القرآن أو في كلام رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولفظة

(1)

«التخصيص» بهذا المعنى ليست موجودة في الكتاب والسنة، لأنها من باب الألفاظ الاصطلاحية في أصول الفقه، كالحقيقة والمجاز، والاشتراك والتواطؤ

(2)

، والمنطوق والمفهوم، والعموم والخصوص، والمطلق والمقيّد، والنقض والقلب والكَسْر، وفساد الوضع وفساد الاعتبار، والمناسبة والدوران والتلازم، وغير ذلك. وهذه الألفاظ مستعملةٌ في كلام العلماء، فَيُوجَد عمومُ ما يدّعي أنه معناها وخصوصه في

(3)

كلامهم.

فإن قال: هو موجودٌ بهذا المعنى في ألفاظ العلماء، وهم أهل الإجماع، وقولهم دليلٌ من أدلة الشرع.

قلنا: وليس هو موجودًا

(4)

في كلام أهل الإجماع على وجهٍ ارتبطَ به حكمٌ شرعي، حتى يُستدلَّ بتفسيره على مقصودهم.

قال المصنَّف

(5)

: (ولئن مَنَع العموميَّة، فنقول: إنه ثابت في صورة التخصيص، إذ التخصيص [غير]

(6)

ثابت بدونه بالنافي للتخصيص، أو

(1)

في الأصل: «لفظ» ، وأثبتنا ما يناسب السياق.

(2)

الأصل: «التواطى» .

(3)

الأصل: «من» .

(4)

في الأصل: «موجود» .

(5)

«الفصول» (ق 6 أ).

(6)

زيادة من «الفصول» ، ومما سيأتي في هذا الباب فيما بعد (ص 260).

ص: 249

لأن أحد الأمرين لازم، وهو إما عدمُ النصِّ العام أو تحقُّق موجبِه [ق 141] إما بالضرورة أو بالنصّ، فإن الحال لا يخلو عن وجود النصّ أو عدمِه، وإذا

(1)

كان عامًّا يكون حقيقةً له، فإن الغير لا يكون حقيقةً له، وإلّا

(2)

يلزم الاشتراك أو المجاز).

اعلم أولًا أنَّ لغةَ العرب المُورَثة

(3)

عنها المتداولة في كلامِها، وكلام الفصحاء الذي ينحو نحوها، وهي لغة القرآن والسنة وسلف الأمة، أن الكلمة إذا لم يكن لها فعلٌ وأرادوا أن يَنطِقوا لها بمصدرٍ يَدلُّ على ما يدلُّ عليه مصادرُ الأفعال، صاغوا منها لفظًا على مثال الفُعُولة أو الفعوليّة، أو نَسَبُوا الاسم منها وأَنَّثُوه، فيقولون: العبودة والعبودية، والذكورة والأنوثة والذكورية والأنوثية، والمروءة والإنسانية، تارةً يقتصرون على تأنيث اللفظ المشتق منها، وتارة ينسبونه مع التأنيث، وكأنّهم ــ والله أعلم ــ إذا صاغوه على مثال الفُعولة، فلأنّ هذه البنية مثالٌ [من] أمثلة مصادر الأفعال الثلاث اللازمة، فزادوا الهاء إشعارًا بالفرق بين مصدر الأفعال والمصدر المأخوذ من الأسماء، لأنه فرعٌ على الأول وتَبَعٌ له، بمنزلة المؤنث من المذكر، وإذا زادوا فيه ياء النسب قصدوا به أنه منسوبٌ ومضافٌ إلى الاسم، كأنه قيل: الحال العبودية والحال الذكورية، أي الحال المنسوبة إلى ذلك المعنى، وإنما يُنسَب الشيء إلى الشيء للزومِه إياه واختصاصه به. وهذه المصادر تدلُّ على حالٍ ثابتة لازمة، بخلاف مصادر الأفعال.

(1)

في «الفصول» : «فإذا» .

(2)

في الأصل: «ولا» ، والتصويب من «الفصول» .

(3)

كذا الأصل، ولعلها:«الموروثة» .

ص: 250

قال

(1)

: إن كلّ فعلٍ له مصدرٌ فلا يكاد يُسَمع في الكلام العربي أنه صِيْغَ له مصدرٌ من هذا الجنس [منسوب] إلى اسم مزيد فيه هاء التأنيث، استغناءً بالمصدر عنه، فإن هذا زيادةٌ وعَجرفةٌ إلّا فيما شذَّ، مثل قولهم: الخُصوص والخُصوصية والخَصوصية بضم الخاء وفتحها، وهو أفصح. وقد كَثُر استعمال هذا الضرب في لسان المنتسبين إلى العلم من متأخري الأعاجم، يقولون: العالمية والقادرية والمعلومية والمقدورية والعمومية والخصوصيّة وأشباه هذا، تارةً يَضيفون اسم الفاعل وتارةً اسم المفعول وتارةً المصدر. كما استعمل المصنّف لفظ «العمومية» بقوله:«ولئن مَنَع العموميَّة» . وهذا استعمالٌ خارج عن النحو العربي، وزيادةٌ في اللفظ وتكلُّفٌ من غير فائدةٍ، لأنه لو قال:«ولو منع العموم» كان المعنى تامًّا حاصلًا بدون هذه النسبة والتأنيث، فإن العموم مصدر عَمَّ الشيءُ غيرَه يَعُمُّه عمومًا، فإذا منع أنَّ اللفظ قد عمّ فهو المطلوب.

فإن قيل: بل فيه فائدة غامضة، فإنّ بين المصدر وبين هذه الأسماء المنسوبة المؤنثة فرقًا دقيقًا

(2)

، وذلك أنك إذا قلت: العلم والقدرة، [ق 142] فإنك تَعني به المعنى القائم بالذات المدلول عليه بلفظ «علم» ولفظ «قدرة» ، وكذلك إذا قلت: العموم أو الإحسان، فإنما تعني الحدث أو المعنى القائم بالفاعل الذي نسبتَ إليه العموم أو الإحسان. فإذا قلتَ: العالمية والقادرية، فإنما تعني الحال الثابتة للذات التي اقتضاها العلم

(1)

كذا الأصل، ولم يُذكر القائل. والمقصود به هنا المؤلف.

(2)

في الأصل: «فرق دقيقي» .

ص: 251

والقدرة، وهي المعبَّر عنها بكون الذات عالمةً وقادرةً، وفرقٌ بين العلم والقدرة وبين كونِ الذات عالمةً وقادرة، لأن كونها عالمةً قادرةً حكمٌ ومعلولٌ وحالٌ اقتضاها العلم والقدرة، ولفظ المصدر إنما دلَّ على نفس الصفة لا على هذه الحال. ألا ترى أنَّا ندلُّ عليها باسم منسوب كأنه صفة لموصوف محذوف، تقديرهُ: الحال العالمية أو النسبة العالمية أو الإضافة العالمية. وفيها فائدة أخرى، وهو أن العلم والقدرة إنما يدل على الصفة والحدث من حيث هو هو لا إشعارَ له بالعلم المعلوم

(1)

، فإذا قيل:«العالمية» و «المعلومية» كان تقديرها

(2)

: الحال الحاصلة لذاتٍ عالمةٍ أو الحال الحاصلة لذاتٍ معلومةٍ، وكان فيها دلالةٌ على ما يُنسَب إليه الصفةُ والحدثُ هل هو الفاعل أو المفعول؟ ومجرَّد المصدر لا يَدُلُّ على ذلك.

قيل: عن هذا أجوبة:

أحدها: لو كان فيه فائدةٌ لم يجز أن تخلو اللغة عن لفظٍ يدلُّ عليه، لأنّ المعنى الذي يكثر دورانُه في القلوب يُحتاج إلى التعبير عنه، فيجب أن تكون له عبارةٌ تدلُّ عليه. ولمّا لم يكن هذا الاستعمال موجودًا في اللغة الحكيمة

(3)

عُلِمَ أنّ هذا اللفظ كانَ حقُّه أن يُلحَق بالمهملات، لاسيّما وكلام الله وكلام رسولِه وكلام الأئمة من سلف الأمة لا يجوز أن يَعْرَى عن بيان هذه المعاني. فلو لم يكن بيانُها إلّا بهذه الألفاظ ــ أو لو كان بيانُها بهذه الألفاظ أجودَ ــ لوجبَ أن يكون ذلك في كلامهم، لأنّ إدراكهم للمعاني أتمّ، وتعبيرهم أفصح وأوضح.

الثاني: أن نقول: الخلاف في ثبوت الحال مشهورٌ بين الناس، حتى إنّ

(1)

كذا في الأصل، ولعل الصواب «بالعالم والمعلوم» .

(2)

في الأصل: «تقدير» .

(3)

الأصل: «الحكمية» .

ص: 252