الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
[فصل في القياس]
(1)
اعلم أن القياس هو جماع الأدلة النظرية، وهو ينبوعُ الاستنباط في [ق 53] الأحكام الشرعية. وعامةُ ما ذكره من الأدلة ــ من التلازم والتنافي والدوران ــ يُحتاج فيه غالبًا إلى القياس، والدوران قياسٌ محضٌ، لأنه يُثبِت الحكمَ في صورة النزاع للقدر المشترك بينها وبين مواقع الإجماع، مدَّعيًا أن القدر المشترك هو العلة، وأنه عُلِمَ ذلك بالدوران.
نعم، لما امتنع فقهاء العراق ــ أعني أهلَ الرأي ــ من إجراء القياس في الحدود، استعملوا ضربًا آخر سمَّوه «الاستدلال» ، وعَنَوا [به] تجريدَ مناطِ الحكم وتنقيحَه عما اقترنَ به، وهو الذي تكلم عليه صاحبُ هذا الجدل في «الدوران» جَرْيًا على أسلوب أشياخه، وتكلَّم في القياس على نوعٍ واحدٍ منه، وهو ما يثبتُ علّيتُه بالمناسبة.
ومعناه في اللغة: تقدير الشيء بالشيء واعتبارُه به. يُقال: قِسْتُ الجُرْحَ بالمِيل، وقِستُ الأرض والثوب بالذراع، كما قيل
(2)
:
يُقاسُ المرءُ بالمرءِ
…
إذا مَا هُوَ مَاشَاهُ
وقال الشاعر
(3)
:
(1)
بياض في الأصل بقدر سطرين، ومن هنا يبدأ الكلام على فصل القياس من «الفصول»:(ق 4 ب). وانظر «شرح المؤلف» : (ق/58 أ- 66 أ)، و «شرح السمرقندي»:(ق 57 ب- 62 ب)، و «شرح الخوارزمي»:(ق 48 - 59 ب).
(2)
القائل أبو العتاهية كما في «عيون الأخبار» (2/ 182).
(3)
هو البعيث بن بشر كما في «الحيوان» (6/ 414) للجاحظ، و «لسان العرب» (نطس). والبيت بلا نسبة في «جمهرة اللغة» (ص 838) و «تهذيب اللغة» (9/ 225) و «اللسان» (قيس). وعجزه: غَثِيْثَتُها وَازْدادَ وَهْيًا هُزُوْمُها.
إذا قَاسَها الآسِيْ النِّطَاسِيُّ أَدْبَرتْ
يعني: إذا قاسَ الطبيبُ غَوْرَ الجراحةِ بالميل.
فالأصل بمنزلة المقياس
(1)
الذي يُعتَبرُ به حكمُ الفروع، وهكذا شأنُ جميع المقاييس، فإنك تعتبر ما لا يُعلَم وصفُه بما قد عُلِمَ وصفُه، كاعتبار المكيل بالمكيال
(2)
، والموزونات بالصنجة والميزان، والممسوحات بالذراع، واعتبار أوزانِ الشعر بعَروضه، واعتبار عربية الكلام بالنحو. وجماعُ ذلك كلّه التسويةُ والتعديلُ وإعطاءُ الشيء حكمَ مثلِه، وهو العدل الذي به قامت السماوات والأرض، وإليه الإشارة بقوله:{أَنْزَلَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ وَالْمِيزَانَ} [الشورى: 17]، وهو اسمٌ جامعٌ لكلّ دليل عقلي، فإن العقلَ من شأنِه أن يعتبر الأشياءَ بأمثالِها وأضدادِها وخلافاتِها.
وقد زعمَ بعضُ أهل النظر أن تسمية التداخل والتلازم والتقابل: قياسًا [لا] يجوز، إذ القياس يعتمد التشبيه والتمثيل، ولا تشبيهَ ولا تمثيل في ذلك. وليس كما قال، لأن تسمية هذه الأدلة العقلية قياسًا لأنك تقدر العلوم بها وتعتبرها بها وتَزِنُها بها، والقياس تقدير الشيء بالشيء، وهذا محض التمثيل والتشبيه لها باعتبار قدرٍ مشتركٍ بينها، وليس القياس إلا ذلك، فعُلِم أن فيها قياسَ تمثيل وقياس تعليل، والكلام في ذلك واسع.
(1)
في الأصل: «القياس» خطأ.
(2)
في الأصل: «بالمكيل» .
والذي يليق بهذا الموضع هو القياس الفرعي، وللناس في تعريفه عباراتٌ كثيرة ليس [هذا] موضع ذكرها، أشهرها عند الجدليين: ردُّ فرعٍ إلى أصلٍ بعلةٍ جامعةٍ بينهما، أو إثبات حكم شيء لشيء آخر لاشتراكهما في علة الإثبات، أو اعتبار الشيء بغيره في إثباتِ حكمه فيه أو نفيه عنه، ليعمّ قياس الطرد والعكس.
قال المصنف
(1)
: (القياس تعدية الحكم المتحد [ق 54] من الأصل إلى الفرع بعلةٍ متحدة فيهما).
قوله: «الحكم المتحد» أراد به أن يكون حكم الفرع والأصل واحدًا
(2)
، لأنه لو كان حكم الأصلِ تحليلًا والفرعِ إيجابًا لم يصحّ القياس. وكذلك العلة لابدّ أن تكون واحدةً في الأصل والفرع، إذ لو ثبت الحكم في الأصل بعلةٍ وفي الفرعِ بعلةٍ أخرى لم يصحّ القياس أيضًا، وذلك لأن القياس إثباتُ مثلِ حكم الأصل في الفرع لاشتراكهما في علة الحكم، فلو لم يتحد الحكم والجامع لم يتحقق هذا الحدّ. وهذا ظاهر في الجملة، ويخرج قياس العكس عن أن يكون قياسًا. وفيه بحوثٌ دقيقة ليس هذا موضعها.
قال المصنف
(3)
: (وسبيلُه أن يقال: الوجوب ثابتٌ في المضروب بالإجماع، فكذا في صورة النزاع بالقياس عليه، لأن الوجوب في المضروب إنما كان تحصيلًا للمصالح المتعلقة بالوجوب، كتطهير المزكي وغيره بشهادة المناسبة، ونعني بالمناسبة مباشرة الفعل الصالح لحصول
(1)
«الفصول» (ق 4 ب).
(2)
في الأصل: «واحد» .
(3)
«الفصول» (ق 4 ب).
المطلوب. والمناسبة على هذا التفسير ثابتةٌ في تلك الصورة، فإن المصلحة المتعلقة بالوجوب أمرٌ مطلوب، والوجوب طريق صالح لحصول ذلك المطلوب، لأنه لو وُجِد يوجد ذلك المطلوب، ولولاه لا يوجد. ولا نَعني بكونه طريقًا صالحًا سوى هذا. والشرع قد حكم بالوجوب في تلك الصورة، فتوجد المناسبة فيها، والمناسبة تُوجِب إضافةَ الفعل الصالح لحصول المطلوب إلى ذلك
(1)
المطلوب، لأن الظنّ بالإضافة [دَار]
(2)
مع المناسبة على ما ذكرنا من التفسير وجودًا وعدمًا، أما وجودًا ففي أداء الفرائض مثلًا، فإن تغليبَ الوصول إلى المَثُوبات
(3)
وتخليص النفس عن العقوبات لمَّا كان مطلوبًا، وأداءُ الفرائض والواجبات
(4)
طريقٌ صالح لحصول ذلك المطلوب، فلو شاهدنا الإقامة من العاقل يغلب على الظن أنه إنما اشتغل بأداء الفرائض والواجبات لحصولِ ذلك المطلوب. وأمّا عدمًا ففي فصل الترك والاشتغال بالمعاصي، والدوران يدلُّ على كونِ المدارِ علةً للدائر).
قلت: اعلم أن المناسبة في الجملة معتبرة في الأحكام الشرعية، [و] مَن تأمَّلَ العباداتِ وما فيها من محاسن الأقوال والأفعال الموجبة للتقرب إلى ذي الجلال، وتخفيفها عند الأشغال، وتحصيلها للمصالح الجلية في الدنيا والآخرة، وما في المعاملات من القوانين المضبوطة المانعة من
(1)
في «الفصول» : «إلى حصول ذلك» .
(2)
زيادة من «الفصول» . وسيأتي كذلك في نقل المؤلف (ص 133).
(3)
في الأصل: «المحبوبات» ، والمثبت من «الفصول» .
(4)
«والواجبات» لا توجد في «الفصول» .
الوقوع في الشرور والآفات، وكذلك ما في المناكح من حفظِ المياه والأنساب، والجمع بين الرجال والنساء لاستيفاء النوع على أكمل حال، ثم ما في العقوبات من المصالح العاصمة للدماء في أُهُبِها، وإقرار الرؤوس على كواهلها، وحفظ الأموال [ق 55] عن السُّرَّاق والقُطَّاع، وحفظ الأديان والعقول عن الانحلال والاختلال، وما في الكفّارات من جَبْرِ النقائص ومَحْو السيئات، إلى غير ذلك من المحاسن والمصالح التي تفوق العدد وتخاف
(1)
الإحصاء= عَلِمَ
(2)
بالاضطرارِ أن ذلك تنزيلٌ من حكيم حميد، متلقًّى من لَدُنْ حكيم خبير، وأن الذي أحاط بكل شيء علمًا ووسعَ كلَّ شيء رحمةً وحلمًا أنزلَ الأحكام متضمنةً لمصالح العباد في الدنيا والآخرة. ولهذا يأمر الله في القرآن دائمًا بالصلاح، ويُثِني على
(3)
الذين يعملون الصالحات، وينهى عن الفساد ويذمُّ المفسدين.
ولا خلافَ بين الفقهاء من الأولين والآخرين في اشتمال الشريعة على مصالح المكلفين، نعم زاغَ أهلُ الأهواء من القدرية حيثُ اعتقدوا وجوبَ رعاية الصلاح أو الأصلح على الله وجوبًا عقليًّا يَلزمُ بتركِه ذمٌّ، وحيث اعتقدوا أن لا معنى للأحكام إلّا صفات للأفعال، تارةً تُدرَك بنور العقلِ، وتارةً تُدرَك ببيان الشرع، وحيث جعلوا الأفعال ــ أفعال الخالق والمخلوق ــ نوعًا واحدًا، سَوَّوْا بينها في التحسين والتقبيح حتى صاروا مشبِّهة الأفعال، وحيث اعتقدوا أن المصلحةَ ما أَبدَوْه من أمورٍ لا تثبتُ على محكِّ السَّبْر،
(1)
كذا، ولعلها:«وتجاوز» .
(2)
جواب «من تأمَّل
…
».
(3)
في الأصل: «عن» .
إلى أشياءَ خرجوا بها عن الحقّ.
وغَلا في مخالفتهم كثيرٌ من متكلّمي أهل الإثبات، حتى جوَّزوا أن لا تكون في الأحكام الشرعية الواقعة مصلحةٌ للمكلَّفين
(1)
البتَّةَ، وأن لا معنى للحكم إلّا مجردُ القول، وأنّ الفعل لم يكتسب بالحكم إلّا صفةً إضافية، وأن شيئًا من الأفعال ليس على صفةٍ تقتضي الحكم، وأن العلل الشرعية ليست إلّا محضَ علاماتٍ، وحتى أحالَ بعضُهم التعليلَ بالمصالح والمفاسد.
واقتصدَ الفقهاءُ والحكماءُ من أهل البصر بالأصول والفتوى والحديث، فعَلِموا أن الله لا يَجب عليه شيءٌ كما يجب على خلقِه، بل هو سبحانه كتبَ على نفسه الرحمة، وحرَّم على نفسِه الظلمَ، فهو أرحمُ بخلقِه من الوالدة بولدها. فأمرَ العبادَ بما أمرَهم لا لحاجته، بل لما فيه من صلاحهم، ونهاهم عما نهاهم لا بُخلًا به، بل لما فيه من مفاسدهم، تفضلًا منه وإحسانًا، وإن كان له أن يفعل ما يشاء ويحكم ما يريد.
والحكم اسمٌ يُقالَ على خطابِ الله وكلامِه المنزّل، وهو الإيجاب كقوله:{كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ} [البقرة: 183]، {وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ} [آل عمران: 97]، أو التحريم كقوله:{حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ} [المائدة: 3]، {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهَاتُكُمْ} [النساء: 23]. ويُقال على الوجوب والحرمة القائمين بالأفعال، ويُقال على التعليق الذي بين الخطاب وبين الأفعال، فإذا عُنِي به الإيجابُ أو التعليقُ كان صفةً إضافيةً للفعل، وإن عُنِي به الوجوبُ
(1)
الأصل: «للمتكلفين» .
كان صفةً ثبوتية للفعل.
والفعل الذي [هو] محلّ الحكم ومتعلَّقه قد يكون على صفةٍ قبل
(1)
نزول الشرع تقتضي ذلك الحكم، فشَرعَ الشارعُ الحكمَ باعتبار تلك الصفة، كالسُّكْر في الخمر.
وقد يكون حدثَتْ له صفةٌ بعد الشرع [ق 56] اقتضَت ذلك الحكم، كجهاد الكفّار، وبعضهم قال: موجبه التكذيب، وهو متجدد بعد الشرع.
وقد يكون الفعل في نفسِه ليس على صفةٍ، لكن الله لمّا حكمَ فيه بما حَكَم جَعَلَ له صفةً تقتضي الحكم، كتخصيص بعض الأمكنة أو الأزمنة أو الأشخاص أو الهيئات.
وقد يكون الفعل عاريًا عن جميع الصفات المقتضية للحكم، وإنما الحكمة ناشئة من نفس الحكم كما سنذكره، كذبح إبراهيمَ ولدَه، وامتناع قوم طالوتَ من شُرب الماء.
وبيان ذلك أن العبد إذا أُمِر بشيء فلا بدَّ أن يكون له في امتثالِ هذا الأمر مصلحةٌ وفائدةٌ، وأهلُ السنة إن قالوا: يجوز أن يأمر الله المكلف بما لا مصلحةَ له فيه، كما أمرَ إبليسَ بالسجود لآدم، وأمرَ أبا جهلٍ وفرعونَ بالإيمان، فمعنى ذلك أنه يجوز أن يعلم أن العبد يَعصِي بترك الامتثال، ويأمره ولا يُوفِّقه للطاعة ولا يخلقها له، فتكون المفسدة
(2)
في المعصية لا في نفس الفعل المأمور به. والذي أردناه أولًا أنه لا بدَّ أن يكون في الأمر
(1)
في الأصل: «بل» تحريف.
(2)
في الأصل: «المفسد» .
مصلحةٌ بتقدير الامتثال. وبين حكم الأمر بتقدير الامتثال وحكمِه بتقدير المخالفةِ فرقٌ بيِّنٌ.
ثم إن المصلحة التي في موافقة الأمر لها ثلاث جهات:
إحداها
(1)
: أن تنشأ من الأمر فقط، فتكون المصلحة اعتقاد الوجوب والعزم على سبيل الامتثال وما يترتب على ذلك فقط، وإن لم يُوجَد الفعل المأمور به، كأمرِ إبراهيم بذبح ابنه، وكأمر من علم أنه يموت قبل وقت الأمر أو يحال بينه وبينه. وأحالت القدريةُ هذا الوجه، وينبني على ذلك نسخُ
(2)
حكم الفعل قبل التمكن ومسائلُ كثيرة.
الثانية: أن تنشأ من ذاتِ الفعل المأمور به من حيث هو هو، حتى لو حصل بدون الأمر لكانت تلك المصلحة حاصلةً، ككتاب الدَّين والإشهاد عليه، والاحتراز من العدوّ، وأكل ما يقيم الصلب، ولباس ما يَقي الحرَّ والبأسَ، والاستعفاف بالنكاح، وصلات ذات البين، ونحو ذلك من الأمور التي فيها مصالح ظاهرة في الدنيا، إذا فُعِلتْ حصلت تلك المصالح. وكذلك في المنهيات، مثل النهي عن أكلِ السُّموم وقتل النفس ونحو ذلك. وكثيرٌ من الأفعال المأمور بها أو أكثرُها كذلك، لكن مصالحها غير معلومةٍ لأكثر الناس بل ولا لجميعهم، وربما علموا بعضَ مصالحها دون بعض. وفي هذا القسم يتسع مجال المناسبة. وقد أنكرَ هذا القسم من أَبَى التعليلَ من غُلاةِ المجبِّرة.
(1)
الأصل: «أحدها» .
(2)
الأصل: «فسخ» .