الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
وأيضًا: فإنَّ طاعةَ الناهي واجبة كطاعة الآمر، والطاعةُ إنما تكونُ بقصدِ الموافقة، والقصدُ إنما يتوجَّه إلى أفعال العبد، أما ما ليس من فِعْله، ولا من أثر فعله فلا يصح قصدُه وإرادته، والعدم المحض ليس من فعله ولا من أثر فعله، فامتنع أن يكون مقصودًا له.
و
فصلُ الخطابِ في هذه المسألة:
أنَّ المنهيَّ إذا لم يفعل ما نُهِيَ عنه ولم يقصد الاحتساب والانتفاء
(1)
، ويستشعر الانتهاءَ عما نُهِيَ عنه لم يستحقّ ثوابًا ولا عقابًا، ولا هو مطيعٌ ولا عاصٍ، بل عدمُ الفعلِ اقتضى عدمَ الذَّمِّ والعقاب، وعدمُ الانكفافِ والاتقاء اقتضى عدم الثواب.
ولو قيل: إنَّه يُثابُ وإن ثوابَه سلامتُه عن العقوبة، فإنِّها إحدى الغَنِيمَتَين، ونجاتُه من العذاب فإنها أحد الفوزَين، لكان معنًى صحيحًا.
وأما إذا قَصَد تركَ الفعل بعد قيام داعِيه وباعثه، وقَصَد أن لا يفعل لو وجد داعيه وباعثه، فهنا يُثاب على ذلك، ويكون مطيعًا، وقد صَدَر عنه أمرٌ وجوديٌّ بلا ريب، فوجودُ الثواب لا يكون إلا عن أمرٍ وجودي، أما عدم العقاب فيكفي فيه الأمر العدميُّ في باب المنهيَّات. وبهذا يظهر أنَّ كلا القولين له وجهٌ صحيح، والخلافُ في الحقيقة آئل إلى اللفظ، لكن القول الأوَّل أجود تحقيقًا، فإنَّ مقصودَ الناهي كما أنه قد يكون عدم [فعل]
(2)
القبيح، فقد يكون ابتلاء المكلَّف وامتحانه، كما نهى آدم عن أكل الشجرة، وهذا إنما يصحُّ على أُصولِ أهل السنة، ولهذا كان القولُ الثاني من مذاهب المعتزلة البصريين.
(1)
كذا، ولعل الصواب:«الاتقاء» .
(2)
زيادة يستقيم بها السياق.
قوله
(1)
: (مما يقتضي الحُرْمة وإلَّا لما [ق 273] صحَّ إطلاقُ اسم المعصية على ارتكابِ المنهيِّ عنه، وقد صحَّ بالنقل والاستعمال).
اعلم أن الذي عليه عامةُ الطوائف: أنَّ النهي يقتضي حُرْمة الفعلِ المنهيِّ عنه، حتى إن كثيرًا ممن خالف في الأمر قد وافقَ في النهي، وفيه خلافٌ شاذٌّ. وكل ما دلَّ على أن الأمر يقتضي الوجوب، فهو دليلٌ على أنَّ النهيَ يفيد الحُرْمة؛ لأن النهَي عن
(2)
الشيء أمرٌ بضدِّه؛ ولأن النهيَ في الحقيقة نوعٌ من أنواع الأمر؛ لأن الأمرَ طلبُ الفعل، والنهيَّ طلبُ الفعلِ أيضًا؛ لأنَّ الترك والامتناع نوعٌ من الأفعال، وهو أمرٌ وجوديٌّ كما تقدَّم، ولهذا كان قول أكثر الفقهاء: إنه إذا قال: إن عَصَيْتِ أمري فأنتِ طالق، فنهاها وعصته= أنه يحنث.
وأيضًا: فقد دلَّ على النهي دلائل تخصُّه، كقوله سبحانه:{وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا} [الحشر: 7]، فإنه يفيد وجوبَ الانتهاء؛ لأن استحباب الانتهاء معلومٌ بنفس النهي، فلا بدَّ أن يفيد هذا الخطاب فائدةً زائدةً على جميع أنواع الاستحباب، وكذلك قوله صلى الله عليه وسلم:«إذا نهيتُكُم عن شيءٍ فاجتنبوه، وإذا أمرتُكم بأمرٍ فأتُوا منه ما استطعتم» متفق عليه
(3)
، يدلُّ على ذلك.
وأيضًا: فإن الله سبحانه نهى آدم
(4)
وزوجَه حوَّاء عن الأكل من الشجرة، فلما خالفا لحقهما من العقاب ما قد ذكره الله في كتابه.
(1)
«الفصول» : (ق/10 ب).
(2)
الأصل: «غير» !
(3)
أخرجه البخاري رقم (7288)، ومسلم رقم (1337) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه بنحوه.
(4)
بعده كلمة: «عن» ولا وجه لها.
وأيضًا: فكل ما دلَّ على وجوب الطاعة أو تحريم المعصية؛ فهو دليل على وجوب الانتهاء وتحريم
(1)
المخالفة في النهي، والأدلة على هذا مستوفاة في غير هذا الموضع؛ لكن قد احتجَّ المصنِّف بثلاثة وجوه:
أحدُها: قوله: «وإلا لما صحَّ إطلاق اسم المعصية على ارتكاب المنهي عنه، وقد صحَّ بالنقلِ والاستعمال» .
وتقريرُ ذلك: أنه لو لم يكن الفعل محرَّمًا لما كان مرتكبُه عاصيًا؛ لأن العاصي يستحقُ الذَّمَّ والعقابَ كما تقدَّم، فلو لم يكن الفعل محرَّمًا لكان مباحًا، لأنه ليس بين الحلال والحرام واسطة، ومن فَعَل المباحَ لا يكون مذمومًا ولا معاقَبًا، لكن مرتكب المنهيِّ عنه عاصٍ بقوله سبحانه:{وَعَصَى آدَمُ رَبَّهُ فَغَوَى} [طه: 121] لما ارتكب المنهيَّ عنه، بدليل قولِه:{أَلَمْ أَنْهَكُمَا عَنْ تِلْكُمَا الشَّجَرَةِ} [الأعراف: 22] والأصل عدمُ ما سِوَى النهي المجرَّد؛ ولأن أهل اللغةِ يسمُّون من ارتكبَ المنهيَّ عنه: عاصيًّا؛ ولأن الاستعمال شائع بذلك.
الوجه الثاني: قوله
(2)
: (على أن المنهيَّ عنه مشتمل على المفسدة الراجحة، وإلَّا لَقَبُحَ النهيُ عن
(3)
الفعل المباح، وليس كذلك).
حاصلُ هذا الوجه: أنَّ المنهيَّ عنه لا بدَّ أن يشتملَ فعلُه على مفسدةٍ، وهي جَلْب مضرَّة، أو دفع منفعة، ولابدَّ أن تكون المفسدة التي فيه خالصة أو
(1)
الأصل: «وتحريمه» .
(2)
«الفصول» : (ق/10 ب).
(3)
كذا في «الفصول» وكان فيه: «وإلا لقبح النفي والنهي عن» ثم ضرب على «النفي و» ، وفي الأصل:«وإلا لقبح النهي أو النهي عن» .
راجحة على مصلحةٍ إن كانت فيه، وحينئذٍ فلا [ق 274] بُدَّ أن يشتمل على مفسدة لا تُعارِضها مصلحة بقدرها، وهي مفسدة خالصة حينئذٍ، ولو قال:«على المفسدة الخالصة» لكان أجود من قوله: «الراجحة» ؛ لأن كلّ راجحة فإنها تؤول إلى مفسدة خالصة، وليست كلُّ خالصةٍ تكون راجحة؛ لأن الرجحان إنما يكون عند تقابل المصالح والمفاسد، ومن الأفعال ما لا مصلحةَ فيه، فقوله:«لابدَّ أن يشتمل على المفسدة الراجحة» ، فيه مناقشة؛ لأن المشتمل على المفسدة المحضة لا يقال: إنه مشتمل على مفسدة راجحة، اللهم إلا أن يقال: معناه أن أحسنَ أحواله اشتمالُه على مفسدةٍ راجحة، أو يقال: إنه ما من فعل إلا وفيه مصلحة ولو كونه موجودًا
(1)
، أو كونه موافقًا لغرض الفاعل من بعض الوجوه، أو يُقال: إن المفسدةَ الخالصةَ تُشْعِر خلوَّ الفعلِ عن المصلحة بالكلية، فهذا هذا، ووَجْه الحصر: أنَّ الفعلَ إما أن يكون فيه فساد
(2)
أو لا يكون، فإذا لم يكن فيه فساد لم يَجُز النهيُ عنه؛ لأنه حينئذٍ إما أن يكون متساويَ الطرفين، بحيث يصحّ أن يقال: لا فسادَ فيه ولا صلاح، أو يكون فيه صلاح من غير فساد، وعلى التقديرين فلا وَجْه للمنع منه، ومهما فُرِضَ [خلوّ]
(3)
النهي عن عبثٍ أو لعبٍ أو لهوٍ فلا بدَّ من اشتماله على فساد.
ومن الناس من يقول لِمَا لا مصلحة فيه ولا مفسدة: قبيح؛ لأنه عَبَث وإضاعة للزمان، فيجب النهي عنه، وفي الحقيقة فهذا قد تضمَّن المفسدة،
(1)
كذا في الأصل، ولعلها «مرغوبًا» أو نحوها.
(2)
الأصل: «فسادًا» .
(3)
زيادة يستقيم بها السياق.
وإذا كان فيه فساد فإما أن لا يكون فيه صلاح، وهو المطلوب، أو يكون فيه صلاح أيضًا، فإن تساوَى هو والفساد من كلِّ وجهٍ لم يَجُز النهيُ عنه على ما ذكرنا، وعلى ما ذكره بعضُ الناس يجبُ النهي عنه. وإن ترجَّح أحدُهما فالراجح منهما مشتمل على ما لا يقَابِلُه شيء، سواءٌ كان الراجحُ جانبَ المصلحة، أو جانب المفسدة. ومتى كان الراجحُ جانبَ المصلحة لم يَجُز النهي عنه فتعيَّن القسم الآخر، ويتبيَّن بذلك أن الفعل المنهي عنه لا بُدَّ أن يشتمل إما على مفسدة خالصة أو راجحة؛ لأنه بدون ذلك يكون النهي عن المباح، وهو غير جائز، أو النهي عما استوى طرفاه
(1)
أو راجح
(2)
جانب خيره، وكلاهما لا يجوز النهيُ عنه.
واعلم أنَّ هذا الكلام فيه بحوثٌ كثيرة، ليس هذا موضعَ تحقيقها.
منها: أنَّ الفعل الواحد بالشخص، وهو الحركة المعينة من الشخص المعيَّن في الوقت المعين، هل يمكن استواء طَرَفيها
(3)
من كلِّ وجه في نظر الشرع؟ أو يقال: لابدَّ أن يترجَّح أحَدُ جانبيها على الآخر رُجْحانًا لا يبلغ حدَّ الاقتضاء والطلب فعلًا أو تَرْكًا؟ فيه تفصيل ليس هذا موضعه.
ومنها: أنَّ هذا الكلام مبنيٌّ على أنه يجبُ اشتمال الأوامر على المصالح والمفاسد، وقد تقدَّم في هذا [ق 275] كلام وجيز في المناسبة
(4)
.
والذي يجبُ أن يُعْتَقد: أن الواقع في الشرائع أن الأمر والنهي لا بُدَّ أن
(1)
هكذا استظهرت قراءة هؤلاء الكلمات الثلاث.
(2)
كذا ولعل الصواب: «رَجَح» .
(3)
الأصل: «طرفاها» .
(4)
(ص 104 - 111).
يشتملا على مصلحة للمأمور والمنهي بتقدير الطاعة، ولابد أن يشتملا
(1)
على مفسدةٍ لمن عصى، كما قال عُمر بن الخطاب رضي الله عنه وغيره من السلف:«إن الله إنما أمر العبادَ بما ينفعهم، وإنما نهاهم عما يضرهم»
(2)
. ولتلك المصلحة ثلاثة
(3)
مصادر:
أحدها: أن تصدر المصلحة من نفس اعتقاد الوجوب والعزم على الامتثال.
والثاني: من جهة الفعل؛ من حيثُ هو مأمورٌ به، أو منهيٌّ عنه.
والثالث: من جهةِ الفعل؛ من حيث هو.
فإذا نهى الله سبحانه العبدَ عن شيءٍ، ففي معصية هذا النهي إما بفعل المنهي عنه، أو باعتقاد عدمِ التحريم والعزمِ على فعل المنهي عنه فسادٌ للمكلف.
أما الفعل المنهيُّ عنه من حيث هو هو فلا يجب أن يشتمل على مفسدة، فإنَّ النهيَ قد يكون ابتلاءً وامتحانًا للمكلَّف، كما نهى الله أصحابَ طالوت عن أن يشربوا من النهر زيادةً على غرفة، وإن كانوا لو
(4)
شربوا بدون النهي لم يكن فيه فساد. وهذا مذهب الفقهاء وأهلِ
(5)
السنة.
وأما القدريَّة فعندهم لابدَّ أن يكون الفعل في نفسه مشتملًا على مفسدة،
(1)
الأصل: «يشتمل» .
(2)
هذا المعنى منتشر جدًّا في عبارات السلف، ولم أعثر عليه بلفظه عن عمر.
(3)
الأصل: «ثلاث» .
(4)
كذا، ولعلها محرفة عن «قد» ، لأن «إن» و «لو» للشرط فلا يجتمعان.
(5)
كذا ولعلها: «من أهل» .