المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌ كلام المستدل إنما يصح إذا كان قد بين التلازم بطريق صحيح - تنبيه الرجل العاقل على تمويه الجدل الباطل - جـ ١

[ابن تيمية]

فهرس الكتاب

- ‌[فصل في التلازم]

- ‌جوابُه من وجهين:

- ‌ كلُّ تقديرٍ لا ينشأ منه قيامُ مقتضٍ ولا نفيُ معارضٍ فإنه غير مفيد

- ‌ معارضة المستدلّ بما ينفي التلازم على وجوهٍ كثيرة

- ‌ كلام المستدلّ إنما يصحّ إذا كان قد بيَّن التلازمَ بطريقٍ صحيح

- ‌(فصل في الدوران)

- ‌ الدوران يفيد كونَ المدار علةً للدائر، بشرطِ أن لا يُزاحمه مدارٌ آخر

- ‌ المثال الذي ذكره صاحبُ الجدل غيرُ مستقيم أن يحتج فيه بالدوران

- ‌ تخلُّف العلّيةِ مع وجود الدوران كثيرٌ لا يُحصَى

- ‌[فصل في القياس]

- ‌ أكثر الأفعال تجتمع فيها الجهات الثلاث

- ‌ كيف يجوز تعليلُ أحكام الله بالمصالح

- ‌معنى قولنا: «إنه يفعل لا لغرضٍ ولا لداعٍ ولا لباعثٍ»

- ‌ المصالح إنما تكون مصالح إذا تجردت عن المفاسد أو ترجحتْ عليها

- ‌ إثباتَ العلّة بالمناسبة أقوى من إثباتها بالدوران

- ‌ هذا الكلام يقدح في القياس القطعي والظني، وما قَدَح فيهما فهو باطلٌ

- ‌ ثبوت المشترك له ثلاث(2)اعتبارات:

- ‌ مناقشة جدلية

- ‌ الدعاوي إذا تعدَّدت لم ينفع تعدُّدها أن يكون الدليلُ على كلٍّ منها غيرَ الدليل على الأخرى

- ‌ الجدل الباطل لا يُفلِحُ فيه مَن سَلكَه استدلالًا وسؤالًا وانفصالًا

- ‌ قَويَّ العمومِ مقَدَّمٌ على ضعيف القياس، وقويّ القياسِ مقدَّم على ضعيف العموم

- ‌ الشارع لا يُخصِّص العام حتى يَنْصِبَ دليلًا دالًّا على عدم إرادة الصورة المخصوصة عقليًّا أو سمعيًّا أو حسّيًّا

- ‌ التخصيص مشتملٌ على أمر وجودي وعدمي

- ‌الدليل يجوز أن يكون عدميًّا باتفاق العقلاء

- ‌ لفظ المصدر يدلُّ على تمام المقصود

- ‌ منع العموم يحتمل شيئين:

- ‌ المرجع في ذلك إلى استقراء صور الاستعمال

- ‌(فصل في تعدية العدم)

- ‌ تقريرُ كلامِه

- ‌(فصلٌ في تَوْجِيْه النُّقُوض)

- ‌ توجيهٌ ثانٍ للنقض

- ‌(فصل في النقض المجهول

- ‌ اقتضاءَ العلةِ المعلولَ أمرٌ فطريّ ضروري

- ‌ صحَّة الحكم لا يستلزم صحةَ الدليل المعيَّن

- ‌ أصل هذا الفساد: دعوى التلازم بين مسألتين لا مناسبة بينهما

- ‌(فصل

- ‌الواجب في مثل هذا الكلام أن يُقابل بالمُنُوعِ الصحيحة

- ‌(فصل

- ‌ صورة أخرى للجواب عن المعارَضَةِ بالقياس المجهول

- ‌(فصلٌ في التنافي بين الحُكمَين)

- ‌ التنافي إذا صحَّ بطريقٍ شرعيٍّ فإنه طريق من الطرق الصحيحة كالتلازم

- ‌ الطرق الصحيحة في تقرير التنافي

- ‌يُسْتَدل على التنافي بالأدلة المعلومة في كل مسألة

- ‌بيانُ ذلك من وجهين:

- ‌الأمرُ الاتفاقي لا يدلُّ على التنافي؛ لجواز تغيُّر الحال

- ‌(فصل في التمسُّكِ بالنص، وهو الكتابُ والسنة)

- ‌النصُّ له معنيان

- ‌جميعُ وجوه الخطأ منفيةٌ عن الشارع

- ‌أحدها: دعوى إرادة الحقيقة إذا لم ينعقد الإجماع على عدم إرادة الحقيقة

- ‌العمومات على ثلاثة أقسام:

- ‌(الثاني(3): دعوى إرادة صورة النزاع

- ‌(الثالث: دعوى إرادة المقيد بقيدٍ يندرج فيه صورة النزاع

- ‌(الرابع: دعوى إرادة شيء يلزمُ منه الحكم في صورة النزاع)

- ‌ معارضة الدعوى الرابعة

- ‌(فصل

- ‌ مُدَّعي الإرادة لا بدَّ أن يبين جواز الإرادة

- ‌سبيل هذه الدعاوى أن تُقَابل بالمنع الصحيح

- ‌ الاستدلال بالأمر على الوجوب له مقامان:

- ‌فصلُ الخطابِ في هذه المسألة:

- ‌ الشرائع لم تشتمل على قبيح

- ‌لا يجوز أن يراد به نفي الأحكام الشرعية

- ‌ لا يجوز أن يُراد به نفي الإيجاب أو التحريم

- ‌ لا يصح اندراج الإيجاب أو التحريم فيه إلا بإضمار الأحكام

- ‌(فصلٌ في الأثر)

- ‌(فصلٌ في الإجماع المركَّب)

- ‌ التركيب المقبول فُتيا(4)وجدلًا

- ‌(فصلٌ في الاستصحاب)

- ‌ الاستصحاب في أعيان الأحكام

- ‌الطريق الثاني في إفساده:

- ‌الطريق الثالث لإفساده:

الفصل: ‌ كلام المستدل إنما يصح إذا كان قد بين التلازم بطريق صحيح

يكون قد دخلَ في فقه المسألةِ. أو ببيان وقوع ذلك التقدير، وذلك غير مقبول. لكن‌

‌ كلام المستدلّ إنما يصحّ إذا كان قد بيَّن التلازمَ بطريقٍ صحيح

، وهو أن يبيّن أن الوجوب على المدين يُنافيه قيامُ موجِبٍ لها على الفقير أو عدمُ مانع من وجوبها على الفقير، أما إذا استدلَّ على وجوبها على الفقير على ذلك التقدير بدليلٍ ليس بينَه وبين ذلك التقدير مناسبةٌ، بل يدلُّ على الوجوب مطلقًا، فهو كلامٌ فاسدٌ غير مقبولٍ كما قدمناه، وحينئذٍ يكون كلام المعترض سديدًا، فإنّ له أن يُمانِعَه ويُعارضَ كلامَه بجنس كلامه، فإن النظم الواحد إذا تبيَّن أنه

(1)

عُلِمَ [أنه] باطل.

قال السائل

(2)

: "المانع المستمر واقعٌ في الواقع، وإلا لوجبت الزكاةُ على الفقير في الواقع بالمقتضي السالم [ق 20] عن المعارض، وهو المانع المستمر، ولم تجب فيُوجَد المانع".

قلتُ: اعلم أن المصنف قَبِلَ هذا السؤال، وتفسيرُه أن قال: المانعُ لوجوب الزكاةِ واقعٌ في الواقع، فليس لك أن تمنع وقوعَه على تقديرٍ تَفرِضُه أنت، لأنه إما أن يكون المانع واقعًا أو غيرَ واقع، فإن كان واقعًا فهو المدعى، وإن كان واقعًا كان مانعًا على تقدير وجوب الزكاة على المدين، لأن وجوب الزكاة على المدين لا يرفع الأمورَ الواقعة، وإن كان غيرَ واقعٍ فلا مانعَ من وجوب الزكاة على الفقير، والمقتضي لوجوبها موجود، وهو الأدلة الدالة على وجوبها، أو الحِكَمُ المناسبة من وجوبها، أو الأسباب المتضمنة لحكمة وجوبها، فيجب العمل بالمقتضي لوجوبها السالم عمّا يُعارِضه، وهو

(1)

كلمة غير واضحة في الأصل.

(2)

"الفصول"(ق 2 أ).

ص: 41

المانع المستمر في الواقع، فتجب الزكاة على الفقير لو كان المانع غيرَ واقع، لكن الزكاة غير واجبة عليه فالمانع واقعٌ في الواقع، فهو واقع على ذلك التقدير، فيكون موجودًا.

هذا تقرير هذا السؤال، وقد قَبِلُه المصنِّف وأجاب عنه، وهو مبني على استصحاب الواقع كما سيأتي بأن يقال: كان، فيستمر على التقدير، لأن هذا التقدير ممكن، لأنه لا يخالف الإجماع.

وهذا السؤال إذا ثبت التلازم بطريقه الصحيح فإنه باطل من وجوهٍ

(1)

، فلا يُقبل، ولا يحتاج إلى المعارضة بينه وبين غيره، إلا أن يبيّن حصول المانع على ذلك التقدير. وأما بمجرد استصحاب الواقع فلا.

أحدها: قوله "المانع المستمر واقع في الواقع".

قلنا: هذا مسلَّم، ولكن لِمَ قلتَ: إنه واقع على تقدير وجوب الزكاة على المدين، وذلك أنه إنما يثبت أنه مانعٌ على هذا التقدير إذا كان التقدير من جملة الأمور الواقعة، ولا يُمكنه بيانُ ذلك إلا بغَصْب منصب الاستدلال، فلا يلزم من كونه واقعًا في الواقع كونُه واقعًا على تقدير ليس من الأمور الواقعة.

الثاني: أن هذا التقدير تقدير غير واقع، لأنه قد ثبت بالملازمة المتقدمة التي

(2)

سَلَّمَ المعترضُ دلالتَها أنه لو وجبَ على المدين لوجبَ على الفقير، ولم يجب على الفقير فلا يجب على المدين، فلا يكون الوجوب على المدين واقعًا، بل يكون محالًا لاستلزامه المحالَ. وإذا كان تقديرًا ممتنعًا

(1)

الأصل: "وجوب" تحريف.

(2)

الأصل: "الذي".

ص: 42

غيرَ واقعٍ لم يلزم من كون المانع مانعًا في الواقع أن يكون مانعًا على تقدير غير واقع، وذلك لأن التقدير المحال يجوز أن يلزمه اللازم المحال، كقوله:{لَوْ كَانَ فِيهِمَا آلِهَةٌ إِلَّا اللَّهُ لَفَسَدَتَا} [الأنبياء: 22]، [ق 21] وتقدير وجوبها على المدين محالٌ لما مرَّ، فيلزم منه أن لا يكون المانع واقعًا في الواقع، وهذا محال، وإنما لزمَ ذلك حين فرضنا وجوبَها على المدين، وهو محال لما بيَّنه المستدل. فتَفطَّنْ لهذا، فإن به تَنحلُّ مثلُ هذه الأغاليط.

وبيان ذلك أن وجوبها على الفقير، فيستلزم وجوبها على الفقير

(1)

، يستلزم رفعَ الأمر الواقع، وهو المانع من وجوبها عليه، وهذا محال فذاك محال. وبهذا يتبيَّن أن المانع ليس بمانع على تقدير وجوبها على المدين، وأنه إن كان واقعًا في الواقع لا يمتنع أن يُفرَض عدمُ وقوعِه على تقدير غير واقع بل محالٍ باطلٍ.

فإن قال: لا نُسلِّم أن هذا التقدير غير واقع، أو أنا أقيم الدليل على أن هذا التقدير واقعٌ.

قلنا: قد مرَّ التلازم الدالُّ على عدم وقوع هذا التقدير، فلا يُسمع منك إقامة الدليل في ضمن الممانعة على خلافه، لأنه غَصْبٌ أو أردأ من الغَصب.

فإن قيل: لا يمكن المستدلَّ أن يمنع الوجوب في نفس الأمر بالمانع في نفس الأمر كما ذكرتم مع منعِه كونَ المانع مانعًا على ذلك التقدير، لأنه يجوز أن يكون المانع على ذلك التقدير إنما انتفى لانتفاءِ المانع في الواقع،

(1)

كذا في الأصل، ولعل الصواب حذف عبارة "فيستلزم وجوبها على الفقير" وكأنها تكرار.

ص: 43

وذلك بأن يكون انتفاء المانع المستمر على التقدير منافيًا للمانع الواقع ومضادًّا له، فلا يَصحُّ الجمع بين انتفاء المانع المستمر وبين المانع الواقع.

قلنا: هذا الجائزُ معارَضٌ بمثله، فإنه يمكن أن لا يكون المانع الواقع منافيًا لعدم المانع المستمر، بل يكون المانع الواقع مانعًا في نفس الأمر، وليس هناك مانعٌ مستمرٌّ على التقدير، وإذا كان كل واحدٍ من الأمرين جائزًا احتاج المعترضُ أن يبين ثبوتَ أحد الأمرين، وإن كان المانع مانعًا

(1)

على ذلك التقدير وأنه مستمر، وحينئذٍ فلا بدَّ له إذا استصحب الواقع أن يبيِّن أن هذا التقدير لا ينافي قيامَ المانع من الوجوب على الفقير، فيبيِّن أن ما يمنع الوجوب على الفقير لا يمنع الوجوبَ على المدين، كما بيَّن المستدلُّ أن ما يُوجب على المدين يوجب على الفقير. وإذا بيَّن ذلك بطريقه الفقهي كان كلامًا مسموعًا، وأمّا بمجرد استصحاب الواقع مع جواز منافاة التقدير وعدم منافاته ففيه نظرٌ. وتمامُ الكلام في هذا يأتي إن شاء الله في الاستصحاب.

الثالث: لا نسلِّم أن المانع المستمر واقعٌ في الواقع.

قوله: "لو لم يكن واقعًا لوجبت الزكاة على الفقير عملًا بالمقتضي السالم عن المعارض".

قلنا: لا نُسلِّم أن ههنا ما يقتضي وجوب الزكاة على الفقير، ولم يذكر دليلًا على ذلك، وإنما أخذه مسلَّمًا وهو غير مسلَّم، وذلك لأن انتفاء الزكاة عن الفقير لعدم المقتضي، وهو مِلك النصاب الزكويّ، لا لوجود مانعٍ [ق 22] من الوجوب. وقد تقدم بيان ذلك.

(1)

الأصل: "مانع".

ص: 44

ثم نقول: ما يعني بالمقتضي لوجوب الزكاة؟

إمّا أن يعني به النصّ، فالنصوص كقوله:{خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ} [التوبة: 103]، وقوله:{أَنْفِقُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا كَسَبْتُمْ وَمِمَّا أَخْرَجْنَا لَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ} [البقرة: 267]، {وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ} [التوبة: 34]، والأحاديث النبوية في الزكاة لا يتناولُ شيءٌ منها الفقيرَ بالإجماع.

وإن عَنَى به الإجماعَ فلا إجماعَ.

وإن عَنَى به المناسبةَ فلا مناسبة في إيجاب الزكاة على فقير، إذ الزكاة وجبت شكرًا لنعمةِ المال ومواساةً للمحاويج، فمن لا شيء لديه كيف يجب عليه شيء.

وإن عَنَى من مَلَكَ نصابًا غيرَ زكويّ، فلا نُسلِّم أن المقتضيَ موجودٌ في حقّه، إذ المقتضي هو ملكُ المال الزكويّ الذي بيَّنه الشارع جنسًا وقدرًا بشهادة النص والإجماع والقياس، ولو كان ذلك مقتضيًا لعَمِلَ عمله، فإنه لا مانع من الوجوب، وإنما انتفاء الوجوب لانتفاء مقتضيه لا لوجود مانعه.

وقد ظهر بهذا التقدير سِرُّ تلك المناقشة في لفظ "المانع"، فإنه مشترك بين ما يدلُّ على عدم الحكم وبين ما يمنع ثبوت الحكم الذي انعقد سببه، وأخذُه بالاشتراك ــ حتى راج له هنا اعتقال الخصم ــ لَبَّس عليه أن المقتضي لوجود الزكاة قائم في حق الفقير، وإنما امتنع لوجود المانع، فإذا قدر عدمُ المانع عَمِلَ المقتضي لوجود المانع، فإذا قدر عدمُ المانع عَمِلَ المقتضي عملَه. وهذا ممنوع كله، فلو قيل: ليس المانع لوجود الزكاة موجودًا على هذا التقدير، وهذا التقدير واقع، لم يكن بيده ما يوجب الزكاة.

ص: 45

وأما إن أثبتَ التلازم بدليلٍ عام فإن هذا السؤال صحيح كما تقدم، وكما أبطلنا به السؤال ينعكس على المستدل، فإنه إنما قرَّر كلامه بمثل هذا، فلذلك قَبِلَ الجدليُّ هذا السؤالَ وسلَّم صحةَ المعارضة، وذلك لأن المستدلَّ لما أثبتَ الوجود على التقدير بما يدلُّ عليه مطلقًا كان للمعترض أن ينفيه على التقدير بما ينفيه مطلقًا، بل كلامُه أظهرُ لأنه منتفٍ في نفس الأمر.

فقال صاحب الجدل

(1)

: "فنقول: ما ذكرتم من الدليل

(2)

[وإن دلَّ]

(3)

على وجود المانع على ما ذكر

(4)

من التقدير، لكن

(5)

عندنا ما ينفيه، فإن المانع لو

(6)

كان متحققًا على ذلك التقدير والمقتضِي متحقق، فيقع التعارضُ بينهما، والتعارض على خلاف الأصل لاستلزامِه التركَ بأحد الدليلين، وهو إما المقتضي أو المانع، وما تُرِك على ذلك التقدير فذلك غير متروك في نفس الأمر، لأن أحد الأمرين لازم، وهو إمّا عدمُ ذلك الدليل أو وجود مدلوله، لقيام الدليل على أحدهما، فإن الحال لا يخلو عن وجود ذلك الدليل في الواقع أو عدمِه".

فيقال: هذا الذي ذكرتَه من الدليل على وجود المانع من إيجاب الزكاة

(1)

"الفصول"(ق 2 أ- ب).

(2)

"من الدليل" لا يوجد في "الفصول".

(3)

الزيادة من "الفصول".

(4)

في "الفصول": "ذكرنا".

(5)

في "الفصول": "إلّا أن".

(6)

في "الفصول": "إذا".

ص: 46

على الفقير على تقدير إيجابها على المدين مُعارَضٌ بما يدلُّ على نقيضِه، فإنه إذا كان المانع موجودًا [ق 23] والمقتضي موجودٌ على ما ذكره المستدل من النصّ والقياس أو غيرهما= فقد تعارض في حق الفقير المقتضِي لإيجاب الزكاة والمانعُ لها، وتعارضُ الأدلةِ على خلاف الأصل، لأنه يلزم تركُ العمل بأحد الدليلين. وتركُ مدلولِ الأدلةِ على خلاف الأصل، لأنّ الدليلَ حقُّه أن يَطَّرِدَ في اقتضاء مدلولِه، فيُعلَم المدلولُ منه حيث وُجِد، والأصل إعمالُه لا إهمالُه، فإذا تخلف عنه مدلوله لمعارض

(1)

فقد خالف الأصل.

وأيضًا فوقوع التعارض بين الأدلة الشرعية قد يُوهم التناقض، وقد يُفضي إلى الجهل أو الخطأ، لأن من سمعَ الدليلين ولم يترجح عنده أحدهما على صاحبه تَوهَّم تناقضهما، ومن سمع أحدهما دون الآخر اعتقد مضمونَه وعمل به، وربما كان هو المرجوح، فيُفضي إلى الجهل والخطاء

(2)

، وإذا لم يتعارض تزول هذه المفسدة. والأصل عدمُ ما يقتضي وقوعَ مفسدةٍ في الأدلة الشرعية.

وأيضًا فإنَّ أقلَّ درجات الدليل أن يكون بحيث يُفيد النظر فيه غلبةَ الظن المدلول عليه، والأغلب عليه وقوع مدلوله، فإذا تعارض الدليلان لَزِمَ تركُ أحدهما، فيلزم مخالفة الأعم الأغلب إلى الأشذّ الأندر وإخلاف الظن الغالب، وهذا على خلاف الأصل.

(1)

في الأصل: "المعارض".

(2)

كذا في الأصل ممدودًا، وهو صواب.

ص: 47

وإنما قلنا: إن التعارض يُوجِب تركَ العمل بأحدهما لأنه إذا تعارض المقتضي للوجوب والمانعُ منه، فإما أن يكون الوجوب ثابتًا أو لا يكون، فإن كان ثابتًا فقد ترك العمل بالمانع، وإن لم يكن ثابتًا فقد ترك العمل بالمقتضي. ولأنهما إذا تعارضا فلا بدَّ من ترجيح أحدهما على الآخر ضرورةَ امتناعِ تكافؤ الأدلة، وحينئذٍ فقد ترك العمل بكل منهما، لأن مقتضَى كلٍّ منهما العمل بمدلوله عينًا، فإذا خُيِّر بينه وبين غيره فهو ترك العمل بكلٍّ منهما.

ويمكن أن يقال في جواب هذه الأشياء: إن شرط كون الظنّي دليلًا انعدامُ ما يساويه أو يترجح عليه، فإذا وُجِد الراجح فقد بَطَل شرطُ كونه دليلًا، فلا يكون دليلًا، ولا نكون قد تركنا العمل بدليل.

وفي هذا بحوثٌ دقيقة ليس هذا موضعَها، لكن قرَّرنا ما ذكره المصنّف، فلو كان المانع ثابتًا له في ذلك التقدير لزم مخالفة الأصل من الوجوه المذكورة، وإذا عُورِضَ من المعترض في دليله توقفت دلالتُه، فيسلم دليل المستدل الأول.

ثمَّ أجاب عن سؤالٍ مقدَّرٍ، وهو أنه إذا لزم من التعارض تركُ العمل بأحد الدليلين، وهو المقتضي لوجوب الزكاة على الفقير والمانع منها، فقد بَطَلَ أصلُ الاستدلال، لأنه إذا تُرِك العملُ بالمقتضي لوجوب الزكاة على الفقير، تُرِكَ العمل به في وجوبها على المدين بطريق الأولى، فلا يصحّ حينئذٍ [ق 24] قوله:"لو وجبت الزكاة على المدين لوجبت على الفقير" لترك العمل بما أوجبه عليهما، وإن تَرَك العملَ بالمانع للزكاة على الفقير لم يصحّ قولُه:"ولم تجب على الفقير"، لأنه حينئذٍ قد قام المقتضي لوجوبها عليه من غير مانعٍ، فتجبُ عليه، فإذا ترك العمل بأحد الدليلين لزمَ إبطالُ إحدى

ص: 48

مقدمتَي الدليل، وذلك مُبطِلٌ للدليل. فهذا سؤالٌ على لزوم التعارض بقولٍ هو لازمٌ للمستدِلّ كما هو لازمٌ للمعترض.

وقد يقول المعترض: لا نسلِّم أنه إذا انتفَى تركُ العمل بأحد الدليلين يَنتفِي تركُ العمل بهما، لجواز كونه متروكًا في نفس الأمر.

وأجاب عن هذا السؤال بأنَّا وإن تركنا العمل بأحدهما على تقدير وجوبها على المدين، فلا يكون تركًا للعمل به في نفس الأمر، والمستدلّ إنما التزم العملَ بما هو دليلٌ في نفس الأمر، ولم يلتزمه على تقدير وجوبها على المدين، فإن هذا التقدير غير واقع عنده، بخلاف المعترض فإنه يلزمه العملُ بما هو دليل على هذا التقدير، وهو غير ممكن، فيلزم مخالفة الأصل.

وهذا معنى قوله: "وما ترك على ذلك التقدير فذلك غيرُ متروك في نفس الأمر". أي وما ترك على تقدير وجوبها على المدين، أو ما تُرِك على تقدير تعارض الدليلين الناشئ من تقدير الوجوب على المدين غيرُ متروكٍ في نفس الأمر، لأن ذلك الدليل المانع من وجوبها إما أن يكون موجودًا في نفس الأمر أو معدومًا، فإن كان معدومًا لَزِمَ عدمُ مدلولِه، وحينئذٍ لا يكونُ ثَمَّ دليلٌ، فلا يكون قد ترك العمل بدليل. وإن كان موجودًا في نفس الأمر لزمَ وجود مدلولِه، لأنّ ما هو ثابت في نفس الأمر لابدّ من وقوعه، وإذا كان مدلولُه موجودًا لم يكن قد ترك العمل، لكن وجود مدلوله في نفس الأمر موجودٌ مع الأمور الواقعة في نفس الأمر، والواقع في نفس الأمر عدمُ الوجوب على المدين، فلا يكون المستدلُّ قد ترك العملَ بشيء من الأدلة.

وهذا معنى قوله: "لأن أحد الأمرين لازم، وهو إما عدم ذلك الدليل ــ أي الدليل النافي للوجوب، أو يعني به مطلق الدليل، سواء كان موجبًا أو

ص: 49

نافيًا ــ أو وجودُ مدلولِه، لقيام الدليل على أحدهما، فإن الحال لا يخلو عن وجود ذلك الدليل في الواقع أو عدمه".

وهذا كما بيّناه، فإنه لابدَّ من أحد الأمرين في الواقع: وجود الدليل، فيلزم وجود مدلوله، وهو أحد الأمرين. أو عدم الدليل، وهو الأمر الثاني. وعلى التقديرين فلا تركَ للدليل، والله أعلم.

وربّما قرروا هذا على وجه آخر، وهو أن السائل يقول: لا أسلِّم أنكم إذا احترزتم عن ترك العمل بأحدهما على هذا التقدير فقد انتفَى المحذورُ اللازمُ من تركهما، فإنه لا بدَّ من تركِ أحدهما في نفس الأمر ضرورةَ امتناع اجتماع [ق 25] مقتضاهما.

فيقال له: بل هو غير متروك في نفس الأمر، لأن أحد الأمرين لازم، وهما عدمُ ذلك الدليل المتروك على هذا التقدير أو وجود مدلوله، لأن الضرورة وذلك الدليل يوجب لزوم أحدهما، وذلك لأنه إما أن يكون موجودًا أو لا يكون. وهذا معلومٌ بالضرورة، فإن لم يكن موجودًا لم يكن قد ترك الدليل في نفس الأمر بالضرورة، وهو أحد الأمرين؛ وإن كان موجودًا فهو يقتضي ثبوتَ مدلولِه، وهو الأمر الآخر، فثبتَ أن الدليل يقتضي ثبوتَ أحدهما. ولسنا ندَّعي تحققَ أحدهما، وإنما ندَّعي قيامَ الدليل على أحدهما.

فإن قال المعترض: التركُ لازم على ذلك التقدير، ولا يلزم من انتفائِه في نفس الأمر انتفاؤه على ذلك التقدير، فأنا لا أسلِّم انتفاءَه على ذلك التقدير إن لم يثبت عدمُ التقدير، وأنتم تدَّعون انتفاءَه على ذلك التقدير.

قيل له: هذا منعٌ على تقدير لا يَضُرُّنا منعُه، وذلك لأنّ اللازمَ على ذلك التقدير لازمٌ في نفس الأمر إن كان التقدير واقعًا في نفس الأمر بالضرورة،

ص: 50

وهو غير لازم في نفس الأمر إن كان التقدير غير واقع في نفس الأمر بالضرورة، وحينئذٍ فإما أن يكون التقدير ثابتًا أو منتفيًا، فإن كان منتفيًا لزمَ المدَّعَى، وهو عدم الوجوب على المدين، وإن كان ثابتًا لزمَ التعارضُ، وهو منتفٍ بما ذكرناه، فالمدَّعَى ــ وهو عدمُ المانع على ذلك التقدير ــ ثابتٌ على التقديرين: تقدير ثبوتِ التقدير وتقديرِ انتفائه، فليس يضرُّنا بعد ذلك منعُ ثبوتِ التقدير في نفس الأمر.

وربما أجابُوا عن هذا بأن ما ذكرنا من الدلائل يدلُّ على انتفاءِ اللازم على تقدير الوجوب على المدين، فإذا انتفى اللازم لزمَ انتفاء ذلك التقدير الذي هو الملزوم.

واعلم أن التلازم إن ثبتَ بطريق صحيحٍ لم يَرِدْ هذا الكلامُ، وأما إن ادعاه وأثبتَه بالأدلة العامة فكلامُ المعترض صحيح، وهذا الجواب فاسد، وذلك أنه يقول: ما ذكرت من الدليل وإن دلَّ على عدم المانع، لكن عندنا ما يدلُّ على وجودِه، فإنه لو لم يكن موجودًا على ذلك التقدير لكان ذلك التقدير مانعًا من الأمور الواقعة في الواقع، فيكون باطلًا.

أو يقول: المانع إما أن يكون واقعًا على ذلك التقدير أو

(1)

ليس بواقع، فإن كان واقعًا ثبتَ انتفاءُ الوجوب، وإن لم يكن واقعًا على ذلك التقدير فذلك التقدير إما أن يكون واقعًا أو لا يكون، لكنه لا يجوز أن يكون واقعًا لاستلزام وقوعِه رَفْعَ الأمور الواقعة، وما استلزمَ رفعَ الواقع فهو غير واقع، فيلزم أن لا يكون [ق 26] واقعًا، وهو المطلوب.

(1)

الأصل: "و".

ص: 51

أو يقول: أحد الأمرين لازم: إما ثبوتُ مانعيَّةِ المانع على ذلك التقدير، أو انتفاءُ ذلك التقدير، وأيُّهما كان حصلَ المطلوبُ. وذلك لأن ثبوت المانعيَّة واقعٌ في الواقع، فإن كان واقعًا على ذلك التقدير فهو أحد الأمرين، وإن لم يكن واقعًا على ذلك التقدير كان ذلك التقدير غير واقع، لأن وقوعَه ملزومُ عدم الأمور الواقعة، واللازم منتفٍ فالملزومُ مثلُه، فثبتَ أن ذلك التقدير غير واقع على تقدير عدم وقوع مانعية المانع، وهو الأمر الثاني.

وله أن يُعارضَه بنحوٍ آخر، فيقول: ما ذكرته من المقتضي للوجوب على ذلك التقدير وإن دلَّ على الوجوب، لكن مَعَنا ما يَنفِيه، وذلك أنه لو كان المقتضي واقعًا على ذلك التقدير لَزِمَ المعارضةُ بينَه وبين النافي المستمرّ في الواقع، وتعارضُ الأدلةِ على خلاف الأصل.

وله أن يأتي بنحوٍ آخر، فيقول: وقوعُ هذا التقدير إمّا أن يثبتَ معه التعارض بين المقتضي والمانع أو لا يثبت، فإن ثبتَ بَطَلَ كلامُه، وإن لم يثبت كان ذلك التقدير رافعًا للتعارض الواقع في نفس الأمر، فإن التعارض واقعٌ في نفس الأمر، لأن المانع واقعٌ في نفس الأمر بما ذكرت، وأما المقتضي فإن كان ثابتًا في نفس الأمر فقد ثبتَ الأمرُ، وإن لم يكن ثابتًا في نفس الأمر فإنما يكون مقتضيًا للوجوب على ذلك التقدير، وحينئذٍ فهو تقدير ينشأُ منه قيامُ مقتضٍ أو نَفْيُ مُعارضٍ، ونحن إنما نتكلم على تقديرٍ يستدلّ معه بالأدلة العامة.

وله أن يقول: الموجب والمانع ثابتان في نفس الأمر، فلا يَضُرُّ التزامه على هذا التقدير، لأنّ الأصل النافي للتعارض إنما يُعمل به عند عدم تحقق التعارض، أما مع تحقُّقِه فلا.

ص: 52

أو يقول: لأن هذا التقدير لا يرفع الأمور الواقعة، لأنه لو رفعها كان باطلًا، فهو المطلوب.

أو يقول: إن كان باطلًا بَطَلَ المدَّعَى، وإن ادعى ثبوتَه فهو مستلزمٌ لنَفْي التعارض الواقع، وما لزمَ منه إبطالُ الأمور الواقعة فهو باطلٌ، فثبوتُ التقدير باطلٌ.

وإذا فهمتَ حقيقةَ الأمر فلكَ أن تُركِّبَ تركيباتٍ كثيرةً من جنس تركيب المستدل يُعلمَ بها أن الجميع باطلٌ.

واعلم أنه يمكن إبطالُ كلام المستدلّ من وجوهٍ كثيرة:

منها أن يقال: تعارضُ الدليلين أكثر ما فيه ترك العمل بأحدهما على ذلك التقدير، وهو تقدير وجوبها على المدين، فليس لك أن تَفِرَّ من هذا الترك بقولك: المانع لا يكون مانعًا على هذا التقدير؛ لأن هذا تصريحٌ لترك العمل بالدليل الظني على هذا التقدير، فكيف تترك العمل بالدليل حَذَرًا من تركِ العمل بالدليل؟ فأنت في هذا [ق 27]"كالمستجير من الرَّمْضَاءِ بالنارِ"

(1)

، إذ ليس نَفْيُ التعارضِ حذَرًا من تركِ أحدِهما بأولى من إثباته حذرًا من ترك أحدهما، فإذا كان تركُ أحدِهما لازمًا على تقدير ثبوتِ التعارض وعلى تقدير نَفْيِه كان لازمًا على التقديرين، فلا يمكن الاحتراز عنه، وإذا لم يمكن الاحتراز فلا يجوز إبطالُ شيء من الأدلة لأجل الاحتراز منه، لأن ذلك إبطالٌ للحق بالباطل، وإبطالٌ للممكن حذرًا من وقوعِ الواقع

(1)

شطر بيت للتكلام الضبعي في "فصل المقال" للبكري (ص 377)، ولأبي نجدة لجيم بن سعد العجلي في "الأغاني":(24/ 51).

ص: 53

ووجود الموجود، وصار قولك:"لا يكون تعارضٌ لئلَّا يلزم ترك الدليل" معارضًا، بل يكون تعارضٌ لئلّا يلزمَ تركُ الدليل.

ومنها أن يقال: لا يكون التعارض واقعًا على ذلك التقدير، لأنه خلاف الأصل، لاستلزامه التركَ، وإذا لم يكن واقعًا لزمَ وقوعُ التنافي، لخلوِّه عن المعارض، فإذا كان المانع ثابتًا على ذلك التقدير لم يكن الوجوبُ حاصلًا على ذلك التقدير.

ومنها أن يقال: ما ذكرت من الدليل وإن دلَّ على أنه لو وجبَ لَوَجبَ بالمقتضي، لكن معناه أنه

(1)

لو وجبَ للَزِمَ التعارضُ بين الموجِب والنافي، فلا يكون الوجوب حاصلًا.

فإذا قال: ليس المانع حاصلًا على ذلك التقدير.

قيل له: بل لا يكون المقتضي حاصلًا على ذلك، أو أحدهما منتفٍ على ذلك: إمّا المقتضي أو المانع، فليس تعيينُ نَفْي المانع بأولَى من تعيين نَفْي المقتضي.

قال المصنف

(2)

: (ولئن قال: المانع متحقق على ذلك التقدير، وإلّا لوَقَع التعارض بين المقتضي السالم عن المانع المستمرّ وبين المانع الواقع في الواقع. فنقول: المانع غير متحقق على ذلك التقدير، وإلّا لتحقَّق المانعُ المستمرّ في الواقع، فيقتضي

(3)

التعارض بينه وبين المقتضي الواقع في

(1)

في الأصل: "فإنه".

(2)

"الفصول"(ق 2 ب).

(3)

في "الفصول": "فيقع".

ص: 54

الواقع).

قلت: حاصلُ هذا أن السائل أرادَ المعارضةَ بين المقتضي والمانع على طريقة المستدلّ، كما عارضَ المستدلُّ بينهما على طريقة المعترض، لتبيينِ حصولِ المعارضةِ على كل تقدير، فقال: إن كان المانع متحققًا على ذلك التقدير فهو المطلوب، وإن لم يكن ثابتًا على ذلك التقدير فهو واقع في الواقع، فتقع المعارضة بينه وبين المقتضي على تقدير عدم تحققه على ذلك التقدير، فقال له المستدل: هذا الإلزام مشترك، وهو في جانبك أظهر، لأنه لو كان متحققًا على ذلك التقدير لكان المانع المستمر واقعًا في الواقع، فيقع المعارضة بينهما.

ومقصودُ ذلك أنه يقول المعترض: يجب أن يكون المانع متحققًا على ذلك التقدير، لأنه لو لم يكن كذلك لم يكن المانع مستمرًا، والمانع المستمر هو ما ينفي على التقدير، فإذا لم يكن المانع المستمر واقعًا فقد سَلِم المقتضي للوجوب، وحينئذٍ يتعارض المقتضي السالم [ق 28] عن معارضة المانع المستمر والمانعُ الواقع في الواقع، فلما ألزمَ المستدلَّ التعارضَ بين المانع في الواقع وبين المقتضي على ذلك التقدير السالم ألزمه المستدلُّ مثلَ ذلك، فقال: المانع لا يتحقق، لأنه لو تحققَ لتعارضَ المانعُ المستمر في الواقع والمقتضي الواقع في الواقع، إذ المقتضي واقعٌ في الواقع، وهو ما تقدم من النصوص وغيرها. والتعارض على ذلك التقدير المانع مطلقًا والمقتضي كما تقدم، فيلزم التعارضُ في نفس الأمر وعلى التقدير، وهو خلاف الأصل.

ص: 55

قال المصنف

(1)

: (ولئن قال

(2)

: لا نسلّم بأن المانع المستمر متحقق في الواقع، وإنما يكون كذلك أن لو كان المانع على ذلك التقدير هو الواقع

(3)

في الواقع.

فنقول: هذا المنع لا يضُرّنا، فإن المانع على ذلك التقدير لا يخلو إمّا أن كان واقعًا في الواقع أو لم يكن، فإن كان واقعًا يتمُّ ما ذكرنا، وإن لم يكن [واقعًا]

(4)

ينتفي ذلك التقدير لانتفاء لازمِه

(5)

).

قلت: حاصلُ هذا أن المستدل لما ادَّعَى أنه لو كان مانعًا على ذلك التقدير لكان مانعًا في الواقع.

قال له السائل: لا أسلِّم أنه على هذا التقدير يكون المانع المستمر واقعًا في الواقع، لأن ذلك إنما يلزم أن لو كان المانع على ذلك التقدير هو الواقع في الواقع، وهذا يتحقق

(6)

كما قررناه أولًا، أما إذا كان المانع مختصًّا بذلك التقدير وهو ما ينفي زيادة ترك العمل بالمانع مثلًا فلا يتحقق، وذلك لأن المانع إذا كان قائمًا على ذلك التقدير فلو كان هذا القائم في نفس الأمر لكان قد ترك العمل به، وزيادة ترك العمل به على خلاف الأصل، فيكون معمولًا به، فلا يكون واقعًا في الواقع.

(1)

"الفصول"(ق 2 ب).

(2)

"الفصول": "ولئن منع وقال".

(3)

"الفصول": "المانع الواقع".

(4)

زيادة من "الفصول".

(5)

في "الفصول": "اللازم".

(6)

الأصل: "نحن" ولعل الصواب ما أثبتناه.

ص: 56

فأتى المستدل بجواب سديد، فقال: لا يخلو إمّا أن يكون المانع على هذا التقدير واقعًا في الواقع أو غير واقع، فإن كان واقعًا صحت هذه المعارضة، وبه يتمُّ الدليل، وإن كان المانع على هذا التقدير غير واقع في الواقع فقد لزم من ذلك التقدير انتفاء ما هو واقع في الواقع، وهذا اللازم باطل، لأن نقيضه حقٌّ، وهو وقوع ما هو الواقع في الواقع، وإذا كان اللازم منتفيًا انتفى ملزومه، وهو ذلك التقدير، وإذا انتفى ذلك التقدير فهو المدَّعَى، لأنا إنما ادَّعَينا أن نقيض المدعى ــ وهو الوجوب على المدين ــ مستلزم لما هو غير واقع في الواقع.

وبيان ذلك أيضًا أن المانع إذا لم يكن على هذا التقدير واقعًا في نفس الأمر لم يكن مانعًا، لأنَّ ما ليس بواقع لا حقيقةَ له، وإذا لم يكن مانعًا على تقدير الوجوب على المدين بَطَلَ أولُ الاعتراض، وهو قوله: لا تجب الزكاة على الفقير بالمانع على تقدير الوجوب على المدين.

واعلم أن هذا [ق 29] الكلام مشروطٌ إذا ثبت اللازم أولًا بوجهٍ صحيح، وأما إن كان بدليل لا يختص التقدير فهذا الكلامُ فاسدٌ، وطريق إفسادِه ما قدَّمناه، وهو كلامٌ باطل من جهتَي المعترض والمستدل.

أما المعترض فقوله: "المانع متحقق على ذلك التقدير، وإلّا لوقعَ التعارضُ بين المقتضي السالم عن المانع المستمرّ وبين المانع الواقع في الواقع".

يقال له: لا نُسلِّم أنه لو لم يكن واقعًا على ذلك التقدير لوقعَ التعارضُ كما ذكرته، ولم يذكر على ذلك دليلًا. وبيان عدم الكلام

(1)

أنه إذا لم يكن

(1)

كذا، ولعل صوابه:"التعارض".

ص: 57

المانع واقعًا على ذلك التقدير فهو واقع في الواقع، وحينئذٍ فلا نُسلِّم أن المقتضي واقع، لأنا إنما ادعينا قيامَ المقتضي على التقدير، وادَّعينا قيامَ المانع في الواقع، ولا معارضةَ بينهما.

أو يقال: المانعُ إن لم يكن واقعًا في نفس الأمر فلا يُعارض، وإن كان واقعًا في نفس الأمر فقد وقعَ التعارضُ في نفس الأمر بين المقتضي والمعارض، وهذا ليس من مقتضياتِ مذهبي، فلا يلزمني الجوابُ عنه.

أو يقال: هذا لازمٌ لي ولك، لأن ما هو في نفس الأمر لا يختصُّ أحدَ الجانبين.

أو يقال: ما هو في نفس الأمر حقٌ، والحقُّ لا يضرُّ لزومُه.

أو يقال: ما هو واقعٌ يَجِبُ التزامُه، وإن كان فيه تعارضٌ وتركٌ للدليل، لأن تركَ الدليل يجوز، ورفعُ الأمور الواقعة لا يجوز.

أو يقال: تركُ الدليل تركٌ للظنّي، ورفعُ الواقع تركٌ للقطعيّ، وإذا دارَ الأمرُ بين تركِ الظنيّ وتركِ القطعيّ كان تَركُ الظنّي

(1)

واجبًا، بل يعلم أنه باطلٌ لاستلزامه مخالفة القاطع.

وأما من جهة المستدلّ فإنه قابلَ الدعوى بالدعوى، ويَرِدُ عليه من الممانعة وبيانِ عدم الملازمة والتزامِ التعارض وغير ذلك ما وردَ على المعترض، وهو أضعفُ من جهةِ أنه لا يلزمُ من كونه متحققًا على ذلك التقدير تحققُه في الواقع، لاسيّما وعند المستدلّ أن ذلك التقدير غير واقع، فلا يلزمُ من كونه واقعًا على ذلك التقدير وقوعُه في الواقع عنده، وإن كان

(1)

في الأصل: "كان ترك القطعي كان ترك الظني". ولعل ما أثبتناه هو الصواب.

ص: 58

المعترض يلزم هذا الاستدلال. ومن جهة أن المقتضي على ذلك التقدير إن كان واقعًا في نفس الأمر فهذه المعارضة هي المعارضة المتقدمة بعينها، وهو قوله: لو كان متحققًا على ذلك التقدير والمقتضي يتحقق، فيقع التعارض بينهما فيكون تكريرًا، وإن لم يكن المقتضي على ذلك مقتضيًا في الواقع فقد بَطَلَ أصلُ الكلام، لأنَّا نتكلم على ما استدلّ على وقوع اللازم بدليلٍ لا يختصّ الملزومَ، ويلزم عليه

(1)

.

وأما المعارضة الثانية من المعترض ففاسدة، وذلك أنه كيف يتوجه أن يمنعَ أن المانع المستمر متحقق في الواقع، وقد سلَّمه في ثاني معارضةٍ عارض بها، والمنعُ بعد التسليم [ق 30] غير مقبول. وأما المستدل وإن كان قد ادعى أن هذا المنع لا يضرُّه كما بيَّناه، فإنما ذاك لكونِ السائلِ قرَّر الأسوِلَة على هذا الوجه، أما إذا قرَّرها على الوجوه التي ذكرناها لم يَلزمه هذا.

قال المصنف

(2)

: (ولئن قال: لا تجب الزكاة ثَمَّة على ما ذكرتم من التقدير، لأن أحد الأمرين لازم، وهو إمّا وقوعُ ما هو الواقع على التقدير في الواقع

(3)

، أو وقوع ما هو الواقع في الواقع على التقدير من الحكم في تلك الصورة أو عدم الحكم فيها.

فنقول: نحن لا ندَّعي الوجوبَ ثَمَّة على التعيين، بل ندَّعي أحد الأمرين، وهو إما الملازمة بين الوجوبين أو الوجوب ثَمَّة. وبهذا يندفع ما

(1)

هنا كلمات غير واضحة في الأصل.

(2)

"الفصول"(ق 2 ب).

(3)

في الأصل: "الوقوع" والتصويب من "الفصول"، وسيأتي على الصواب في كلام شيخ الإسلام.

ص: 59

ذكرتم، فإنه لا يمكن أن يقال: لا وجودَ لهذا ولا لذلك في نفس الأمر، كما يمكن في الوجوب على الفقير).

قلت: حاصلُ هذا أن المعترض قد عارضَ بهذه المعارضة المطلقة، فقال: لا تجب الزكاةُ على الفقير على تقدير الوجوب على المدين، لأن أحد الأمرين لازمٌ: إما وقوعُ ما هو واقعٌ على ذلك التقدير في الواقع، بمعنى أنَّ ما وقع على التقدير فإنه واقعٌ في الواقع، أو وقوع ما هو الواقع في الواقع على تقدير الحكمِ في صورة الفقير وعدمِ الحكم فيها، بمعنى أن ما وقعَ في نفس الأمر فإنه واقعٌ على تقدير الحكم في فصل الفقير وعدم الحكم فيه.

وإنما قلنا: إن أحد الأمرين لازمٌ، لأنّ الأدلةَ قد دلَّت على ذلك من النصوص والأقيسة وغيرها، فإنها تدلُّ على وقوع ما هو الواقع على التقدير في الواقع من الأحكام ثبوتيَّةً كانت أو عدميَّةً، فإنّ ما دلَّ على وقوع تلك الأحكام على التقدير فإنه دالٌّ على وقوعها مطلقًا. وكذلك يدلّ على وقوع ما هو الواقع في الواقع على تقدير الحكم في فصل الفقير وجودًا وعدمًا، فإن ما دلَّ على وقوع تلك الأمور الواقعة دلَّ على وقوعها على تقدير الأحكام الثابتة في نفس الأمر في فصل الفقير، فإنه دلَّ على وقوعها على كل تقديرٍ واقع، وما هو الثابت في فصل الفقير هو الواقع في نفس الأمر. وإنْ [أحد] الأمرين لزمَ لم يثبت الوجوب على الفقير على ذلك التقدير، أما إذا لزمَ الأولُ ــ وهو وقوعُ ما وقعَ على التقدير في الواقع ــ فإنه لو وقعَ الوجوبُ على التقدير لتحقَّقَ في الواقع، وهو لم يتحقق في الواقع، فلم يتحقق على التقدير. وإن لزمَ الثاني ــ وهو وقوع ما هو الواقع ــ فيلزم وقوعه على التقدير.

ص: 60

واعلم أن المعترض إنما ادَّعى أحدَ الأمرين، وبيَّنَ حصولَ غرضِه على كلٍّ منهما، لأن المستدلَّ إنما يمكنُه أن يُعارضه بمثل كلامِه، فيقول مثلًا: لا يتحقق أحدهما أصلًا، لتحققِ أحد الأمرين الآخرين، وهو عدمُ وقوعِ ما هو الواقع على التقدير في الواقع، أو عدمُ وقوع ما هو الواقع في الواقع على التقدير، لأنّ الدليل الدالَّ على أن التقدير غير واقعٍ يدلُّ على ذلك.

[ق 31] وهذا الكلام لا ينفع المستدل، لأنه

(1)

إذا تحقق أحد هذين الأمرين الآخرين [و] لم يتحقق أحد الأمرين الأولين جاز أن يتحقق الأمر الآخر، وهو تحصيل مقصود السائل.

وكذلك أيضًا لو قال: الوجوب على الفقير متحقق على ذلك التقدير ضرورةَ تحقُّقِ أحد الأمرين: إما عدم الواقع في الواقع على التقدير، أو عدم وقوع الواقع على التقدير في الواقع، فإنه إن لم يرد بالعدم عدم الجميع، فإن عدم وقوع البعضِ كافٍ، وذلك لا ينفعه، لجواز أن يكون غير عدمِ الوجوب على الفقير. وإن أراد به عدم جميع الواقع فمع أنه بعيدٌ لا ينفَعه أيضًا، لأنّ عدمَ الجميع ينتفي بثبوتِ بعض الأفراد، فأيُّ فردٍ من أفراد الواقع فُرِضَ وجودُه انتفَى عدمُ الواقع، ثمّ إذا ذُكِرَ فردٌ آخر لم يتكرر العدمُ ولم يتعدَّدْ.

واعلم أنّ الذي دعاهم إلى هذا التكلف أنهم إنما يُثبِتون الدعاوي بأدلةٍ متكافئةٍ من الجانبين، وليست في نفس الأمر أدلةً، فالمعترض إذا ادَّعى ثبوتَ أحدِ الأمرين فإنما يقابلُه المستدلُّ بنفي أحد الأمرين، وذلك غير مفيد، ولو قابلَه بنفي مجموع الأمرين لاحتاجَ إلى ما يدلُّ على نَفْيهما جميعًا، ولا شكَّ أن إثباتَ واحدٍ من اثنين أو ثلاثةٍ أسهلُ من نَفي الاثنين والثلاثة، فصارَ

(1)

في الأصل: "لأن أحد هذين الأمرين إذا تحقق

".

ص: 61

مطلوبُ المعترض أسهلَ. فإذا كان جنس الدليلين واحدًا [و] وجود ما يريدُه المعترض أسهل كان الرجحانُ معه، لأن الظنَّ بحصولِ مرادِه أقوى من الظنّ بحصولِ مرادِ المستدلّ.

ولعَمْري إن هذا ترجيحُ من يستدلُّ بغير دليل، فإنه يرجّح بالأشياء البعيدة عن المقصود. وكثيرًا ما يَسلُك هؤلاء المموِّهون هذا المسلكَ يَدَّعونَ عدة أشياءَ كلٌ منها يُحصِّل المقصود، ويكون الدليل على وجودِها كلِّها ووجود بعضها واحدًا، حتى يحتاج القادح أن يَنفِيَ كلَّ واحدٍ من تلك الأشياء، إذ نَفيُ بعضِها غيرُ كافٍ، فإذا نفاها جميعًا كان مدَّعيًا عدةَ دعاوٍ، ويحتاج فيها إلى عدة أدلَّة. بخلاف المثبت، فإنه إنما ادَّعَى واحدًا من جملة عددٍ.

والتحقيق في هذا أنه إذا كان إنما يَثبُتُ أحدُ تلك الأشياء بما يَثبُتُ به الآخر كانَ في الحقيقة مستندًا إلى دليلٍ واحدٍ، وحينئذٍ فللقادح أن ينفيها كلَّها بدليلٍ واحدٍ أيضًا، إذ لا فرقَ في الدليل بين أن ينفي أشياء أو يثبت واحدًا من أشياء، ولا عبرةَ بكثرةِ الدعاوي وتعدُّدِها، وإنما العبرةُ بقوة الأدلة وتعدُّدِها. فمن ادَّعى بأنه حكم [لعدَّة أشياء] بدليلٍ واحدٍ كان بمنزلة من ادعَى حكمًا واحدًا بدليلٍ واحدٍ.

وأيضًا فإنهم يُعدِّدون الدعاوى، وربّما كانت متحدةً في المعنى، وبتقدير تغايرها فإنها تكون متلازمة، بحيث يلزم من صحة بعضها صحةُ جميعها، ومن فسادِ بعضها فسادُ جميعها، أو يكون بعضُها لازمًا للبعض، من [ق 32] غير عكس مثلِ هذه الصورة التي يتكلم فيها، وحينئذٍ فدعوى أحدهما بمنزلة دعواهما جميعًا، ونفيُهما جميعًا بمنزلة نَفي أحدِهما، فإنّ

ص: 62

من ادعى ثبوتَ الشيء فقد ادعَى ثبوتَ لوازمه ولوازمِ لوازمِه وهَلُمَّ جرًّا ضرورةَ عدمِ الانفكاك، ومن ادعَّى انتفاءَه فقد ادَّعَى انتفاءَه وانتفاءَ ملزوماتِه وملزوماتِ ملزوماتِه وهَلُمَّ جرًّا ضرورةَ عدم الانفكاك.

فلا تغفلنَّ عن هذا، فإن طائفةً من كلام هؤلاء المموِّهين تدور على مثلِ هذا الكلام، حتّى إنّ من ادَّعى شيئًا معينًا قد لا يتمُّ عندهم، ومن ادَّعاه مبهمًا يتمُّ له. ثمَّ إنه إن ما يثبِته مبهمًا عين ما أثبته معينًا

(1)

، وثبوتُه مبهمًا يقتضي ثبوتَ تلك الأشياء التي أبهم فيها، لكن لكون الخصم لا يمكنه المقابلة بمثل تلك العبارة يفلُج

(2)

عليه، ومعلومٌ أن هذه

(3)

طريقةٌ فاسدةٌ، إذ العبرةُ بتقابل الدعويَيْنِ في المعنى لا في اللفظ. وهذا فصلٌ منتظرٌ ذكرنا هناك تفصيل هذا.

فالجواب المحقق عن سؤال المعترض أن يقال: لا نُسلِّمُ أن واحدًا من الأمرين لازمٌ، لا وقوع ما هو الواقع على التقدير في الواقع، ولا وقوع ما هو الواقع في الواقع على التقدير، ولا نُسلِّم قيامَ الأدلَّةِ على واحدٍ منهما، فإن ذلك دعوى محضة.

ثم إن ذلك مُعارَضٌ بدعوى عدمهما جميعًا بالأدلة الدالة على ذلك، وهو معارضة صحيحة كما تقدم، ومعارَضٌ بدعوى عدمِ أحدهما، لأنه مستلزمٌ لعدم الآخر، فإنه إذا عُدِم وقوعُ ما هو الواقع على التقدير في الواقع فقد عُدِمَ وقوعُ ما هو الواقع في الواقع على التقدير، لأنه لو لم يثبت العدمُ لثبتَ نقيضُه، وهو وقوع شيء هو واقعٌ في الواقع على التقدير، ولو كان ما هو

(1)

كذا الأصل. ولو حذفت "إنه" يستقيم الكلام.

(2)

الأصل: "يفتح"، والأصح ما أثبتناه.

(3)

الأصل: "هذا".

ص: 63

واقعٌ في الواقع واقعًا على التقدير لكان هذا الواقع على التقدير واقعًا في الواقع ضرورةً، وحينئذٍ فيلزمُ وقوعُ ما هو الواقع على التقدير في الواقع، والتقدير عدمُ الوقوع، هذا خلفٌ.

وإنما لزمَ الجمعُ بين النقيضين لأنّا فرضنا العدمَ الأول دون الثاني، فنقيضُه حقٌّ، وهو تلازم العدمين، وهو المدَّعَى. وهذا يستأصل كلامَهم.

وأيضًا فإن المعترض قد ادعى أحد الأمرين وهما متلازمان، فدعواه في الحقيقة واحدةٌ تنقض هذا البرهان، فلو فرضنا أن المستدلّ إنما عارضه في أحدهما فقد لزم معارضتُه في الأمرين. نعم لو أثبتَ المستدلُّ أحدَ الأمرين بدليلٍ صحيح لم يحتَجْ إلى هذا التكلُّف، وكفاه أن يذكر دليلًا صحيحًا على عدم الوجوب على الفقير على ذلك التقدير، وحينئذٍ قد يقع الترجيح بينه وبين دليل المستدلّ.

وأما المصنّف فإنه قال في الجواب: "نحن لا ندَّعي الوجوبَ ثَمَّ على التعيين، بل ندَّعي أحد الأمرين، وهو إما الملازمة بين الوجوبين: وجوبها على المدين والفقير، أو الوجوب على الفقير عينًا".

قال: "وبهذا يندفع [ق 33] ما ذكرتم، فإنه لا يمكن أن يقال: لا وجودَ للملازمة ولا للوجوب على [المدين والفقير] في نفس الأمر، كما لا يمكن [أن يقال]: لا وجود

(1)

للوجوب على الفقير".

قلت: اعلم أن هؤلاء لمّا جوزوا للمعترض أن يمنع الثبوت على ذلك

(1)

من قوله: "للملازمة

" إلى هنا لحق في هامش النسخة، ذهبت بعض كلماته بسبب قطع المجلِّد أطراف المخطوط، والإكمال بما بين المعكوفات مقترح.

ص: 64

التقدير لمجرّدِ انتفائه في نفس الأمر، وجوَّزوا له أن يدَّعيَ أحدَ الأمرين المتلازمين، ولم يقبلوا في الجواب نفيَ أحدهما= احتاجوا إلى التحيُّلِ للخلاص من عُهدةِ السؤال، فغيَّروا الدعوى المذكورة في صدر التلازم، وقالوا: نحن ندَّعي أحد الأمرين اللذين أحدهما منتفٍ في نفس الأمر، حتى لا يتمكن السائل من دعوى انتفائهما جميعًا في نفس الأمر، كما ادَّعى السائل أحد الأمرين، وظنّوا أنهم بإبهام المدَّعَى ينفصلون عن السؤال الوارد، ولهم في ذلك عدة عبارات:

أحدها: أنا ندَّعي أحد الأمرين، إمّا الوجوب على الفقير عينًا، وإما الملازمة بين الوجوبين كما ذكر المصنف.

والثاني: ندَّعي أحد الأمرين إمّا غلبة المشترك بين الوجوبين أو غلبة المشترك بين الصورتين للوجوب على الفقير على تقدير الوجوب على المدين أو الوجوب على الفقير.

والثالث: ندّعي استلزام المشترك بين الصورتين للوجوب أو الوجوب على الفقير.

والرابع: ندَّعي قيامَ المقتضي للوجوب على الفقير السالم عن المعارض على ذلك التقدير، أو الوجوب على الفقير.

والخامس: ندَّعي اقتضاء الوجوبِ على المدين الوجوبَ على الفقير، أو الوجوب على الفقير.

السادس: ندَّعي عدمَ الفرق بين الصورتين، أو الوجوب على الفقير.

السابع: ندَّعي استلزامَ عدم الوجوب على الفقير عدمَ الوجوب على

ص: 65

المدين، أو الوجوب على الفقير.

إلى غير ذلك من العبارات التي مقصودها واحد. قالوا: وبهذا يندفع ما أورده السائل، فإنه لا يمكنه نَفي كلِّ واحدٍ من الأمرين في نفس

(1)

الأمر، كما أمكنه نفي الوجوب على الفقير عينًا، فإن أحد الأمرين هنا ممكن لانتفاء

(2)

الخلاف فيه، وهو الملازمة بين الصورتين أو غلبة المشترك، بخلاف الوجوب على الفقير عينًا، فلا يمكن السائلَ أن يقول: لا يتحقق أحد الأمرين لأجل تحقق أحد الأمرين اللذين ذكرناهما، فإنه إما أن يستدل بالأمر الأول، وهو وقوع ما هو الواقع على التقدير في الواقع، فيحتاج أن يقول: لا يتحقق أحدهما على ذلك التقدير أصلًا، إذ لو تحقق أحدهما على التقدير لتحقق في نفس الأمر، ولم يتحقق في الواقع واحدٌ منهما، لا الملازمة ولا الوجوب على الفقير. فيقول له المستدل: لا نسلّم أنه لا تحقُّقَ لأحدهما، فإن الملازمة بين الوجوبين من الأمور الواقعة في نفس الأمر عندنا. وإما أن يستدلَّ بالأمر الثاني، وهو وقوع ما هو واقع في الواقع. هذا كلامُهم.

واعلم أن هذا الكلام ليس بسديد لوجوه:

أحدها: أن هذا المدَّعى لا يمكنه إثباتُه، فإن الوجوب [ق 34] على الفقير لا يمكن إثباته، فإنه على خلاف الإجماع، وهو غير واقع، والملازمة إن أثبتها بما يدلُّ على الوجوب على الفقير مطلقًا فهو الأولى، وإن أثبتها بما يدلُّ عليه على هذا التقدير فقط فهو صحيح، لكن ليس الكلام فيه، ولأن ذلك لو صحَّ ادعى أحد الأمرين معينًا وهو الملازمة، ولم يدَّعِ أحدَ الأمرين.

(1)

كلمة غير واضحة في الأصل، ولعلها ما أثبتناه.

(2)

كلمة غير واضحة في الأصل، ولعلها ما أثبتناه.

ص: 66

الثاني: أنه قد ادَّعَى أولًا الوجوب على تقدير الوجوب، وذلك دعوى الملازمة والوجوب عينًا على تقدير الملازمة، ولذلك أثبت الوجوب بأدلته، وإذا كان قد ادَّعى الأمرين لم يصحَّ قولُه بعد ذلك يدعي أحد الأمرين.

الثالث: أن يقال له: قد ادعيتَ أولًا أنه لو وجبت على المدين لوجبت على الفقير، فلا يخلو بعد ذلك: إما أن تدَّعي أنها وجبت على المدين فتجب على الفقير، أو لم تجب على الفقير فلا تجب على المدين، فإن ادعيتَ الأول فهو رأس المسلم، ثم اللازم خلاف الإجماع، وإذا انتفى اللازم بالإجماع لم يصح إثباتُه بالملازمة، بل يكون انتفاؤه دليلًا إما على بطلان الملازمة أو على انتفاء الملزوم، فيبطلُ الاستدلال. وإما أن تدَّعي أنها لم تجب على الفقير فلا تجب على المدين، فإذا ادعيتَ هذا فقد ادعيتَ سببين لا يتم دليلك إلا بهما: الملازمة وانتفاء الوجوب على الفقير، فإذا قلتَ بعد هذا: ندَّعي أحد الأمرين إما الملازمة أو الوجوب على الفقير على التعيين، قيل لك: قد ادعيتَ أحدَ الأمرينِ أحدُهما إحدى المقدمتين والآخرُ نقيض المقدمة الأخرى، فإن كان الثابت نقيض المقدمة بطلَ الدليلُ، وإن كان الثابت هو المقدمة الأخرى فقد ادعيتَ مقدمةً واحدةً، وتلك لا تفيد إلا بانضمام الأخرى إليها، فكيف إذا ادعيتَ مفردةً عن الثانية؟ ثم هذه المقدمة وهي الملازمة لابدَّ أن يُدَّعَى عينًا مع نقيض الأمر الذي وقع التردد بينها وبينه، فإذا كنتَ مضطرًّا إلى دعوى أحدهما على التعيين مع نقيض الآخر، فكيف تدعي أحد الأمرين: إما هذه المقدمة وإما نقيض الثانية؟

الرابع: أن هذه الدعوى مُعارَضةٌ بمثلها، فيقال: نحن لا ندعي الوجوب على المدين عينًا، بل ندعي أحد الأمرين، وهو إما الوجوب عليه عينًا، أو

ص: 67

الملازمة بين الوجوب عليه وعدم الوجوب على الفقير، أو نفي الوجوب على الفقير عينًا، ولا يمكن أن يقال: لا وجود لأحد هذين في نفس الأمر، وإذا عورضت هذه المعارضة بمثلها بقيت الأولى سالمة. ودليل ذلك هو الأدلة الدالة على الوجوب التي استدل بها على الوجوب على الفقير من طريق الأولى.

ويقال له أيضًا: هذه الأدلة الدالة على الوجوب على الفقير إما أن تكون دالة أو لا تكون، فإن لم تكن دالةً بطلَ التلازمُ، فبطلَ الدليل، وإن كانت دالةً فهي دالّةٌ على الوجوب على المدين أيضًا.

وهذا سؤالٌ جيد يمكن إيرادُه [ق 35] من الابتداء، وبه ينقطع المستدلُّ إذا استدلَّ بالأدلة العامة، بأن يقال: ما ذكرتَه من الدليل وإن دل على الوجوب على الفقير بتقدير الوجوب على المدين فهو دالٌّ على الوجوب على المدين بتقدير عدم الوجوب على الفقير، لأنه دالٌّ مع جملة الأمور الواقعة، وعدم الوجوب على الفقير من الأمور الواقعة.

أو يقال: هو دالٌّ على الوجوب على المدين على كل تقدير واقع، وتقدير عدم الوجوب على الفقير من التقديراتِ الواقعة.

أو يقال: هو دالٌّ على الوجوب على المدين بتقدير الوجوب على الفقير وبتقدير عدم الوجوب عليه.

أو يقال: هو دالٌّ على الوجوب على المدين بتقدير الوجوب على الفقير، كما هو دالٌّ على الوجوب على الفقير بتقدير الوجوب على المدين أولى، فإنه دالٌّ على الوجوب على المدين والفقير، فإما أن يكون مدلولُه ثابتًا أو متروكًا، فإن كان متروكًا بطلَ الاستدلالُ به على الوجوب عليهما،

ص: 68

فيبطلُ التلازم، وإن كان مدلولُه ثابتًا لَزِمَ الوجوبُ عليهما، وهو خلاف الإجماع. أما ثبوتُ دلالته على الوجوب على تقدير الوجوب على المدين وانتفاءُ دلالتِه على تقدير عدم الوجوب عليه فهو ترجمة المذهب ونفس الدعوى، فلا بدَّ من دليلٍ يدلُّ عليه سوى هذا الدليل المشترك الدلالة، فإن هذا الدليل يدلُّ على الثبوت مطلقًا، أو لا يكون دليلًا فيلزمُ الانتفاء مطلقًا. فأما كونُه دليلًا على تقديرٍ دون تقديرٍ فليس في نفس الدليل ما يقتضي ذلك، فدعواه تحتاج إلى دليلٍ ثانٍ، وهو الدليل الصحيح على الملازمة دون الأدلة العامّة.

الخامس: أن يقال: هب أنك تدعي أحدَ الأمرين، لكن لا نُسلّم أحدَ الأمرين، ولم تذكر دليلًا يدلُّ على أحد الأمرين، وإنما ذكرتَ دليلًا يدلُّ على الوجوب عينًا فقط. وهذه المعارضة التي ذكرناها تنفي موجب هذا الدليل، ولا يجوز أن تدَّعي أحد أمرين أحدهما أقمتَ الدليلَ على ثبوته والآخر لم تُقِم دليلًا على ثبوته، بل لابدَّ أن تذكر دليلًا يدلُّ على ثبوت أحدهما، ولم تتعرض لذلك، وهذا يكشِف سِتْرَ هذا التزوير.

السادس: أن يقال: لا وجودَ لأحدهما في الواقع، أما الوجوب عينًا فبالإجماع، وأما الملازمة فلأنها لو كانت ثابتةً لَزِمَ نفيُ الوجوب على المدين، لكن الوجوب على المدين ثابتٌ بعين الأدلة التي دلَّت على الوجوب على الفقير، وإذا كان الوجوب على المدين ثابتًا فلو لزمَ منه الوجوبُ على الفقير لَزِمَ أن يكون الوجوب على الفقير ثابتًا، وهو خلاف الإجماع. وإنما لزمَ هذا من الملازمة المدَّعاةِ فيكون باطلًا، وليس هذا بغَصْبٍ لوجهين:

ص: 69

أحدهما: أنه استدلالٌ على نقيض الدعوى بعد فراغ المستدلّ من دليله.

الثاني: أن هذه مشاركة في الدليل ببيان أن الدليل الذي استدللتَ به على إحدى مقدمتَي [ق 36] دليلك هو بعينه دليلٌ على نقيض الدعوى، وإذا كان الدليل يلزمُ من صحتِه النقيضان عُلِمَ أنه باطل.

السابع: أن يقال: أن يُدعى أحد أمرين إمّا عدمُ الملازمة أو الوجوب على المدين، وأيُّهما كان حَصَلَ الغرضُ، وبيان لزوم أحد الأمرين أنه إن لم يكن في الأدلة ما يدُلُّ على الوجوب على الفقير فقد لزمَ عدمُ الوجوب عليه ضرورةَ انتفاء الوجوب لانتفاء الأدلة الشرعية على الوجوب، وحينئذٍ يبطل الدليل المذكور على الملازمة، فتبطل الملازمة. وإن كان فيها ما يدلّ على الوجوب عليه فهو يدلّ على الوجوب على المدين بطريق الأولى، والعلم به ضروري، وحينئذٍ فيثبتُ الوجوبُ على المدين، وهو نقيض المدَّعى.

الثامن: أن هذه الدعوى إما أن تُغايِرَ الأولى أو لا تُغاير الأولى، فإن كانت هي الأولى في المعنى فلا تَغايُرَ، وإن كانت مغايرةً لها فإما أن تدَّعي الأولى مع الثانية أو لا تدَّعيها، فإن ادعيتَ الأولى أيضًا فالمحذور قائم، وإن كنت إنما تدعي الثانية دون الأولى فقد رجعتَ عن المدَّعى أولًا، وذلك انقطاع.

التاسع: أنك إذا ادَّعيتَ أحدَ الأمرين ــ إما الوجوب على الفقير [على] ذلك التقدير أو الملازمة ــ فقد ادعيتَ أحد أمرين متلازمين، لأن الوجوب على الفقير على ذلك التقدير يقتضي الملازمة، والملازمة تقتضي الوجوب على الفقير على ذلك التقدير، ودعوى الملزوم دعوى اللازم، فيكون المدَّعى كلَّ واحد من الأمرين لا أحدَ الأمرين، وهو يُبطِل الجواب.

ص: 70

العاشر: أن الخصم إما أن يتمكن من نفي أحد الأمرين أو لا يتمكن، فإن لم يتمكن فلا حاجةَ إلى تعيين الدعوى وإبهامها؛ وإن تمكَّن من نفي أحدهما، فإن نفي اللازم نفي الملزوم، وذلك يوجب تمكُّنَه من نفيهما، فتعود الحالُ الأولى جذعةً.

الحادي عشر: أنّا لا نُسلِّم أن هذه الدعوى تُغايرُ الأولى، بمعنى أن هذه الدعوى إما أن تكون هي الأولى أو تستلزم الأولى.

فإن قيل: الدليلُ على المغايرة أن الوجوب على الفقير من لوازم الملازمة بين الصورتين على ذلك التقدير، واللازم يغاير الملزوم، فإنه يمكن أن يُوجَد اللازم بدون الملزوم من حيث هو لازم. وكذلك يقال على التقدير الثاني: الوجوبُ على الفقير على ذلك التقدير من لوازم استلزام الوجوبِ على المدين الوجوبَ على الفقير، وهذا الاستلزام لا يستلزم وقوعَ اللازم دون الملزوم، فاللازم وهو الوجوب غير ما هو اللازم.

قيل له: الوجوب على الفقير على ذلك التقدير معناه تحقق الوجوب عليه عند تحقق الوجوب على المدين، وهذا بعينه هو الملازمة، وكونه من لوازم الملازمة لا يُفِرّه من تحقق اللازم عند تحقق الملزوم ومن لوازم الملازمة، وأيضًا فلو ساوتْها في [ق 37] دعوى الملازمة، ودعوى استلزام هذا ذاك يستلزم دعوى الوجوب على الفقير على التقدير، ودعوى الملزوم دعوى اللازم معه، وليس ذلك بمغايرة في الحقيقة.

وأيضًا فلا نسلِّم أن الوجوب على الفقير على التقدير من لوازم الملازمة والملزومية، بل هو تفسير الملازمة والملزومية عند التأمل. والله أعلم.

ص: 71

قال المصنف

(1)

: (ولئن قال: لا وجودَ لأحدهما أصلًا على ما ذكرتم من التقدير، إذ لو تحققَ أحدُهما تحققَ

(2)

الوجوب على الفقير لا مَحالةَ، ولا يتحقق [هذا]

(3)

على ذلك التقدير لما قررنا. فنقول: يتحقق أحدُهما لما مرَّ آنفًا).

هذه دعوى محضة بمثلها قَصْدُ المعترض منها نفيُ هذين الأمرين اللذين ادعى المستدلّ أحدهما بما ينفي أحدَهما، وهو الوجوب على الفقير. وهو في الأصل كلام صحيح، فإن المستدل يقول: لا وجودَ للوجوب على الفقير ولا للملازمة، لأن أحدهما إذا وُجِد فلا بدَّ أن يوجَد الوجوبُ على الفقيرِ بتقدير الوجوب على المدين، لأنه إن وُجِد الوجوبُ على الفقير فظاهرٌ، وإن وُجِدت الملازمةُ وُجِد الوجوبُ على الفقير على ذلك التقدير، لتحقق الملزوم، وهو الوجوب على المدين إذ التقدير ذلك، لكن لا يجب على الفقير على هذا التقدير، لما تقدم من الأمرين، فلا يكون أحدهما موجودًا.

فقال له المستدل: يتحقق أحدهما لما مرَّ آنفًا من دعوى أحد الأمرين إما الملازمة أو الوجوب على الفقير، وما ذكرتُه من الأمرين لا يدلُّ على نفيهما، بل يدلُّ على نفي أحدهما مبهمًا، لأن الوجوب على الفقير من لوازم أحدهما، فإذا انتفَى انتفى أحدهما، ولا يلزم من انتفاء أحدهما انتفاء كلّ واحدٍ منهما في الأول والثاني.

(1)

"الفصول"(ق 3 أ).

(2)

في "الفصول": "لتحقق".

(3)

زيادة من "الفصول".

ص: 72

وقد أجاب المعترض عن هذا بأن قال: أعني بأحدهما ما يناقض شمولَ العدمِ لهما

(1)

، بحيث إذا تحققَ أحدُهما تحقّقَ انتفاءُ عدمِ كلٍّ منهما، فيكون الوجوب على الفقير من لوازم النقيض لشمول العدم، وهو منتفٍ لانتفاءِ لازمه، فيكون شمولُ العدم لهما، فيلزم انتفاءهما.

فقال المستدل: بل يتحقق أحدهما، لما تقدم من الأدلة الدالة على الوجوب ابتداءً من النصّ والقياس وغيرهما من الدلائل، فإن الدالَّ على المعيَّن دالٌّ على أحدهما بالضرورة.

فإن قال المعترض: لا أسلِّم أن هذا الدليل يُغايرُ الأول.

قيل له: يَعني به دليلًا يدلُّ على الوجوب غير الأول، وعلى هذا فكلما ذكر المعترض ما ينفيهما ذكر المستدل ما يُثبِت أحدهما [معارضةً] من بعد أخرى، حتى يعجز السائل عن المعارضة، فيتحقق أحدهما ويلزم منه الوجوب على الفقير على ذلك التقدير، وهو المطلوب لما ذكره من الدليل السالم عن المعارضات، فإن المعارضات [ق 38] قد عورضت بمثلها، وبقي الأول سليمًا عن المعارضة.

وللسائل الكلام الأول الذي قد تقدم، ويجيب عن كلام المستدل بما ذكر، ولا يزالانِ في معارضة دعوى بدعوى. ويُمكن السائلَ أن يقول هنا: لا وجودَ لأحدهما أصلًا، أما الوجوب على الفقير فبالإجماع وبالنصوص المانعة من الوجوب عليه، وأما الملازمة فإن الدليل الدالَّ على الوجوب على الفقير بتقدير الوجوب على المدين لم يخصّ الوجوب بهذا التقدير، بل

(1)

في الأصل: "لها".

ص: 73

هو مطلق عام، وحينئذٍ فلا يخلو إمّا أن يكون دالًّا أو غيرَ دالٍّ، فإن كان غيرَ دالٍّ بَطلتِ الملازمة، وإن كان دالًّا لزِمَ الوجوبُ على الفقير والمدين جميعًا، وهو خلافُ الإجماع وخلافُ المدَّعَى، لأن المدَّعَى نفي الوجوب عليهما جميعًا، وقد مرَّ التنبيهُ على هذا.

فإن قال: هو دالٌّ على ذلك التقدير، وليس بِدَالٍّ على عدمِه.

قيل له: إما أن يكون هذا التفصيل معلومًا من هذا التفصيل أو من غيرِه، ولا يجوز أن يكون معلومًا من غيرِه، فذاك دليل يدلُّ بخصوصِه على الملازمة، وهذا إذا صح فلا شك في ثبوت كلام المستدل، فأختم به كلامه.

فإن قيل: فَمَن الذي صحَّ كلامه؟ المستدلّ أو المعترض؟

قلنا: إن كان المستدلُّ أثبتَ الملازمةَ بدليلٍ يَدُلُّ على خصوصِ التلازم، بأن أثبتَ أنه بتقدير الوجوب على المدين يزول المانع عن الوجوب على الفقير، ولم يَعترض عليه السائلُ إلّا بما يمنع الوجوب على الفقير في نفس الأمر= كلام المستدلِّ صحيح وكلامُ المعترض باطلٌ.

وإن كان المعترضُ قَدَحَ فيما يدَّعيه المستدلُّ من قيامِ مقتضٍ أو وجودِ معارضٍ بما يوجب قيامَ النافي على ذلك التقدير= فحينئذٍ يتعارضُ كلامهما، ويَبقى الرجحان لمن قَوِيَ دليلُه بحسب موادِّ المسائل والأدلة الدالة على صحةِ التلازم وفسادِه، ولكل مسألةٍ نظرٌ خاص، فمحالٌ أن يُحكم في جميع المسائل برجحان أحد الطرفين للمحتج بالملازمة أو للمانع منها.

وإن كان المستدلُّ إنما أثبت الملازمة بما يدلُّ على ثبوت اللازم في الجملة من الأدلة العامة التي لا يختصُّ ثبوتُه على تقدم ثبوت الملزوم=

ص: 74

فكلامُه باطلٌ، وكلامُ المعترض هو الحق، لأنه احتجَّ بالباطل واستدلّ بدليلٍ علم أنه باطل، وخصَّه [و] ليس في تلك الأدلة ما يخصُّ ذلك التقدير، ولا في ثبوت ذلك التقدير ما يقتضي ثبوتَ مدلولِ تلك الأدلة. وهو نظير قول مَن يقول: لو وجبت على الغني لوجبتْ على الفقير بالأدلة الموجبة، أو يقول: لو وجبت الصلاة لوجبت الزكاة على الفقير بالأدلة الموجبة، أو: لو كانت السماء موجودةً والشمسُ طالعةً والماءُ مائعًا والترابُ حارًّا وجبت الزكاة على الفقير بالأدلة الوجبة، ويذكر من [ق 39] الأدلة ما يقتضي الوجوب، من غير تعرضٍ لذلك التقدير، ثم يدَّعي أن اللازم منتفٍ، فينتفي الملزوم، ولقد صدقَ في قوله: إن اللازم منتفٍ، لكن لم ينتف

(1)

بما ينفي ذلك التقديرَ، بل انتفى بما يُوجِب انتفاءَه، سواءٌ فُرِضَ وجودُ ذلك التقدير أو عدمُه، فلا يلزم من انتفائه انتفاءُ ما ليس وجودُه متعلقًا بوجودِه، ولا عدمُه متعلقًا بعدمِه.

وسلوكُ مثل هذه الملازمة فاسدٌ في الأصل من وجهين:

أحدهما: أنه ادّعَى الملازمةَ ولم يُقِم عليه دليلًا.

الثاني: أنه ذكر أن الدليل يدلُّ على ثبوت اللازم على ذلك التقدير، واللازم في هذه الملازمات مثل المثال المذكور لا بدَّ أن يكون منتفيًا في نفس الأمر، كالوجوب على الفقير، وحينئذٍ فلا يكون عليه دليلٌ يدلُّ على الوجوب وعلى ثبوت اللازم، وإذا ذكر عمومًا أو قياسًا مطلقًا أو غير ذلك من الأدلة، فقد عُلِمَ قطعًا أنه غيرُ دالٍّ على ثبوت اللازم، وأنه متروكٌ في تلك الصورة، أو هو غير دليل.

(1)

في الأصل: "لم ينتفي". وله وجه.

ص: 75

وهذا الوجه الثاني يفارقُه فيه من أمكنَه إثباتُ اللازم، بأن يكون ثابتًا في نفس الأمر لكن ليس في ثبوته ما يدلُّ على التلازم، وقد يكون منتفيًا على تقدير محال فرض ذلك التقدير، ليستدلّ على عدمِه بعدمِ اللازم، كقوله:{لَوْ كَانَ فِيهِمَا آلِهَةٌ إِلَّا اللَّهُ لَفَسَدَتَا} [الأنبياء: 22] ونحو ذلك من التلازم الصحيح، فلو كان يبطل "لو كان فيهما آلهة إلا الله لصلحتا" بالمقتضي لصلاحَيْهما، فإنهما صالحتان، لعلم أن هذا الكلام باطلٌ، لأن المقتضي لصلاحَيْهما يفوت عند فرض آلهةٍ أخرى، أو يوجد هناك ما يمنع الصلاح.

وهذا نظير قول مَن يحتج على وجود لازمٍ على تقدير يدَّعيه بشيء يذكره، وقد عُلِمَ أن ذلك اللازم منتفٍ، وإنما يذكره لاختصاصٍ له بذلك التقدير، فإن هذا اللازم قد عُلِمَ بطلانُه، فكيف يجوز أن يقوم دليلٌ عامٌّ على صحته واللازمُ في الأصل فائتٌ، وعليه دليل يُبطِلُ دلالتَه عند ذلك التلازم؟ فقد اشتركا في أن كلًّا منهما احتجَّ على ثبوت التلازم بدليلٍ عام لا يَدُلُّ على التلازم، والله سبحانه أعلم.

ص: 76