الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
(فصلٌ في الأثر)
(1)
اعلم ــ أصلحك الله ــ أن الأثر في اصطلاح فقهاء الخراسانيين يُعنى به قولُ الصحابة، ويسمون قولَ النبيِّ صلى الله عليه وسلم خبرًا
(2)
، وأما اصطلاح سائر الفقهاء وعامة المحدِّثين فإن الأثرَ عندهم كلُّ ما أُثِر عن النبي صلى الله عليه وسلم وعن أصحابه، وربما أدخلوا فيه ما أُثِر عن التابعين وغيرهم من السَّلَف
(3)
، واللغةُ تساعد هذا الاصطلاح، كقول عمر رضي الله عنه:«ما حلفتُ بها ذاكرًا ولا آثرًا»
(4)
، أي: ذاكرًا عن نفسي، ولا آثرًا عن غيري، ومنه قولُه تعالى:{ائْتُونِي بِكِتَابٍ مِنْ قَبْلِ هَذَا أَوْ أَثَارَةٍ مِنْ} [الأحقاف: 4]، قالوا: هو الرواية والاستناد والكتابة عمَّن مضى ممن يُقْبَل قولُه
(5)
، وهم الأنبياء عليهم السلام، ويقولون: فلانٌ يأثر هذا الحديث، أي: يرويه ويسنده إلى غيره، والمقصودُ هنا قول الصحابة.
وجملةُ ذلك
(6)
؛ أن الصحابيَّ إذا قال قولًا فإما أن يخالفه صحابيٌّ أو لا يخالفه، فإن خالفَه صحابيٌّ آخر لم يكن قولُ أحدِهما بمجرَّدِه حجةً، بل يجب الرجوعُ إلى دلالات الكتابِ والسُّنة، إلَّا على قولِ بعضهم من ترجيح
(1)
«الفصول» : (ق/10). وانظر: «شرح المؤلف» : (ق/100 أ- 100 ب)، و «شرح السمرقندي»:(78 أ- 78 ب)، و «شرح الخوارزمي»:(ق/92 أ- 92 ب).
(2)
انظر: «علوم الحديث» : (ص 46) لابن الصلاح.
(3)
انظر: «فتح المغيث» : (1/ 123 - 125).
(4)
أخرجه البخاري رقم (6647)، ومسلم رقم (1646).
(5)
انظر «الدر المنثور» : (6/ 4) فقد ذكر نحوه عن جماعاتٍ من السلف.
(6)
هذا البحث نقله الإمام ابن القيم في «إعلام الموقعين» : (05/ 546 - 581، 6/ 5 - 40) مفرَّقًا دون عزو. وقد أشرنا إلى ذلك في أماكنه، واستفدنا منه في تقويم النص.
قول الخلفاء أو الشيخين، وليس هذا موضعَ استقصاءِ ذلك.
وإن لم يخالفه صحابيٌّ آخر، فإن اشتهر قوله في الصحابة، ولم يخالفوه، فالذي عليه جماهير الطوائف من الفقهاء أنه يكون إجماعًا، ومنهم من قال: لا يكون إجماعًا، بل يكون حجةً، وقال طوائف من المتكلمين وبعض الفقهاء: لا يكون حجةً ولا إجماعًا، وليس هذا موضعَ الكلام في ذلك؛ لأنه ليس هو مقصود الفصل.
وإن لم يشتهر قولُه أو لم يُعْلَم أنه اشتهر؛ فهنا اختلف الناسُ، فالظاهر من مذاهب فقهاء السلف أنه حجة، وذلك ظاهر في فتاويهم وأحكامهم، وهو قول جماهير الأئمة المتبوعين؛ قولُ أكثر الحنفية، مثل محمد بن الحسن وغيره، ويُروى عن أبي حنيفة نفسه، وهو مذهب مالك وأصحابِه، وإسحاق بن راهويه، وأبي عُبيد، وخلائقَ من السلف، وهو المشهور عن أحمد بن حنبل وأصحابه، وهو أَحَدُ قولي الشافعي، ويقال: إنه القول القديم، وفي ذلك نظر؛ لأن في كتابه الجديد ما يدلُّ على أنه احتج به، لكن أكثر ما يحتج في الجديد بأقوال الصحابة يعضده بضروبٍ من الأَقْيسة
(1)
.
وقد روى الربيعُ عنه أنه قال: «المُحْدَثات من الأمور ضربان:
أحدهما: ما أُحْدِث يخالف كتابًا أو سُنة أو إجماعًا أو أثرًا، فهذه البدعة
(1)
انظر لمسألة قول الصحابي والأقوال فيها: «العدة» : (4/ 1178 - 1197)، و «قواطع الأدلة»:(3/ 271 - 295)، و «المسوَّدَة» (ص 335 - 337)، و «إعلام الموقعين»:(5/ 546 - 581 و 6/ 5 - 40)، وأفردها العلائي ببحث مستقل سماه «إجمال الإصابة في أقوال الصحابة» .
الضلالة»
(1)
. والربيعُ إنما أخذَ عنه بمصر [ق 292] وقد جعل مخالفةَ الأثر الذي ليس بإجماع ضلالة.
قال بعضُ علماء المالكية: أهلُ الأعصار مجمعون على الاحتجاج بما هذا سبيلُه، وذلك مشهور في رواياتهم وكتبهم واستدلالاتهم على أحكام الحوادث.
وذهب بعضُ الحنفيَّة وبعضُ الحنبليَّة وطوائفُ من الشافعية إلى أنه ليس بحجة، وهو أحد القولَين عن الشافعي وأحمد، وهو قول كثيرٍ من المتكلِّمين أو أكثرهم؛ لأن الصحابيَّ مجتهد من المجتهدين يجوز عليه الخطأ، فلا يجب تقليده، ولا يكون قولُه حجة كسائر المجتهدين؛ ولأن الأدلَّة الدالَّة على إبطال التقليد تعمُّ تقليدَ الصحابة ومن دونهم؛ ولأن التابعيَّ إذا أدرك عصر الصحابة اعْتُدَّ بخلافه عند أكثر الناس، فكيف يكون قول الواحد منهم حجةً عليه؛ ولأنَّ الأدلة قد انحصرت في الكتاب والسنة والإجماع والقياس والاستصحاب، وقولُه ليس واحدًا منها؛ ولأن امتيازَه بكونه أفضل أو أعلم أو أتقى ونحو ذلك، لا يوجِبُ وجوبَ اتباعه على مجتهدٍ آخر، كعلماء التابعين بالنسبة إلى من بعدهم.
واختلفوا ــ أيضًا ــ فيما إذا قال قولًا لا
(2)
يخالفُ القياسَ هل يُحمل على أنه قاله توقيفًا، وذهب أكثرُ الشافعية وطوائفُ من الحنبلية إلى أنه لا يجب اعتقادُ كونه قاله توقيفًا، والغرضُ الآن بيان قوله المجرَّد، هل هو حُجة أم لا؟
(1)
أخرجه البيهقي في «المدخل إلى السنن» (ص 206).
(2)
كذا، والظاهر أن «لا» مقحمة، والسياق يدلّ أن المقصود إذا قال قولًا يخالف القياس، وانظر (ص 556).
والدليلُ على وجوب اتِّباعه وجوه:
أحدها
(1)
: ما احتجَّ به مالك، وهو قوله تعالى:{وَالسَّابِقُونَ الْأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسَانٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي تَحْتَهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ} [التوبة: 100].
فوجه الليل: أنَّ الله أثنى على من اتبعهم، فإذا قالوا قولًا فاتَّبعهم عليه مُتَّبِعٌ قَبْل أن يعرف صحَّته فهو متَّبعٌ لهم، فيجب أن يكون محمودًا على ذلك وأن يستحق الرضوان، ولو كان اتباعهم تقليدًا محضًا كتقليد بعض المفتين، لم يستحق من اتَّبَعهم الرضوان إلا أن يكون عامِّيًّا، فأما العلماء المجتهدون فلا يجوز لهم اتباعهم.
فإن قيل: اتِّباعهم هو أن يقول ما قالوا بالدليل، وهو سلوكُ سبيل الاجتهاد؛ لأنهم إنما قالوا بالاجتهاد. والدليل عليه قولُه:{بِإِحْسَانٍ} ، ومن قلَّدهم لم يتَّبِعْهم بإحسان؛ لأنَّه لو كان مطلق الاتباع محمودًا، لم [ق 293] يُفرق بين الاتباع بإحسان أو بإساءة.
وأيضًا: فيجوز أن يُرَاد به اتباعهم في أصل الدين، وقوله:{بِإِحْسَانٍ} أي: بالتزام الفرائض واجتناب المحارم، ويكون المقصود أن السابقين قد وَجَب لهم الرضوان وإن أساءوا؛ لقوله:«وما يُدريْكَ أنَّ الله قد اطَّلَع على أهل بدرٍ فقال: اعمَلوا ما شِئتُم فقد غَفَرتُ لكم»
(2)
.
(1)
قارن بـ «إعلام الموقعين» : (5/ 556). وسيأتي الوجه الثاني (ص 541).
(2)
أخرجه البخاري رقم (3007)، ومسلم رقم (2494) من حديث علي رضي الله عنه.
والثناءُ على من اتَّبَعَهم لا يقتضي وجوبَه، إنما يدلُّ على جواز تقليدهم، وذلك دليلٌ على جواز تقليد العالم، كما هو مذهبُ طوائف من الحنفية والمالكية، أو تقليد الأعلم
(1)
. أما الدليل على وجوبِ اتِّباعِهم فليس في الآية ما يقتضيه.
قلنا: الاتِّباع لا يستلزمُ الاجتهاد، لوجوه:
أحدها: أن الاتباع في القرآن مثل قوله: {فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ} [آل عمران: 31]، وقوله:{وَاتَّبِعُوهُ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ} [الأعراف: 158]، وقوله:{وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ} [النساء: 115]، ونحو ذلك= لا يتوقَّف [على]
(2)
الاستدلال على صحة القول مع الاستغناء عن القائل.
الثاني: أنه لو كان المراد اتِّباعهم في الاستدلال والاجتهاد، لم يكن فرقٌ بين السابقين وبين جميع الخلائق؛ لأن اتِّباع موجبِ الدليل يجبُ أن يُتَّبعَ فيه كلُّ أحد، حتى الكافر لو قال قولًا بدليل صحيح وجبَ موافقته فيه.
الثالث: أنه إما تجوز مخالفتهم في قولهم بعد الاستدلال، أو لا تجوز، فإن لم تجُز فهو المطلوب، وإن جازت
(3)
مخالفتهم، فقد خُولِفوا في خصوص الحكم، واتُّبِعُوا في جنس الاستدلال، فليسَ جَعْل من فَعَل ذلك مُتَّبعًا لموافقتهم في الاستدلال بأولى من جعْلِه مخالفًا لمخالفته في عَيْن الحكم.
(1)
علق ابن القيم هنا: «كقول طائفةٍ أخرى» ، انظر «الإعلام»:(5/ 558).
(2)
من «الإعلام» . وبه تصح العبارة لأن «لا يتوقف» خبر «أن الاتباع» .
(3)
الأصل: «صارت» ! والتصويب من «الإعلام» ، ويدل عليه السياق.
الرابع: أن من خالفهم في الحكم الذي أَفْتَوا به، لا يكون متبعًا لهم أصلًا، بدليل أنَّ من خالف مجتهدًا من المجتهدين في مسألة بعد اجتهاده لا يصحُّ أن يقال: اتبعتُه
(1)
، وإن قيل فلا بدَّ من تقييده بأن يُقال: اتبعتُه في الاستدلال والاجتهاد.
الخامس: أن الاتِّباع افتعالٌ من التَّبَع
(2)
، وكون الإنسان تابعًا لغيره نوعُ افتقارٍ إليه و
(3)
مَشْيٍ خَلْفَه. وكلُّ واحدٍ من المجتهدين المستدلِّين ليس تبعًا للآخر، ولا مفتقرًا إليه بمجرَّد ذلك، حتى يستَشْعِر موافقتَه والانقيادَ له، ولهذا لا يصح أن يُقال لمن وافقَ رجلًا في اجتهاده أو تبع
(4)
فتواه اتفاقًا: إنه مُتَّبِع له.
السادس: أن الآية قصد بها مدح السابقين والثناء عليهم، وبيان استحقاقهم أن يكونوا أئمة متبوعين، وبتقدير أن لا يكون قولهم [ق 294] موجبًا للموافقة، ولا مانعًا من المخالفة ــ بل إنما يتبع القياس مثلًا ــ لا يكون لهم هذا المنصب، ولا يستحقون هذا المدح والثناء.
السابع: أن من خالفهم في خصوص حكمٍ، فلم يتَّبعهم في ذلك الحكم ولا فيما استدلُّوا به على ذلك الحكم، فلا يكون متبعًا لهم لمشاركتهم في صفة عامة، وهي مُطْلق الاستدلال والاجتهاد، لاسيَّما وتلك الصِّفة العامة لا اختصاص لها به، لأن ما ينفي الاتباع أخص مما يثبته، وإذا وُجِد الفارقُ الأخصُّ والجامعُ الأعمُّ ــ وكلاهما مؤثِّر ــ كان التفريق رعايةً للفارق أولى
(1)
«الإعلام» : «اتبعه» وكذا ما بعدها.
(2)
«الإعلام» : «اتبع» .
(3)
تحتمل: «أو» .
(4)
غير واضحة، ولعلها ما أثبت أو بمعناه.
من الجمع رعايةً للجامع.
وأما قوله: {بِإِحْسَانٍ} فليس المراد به أن يجتهد، وافق أو خالف؛ لأنه إذا خالف لم يتَّبِعْهم فضلًا عن أن يكون بإحسان؛ ولأن مطلق الاجتهاد ليس فيه اتباع لهم، لكن الاتباع لهم اسم يدْخُل فيه كلُّ من وافقهم في الاعتقاد والقول، فلا بدَّ مع ذلك أن يكون المتَّبع محسنًا بأداء الفرائض واجتناب المحارم، لئلَّا يقعَ الاغترارُ بمجرَّد الموافقة قولًا.
وأيضًا: فلا بدَّ من أن يحسن المتبع لهم القولَ فيهم، ولا يقدح فيهم، اشترطَ الله ذلك لعلمه بأن سيكون أقوام ينالون منهم، وهذا مثل قوله بعد أن ذكر المهاجرين والأنصار:{وَالَّذِينَ جَاءُوا مِنْ بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالْإِيمَانِ وَلَا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلًّا لِلَّذِينَ آمَنُوا} [الحشر: 10].
وأما تخصيصُ اتِّباعهم بأصول الدين؛ فلا يصح لأن
(1)
الاتباع عام، ولأن من اتبعهم في أصول الدين فقط لو كان متبعًا لهم على الإطلاق لكنَّا متَّبعين للمؤمنين من أهل الكتابَين، ولم يفرَّق بين اتباع السابقين من هذه الأمة وغيرها.
وأيضًا: فإنه إذا قيل: «فلانٌ يتبع فلانًا، واتبعَ فلانًا، وأنا مُتَّبعُ فلانٍ» ولم يُقَيِّد ذلك بقرينةِ لفظه ولا حالِه
(2)
، فإنه يقتضي اتباعه في كلِّ الأمور التي يتأتَّى فيها الاتباع؛ لأنَّ من اتبعه في حالٍ وخالفه في حالٍ أُخرى لم يكن
(1)
الأصل: «أن» والإصلاح من «الإعلام» : (5/ 560).
(2)
كذا في الأصل وهو مستقيم، وفي «الإعلام»:«لفظية ولا حاليَّة» .
وصفُه بأنه متَّبع بأولى من وصفه بأنه مخالف؛ ولأنَّ الرضوان حكم معلَّق باتباعهم فيكون الاتباع سببًا له؛ لأنَّ الحكمَ المعلَّق بما هو مُشْتَقٌ يقتضي أنَّ ما منه الاشتقاقُ سبب
(1)
، وإن
(2)
كان اتباعُهُم سببًا للرضوان اقتضى الحكمَ في جميع موارده؛ إذ لا اختصاص للاتباع بحال دون حال؛ ولأنَّ الاتباع يُؤذِن بكون الإنسان تبعًا لغيره وفرعًا عليه، وأُصول الدين ليست كذلك، ولأنَّ الآيَة تضمَّنت الثناءَ عليهم وجَعْلهم أئمة لمن بعدهم، فلو لم يُفد إلا اتِّباعهم في أصول الدين والشرائع لم يكونوا أئمة في ذلك؛ لأنَّ ذلك معلوم مع قطع النظر عن اتباعهم.
وأما قوله
(3)
: الثناء على [ق 295] من اتبعهم كلهم.
فنقول: الآية اقتضت الثناء كلَّه على من اتبع كلَّ واحدٍ واحدٍ منهم، كما أن قوله:{وَالسَّابِقُونَ} ، وقوله:{وَالَّذِينَ} يقتضي حصول الرضوان لكلِّ واحدٍ واحدٍ من السابقين والذين اتبعوهم في قوله: {رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي تَحْتَهَا الْأَنْهَارُ} [التوبة: 100] فكذلك في قوله: {اتَّبَعُوهُمْ} ؛ لأنَّ حُكم الاتباع عُلِّق عليهم في هذه الآية، فقد تناولهم مجموعِيْن ومُنفَرِدِين.
وأيضًا: فإن الأصل في الأحكام المعلَّقة بأسماء عامة ثبوتُها لكلِّ فرد فردٍ من تلك المُسَمَّيات، كقوله:{وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ} [البقرة: 43]، وقوله: {لَقَدْ
(1)
الأصل: «سببًا» !
(2)
كذا بالأصل، و «الإعلام»:«وإذا» ، وهي أحسن.
(3)
أي قول صاحب الاعتراض المتقدم. انظر (ص 532).
رَضِيَ اللَّهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ} [الفتح: 18]، وقوله:{وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ} [التوبة: 119].
وأيضًا: فإن الأحكام المعلَّقة على المجموع يؤتى
(1)
فيها باسم يتناول المجموع دون الأفراد، كقوله:{وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا} [البقرة: 143]، وقوله:{كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ} [آل عمران: 110]، وقوله:{وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ} [النساء: 115] فإن لفظ «الأمة» ولفظ «سبيل المؤمنين» لا يمكن توزيعه على أفراد الأمة وأفراد المؤمنين، بخلاف لفظ «السابقين» ، فإنه يتناول كلَّ فردٍ فردٍ من السابقين.
وأيضًا: فالآية تَعُم اتباعهم مجموعين ومنفردين في كل ممكن
(2)
، فمن اتبع جماعتَهم إذا اجتمعوا أو اتبع آحادهم فيما وجده عنه مما لم يخالفه فيه غيره منهم، فقد صَدَق عليه أنه اتَّبع السابقين. أما من خالف بعضَ السابقين، فلا يصح أن يقال:«اتبع السابقين» لوجود مخالفته لبعضهم، لاسيما إذا خالف هذا مرَّة وهذا مرَّة وهذا مرَّة
(3)
، وبهذا يظهر الجوابُ عن اتباعهم إذا اختلفوا، فإنَّ اتباعهم هناك قبول
(4)
بعض تلك الأقوال باجتهاد واستدلال، إذ هم مجمعون على تسويغ كلِّ واحدٍ من الأقوال لمن
(5)
أدى اجتهاده إليه،
(1)
رسمها في الأصل: «يوقى» !.
(2)
الأصل: «مؤمن» ! والإصلاح من «الإعلام» : (5/ 562).
(3)
كذا في الأصل تكررت ثلاث مرات، وفي «الإعلام» مرتين.
(4)
الأصل: «قول» ! والإصلاح من «الإعلام» .
(5)
الأصل: «بمن» والمثبت من «الإعلام» .
فقد حصل اتباعهم أيضًا.
أما إذا قال الرجل قولًا، ولم يخالفه غيره، فلم يُعْلَم أنَّ السابقين سوَّغوا خلافَ ذلك القول.
وأيضًا: فالآيةُ تقتضي اتباعهم مطلقًا، فلو فرضنا أنَّ الطالب
(1)
عَثَر على نصٍّ يخالف قولَ الواحد منهم، فقد علمنا أنه لو ظفر بذلك النص لم يعدل عنه. أما إذا رأينا رأيًا فقد يجوز أن يخالف ذلك الرأي، والمعترض من هذا الوجه إبقاء الاتِّباع على عمومه.
وأيضًا: فلو لم يكن اتباعهم إلا فيما اجتمعوا عليه كلُّهم، لم يحصل اتِّباعُهم إلا فيما قد عُلِم أنه من دين الإسلام بالاضطرار؛ لأن السابقين الأوَّلين خَلْقٌ عظيم، ولم يُعْلَم أنهم اجتمعوا إلا على ذلك، فيكون هذا الوجه هو الذي قبله، وقد تقدم بطلانه؛ إذ الاتباع في ذلك غير مؤثِّر.
وأيضًا: فجميع السابقين قد مات منهم أُناس في حياة رسول الله صلى الله عليه وسلم، [وحينئذٍ فلا يحتاج في ذلك الوقت إلى اتباعهم للاستغناء عنه بقول رسول الله صلى الله عليه وسلم]
(2)
، ثم لو فرضنا أحدًا يتبعهم إذ ذاك لكان من السابقين، فحاصله: أن التابعين لا يمكنهم [ق 296] اتباع جميع السابقين.
وأيضًا: فإن معرفةَ جميع السابقين كالمتعذِّر، فكيف [يُتَّبع] كلهم في شيءٍ لا يكادُ يُعْلَم؟!
وأيضًا: فإنهم إنما استحقوا منصب الإمامة والاقتداء بكونهم هم
(1)
الأصل: «الطلب» !
(2)
ما بين المعكوفين مستدرك من «الإعلام» : (5/ 563) والسياقُ يقتضيه.
السابقين، وهذه صفة موجودة في كلِّ واحدٍ منهم، فوجبَ أن يكون كلٌّ منهم
(1)
إمامًا للمتقين كما استوجبَ الرضوان والجنة.
وأما قوله
(2)
: ليس فيها ما يوجب اتباعهم.
فنقول: الآيةُ تقتضي الرضوان عمن اتبعهم بإحسان، وقد قام الدليلُ على أن القول في الدين بغير علم حرام، فلا يكون اتباعهم قولًا بغير علم، بل قول بعلم، وهو المقصود، وحينئذٍ فسواء سُمِّي تقليدًا أو اجتهادًا.
وأيضًا: فإن كان تقليدُ العالمِ العالمَ حرامًا ــ كما هو قول الشافعية والحنبلية ــ فاتباعهم ليس بتقليد؛ لأنه مَرْضيّ، وإن كان تقليده جائزًا، أو كان تقليدُهم مستثنًى من التقليد المحرَّم، فلم يَقُل أحد: إن تقليد العلماء من موجباتِ الرضوان، فعُلِمَ أن تقليدهم خارج عن هذا؛ لأن تقليدَ العالم وإن كان جائزًا فتركُه إلى قول غيره أو إلى اجتهادٍ جائزٌ أيضًا بالاتفاق، والشيء المباح لا يستحق به الرضوان.
وأيضًا: فإن رضوانَ الله غايةُ المطالب لا تُنال إلا بأفضل الأعمال، ومعلومٌ أن التقليد الذي يجوز خلافه ليس بأفضل الأعمال، بل الاجتهاد
(3)
أفضل منه، فَعُلِم أن اتباعهم هو أفضل ما يكون في مسألةٍ
(4)
اختلفوا فيها هم ومن بعدهم
(5)
، ورُجحانُ أحدِ القولين يوجب اتباعه، لأن مسائل الاجتهاد
(1)
في الأصل: «كلامهم» !
(2)
انظر ما تقدم (ص 533).
(3)
الأصل: «اجتهاد» والمثبت من «الإعلام» .
(4)
الأصل: «مثاله» !
(5)
في «الإعلام» بعده: «وأنَّ اتباعهم دون من بعدهم هو الموجب لرضوان الله» .
لا يتخيَّر الرجلُ فيها بين قولين.
وأيضًا: فإنَّ الله أثنى على الذين اتبعوهم بإحسان، والتقليد وظيفة العامة، فأما العلماء فإما أن يكون مباحًا لهم أو محرمًا، إذ الاجتهاد أفضل منه لهم بغير خلاف، أو هو واجب عليهم، فلو أُرِيْد باتباعهم التقليد الذي يجوز خلافه لكان للعامة في ذلك النصيب الأوفى، وكان حظُّ علماء الأُّمة من هذه الآية أبخس الحظوظ، ومعلومٌ أنَّ هذا فاسد.
وأيضًا: فالرضوان عليهم وعلى [من] اتبعهم دليلٌ على أن اتباعهم صواب ليس بخطأ؛ لأنه لو كان خطأً لكان غاية صاحبه أن يُعْفَى له عنه، فإن المخطئ إلى أن يُعْفى عنه أقربُ منه إلى أن يُرْضى عنه، وإذا كان صوابًا وَجَبَ اتباعُه؛ لأنَّ خلافَ الصواب خطأ، والخطأ يحْرُم اتباعه إذا عُلِم أنه خطأ، وقد عُلِم أنه خطأ بكون الصواب خلافه.
وأيضًا: فإن كان اتباعهم يوجب
(1)
الرضوان لم يكن ترك اتباعهم يوجب الرضوان؛ لأن الجزاء لا يقتضيه وجود الشيء وعدمه؛ لأنه يبقى عديم الأثر في ذلك الجزاء، وإذا كان في المسألة قولان، أحدُهما يوجبُ الرضوان والآخر لا يوجبه= كان [ق 297] الحقُّ هو ما يوجِبُه، وهو المطلوب.
وأيضًا: فإنَّ طلب رضوان الله واجب؛ لأنه إذا لم يوجد رضوانه فإما سخطه، أو عفوه، والعفو إنما يكون مع انعقاد سبب الخطيئة، وذلك لا يُباح مباشرتُه إلا بالنصِّ، وإذا كان رضوانه إنما هو في اتِّباعهم، واتباع رضوانه
(1)
«الإعلام» : «موجب» في الموضعين.
واجب= كان اتباعهم واجبًا.
وأيضًا: فإنه إنما أثنى على المتَّبع بالرضوان، ولم يصرَّح بالوجوب؛ لأن إيجاب الاتباع يدخل فيه الاتباع في الأفعال، ويقتضي تحريمَ مخالفتهم مطلقًا، فيقتضي ذمَّ المخطئ، وليس كذلك.
أما الأقوال؛ فلا وجهَ لمخالفتهم فيها بعد ما ثبت أن فيها رِضا الله.
[وأيضًا: فإنَّ القول إذا ثَبَت أن فيه رضا الله، لم يكن رضا الله]
(1)
في ضده، بخلاف الأفعال، فقد يكون رِضَا الله في الأفعال المختلفة، وفي الفعل والترك بحسب قصدَيْن وحالَيْن.
أما الاعتقادات والأقوال فليست كذلك، فإذا ثبت أنَّ في قولهم رضوان الله لم يكن الحقُّ والصواب إلا هو، فوجب اتباعُه.
فإن قيل: السابقون هم الذين صلوا القبلتين، أو هم أهل بيعة الرضوان ومن قبلهم، فما الدليل على اتباع من أسلم بعد ذلك؟
قيل: إذا ثبت وجوبُ اتباع أهل بيعة الرَّضوان، فهو أكبر المقصود، على أنه لا قائل بالفرق، وكلُّ الصحابة سابق بالنسبة إلى من بعدهم.
الوجه الثاني
(2)
: قوله: {اتَّبِعُوا مَنْ لَا يَسْأَلُكُمْ أَجْرًا وَهُمْ مُهْتَدُونَ} [يس: 21] هذا قصَّه الله عن صاحب (يس) على سبيل الرِّضا بهذه المقالة والثناء على قائلها، والإقرار له عليها، وكلُّ واحدٍ من الصحابة لم يسألنا أجرًا
(1)
ما بين المعكوفين مستدرك من «الإعلام» : (5/ 565) والسياق يقتضيه.
(2)
من الأدلة على وجوب اتباع قول الصحابة، وقد تقدم الوجه الأول (ص 532).
وهم مهتدون، بدليل خطابًا لهم:{وَكُنْتُمْ عَلَى شَفَا حُفْرَةٍ مِنَ النَّارِ فَأَنْقَذَكُمْ مِنْهَا كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ} [آل عمران: 103]، و «لعلَّ» من الله واجب.
وقوله: {وَمِنْهُمْ مَنْ يَسْتَمِعُ إِلَيْكَ حَتَّى إِذَا خَرَجُوا مِنْ عِنْدِكَ قَالُوا
…
} إلى: {وَالَّذِينَ اهْتَدَوْا زَادَهُمْ هُدًى
…
}
(1)
[محمد: 16 - 17]. وقوله: {وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا} [العنكبوت: 69] وكلٌّ منهم قاتل في سبيل الله وجاهد إما بيده أو بلسانه، فيكون الله قد هداهم، ومن هداه الله فهو مهتد، فيجبُ اتباعه بالآية.
الوجه الثالث: قوله سبحانه: {وَاتَّبِعْ سَبِيلَ مَنْ أَنَابَ إِلَيَّ} [لقمان: 15]، وكلٌّ من الصحابة مُنِيْب، فيجبُ اتباعُ سبيلِه، وأقوالُه واعتقاداتُه من أكبر سبيله، والدليل على أنهم منيبون: أن الله قد هداهم، وقد قال:{وَيَهْدِي إِلَيْهِ مَنْ يُنِيبُ} [الشورى: 13].
الوجه الرابع: قوله: {قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي} [يوسف: 108] أخبر أن من اتبع الرسولَ يدعو إلى الله على بصيرة، ومن دعا إلى الله على بصيرة وجبَ اتِّباعُه. كقوله فيما حكاه عن الجنِّ ورضيَه:{يَاقَوْمَنَا أَجِيبُوا دَاعِيَ اللَّهِ} [الأحقاف: 31]، ولأن من دعا إلى الله على بصيرة فقد دعا إلى الحقِّ عالمًا به، والدعاءُ إلى أحكام الله دعاء إلى الله
(1)
زاد بعدها في «الإعلام» : (5/ 566): «وقوله تعالى: {وَالَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَلَنْ يُضِلَّ أَعْمَالَهُمْ (4)} .
[ق 298]؛ لأنه دعاء إلى طاعته فيما أَمَرَ ونهى وأذِن، والصحابةُ قد اتبعوا الرسول صلى الله عليه وسلم، فيجب إجابتهم إذا دَعَوا إلى الله.
الوجه الخامس: قوله: {قُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ وَسَلَامٌ عَلَى عِبَادِهِ الَّذِينَ اصْطَفَى} [النمل: 59] قال [ابن عباس]
(1)
: هم أصحاب محمد، والدليل عليه قوله:{ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتَابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا} [فاطر: 32]، وحقيقة الاصطفاء: افتعال من التصفية، فيكون قد صفَّاهم من الأكدار، والخطأ من الأكدار، فيكونون مُصَفَّيْنَ منه. ولا ينتقض هذا بما إذا اختلفوا؛ لأن الحقّ لم يَعْدُهم، فلا يكون قول بعضِهم كدرًا؛ لأن مخالفة الكدر وبيانه يزيل كونه كدرًا، بخلاف ما إذا قال بعضُهم قولًا ولم يخالف فيه، فإنه لو كان قولًا باطلًا [و] لم يردّه راد، فلا معنى للكدر إلا هذا
(2)
، وهذا لأنَّ خلاف بعضهم لبعض بمنزلةِ معاتبة النبيِّ صلى الله عليه وسلم في بعضِ أموره، فإنها لا تخرجه عن حقيقةِ الاصطفاء، فإذا لم ينه
(3)
لم يكن كدرًا.
الوجه السادس: أن الله شهد لهم بأنهم أُوتوا العلم بقوله: {وَيَرَى الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ الَّذِي أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ هُوَ الْحَقَّ} [سبأ: 6]، وقوله:{حَتَّى إِذَا خَرَجُوا مِنْ عِنْدِكَ قَالُوا لِلَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ مَاذَا قَالَ آنِفًا} [محمد: 16]، وقوله: {يَرْفَعِ
(1)
ما بين المعكوفين بياض بالأصل، والمثبت من «الإعلام»:(5/ 568)، وتفسير ابن جرير:(18/ 98)، وابن أبي حاتم:(9/ 2906)، وأخرجه عبد ابن حميد وابن المنذر وغيرهم كما في «الدر المنثور»:(5/ 211). ورُوِي نحوه أيضًا عن سفيان الثوري أخرجه عنه عبد بن حميد وابن جرير.
(2)
العبارة في «الإعلام» : «لكان حقيقة الكدر» ، وما بين المعكوفين منه.
(3)
كلمة لم تتبيَّن ولعلها ما أثبت. والجملة الأخيرة ليست في «الإعلام» .
اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ} [المجادلة: 11]، واللام في «العلم» ليست للاستغراق، وإنما هي ــ والله أعلم ــ للعهد، أي: العلم الذي بعثَ اللهُ به نبيَّه، وإذا كانوا قد أوتوا العلم الديني كان اتباعهم واجبًا، لأن المقصود إنما هو معرفة علم الدين.
وقد قال تعالى: {أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ} [النساء: 59] ومنهم العلماءُ والفقهاء.
الوجه السابع: قوله سبحانه: {كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ} [آل عمران: 110]، شهد لهم القرآن بأنهم يأمرون بكلِّ معروفٍ وينهون عن كلِّ منكر، فلو كانت الحادثة في زمانهم لم يُفْتِ فيها إلا من أخطأ منهم= لم يكن أحدٌ منهم قد أمر فيها بمعروفٍ ولا نهى فيها عن المنكر، فإن الصواب معروف بلا شك، والخطأ منكر من بعض الوجوه، ولولا ذلك لما صحَّ التمسُّك بهذه الآية على كون الإجماع حجة، وإذا كان هذا باطلًا عُلِم أنَّ خطأَ من تكلَّم منهم في العلم إذا لم يخالفه غيره ممتنع، وذلك يقتضي أن قولَه حجةٌ.
الوجه الثامن
(1)
: ما خرَّجوه في الصحاح عن النبي صلى الله عليه وسلم من وجوه أنه قال: «خيرُ القرون القرن الذي بُعِثْتُ فيه، ثم الذين يَلُونَهم، ثم الذين يلونهم»
(2)
. أخبر صلى الله عليه وسلم أن خير القرون قرنُه مطلقًا، وذلك يقتضي تقدمهم في
(1)
أضاف ابن القيم ستة أدلة من القرآن، وهي عنده من الوجه الثامن حتى الثالث عشر (5/ 569 - 574)، ثم عاد إلى النقل من هنا، فهذا الوجه هو الرابع عشر عنده.
(2)
أخرجه البخاري رقم (2651)، ومسلم رقم (2535) من حديث عمران بن حصين رضي الله عنه وأخرجاه أيضًا من حديث ابن مسعود رضي الله عنه بلفظ: «خير الناس قرني
…
».
كلِّ باب من أبواب الخير، وإلا كانوا خيرًا من بعض الوجوه، فلا [ق 299] يكونون خير القرون مطلقًا، فلو جاز أن يخطئ الرجل منهم في حكم وسائرُهم لم يفتوا بالصواب، وإنما تنبَّهَ للصواب من بعدهم= لزم أن يكون ذلك القرن خيرًا منهم من ذلك الوجه؛ لأنَّ القرنَ المشتمل على الصواب خيرٌ
(1)
من القرن المشتمل على الخطأ وأفضل في ذلك الفن.
ثم هذا يتعدد في مسائل عدة؛ لأن من يقول: إن قول الصحابي ليس بحجة، يجوّز أن يكون من بعدهم أصاب في كل مسألة قال فيها الصحابيُّ قولًا ولم يخالفه صحابيٌّ آخر، ومعلومٌ أن هذا يكون في مسائل كثيرة تفوق العدَّ والإحصاء، فكيف يكونون خيرًا ممن بعدهم، وقد امتاز القرنُ الذي بعدَهم بالصواب فيما يفوق العدَّ والإحصاء مما أخطأوا فيه؟! وفضيلةُ العلم ومعرفةُ الصواب أكمل الفضائل وأشرفُها، وهذا ظاهرٌ لمن تأمله، فإنه وصمة على الأمة أيّ وصمة أن يكون الصِّدِّيق أو الفاروق وغيرهما قد أخْبَر أنَّ حُكْمَ الله كَيْتَ وكَيْتَ في مسائل كثيرة وأخطأوا في ذلك، ولم يشتمل قرنُهم على ناطقٍ بالصواب في تلك المسائل، حتى نبغ من بعدهم فعرفوا حكمَ الله وأصابوا الحقَّ عند الله؛ إنَّ هذا مما يُعْلَم قطعًا أنه مُحال على هذه الأمة.
الوجه التاسع
(2)
: أن السَّلَف أجمعوا على ذلك من الصحابة والتابعين
(1)
الأصل: «خيرًا» .
(2)
هذا الوجه حشد فيه المصنِّف طائفة من الآثار السلفية، وقد أخذها تلميذه ابن القيم فجعل من بعضها وجوهًا مستقلِّة، وحَشد جملةً منها تحت وجهٍ واحد، انظر «إعلام الموقعين» من الوجه التاسع عشر فما بعده:(5/ 579 - 581 و 6/ 24 - 29).
وتابعيهم، وهم القرون الصالحة.
(1)
.
وقال عبد الله بن مسعود: «اتبعوا ولا تَبْتَدِعوا فقد كُفيتم، فإن كلَّ محدثةٍ بدعة، وكلَّ بدعةٍ ضلالة»
(2)
.
(3)
.
(1)
أخرجه الطيالسي في «مسنده» رقم (243)، وأحمد:(6/ 84 رقم 3600)، والطبراني رقم (8582)، والحاكم:(3/ 78)، وغيرهم بألفاظ متقاربة.
وهذا الأثر صححه الحاكم، ولم يتعقبه الذهبي، وقواه ابن القيم في «الفروسية» (ص 238). وورد مرفوعًا من حديث أنسٍ أخرجه الخطيب في «تاريخه»:(4/ 165)، لكن فيه سليمان بن عَمْرو النخعي اتهمه أحمدُ بوضعِ الحديث.
(2)
أخرجه أحمد في «الزهد» (ص 162)، والدارمي في «السنن»:(1/ 80)، ومحمد بن نصر في «السنة» رقم (79) بإسناد ثابت.
(3)
أخرجه ابن عبد البر في «الجامع» رقم (1810)، وعزاه ابن القيم لأحمد في «إعلام الموقعين»:(5/ 579).
وعن الحسن نحو من هذا
(1)
.
وقال ابن مسعود أيضًا: «إنَّا نقتدي ولا نبتدي، ونتَّبع ولا نبتدع، ولن نضلَّ ما تمسَّكْنا بالأثر»
(2)
.
وقال أيضًا: «إيَّاكم والتَّبَدُّع، وإياكم والتنَطُّع، وإياكم والتَّعَمُّق، وعليكم بالعتيق»
(3)
.
(4)
.
وكان يقول: «إياكم والمُحْدثات، فإنَّ شرَّ الأمور مُحْدثاتُها، وكلُّ بدعةٍ ضلالة»
(5)
.
وقال: «اتبع ولا تبتدع، فإنك لن تَضِلّ ما أخذتَ بالأثر»
(6)
.
(1)
أخرجه ابن عبد البر في «الجامع» رقم (1807).
(2)
رواه اللالكائي رقم (105، 106)، والخطيب في «الفقيه والمتفقه»:(1/ 147).
(3)
أخرجه معمر (الجامع ــ المصنف: 11/ 252)، والدارمي:(1/ 66)، والطبراني رقم (8845) وغيرهم.
(4)
أخرجه ابن أبي شيبة: (7/ 271)، والدارمي:(1/ 82)، واللالكائي رقم (107).
(5)
أخرجه البخاري رقم (7277)، والدارمي:(1/ 80)، والطبراني رقم (8518) وغيرهم موقوفًا بنحوه.
ورُوي مرفوعًا أخرجه ابن ماجه رقم (46)، وابن أبي عاصم في «السنة» رقم (25)، وغيرهم.
(6)
أخرجه الدارمي: (1/ 77) من قول شريح القاضي، ومثله أخرجه المروزي في «السنة» رقم (82)، والبيهقي في «المدخل» رقم (220) من قول عبد الله بن عمر رضي الله عنهما.
وقال حذيفة بن اليمان: «يا معشرَ القرَّاء خذوا طريقَ من كان قبلكم، فوالله لئن استقمتم لقد سبقتم سبقًا بعيدًا، ولئن تركتموه يمينًا وشمالًا لقد ضللتم ضلالًا بعيدًا»
(1)
.
وقال جُنْدُب بن عبد الله: «دخل عليَّ فتيةٌ حزاورة أيام النهر، فقالوا: ندعوك إلى كتاب الله، قال: قلتُ: أنتم!؟ قالوا: نحن، قلت: أنتم!؟ قالوا: نحن، قلت: يا أخابث خليقة الله! في اتباعنا تخافون الضلالة، أم في [غير سنتنا تلتمسون الهدى؟! اخرجوا عنِّي»
(2)
.
وقال ابنُ عباس: «كان يُقال: عليك بالاستقامة والأثر، وإيَّاك والتَّبدُّع»
(3)
.
وقال شُرَيح: «إنما أقتفي الأثر، فما وجدتُ قد سَبَقَنا إليه غيرُنا
(4)
حدثتكم به»
(5)
.
وقال إبراهيم النَّخَعي: «لو بلغني عنهم ــ يعني أصحابه ــ أنهم ما
(6)
(1)
أخرجه البخاري رقم (7282) بنحوه، وهذا لفظ ابن المبارك في «الزهد» (47) والمروزي في «السنة» (87).
(2)
لم أجده.
(3)
أخرجه الدارمي: (1/ 65)، ومحمد بن نصر في «السنة» رقم (84) بنحوه.
(4)
«الجامع» : «فما وجدت في الأثر
…
»، و «الإعلام»:«غيركم» .
(5)
أخرجه ابن عبد البر في «الجامع» رقم (1455).
(6)
الأصل: «لما» .
تجاوزوا بالوضوء ظفرًا ما جاوزته به، وكفى على قوم إزراءً أن تُخالف أعمالُهم أعمالَ أوَّليهم
(1)
»
(2)
.
وقال عمر بن عبد العزيز: «إنه لم يبتدع الناسُ بدعةً إلا وقد مضى فيها ما هو دليل وعبرة منها، فإنما السُّنة ما سَنَّها
(3)
إلا من علم ما في خلافها من الخطأ والزلل والحُمْق والتَّعَمُّق، فارضَ لنفسك ما رضي القوم»
(4)
.
(5)
.
وقال ــ أيضًا ــ عمر بن عبد العزيز كلامًا كان مالك بن أنس وغيرُه من الأئمة يستحسنونه ويحدِّثونه به دائمًا قال: «سنَّ رسولُ الله صلى الله عليه وسلم وولاة الأمر
(1)
«الدارمي» : «أن تخالف أفعالهم» وفي «الإعلام» : «أعمالهم أعمال أصحاب نبيهم» .
(2)
أخرجه الدارمي: (1/ 83).
(3)
الأصل: «أسنها» !
(4)
أخرجه أبو داود رقم (4612).
(5)
قطعة من الأثر السابق.
بعدَه سننًا، الأخذُ بها
(1)
تصديقٌ لكتاب الله، واستعمالٌ
(2)
لطاعته، وقوة على دينٍ يحبُّه الله، ليس لأحدٍ تغييرُها ولا تبديلها، ولا النظر في رأي من خالفها، فمن اقتدى بما سنُّوا اهتَدَى، ومن استنصر بها منصور، ومن خالفها واتبع غيرَ سبيل المؤمنين ولَّاه الله [ق 301] ما تولَّى، وأصلاه جهنَّمَ وساءت مصيرًا»
(3)
.
ومن هنا أخذ الشافعيُّ الاحتجاجَ بهذه الآية على أن الإجماع حجة
(4)
.
وقال الشعبيُّ: «عليكَ بآثار السَّلَف وإن رفضك الناسُ، وإياك وآراء الرجال وإن زخرفوها لك بالقول»
(5)
.
وقال أيضًا: «ما حَدَّثوك به عن أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم فخُذْه، وما حَدَّثوك به عن آرائهم فانْبذْه في الحشِّ»
(6)
.
وقال الأوزاعي: «اصبر نفسَك على السُّنة، وقِفْ حيثُ وقفَ القوم، واسلك سبيلَ السَّلَف الصالح، فإنه يسعُكَ ما وَسِعَهم، وقُل بما قالوا، وكفَّ
(1)
تحتمل: «لها» .
(2)
كذا في الأصل، وفي مصادر الأثر و «الإعلام»:«واستكمال» .
(3)
أخرجه الآجرِّي في «الشريعة» رقم (92)، واللالكائي رقم (134)، وابن عبد البر في «الجامع» رقم (2326).
(4)
انظر «أحكام القرآن» : (1/ 39 - 40) للشافعي، و «قواطع الأدلة»:(3/ 202) للسمعاني.
(5)
آخرجه الآجري في «الشريعة» رقم (127)، وابن عبد البر في «الجامع» رقم (2077).
(6)
أخرجه عبد الرزاق: (11/ 256)، وابن عبد البر في «الجامع» رقم (1438) بنحوه.
عما كفُّوا، ولو كان هذا خيرًا
(1)
ما خُصِصْتُم به دون أسلافكم، فإنه لم يُدَّخَر عنهم خيرٌ خُبِّئ لكم دونهم لفضلٍ عندكم وهم أصحابُ رسول الله صلى الله عليه وسلم الذين اختارهم له وبعثه فيهم ووَصَفَهم فقال: {مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ
…
} الآية
(2)
[الفتح: 29].
وقال الحسن بن زياد اللؤلؤي: «[ما] أدركتُ مَشْيَخَتَنا: زُفَرَ بن الهذيل وأبا يوسف [وأبا حنيفة، ومن جالسنا وأخذنا عنهم يهمهم غيرُ الفقه والاقتداءُ بمن تقدمهم]
(3)
.
الوجه العاشر
(4)
: أن صورة المسألة إذا لم يكن في المسألة حديثٌ عن النبي صلى الله عليه وسلم ولا اختلاف بين أصحابه، وإنما قال بعضُهم فيها قولًا، ولم يُعْلَم أنه اشتهر في الباقين ولا أنهم خالفوه. فنقول:
من تأمَّل المسائل الفقهية والحوادث الفروعية وتدرَّبَ في مسالكها وتصرف في مداركها= عَلِمَ قطعًا أن كثيرًا منها قد تَنْحَسم
(5)
فيها وجوه الرأي بحيث لا يُوثّق فيها بظاهرٍ مرادٍ أو قياسٍ جيِّد ينشرح له الصدر و
(6)
يثلج له الفؤاد، أو تتعارض فيها الظواهر والأَقْيِسة على وجهٍ يقف المجتهد
(1)
الأصل: «خير» !
(2)
أخرجه الآجري في «الشريعة» رقم (294)، واللالكائي رقم (315).
(3)
ما بين المعكوفين سقط من الأصل، واستدركناه من مصدر الأثر، وهو عند ابن عبد البر في «الجامع»:(2/ 942).
(4)
وهو الوجه الثاني والأربعون في «الإعلام» : (6/ 17).
(5)
«الإعلام» : «قد تشتبه» .
(6)
الأصل: «أو» .
في أكثر المواضع حتى لا يبقى للظنِّ رجحانٌ بيِّن، خصوصًا إذا اختلف فيها الفقهاء، فإن عقول الفقهاء وعلومهم ــ من الأئمة المشهورين ــ من أوفر العقول، وأكثر العلوم، فإذا تلدَّدوا وتبلَّدوا
(1)
لم يكن ذلك وفي المسألة طريقةٌ واضحة. فإذا وُجِد فيها قول الفقهاء
(2)
الصحابة كان الظنُّ بأنَّ الصواب في جنبه أقوى الظنون، والرأي الذي يوافق رأيَه أسدّ الآراء.
ومن كان إنما مطلوبه في الحادثة ظنٌّ راجح ولو استند إلى استصحابٍ أو قياسِ دلالةٍ أو شَبَهٍ، أو عمومٍ مخصوصٍ واردٍ على سبب، فلا يُشكّ أن الظن الذي يحصل لنا بقول صحابيٍّ لم يُخالَف أرجح من الظنون المستندة
(3)
إلى مجرَّد هذه الأمور.
واعلم أن حصول الظنِّ الغالب في القلب ضروري لحصول العلم ومشاهدة الطريقة، على أن من تأمَّل واجتهد وعرف طرقَ الفقه وأحوال الصحابة= وجدَ ظنًّا ضروريًّا بقوة ما يقوله الصحابي على من يخالفه.
الوجه الحادي عشر: أن الصحابيَّ إذا أفتى بفُتْيا، أو قال قولًا أو حكم حكمًا فله مدارك انفرد بها عنا، وله مدارك نشاركه فيها، فأما ما يختص به فيجوز أن يكون قد سمعه من النبيِّ صلى الله عليه وسلم، أو من آخر من الصحابة عن النبي صلى الله عليه وسلم، فإنَّ ما انفردوا به من العلم عنَّا أكثر من أن يُحاط [به].
(1)
في «الإعلام» : «تلددوا وتوقفوا» والتلدّد هو التوقف والتحيُّر والنظر يمينًا وشمالًا.
(2)
كذا.
(3)
العبارة في الأصل: «فلا يسكن إلى الظن الذي يحصل لنا بقول الصحابي لم يخالف أرجح من الظنون إلا مستند» ! وهي مضطربة، وصححنا ما فيها من تحريف من «الإعلام»:(6/ 18).
ولا تظنن [ق 302] أن كلًّا منهم روى ما سمع كلَّه ولا العُشْر، فهذا صدِّيق الأُمة لم يُرْو عنه مائةُ حديث
(1)
، وهو لم يغب عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في شيء من مشاهده، وكذلك عامَّةُ جِلَّة الصحابة قَلَّت روايتهم.
وقد كَثُرت رواية أبي هريرة، وإنما صَحِبَ النبيَّ صلى الله عليه وسلم نحو أربع سنين، فقول من يقول: لو كان عنده سماع من النبي صلى الله عليه وسلم لذكره= قولٌ من لم يعرف أحوالَهم، فإنهم كانوا يهابون الرواية ويعظِّمونها ويُقِلُّونها؛ خوفَ الزيادة والنقص، ويحدِّثون بالشيء الذي قد سمعوه من النبيِّ صلى الله عليه وسلم مرارًا ولا يذكرون السَّماع، وتصريحهم بالسَّماع تارةً كتصريحهم بالرأي أخرى، فإنهم قد صرَّحوا في مواضع بأنَّهم قالوا بالرأي، ويجوز أن تكون تلك الفُتْيا أو الحديث مما اجتمع عليه مَلَؤهم في حادثة أخرى، ويجوز أن يكون قد فهمها من آية في كتاب الله، أو من حديثٍ عن رسول الله صلى الله عليه وسلم لعلمه باللغة ودلالةِ اللفظ على الوجه [الذي] انفردوا به عنَّا. أو لقرائن حالية اقترنت بالخطاب، أو لمجموع أمور فهموها على طوال الليالي من رؤية
(2)
النبي صلى الله عليه وسلم ومعرفة سيرته وسماع كلامِه وتبيُّن
(3)
مقاصده، وشهود تنزيل الوحي، ورؤية التأويل، فإن العلم بهذه الأشياء تكشف المرادَ كشفًا تزول معه كلُّ شبهة.
(1)
أخرج له أحمد في «المسند» واحدًا وثمانين حديثًا بالمكرر، وذكر له بقيُّ بن مخلد في «مسنده» مئة حديث واثنين وأربعين حديثًا، كما في مقدمة مسنده ضمن كتاب «بقي بن مخلد» (ص 82).
(2)
الأصل: «رواية» .
(3)
تحتمل: «تبيين» .
وأما المدارك التي شَرِكْناهم فيها من دلالات الألفاظ والأَقْيِسة، فلا ريب أنهم كانوا أَبَرَّ قلوبًا، وأعمق علمًا، وأقلَّ تكلُّفًا، وأقربَ إلى أن يُوَفَّقوا؛ لما خصهم الله به من توقُّد الأذهان، وفصاحة اللسان، وسَعَة العلم، وتقوى الرب، وحُسْن القصد، وغير ذلك من الأسباب التي توجب التوفيق للحق. فإذا كان قد امتاز عنَّا بطرق الأحكام، وفُضِّل علينا فيما شَرِكَنا من الطرق= عُلِمَ علمًا ضروريًّا أن الظن الذي يحصل لنا بقوله الذي قاله أقوى وأرجح من الظنِّ الذي يحصل بِتأويلاتنا ومقاييسنا، ومن شكَّ في هذا، أو قاسهم بغيرهم من المجتهدين، أو أُعْجِب برأي نفسِه فَلْيُعَزِّ
(1)
نفسَه من العقل والدين.
الوجه الثاني عشر: أن النبيَّ صلى الله عليه وسلم قال: «لا تزالُ طائفةٌ من أُمَّتي ظاهرينَ على الحقِّ»
(2)
.
وقال عليٌّ رضي الله عنه: «لن تخلوَ الأرضُ من قائمٍ لله
(1)
كذا، ويحتمل أن تكون:«فليعزل» .
(2)
أخرجه مسلم رقم (1920) من حديث ثوبان رضي الله عنه.
بحُجَّة لكيلا تبطل حُجَج الله وبيناته»
(1)
. فلو جاز أن يُخطئ الصحابيُّ في حكم ولا يكون في العصر ناطق بالصواب في ذلك الحكم، لم يكن في الأُمَّة قائم بالحقِّ في ذلك الحكم؛ لأنهم بين ساكت أو مخطئ، ولم يكن في الأرض قائمٌ لله بحجَّة في ذلك الأمر، ولا من يأمر فيه بمعروف أو ينهى فيه عن منكر، حتى نبغت النابغة، فقامت بالحجَّة، وأمَرَت بالمعروف، ونَهَتْ عن المنكر، وهذا خلاف ما دلَّ عليه الكتابُ والسنةُ والإجماعُ.
الوجه الثالث عشر: أنهم إذا قالوا قولًا أو بعضُهم، ثم خالفهم [ق 303] مخالف من غيرهم كان مُبتدئًا لذلك القول ومبتدعًا له، وقد قال صلى الله عليه وسلم:«عليكم بسنَّتي وسنَّةِ الخلفاءِ الراشدين المهديِّين من بعدي، تمسَّكوا بها وعَضُّوا عليها بالنواجذ، وإيَّاكم ومُحدثاتِ الأمور، فإنَّ كلَّ بدعة ضلالة»
(2)
، فلا يجوز اتِّباعُه.
واعلم أن في المسألة أدلَّة كثيرة، وهي تحتمل بَسْطًا عظيمًا ليس هذا موضَعه.
فإن قيل
(3)
: بعضُ ما ذكرتُم من الأدلة يقتضي أن التَّابعيَّ إذا قال قولًا ولم يخالفه صحابيُّ ولا تابعيٌّ فإنه يكون صوابًا يجبُ اتباعُه.
قلنا: هذا لا يكاد ينضبط، فإن التابعين كثيرون، والمسائل في أيَّامهم كانت منتشرة، فلا يكاد يغلب على الظن عدم المخالف له، فإن فُرِضَ ذلك فقد اخْتُلِف فيه، فمنهم من يقول: يجبُ اتِّباعُه، والأكثرون يفرِّقون بينه وبين
(1)
قطعة من وصية علي رضي الله عنه لكُمَيْل بن زياد، وقد أخرجه بطوله أبو نعيم في «الحلية»:(1/ 79 - 80)، والنهرواني في «الجليس الصالح»:(3/ 331) وغيرهم.
قال ابن عبد البر في «الجامع» ــ بعد أن ذكرها بدون إسناد ــ: «وهو حديث مشهور عند أهل العلم، يستغني عن الإسناد لشهرته عندهم» .
(2)
أخرجه أحمد: (28/ 367 رقم 17142)، وأبو داود رقم (4607)، والترمذي رقم (2676)، وابن ماجه رقم (42)، وابن حبان «الإحسان» رقم (45)، والحاكم:(1/ 95 - 96) وغيرهم، من حديث العرباض بن سارية رضي الله عنه.
قال الترمذي: «حديث حسن صحيح» . وصححه ابن حبان والحاكم والبزار وغيرهم.
(3)
قارن بـ «إعلام الموقعين» : (6/ 38).
الصحابيِّ.
ولو خالف قولُه القياس فقد قيل: يُحْمَل ذلك على أنه قاله توقيفًا
(1)
، ويكون بمنزلِة المرسل الذي عَمِلَ به مُرْسِلُه. وقيل: لا يكون كذلك، وليس هذا موضعَ بسطِ ذلك.
وفيما ذكرناه جوابٌ عما احتجَّ به أولئك، إلا قولهم:«يُعتَدُّ، بخلاف التابعي إذا أدرك عصر الصحابة» ، فإنَّ ذلك غير مسلَّم على القول بأن قولَ الصحابيِّ حجة، ومن سَلَّم ذلك فلعلَّه يقول: قولُ الصحابي حجة إذا لم يُخَالَف في عصره لا من صحابيٍّ ولا من تابعيٍّ، وبعضُ الأدلة يدلُّ على هذا القول بخصوصِه.
قال المصنف
(2)
: (والتمسُّك به أن قول الصحابي يُحَصِّل غَلَبة الظن بثبوت ذلك الشيء، وهو المعنيّ بالدليل
(3)
).
هذا الكلام لابدَّ أن ينضمَّ إليه أنَّ قولَ الصحابي يُحَصِّل من غلبةِ الظنِّ ما لا يَحْصُل بقول غيره ــ كما تقدم تقريره
(4)
ــ والعلمُ بذلك حاصل، واتباع غلبة الظن في الأحكام
(5)
واجب للأدلة الدالة على وجوب اتباع الأمر والعموم والمطلق وخبر الواحد والقياس.
(1)
الأصل: «توفيقًا» !
(2)
«الفصول» : (ق/10 ب).
(3)
«الفصول» : «من الدليل» .
(4)
(ص 552 - 554).
(5)
الأصل: «الأحكام في الظن» !
فإن قلتَ: لعلَّ المصنف أرادَ مُطلق غلبة الظن؛ لأنَّ من أصله جواز تقليد الأعلم مطلقًا، أو تقليد العالم عالمًا مثله؛ لأنه يحصُل له غلبةُ ظنٍّ بتقليده.
قلتُ: لا يصحّ إرادته ذلك؛ لأن غرضَه ما يحتجُّ به في المناظرة، وهو وإن جوَّز تقليد العالم والأعلم فيجوِّز الاجتهاد ومخالفته، ولا يُحْتَجُّ في المناظرة بتقليد من يجوز ترك تقليده؛ لأن الحجَّة لابدَّ أن تكون ملزمةً للمخالف، ومن أجاز له التقليد من أهل الاجتهاد فإنه مخيَّر بين الاجتهاد وبين التقليد عند القائلين بذلك، فلا يكون التقليد حجةً ملزمة.
فإن قيل: فكيف صار تقليدُ الصحابيِّ حجةً ملزمة؟
[ق 304] قيل: التقليد اسم لقبول قول الغير من غير أن يعرف حقيقةَ ذلك القول من غيره، وهو قسمان:
أحدهما: تقليد من قامت الأدلةُ على قبول قوله، كتقليد الأنبياء ــ عليهم السلام ــ فيما يُخبرون به ويأمرون به
(1)
، وتقليد أهل الإجماع، وتقليد النَّقَلَة، وتقليد الصحابي، ونحو ذلك. فهذا تقليدٌ واجبٌ على العالم والعامِّي، وهو
(2)
معنى قول الشافعي: «أُقَلِّد الخبرَ»
(3)
، أو كما قال. ومعنى قول أحمد:«ومن زعم أنه لا يرى تقليد الحديث فهو مبتدع، أو ضال»
(4)
،
(1)
الأصل: «يخبرونه ويأمرون» والصواب ما أثبت.
(2)
الأصل: وهي.
(3)
لعل المصنف أراد ما نقل عن الشافعي أنه قال: «لا يجوز تقليد أحدٍ سوى الرسول» ، انظر:«قواطع الأدلة» : (5/ 98)، و «البحر المحيط»:(6/ 271) للزركشي.
(4)
لم أقف عليه. وقد جاء عنه إطلاق التقليد في اتباع الخبر في رواية أبي الحارث، انظر «المسوّدة» (ص 462)، و «شرح الكوكب»:(4/ 533).
ونحو ذلك من الكلام= أرادوا به أنه من لم يقنع فيما صحَّ فيه حديثٌ بقبولِ الحديث حتى يعرف بنظره حقيقته، وزعم أنه قد يستغني عن
…
(1)
وأنه لا يقبل إلا ما عرفه بعقله؛ فقد ردَّ السنة، وإجماع الأمة، وما وجبَ عليه قبولُه. فمن قال: إن تقليد الصحابي واجبٌ فهذا النوعَ أرادَ.
والثاني: قبول قول الغير من غير حجة ملزمة، أو تقليد من لم يقم دليلٌ على تقليده عند عامَّة العلماء، وفي جوازه للقادر على الاجتهاد خلافٌ مشهور.
قولُه
(2)
: (ولأنه
(3)
ظنَّ بتحقُّق ذلك الشيء فيتحقَّق لقوله عليه السلام: «ظنُّ المؤمنِ لا يُخطئ»
(4)
).
وهذا استدلال ثانٍ منه على جواز التمسُّك بالأثر، وهو استدلال يعمُّ جميعَ أنواع التقليد واجِبِها وجائزِها، وهو أن الصحابيَّ تحقَّقَ ذلك الشيء، فيجب أن يتحقَّقَ للحديثِ الذي ذكره.
واعلم أن هذا الدليلَ في غايةِ الفساد؛ لوجوه:
أحدها: أنَّ هذا الحديث الذي ذكره لا أصل له، ولا يُعْرَف في شيءٍ من
(1)
كلمة لم تتبين.
(2)
«الفصول» : (ق/10 ب).
(3)
«الفصول» : «على أنه» .
(4)
لم أقف عليه، وذكره الرازي في «المحصول»:(6/ 244)، وأخرجه ابن أبي الدنيا في «الحلم» رقم (88) بلفظٍ:«ظنُّ الحكيم كهانة» . وقد تكلم المصنِّف على الحديث بعد.
دواوين الحديثِ، وأقلُّ ما على المستدلِّ بحديثٍ في شريعةِ الجدلِ أن يُسْنِدَه أو يعزوه إلى كتابٍ غيرِ مشهورٍ بالسُّقْم، أو يُبَيِّن أنه مشهورٌ بالصحة. فإن عزاه إلى كتابِ فقهٍ لم يُقْبَل عند عامَّة الجدليِّين، إلا أن يكون مصنِّفُه عالمًا بالحديث، ففي قبولِهِ خلافٌ بين الجدليِّين، ولو كان كتاب لعالمٍ بالفقه والحديث قُبِل عندهم
(1)
.
وهذا الحديث ليسَ مَعْزُوًّا
(2)
عزوًا يصحُّ التمسُّك [به]، وأهلُ الحديث لا يعرفون له أصلًا، فلا يُقْبَل.
لكن الذي رُوِيَ عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: «اتقوا فِرَاسَة المؤمنِ فإنَّه ينظرُ بنورِ الله»
(3)
، ثم قرأ:{إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِلْمُتَوَسِّمِينَ} [الحجر: 75].
وفي «الصحيح»
(4)
عنه فيما يَرْوي عن ربه: «ولا يزالُ عبدي يتقرَّبُ إليَّ
(1)
انظر ما تقدم (ص 504 - 505).
(2)
الأصل: «معزوزًا» !
(3)
أخرجه الترمذي رقم (3127)، والعقيلي في «الضعفاء»:(2/ 129) من حديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه وقال الترمذيُّ عقبه: «غريب» .
وأخرجه الطبراني في «الكبير» رقم (7497)، وأبو نعيم في «الحلية»:(6/ 118)، وابن عدي:(4/ 207)، والخطيب في «تاريخه»:(5/ 99) من حديث أبي أمامة الباهلي رضي الله عنه.
ورُوي ــ أيضًا ــ من حديث أبي هريرة، وثوبان، وابن عمر. قال السخاوي في «المقاصد الحسنة» (ص 19):«وكلها ضعيفة» ، وضعَّفه ابن الجوزي في «الموضوعات»:(3/ 388)، والمعلمي في تعليقه على «الفوائد المجموعة» (ص 244 - 245)، والألباني في «الضعيفة» رقم (1821).
(4)
أخرجه البخاري رقم (6502)، من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.
بالنوافِلِ حتى أُحِبَّه، فإذا أحببَبْتُه كنتُ سَمْعَه الذي يَسْمَعُ به وبَصَرَه الذي يُبْصِرُ به، ويَدَه التي يَبْطِشُ بها، ورِجْلَه التي يَمْشِي بها، بي يَسْمَع، وبي يُبْصِر، وبي يَبْطِش، وبي يَمْشي».
الثاني: أنه قد خَرَّجا في «الصحيحين»
(1)
عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: «إيَّاكُم والظنَّ فإنَّ الظنَّ أكذبُ الحديث» ، وشاهده في كتاب الله:{اجْتَنِبُوا [ق 305] كَثِيرًا مِنَ الظَّنِّ إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ} [الحجرات: 12] فكيف يقول: «ظن المؤمن لا يخطئ» ، وهو ينهى عن الظنِّ ويُخْبِر أنه أكذب الحديث؟!
الثالث: لو فرَضْنا أنَّ لهذا الحديث أصلًا، أو قد قاله بعضُ المعتبرين، فيجبُ أن يُحمل على أنه لا يُخطئ ما وجب عليه اتباعُه، بمعنى أنه إذا ظنَّ ظنًّا بعد البحثِ التَّامِّ، فقد كُلِّف العملَ به، فهو
(2)
لم يخطئ في طَلَبِ
(3)
ما كُلِّف به، وإن كان قد يخطئ الحكم الذي أُمِر بطلبه، وعلى هذا التقدير فلا حجَّةَ فيه، لأن كلَّ مجتهد مصيب في اجتهاده، وإن أخطأ الحكمَ الذي هو حكمُ الله في نفس الأمر الذي أُمِر بطلبه، حتى إنهم مع اختلافهم لا يكونون مخطئين بهذا الاعتبار، مع أنهم لا يكون قولُهم حجةً، ولا يجوز التمسُّك به.
(1)
البخاري رقم (5143)، ومسلم رقم (2563) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه. وعبارة:«بي يسمع، وبي يبصر، وبي يبطش، وبي يمشي» ليست في الصحيح وإنما أخرجها الحكيم الترمذي في «نوادر الأصول» : (1/ 265، 382)، وقد عزاها المؤلف في مواضع من كتبه لرواية البخاري، وبيَّن في مواضع أخرى أنها في غير الصحيح، انظر «مجموع الفتاوى»:(2/ 390 و 13/ 69).
(2)
بعدها في الأصل: «حرام» ثم ضرب عليها.
(3)
الأصل: «طلبه وإذا» ولعل ما أثبته الصواب.
ويجوز أن يُراد به ظنُّ المؤمن حالَ تحقُّقِه بالإيمان وغلبةِ ذكرِ الله على قلبه، بحيث يكون يسمعُ بالحق، ويرى بالحق، فيكون ظنُّه في هذا الحال مصيبًا؛ لأن ما يُقْذَفُ في قلبه في هذه الحال إنما هو إلهامٌ من الله سبحانه، لكن لا يجوز التمسُّك بقوله؛ لأنه لا يعلم أنَّ الظنَّ الذي ظنَّه حَصَل في حال كمال
(1)
ذِكْره اللّهَ وغَلَبة الإيمان على قلبه.
ويجوزُ أن يرادَ به ظنُّ المؤمن فيما يتفرَّسُ فيه من أحوال الناس ونحوها، فيكون من قوله:«قد كان في الأُمَم قَبْلَكم مُحَدَّثون، فإن يكن في أُمَّتي أحدٌ فهو عُمر»
(2)
، وتلك ليست أحكامًا شرعية.
ويجوز أن يُراد به ظن الأحكام الشرعية، لكن لا يجوز الاعتمادُ على ظنِّه حتى يدلَّ عليه كتابٌ أو سنة، أو ما استُنْبِط منها، وهو قوله:{نُورٌ عَلَى نُورٍ} [النور: 35]، أي: نور القرآن ونور الإيمان
(3)
، كما قيل: هو المؤمنُ ينطقُ بالحقِّ وإن لم يسمع فيه بأثر، فإذا سمع به فهو نور على نور. ألا ترى أن عمر بن الخطاب كان أصوبَ الناسِ ظنًّا، ومع هذا لم يعمل النبيُّ صلى الله عليه وسلم بظنِّه حتى نزلَ القرآنُ بموافقته، ولم يكن يعملُ هو بظنِّ نفسِه حتى يتأمل دلالاتِ الكتابِ والسُّنة.
ويجوزُ أن يكون هذا في أمورٍ مخصوصة، أو يكون إشارة إلى كثرةِ صواب المؤمنِ وقِلَّة خطئه.
(1)
الأصل: «كما» ولعل المثبت الصواب.
(2)
أخرجه البخاري رقم (3689) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه، ومسلم رقم (2398) من حديث عائشة رضي الله عنها.
(3)
انظر «الدر المنثور» : (5/ 90).
والقاطعُ الذي يوجب صرفَ هذا الكلام عما استدلَّ به المصنِّف: أن الإجماع منعقدٌ على أن كلَّ مؤمنٍ سوى النبيِّ صلى الله عليه وسلم فإنه يجوزُ عليه الخطأ في الأحكام الشرعية، وأنَّ كلَّ أحدٍ يؤخَذُ من قوله ويُتْرَك إلا رسولَ ربِّ العالمين، وأن عامَّة الأئمة والعلماء من الصحابة والتابعين ومَنْ بعدَهم هم سادات المؤمنين، وقد أخطأوا في مواضع، فإن احتجَّ محتجٌّ بذلك على أنَّ كلَّ مجتهدٍ مصيبٌ [ق 306] لحكم الله، لم يحسن الاحتجاجُ به على الأحكام؛ لأن الخصمَ يقول حنيئذٍ: قولي صوابٌ، وقولك صوابٌ، فلا معنى لدعواك: أن الصوابَ معكَ دوني، أو لانتقالٍ إلى قولك.
الرابع: أنَّ هذا الدليل معارَضٌ بمثله، بأن يقال: قد قال فلان خلافَ هذه المقالة، فيكونُ قولُه حجةً؛ لأنَّ ظنَّ المؤمنِ لا يخطئ، وذلك يتأتَّى في كلِّ مسألةٍ خلافيَّةٍ.
قوله
(1)
: (على أن قوله صلى الله عليه وسلم: «أصحابي كالنجوم بأيِّهم اقتديتم اهتديتم»
(2)
يدلُّ على ذلك، فإنَّ النبيَّ صلى الله عليه وسلم أخبر عن الاهتداء في الاقتداء. وما
(1)
«الفصول» : (ق/10 ب).
(2)
هذا الحديث جاء من رواية جماعة من الصحابة، منهم ابن عباس، وعمر، وابنه، وأبو هريرة، وأنس، وجابر.
وطرقه كلها ضعيفة، ضعَّفها أهل الحديث كما قال شيخ الإسلام في «المنهاج»:(8/ 336).
فحديث ابن عباس أخرجه الخطيب في «الكفاية» (ص 48)، والبيهقي في «المدخل» رقم (152). وحديث عمر أخرجه ابن بطة في «الإبانة» رقم (700)، والخطيب في «الكفاية» (ص 48)، والبيهقي في «المدخل» رقم (151). وحديث ابن عمر أخرجه عبد بن حميد في «مسنده ــ المنتخب» رقم (783)، وابن عدي:(2/ 376).
والحديث أطبق الحفاظ على تضعيفه، وانظر بقية الكلام على طرقه وأسانيده في «تخريج أحاديث الكشاف»:(2/ 231) للزيلعي، و «المعتبر» (ص 81 - 83) للزركشي، و «موافقة الخُبر الخَبر»:(1/ 147) لابن حجر، و «إجمال الإصابة» (ص 58 - 60) للعلائي وغيرها.
هو
(1)
بمثله من الإخبارات يدلُّ على كون المخْبَر عنه متحقِّقًا، وإلا لكان الاقتداءُ بهم ضلالًا لا اهتداءً).
هذا الحديث مشهور في أصول الفقه، ووجه الاحتجاج به: أنَّ النبي صلى الله عليه وسلم أخبر أن الاقتداء بكلِّ واحد من الصحابة اهتداء
(2)
، فيكونُ ما أخبر به متحقِّقًا؛ لأنه لو لم يكن متحقِّقًا لكان نقيضُه متحقِّقًا، وهو كون الاقتداء بهم ضلالًا لا اهتداءً. هذا كلامُ المصنِّف. وعليه مناقشة من وجوه:
أحدها: قولُه: «وما هو بمثله من الإخبارات» .
فإنَّا لا نعلم أخبارًا بمثل [ما] أخبر به في هذا الحديث.
الثاني: قولُه: «يدلُّ على كون المخبَرِ عنه [متحقِّقًا]
(3)
، وإلا لكان الاقتداء بهم ضلالًا».
ليس بجيِّد، فإن أخبار النبيِّ صلى الله عليه وسلم تدلُّ على ثبوت المخبَرِ به؛ لأنه الصادق المصدوق، ولا يحتاج تحقُّق مخبَرِه إلى أن يُسْتَدَلَّ عليه بدليلٍ منفصل.
الثالث: قوله: «وإلا لكان الاقتداءُ بهم ضلالًا» .
(1)
«الفصول» : «وهو» .
(2)
الأصل: «اهتدي» .
(3)
سقطت من الأصل.
وهذا استدلالٌ على كون المخبَرِ عنه متحقِّقًا، والمخبَرُ عنه أن الاقتداء بهم اهتداء، فيكون تركيبُ الدليلِ: الإخبارُ بكون الاقتداءِ بهم اهتداء متحقِّق؛ لأنه لو لم يكن متحقِّقًا لكان الاقتداءُ بهم ضلالًا، لا اهتداءً. وهذا استدلالٌ على الشيء بنفي نقيْضِه بغير دليل؛ لأنه يلزم من كون الاقتداء اهتداءً أن لا يكون ضلالًا، ويلزم من عدم كونِه ضلالاً أن يكون اهتداء، فليس الاستدلالُ على أحدهما بالآخر بأولى من العكس.
الرابع: يقال: ولم قلتَ: إنَّ الاقتداءَ بهم لا يكون ضلالًا؟
فإن قال: للحديثِ المذكور.
فيقال له: الحديثُ المذكور دليلٌ على أن الاقتداء اهتداء من غير توسيط
(1)
هذا التلازم، فأيُّ فائدةٍ في إثبات الشيءِ بنفي لازمٍ لا يمكن نفيه إلا بعدَ إثبات ذلك الشيء الملزوم، فإن هذه المصادرةُ، وهي غير جائزة.
الخامس: لا نسلِّم أنه إذا لم يكن الاقتداءُ اهتداءً يكون ضلالًا، فإنه بين الاهتداء والضلال مرتبةٌ ثالثةٌ، وهي عدم الاعتقاد بالكلِّية، فإنَّ المُهتدي من اعتقد الحقَّ، والضالُّ
(2)
من اعتقد الباطل، وأمَّا من لم يتكلَّم في الحادثة، ولم يعتقد فيها شيئًا [ق 307] فليس بمهتدٍ فيها ولا ضالٍّ.
واعلم أن هذا الحديث قد يُحتجُّ به على أنَّ قولَ الصحابيِّ حجة؛ لأنَّ الاقتداء به اهتداء، كما ذكره النبي صلى الله عليه وسلم، وقد يُحتجُّ به على جواز تقليدِ كلِّ واحدٍ منهم وإن اختلفوا؛ لعموم الحديث، وربَّما احتجَّ به من قال: كلُّ مجتهدٍ مُصيب. وللناس عليه أَسْوِلة:
(1)
تحتمل: «توسُّط» .
(2)
الأصل: «الضلال» ، وهو سبق قلم.
أحدها: القدحُ في إسناده
(1)
.
الثاني: أن المراد به الاقتداء بهم في الرواية، لا في الرأي، يعني: تصديقَ كلٍّ منهم فيما أخبرَ به عن النبيِّ صلى الله عليه وسلم؛ لأن الاقتداءَ بكلٍّ منهم لا يكون اهتداء في كلِّ حالٍ إلا فيما أخبروا به عن النبي صلى الله عليه وسلم، وهذا تأويلُ المزني.
والثالث: أن الخطابَ للعامة دونَ أهلِ الاجتهاد. وهو بعيد، إذ ليس في الحديث تخصيص.
الرابع: أن المراد الاقتداء بكلٍّ منهم في جملةِ أُموره، فإنهم متفقون في أكثر الأقوال والأفعال، والخلافُ مغمور بالنسبةِ إلى الوفاق، فمن اقتدى بكلٍّ منهم في جميع أمورِه كان مهتديًا على صراطٍ مستقيم، غايةُ ما فيه أنه ربما يخطئ في قليلٍ من مسائل الفروع، وللمخطئ فيها أجر، وخطؤه مغفورٌ له، وذلك لا يُخرجه عن أن يكون مهتديًا، فإنَّ كلَّ واحدٍ من الصحابة مهتدٍ وإن كان قد أخطأ في قليلٍ من المسائل، فإن الخطأ القليلَ المغفور الذي يُثابُ معه الإنسان على اجتهادٍ لا يمنعه أن يكون مهتديًا.
وهذا ــ والله أعلم ــ وجهُ الحديث، ولهذا شَبَّههم بالنجوم التي في السماء، فإنها كلَّها أدلة وأعلام على الطريق لمن يقصد مكةَ أو غيرها من البلاد، فبأيِّ نجمٍ اهتدى السَّاري دلَّه على بُغْيَتِه ومقصده، وكذلك أصحابُ رسولِ الله صلى الله عليه وسلم بأيِّهم اقتدى المقتدي أوْصَلَه إلى صراطٍ مستقيم، ودلَّه على الله ودعاه إلى الحقِّ.
واعلم أنه لا يمكن الاستدلال بهذا الحديث على أن قول الصحابيِّ
(1)
وتقدَّم طرف منه (ص 562)، هامش (2).
حُجَّة مُلْزِمة، بأن يقال: اتِّباعُه في قوله اقتداء به؛ لأن الاقتداء جَعْلُه قدوةً وإمامًا، ومن اتَّبعه في قولِهِ فقد جعل قدوةً وإمامًا، والاقتداءُ به اهتداءٌ بنصِّ الحديث، فيكون موافقته في قوله اهتداء، والاهتداءُ واجبُ الاتِّباع بالاتفاق؛ ولأنه لو لم يجب القول بهذا الاهتداء؛ لكان إما [أن] تُعَطَّل الحادثة عن قولٍ، وهو غير جائز لمسيسِ الحاجة إلى الفتوى والحكم، أو يقال فيها
(1)
بخلاف الاهتداء، وخلافُ الاهتداء ضلالٌ، والضلالُ حرام؛ ولأنَّ من لا يجعل قولَهم حُجةً يُجَوِّز أن يخالفوا
(2)
، وإنما تجوزُ مخالفتهم لمن يعتقد أن الصوابَ في قولِ غيرِ الصحابيِّ، فيكونُ قولُ الصحابيِّ خطأً، والخطأ لا يكون هدًى؛ ولأن قولَه الاقتداءُ به الاهتداء، والاهتداءُ: إصابةُ الحقِّ، من قولك: هديتُه أهدي هدًى، إذا دللتَه على الحقِّ وبيَّنْتَه له، وأرشدْتَه إليه، فالمَهْدِيُّ هو المَدْلول على [ق 308] الحق المُرْشَد إليه المُبَيَّنُ له، فإذا قَبِل تلك الدلالة فهو مَهْدِيّ
(3)
، فَعُلِمَ أن الاهتداءَ نفسُ إصابة الحق، فعُلِم أنَّ قولَه صوابٌ، ولا نعني بكونه حُجَّةً إلا هذا.
فإن قيل: هذا منقوضٌ بما إذا اختلفوا، أو خالف الواحد منهم نصًّا.
قلنا: الحديث إنما يدلُّ على الاقتداء بهم حال عدم التعارض؛ لأنَّه شبَّههم بالنجوم، والنجمُ إذا دلَّ على جهةِ القصد عُمِل بدلالته إلا أن تُعارضه دلالةُ نجمٍ آخر، وتَرْكُ الدليل لمعارضٍ لا يمنع كونه دليلًا، كأخبار الآحاد والأَقْيِسَة والعمومات وأسماء الحقائق والأمر والنهي.
(1)
تكررت في الأصل.
(2)
الأصل: «يخالفون» .
(3)
تحتمل: «مهتدي» .
وما هذا إلا بمثابة رَكْبٍ معهم هادٍ خِرِّيْت يُعَرِّفهم الطريق، فإنهم يتَّبعونه إلا أن يخالفه هادٍ آخرُ خِرِّيت من جنسه، فيحتاجون
(1)
حنيئذٍ إلى ترجيح لقول أحدهما على الآخر، فإنَّ هدايتَهم إلى طريقِ الحقِّ كهداية الأَدلَّاءِ على طُرُق الدنيا. فمقصود الحديث أنَّ كُلًّا منهم هادٍ بطريقِ الحقِّ بصيرٌ به، فمن اقتدى به اهتدى، وليس من شرط الهادي
(2)
الخِرِّيت أن لا يُخطئ قط، فإنَّ لكلِّ عالمٍ عثرة وزلَّة، ولكن ذلك لا يمنع الاقتداء به في غير ذلك، فإذا لم يعارِضْه معارِضٌ من جنسه سَلِمَتْ دلالتُه عن المعارضة، فوجبَ اتِّباعُها، ولو كان وجود قولِه كعدمِه في وجوبِ اتِّباعه وكونه دليلًا على الحكم لم يكن مجردُ الاقتداءِ به اهتداءً.
وحَمْلُ ذلك على الرواية فاسد؛ لأنه لا فَرْقَ بين الصحابة وبين غيرهم من العدول في قبول الخبر؛ ولأن الاقتداء بالشخص اتخاذُه إمامًا وقدوةً، وليس ذلك فيما يرويه عن غيرِه، وإلا لكان أكابرُ الصحابةِ مقتدين بأصاغرهم إذا قبلوا أخبارَهم، ولَكَان الحُكَّام مقتدين بالشُّهود إذا قبلوا شهادَاتهم؛ ولأنه شَبَّهها بالنجوم، والنجومُ أدلةٌ هادية، وليست دلالتها من جهة الرواية، فعُلِم أنَّ الصحابة أدلة هادون يُسْتَدلُّ بهم كما يُسْتَدلُّ بالنجم؛ ولأنَّ الاقتداءَ أعمُّ من قبول الرواية، وهو نكرة في سياق الشرط؛ لأن الفعل نكرة؛ فيعم أنواعَ الاقتداء، تقديرُه: بأيِّ واحدٍ حَصَلَت لكم قدوةٌ به اهتديتم؛ ولأنَّ القدوة إمام مُتَّبَع، واتِّباعُه في الرواية، ومخالفتُه في غيرها إخراجٌ له عن الإمامة، وهذا ظاهرٌ لا خفاءَ به.
(1)
الأصل: «محتاجون» .
(2)
الأصل: «الهادِ» .