المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌ الشرائع لم تشتمل على قبيح - تنبيه الرجل العاقل على تمويه الجدل الباطل - جـ ١

[ابن تيمية]

فهرس الكتاب

- ‌[فصل في التلازم]

- ‌جوابُه من وجهين:

- ‌ كلُّ تقديرٍ لا ينشأ منه قيامُ مقتضٍ ولا نفيُ معارضٍ فإنه غير مفيد

- ‌ معارضة المستدلّ بما ينفي التلازم على وجوهٍ كثيرة

- ‌ كلام المستدلّ إنما يصحّ إذا كان قد بيَّن التلازمَ بطريقٍ صحيح

- ‌(فصل في الدوران)

- ‌ الدوران يفيد كونَ المدار علةً للدائر، بشرطِ أن لا يُزاحمه مدارٌ آخر

- ‌ المثال الذي ذكره صاحبُ الجدل غيرُ مستقيم أن يحتج فيه بالدوران

- ‌ تخلُّف العلّيةِ مع وجود الدوران كثيرٌ لا يُحصَى

- ‌[فصل في القياس]

- ‌ أكثر الأفعال تجتمع فيها الجهات الثلاث

- ‌ كيف يجوز تعليلُ أحكام الله بالمصالح

- ‌معنى قولنا: «إنه يفعل لا لغرضٍ ولا لداعٍ ولا لباعثٍ»

- ‌ المصالح إنما تكون مصالح إذا تجردت عن المفاسد أو ترجحتْ عليها

- ‌ إثباتَ العلّة بالمناسبة أقوى من إثباتها بالدوران

- ‌ هذا الكلام يقدح في القياس القطعي والظني، وما قَدَح فيهما فهو باطلٌ

- ‌ ثبوت المشترك له ثلاث(2)اعتبارات:

- ‌ مناقشة جدلية

- ‌ الدعاوي إذا تعدَّدت لم ينفع تعدُّدها أن يكون الدليلُ على كلٍّ منها غيرَ الدليل على الأخرى

- ‌ الجدل الباطل لا يُفلِحُ فيه مَن سَلكَه استدلالًا وسؤالًا وانفصالًا

- ‌ قَويَّ العمومِ مقَدَّمٌ على ضعيف القياس، وقويّ القياسِ مقدَّم على ضعيف العموم

- ‌ الشارع لا يُخصِّص العام حتى يَنْصِبَ دليلًا دالًّا على عدم إرادة الصورة المخصوصة عقليًّا أو سمعيًّا أو حسّيًّا

- ‌ التخصيص مشتملٌ على أمر وجودي وعدمي

- ‌الدليل يجوز أن يكون عدميًّا باتفاق العقلاء

- ‌ لفظ المصدر يدلُّ على تمام المقصود

- ‌ منع العموم يحتمل شيئين:

- ‌ المرجع في ذلك إلى استقراء صور الاستعمال

- ‌(فصل في تعدية العدم)

- ‌ تقريرُ كلامِه

- ‌(فصلٌ في تَوْجِيْه النُّقُوض)

- ‌ توجيهٌ ثانٍ للنقض

- ‌(فصل في النقض المجهول

- ‌ اقتضاءَ العلةِ المعلولَ أمرٌ فطريّ ضروري

- ‌ صحَّة الحكم لا يستلزم صحةَ الدليل المعيَّن

- ‌ أصل هذا الفساد: دعوى التلازم بين مسألتين لا مناسبة بينهما

- ‌(فصل

- ‌الواجب في مثل هذا الكلام أن يُقابل بالمُنُوعِ الصحيحة

- ‌(فصل

- ‌ صورة أخرى للجواب عن المعارَضَةِ بالقياس المجهول

- ‌(فصلٌ في التنافي بين الحُكمَين)

- ‌ التنافي إذا صحَّ بطريقٍ شرعيٍّ فإنه طريق من الطرق الصحيحة كالتلازم

- ‌ الطرق الصحيحة في تقرير التنافي

- ‌يُسْتَدل على التنافي بالأدلة المعلومة في كل مسألة

- ‌بيانُ ذلك من وجهين:

- ‌الأمرُ الاتفاقي لا يدلُّ على التنافي؛ لجواز تغيُّر الحال

- ‌(فصل في التمسُّكِ بالنص، وهو الكتابُ والسنة)

- ‌النصُّ له معنيان

- ‌جميعُ وجوه الخطأ منفيةٌ عن الشارع

- ‌أحدها: دعوى إرادة الحقيقة إذا لم ينعقد الإجماع على عدم إرادة الحقيقة

- ‌العمومات على ثلاثة أقسام:

- ‌(الثاني(3): دعوى إرادة صورة النزاع

- ‌(الثالث: دعوى إرادة المقيد بقيدٍ يندرج فيه صورة النزاع

- ‌(الرابع: دعوى إرادة شيء يلزمُ منه الحكم في صورة النزاع)

- ‌ معارضة الدعوى الرابعة

- ‌(فصل

- ‌ مُدَّعي الإرادة لا بدَّ أن يبين جواز الإرادة

- ‌سبيل هذه الدعاوى أن تُقَابل بالمنع الصحيح

- ‌ الاستدلال بالأمر على الوجوب له مقامان:

- ‌فصلُ الخطابِ في هذه المسألة:

- ‌ الشرائع لم تشتمل على قبيح

- ‌لا يجوز أن يراد به نفي الأحكام الشرعية

- ‌ لا يجوز أن يُراد به نفي الإيجاب أو التحريم

- ‌ لا يصح اندراج الإيجاب أو التحريم فيه إلا بإضمار الأحكام

- ‌(فصلٌ في الأثر)

- ‌(فصلٌ في الإجماع المركَّب)

- ‌ التركيب المقبول فُتيا(4)وجدلًا

- ‌(فصلٌ في الاستصحاب)

- ‌ الاستصحاب في أعيان الأحكام

- ‌الطريق الثاني في إفساده:

- ‌الطريق الثالث لإفساده:

الفصل: ‌ الشرائع لم تشتمل على قبيح

لكن يُعْلَم تارةً بالعقل، وتارةً بالسمع، فالشرائع عندهم موضِّحات للأحكام لا موجبات.

وأما الجبريَّة فعندهم لا يجوز أن يكون الفعل مشتملًا على صفةٍ مقتضية للحكم، فالشرائعُ عندهم موجباتٌ لا موضحات.

ومذهبُ أهل السنة من الفقهاء وغيرهم: أن كلا القسمين واقع، وأن الشرائع تارةً توضِّح ما في الأفعال من الصفات، وتارة تجعل للأفعال صفاتٍ لم تكن قبل ذلك.

ومن ذلك قوله: «وإلَّا لَقَبُح النهي عنه» ، فإنَّ هذا في ظاهره مبنيٌّ على قول من يقول: القُبْح العقلي في أفعال الله، وهو خلاف ما عليه جماهيرُ أهل السنة، وهو أصل القدرية الذين أسَّسوا عليه مذهبَهم.

لكن يمكن [أن] يقال: نحن نعلم باضطرار أن‌

‌ الشرائع لم تشتمل على قبيح

، ونعلمُ أنَّ النهي عن فعل الصالحات غير واقع في الشرائع، وغير جائز على الله شرعًا وغير جائز عليه عقلًا، بمعنى أن العقل يعلم أنَّ فعل المنهيِّ عنه قبيح، وأنه لو لم يكن قبيحًا إما بالنهي أو قبل النهي= لكان النهي عن شيء لا يكون قبيحًا بحال غير جائز على الله، وإن كان كلام المصنِّف لا يبيِّن هذه المعاني.

واعلم أن هذا

(1)

الدليل ليس بمرضي؛ لأن حاصله أنه لابد أن [ق 276] يكون في الفعل المنهيِّ عنه جلب مضرَّة، أو دفع مفسدة، أو لا بدَّ أن يكون ذلك في اعتقاد عدم قبح المنهيِّ عنه، أو العزم على فعله، وهذا مُسَلَّم، لكن لِمَ قلتَ: إن هذه المفسدة توجبُ العزيمة، وذلك أنه من المعلوم أن النهي

(1)

غير واضحة في الأصل، ولعلها ما أثبت.

ص: 497

قسمان: نهي تحريم، ونهي تنزيه، وأنَّ كلا القسمين المنهي عنهما لابدَّ أن يكون مفسدته

(1)

راجحة على مصلحته، فلو كان اشتماله على المفسدة الراجحة موجبًا للتحريم لامتنع نهي التنزيه، وذلك لأن المفاسد تختلف، فمنها ما فيه ضرر عظيم في أمر الدين، أو ضرر عظيم في أمر الدنيا، ومنها ما فيه مضرَّة يسيرة خفيفة

(2)

إما في الدين أو في الدنيا، والتحريم يقتضي استحقاق الفاعل الذمَّ والعقابَ، فإن كان ضرر الفعل الحاصل عنه ضررًا يقتضي ذم الفاعل وعقابه، بحيث يكون ضرر الفعل أكثر من الضرر الحاصل من ذمِّ الفاعل وعقابه= حَسُن النهيُ عنه على سبيل التحريم؛ دفعًا لأعظم الضررين بالتزام أصغرهما.

وإن كان ضرر الفعل شيئًا يسيرًا، بحيث يكون الذم والعقاب على فعله أعظم من ضرر فعله لو خلا عن الذم والعقاب= حَسُنَ أن يُنْهى عنه؛ بيانًا لما فيه من الفساد، ولم يحسن أن يحرَّم؛ لأن معنى تحريمه الإخبار بأنه سبب لذمِّ فاعله ولعقوبته، ومعلومٌ أن ذمَّ فاعله وعقوبته ربما كانت أضعاف ضرر فعله، فكيف يوقع أعظمَ الضررين لدفع أخَفِّهما

(3)

.

نعم يكون فعل ما نُهي عنه على وجه التنزيه سبب الانتقاص؛ إما بانحطاط درجته، أو بِقِلَّة أجره وثوابه، أو ببقاء الآثام

(4)

التي عليه، كما قد يكون تَرْك كثيرٍ من المسنونات من هذا القبيل. فَعُلِم بذلك أنَّ النهي يدلُّ

(1)

الأصل: «مفسدة» .

(2)

الأصل: «حقيقة» .

(3)

الأصل: «أحقهما» .

(4)

رسمها في الأصل: «الأيام» ولعلها ما أثبت.

ص: 498

على اشتمال الفعل المنهيِّ عنه على مفسدة راجحة، لكنَّ مجرَّدَ اشتماله على المفسدة لا يكون موجبًا لحرمته، إلا أن تكون مفسدةُ فعلِه أعظم من المفسدة الحاصلة بفاعله من الذمِّ والعقاب بتقدير التحريم.

وبهذا يحصل الجواب عن قولهم: «الشارع حكيم فلا يجوز أن يبيح ما فيه مفسدة؛ لأن المفاسد يجب السعي في إعدامها وإذا لم يتَّجه فقد جَزَمْنا بعلم

(1)

أن اشتماله على المفسدة موجبٌ للتحريم».

فيقال: ما فيه مفسدة لا بُدَّ أن ينهى الشرع عنه، ويُعرِّف بما فيه، وحينئذٍ فلا يكون مباحًا متساوي الطرفين؛ لا أنه

(2)

لا بد أن يحرِّمه على العباد حتى يجعل [ق 277] فاعله مذمومًا معاقبًا، أو يجعل فعله سببًا لعقوبة فاعله، فكيف يجب ذلك، وهو لو فَعَلَه لم يكن فيه ضرر أعظم من ضرر العقوبة؟! فكيف يُشرع حكمٌ فيه من المضَرَّة ما ليس في عدمِه؟ إذ لو لم يحرِّمْه لكان ضرر فعله دون عقوبته.

فإن قيل: كثير مما نهى الله عنه وحرَّمَه لو لم يحرِّمْه لكان إما أن يخلو عن المضرة، أو فيه مضرة دون مضرة العقوبة على الفعل، كما قد قرَّرتموه قبل هذا، ومع هذا فقد حرَّمَه.

قلنا: هذا غلط، بل يجب أن يُعْتَقد أن جميع تحريمٍ حرَّمَه الله لو لم يكن لكان الفساد الحاصل من عدمه أكثر من الفساد الحاصل بعقوبة العاصين بتقدير الوجود، وأن تقدير وجوده أقل مفسدة وأكثر مصلحة من تقدير عدمه، ولو لم يكن إلا أن في التحريم من تحصيل اعتقاد التحريم والعزم على

(1)

الكلمتان مهملتان في الأصل، ولعلهما ما أثبت.

(2)

الأصل: «لأنه» تحريف.

ص: 499

الطاعة والانقياد

(1)

للناهي من المصلحة ما لو عُدمت لكان ضرر عدمها أكثر من ضرر عقوبة من يعصي.

واعْتَبِر هذا بقصَّة النَّهر

(2)

، فإنه لولا النهي لعَبَروا كلُّهم وأكثرهم المنافقون فزادوهم خبالًا وأوضعوا خلالهم، والمؤمن منهم لم يستحكم إيمانه، فلعلَّهم

(3)

لو قاتلوا جالوت على تلك الحال لانهزموا، فلما ابتلوا بالنهي عن الشُّرب أطاع من أطاع فازداد يقينًا وإيمانًا، [و] حصل لهم النصر على عدوهم بسبب ذلك الإيمان واليقين، وعقوبة العاصين مرجوحة مغمورة في جانب ما حصل من إعزاز دين الله، وإعلاء كلمة الله الذي [هو] مقصود الشرائع.

وأقرب ما يُقال في جواب هذا السؤال: أن الفعلَ المشتمل على مفسدة

(4)

والأصل إلحاق الفرد بالأعم الأغلب.

الوجه الثالث

(5)

: قوله

(6)

: (ولأنه لو لم يكن محرَّمًا لما كان العاقل محترزًا [عن ارتكاب المنهيِّ عنه حال كون النفس داعيةً إليه، وقد كان محترزًا] فيكون حرامًا).

(1)

غير واضحة ولعلها ما أثبتُّ.

(2)

الأصل: «النهي» ، وما أثبت هو الصحيح.

(3)

الأصل: «فلعلم» !

(4)

كذا في الأصل، وفي الكلام سقط ظاهر!

(5)

انظر الوجه الثاني (ص 493).

(6)

«الفصول» : (ق/10 ب) وما بين المعكوفين سقط من الاصل واستدركناه من «الفصول» .

ص: 500

كأن مضمون هذا الوجه أنه يقول: لو لم يكن الفعل محرَّمًا لكان مباحًا، ولو كان مباحًا لما احترز العاقلُ عن إيقاعه عند وجود الداعي؛ لأن الداعي إذا دعا إلى أمر مباح فلا معنى للاحتراز عنه شرعًا، لكنَّ العاقل يدعوه عقلُه إلى الاحتراز من إيقاع الفعل المنهيِّ عنه؛ لِما يتخوَّفه من قُبْح عاقبته وسوء مغبّتِه، فَعُلِم أنه ليس بمباح، فهو حرام.

وهذا الوجه مستدرَك من وجوه:

أحدها: أن احتراز العاقل قد يكون منشؤه تجويز التحريم، أو ظنّ التحريم، أو توهُّم التحريم، فإنَّ هذا إنما يمنع العاقل عن ارتكاب المنهيِّ عنه وإن لم يكن في نفسه محرَّمًا.

الثاني: أن أفعال

(1)

.

* * * *

(1)

هنا خرم واضح؛ إذ لا علاقة لهذا الكلام بما بعده، والظاهر أن الخرم بمقدار ورقة واحدة؛ إذ انتهى المؤلف من الأوجه في نقد كلام صاحب «الفصول» ، وبدأ في مناقشة كلامه التالي.

ويظهر أيضًا أن هذا الخرم قديم، وكان في الأصل الذي نقل منه الناسخ، وليس من أصلنا هذا، بدليل أن الناسخ قسّم الكتاب إلى أجزاء كل جزء عشر ورقات، فكان هذا الجزء الذي وقع فيه الخرم عشر ورقات أيضًا، مما يدلُّ على أن نسختنا لم يسقط منها شيء، والله أعلم.

ص: 501

[(فصل

في التمسُّك بالنافي للضَّرَر، مثل قوله عليه السلام:«لا ضرر ولا إضْرار في الإسلام» ، فيقال: الإيجاب إضرار؛ لأنه يفَوِّت سلامة الملك عن الزوال لو أُدِّي، وسلامة النفس عن العقاب لو ترك، والمجموع مطلوب، والإضرار يدور مع المفوت للمطلوب وجودًا وعدمًا، فيكون حقيقة له)]

(1)

.

[ق 278] مثلًا، فإن أدى زال ملكه، وإن لم يؤدِّ

(2)

تعرَّض للعقاب، وكل واحد من زوال المال

(3)

وعقوبة النفس ضرر، وهذا الضرر إنما حصل بالإيجاب، فيكون الإيجاب مقتضيًا لهذا الضرر، فيكون ضررًا، وهو معنى قوله: «لأن الإيجاب تَفْويت

(4)

سلامة الملك، أو سلامة النفس»؛ لأنه إن أُدِّي فقد فاتت سلامة الملك عن الزوال، وإن لم يُؤَدَّ فقد فاتت سلامة النفس عن العقاب، لقيام سبب وجوده، وهو ترك أداء الوجوب، وكلُّ واحدة من هاتين السلامتين مطلوبة؛ لأن العاقل يطلب سلامة ملكه من الزوال، وسلامةَ نفسِه من العقاب، والإيجابُ يفوِّت هذا المطلوب، وتفويت المطلوب إضرار؛ لأن الإضرار يدور مع المفوّت للمطلوب وجودًا وعدمًا، فحيثما

(1)

«الفصول» : (ق/10 ب). وانظر: «شرح المؤلف» : (ق/98 أ- 100 أ) و «شرح السمرقندي» : (ق/77 أ- 78 أ)، و «شرح الخوارزمي»:(ق/90 ب- 92 أ).

وما بين المعكوفين أثبتناه من «الفصول» إذ كان ضمن الخرم المشار إليه، وما سيأتي من كلام المصنف شرح له.

(2)

الأصل: يؤدي.

(3)

كذا والسياق يقتضي: «الملك» .

(4)

الأصل: «تقوية» والصواب ما أثبته.

ص: 502

وُجِد مفوِّت للمطلوب كان ذلك إضرارًا، وحيث انتفى المفوِّت للمطلوب لم يكن إضرارًا، فيكون قد دار كون الشيء إضرارًا مع كونه مفوِّتًا للمطلوب وجودًا وعدمًا، فيكون التفويت للمطلوب حقيقة الإضرار، والإضرار منتفٍ بقوله:«لا ضرَرَ ولا إضْرارَ في الإسلام»

(1)

.

والمعنى: لا ضرر ولا إضرار في أحكام الإسلام، بطريق حذف المضاف وإقامة المضاف إليه مُقامه. ولو ثَبَت الضررُ في هذا الحكم لثبت الضرر في جملة الأحكام، فلم يصح أن يقال: لا ضرر في أحكام الإسلام والضررُ ثابت في واحدٍ منها.

واعلم ــ أصلحك الله ــ أن هذه الطريقة على هذا الوجه مسكتة

(2)

من وجوه:

أحدها: أن هذا الحديث الذي ذكره بهذا اللفظ

(3)

لا يُعْرف في شيءٍ من دواوين الحديث

(4)

، وإنما المعروف ما رواه الإمام أحمد في

(1)

تقدم تخريجه (ص 479). وقوله في هذا اللفظ: «ولا إضرار» بالهمزة قال الحافظ ابن رجب في «جامع العلوم والحكم» : (2/ 211)«الرواية الصحيحة: ضِرار بغير همزة، ورُوي «إضرار» بالهمزة، ووقع ذلك في بعض روايات ابن ماجه والدارقطني، بل وفي بعض نسخ «الموطأ» وقد أثبت بعضهم هذه الرواية وقال: ضرّ وأضرّ بمعنى، وأنكرها آخرون، وقالوا: لا صحة لها

» اهـ.

(2)

كذا ولعلها تحريف لكلمة «فاسدة» .

(3)

يعني بزيادة «في الإسلام» .

(4)

لكن أخرجه الطبراني في «الأوسط» : (5/ 238) من رواية محمد بن سلمة عن ابن إسحاق عن محمد بن يحيى بن حبان، عن عمه واسع بن حبان عن جابر رضي الله عنه بهذا اللفظ. قال الحافظ ابن رجب في «جامع العلوم والحكم»:(2/ 209): «وهذا إسناد مقارب وهو غريب. لكن خرَّجه أبو داود في «المراسيل» [رقم (407)] من رواية عبد الرحمن بن مِغراء عن ابن إسحاق، عن محمد بن يحيى بن حبان، عن عمه واسع مرسلًا، وهو أصح» اهـ.

ص: 503

«مسنده»

(1)

عن ابن عباس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لا ضرر ولا إضرار، وللرجل أن يضع خَشَبَةً في حائِط جارِه، وإذا اختلفتم في الطريق فاجْعَلُوه سَبْعَةَ أذْرُعٍ» ورواه ابنُ ماجه في «سننه» مُقَطَّعًا

(2)

.

وإذا لم يكن معروفًا لم يصح الاحتجاج به؛ لأن أقل ما على المستدلِّ أن يبيِّن ثبوتَ الحديثِ، إما بكونه مشهورًا بالصحة، أو بكونه مرويًّا في الدواوين الصحيحة، أو في ديوان غير مشهور بالسُّقْم، أو أن يرويه بإسناده، أو بكونه في شيءٍ من كتب الحديث في الجملة، وإن كان هذا وحده غير كاف، فإن الجدليين مصطلحون على أنه لو عزاه إلى بعض كتب الفقه لم يُقْبَل، إلا أن يكون صاحب الكتاب عالمًا بصحيح الحديث وضعيفه، ففي قبوله حينئذٍ خلافٌ بينهم. ولو عزاه إلى كتاب حديث لبعض الفقهاء، كان بمنزلة عزوه إلى كتاب حديث وأولى. فأما حديث ليس له زِمام ولا خِطام فلا يجوز الاستدلال به في الأحكام باتفاق أهل العلم من الجدليين وغيرهم.

[ق 279] فإن قال: هذا قد رواه بعضُ أصحاب الخلاف، أو بعض الفقهاء، وذلك كافٍ.

قيل له: هؤلاء المتأخِّرون من الخلافيين ونحوهم من المتفقِّهَة أقلُّ

(1)

(5/ 55 رقم 2865). وانظر ما سبق (ص 479).

(2)

رقم (2337، 2339، 2341) وقد جمع المؤلف ألفاظها في سياق واحد.

ص: 504

الناسِ علمًا بالحديث وأبعدهم عن ضبطه ومعرفته، ولعلّ أحدهم أو أكثرهم لا يعرفون مظانِّ طلب الأحاديث، ولا حملها ونقلها، ولا يميزون

(1)

بين أجناسها وأنواعها، وأدنى دليلٍ على ذلك ما في كتبهم من الأحاديث التي أجمع أهلُ الحديث على أنه ليس لها أصل عن النبي صلى الله عليه وسلم، تارةً يجعلون الفتوى حديثًا، وتارةً تكون الكلمة محفوظة عن بعض الفقهاء، أو بعض السلف، فيجعلونها مرفوعةً إلى النبي صلى الله عليه وسلم، وتارة يخلطون بالحديث زيادات ليست منه

(2)

، وذلك لأنهم لم يتلقوا الأحاديث ممن ضبطَها وأحكمها، وإنما غايةُ المبرِّز منهم أن يجده في بعض كتب الفقه، ولا يَعْرف من أين نقله ذلك المصنِّف. ومجرَّد ذلك لا يغلِّب على الظن صحةَ الحديث، بعدما عُرِفَ من تساهل هذا الضرب في الأحاديث وقلة اعتنائهم بها، لاسيما إذا لم يوجد له أصل في الدواوين المعنيَّة بهذا الشأن، وعند الرجال الذين هم فرسان هذا العلم، فيكون مَثَلُ ذلك مَثلَ دينار عُرِضَ على النجَّارين، فقالوا: هو صحيح، فلما رأتْه الجهابذة

(3)

قالوا: هو مغشوش، والقولُ في ذلك قولُهم، لأن أهل كلِّ صنعة أعلم بصنعتهم.

وكذلك لو رأى بعض الحدَّادين خَرَزةً فقالوا: هي جوهرة، وقال الجوهريُّ: هي زجاجة، فالقولُ قولُ الجوهريُّ.

ويكفي دليلًا على ذلك أن هذا المصنِّف ذكر في كتابه هذا عدة أحاديث، عامتها ليست محفوظة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، مع أنَّ في الباب الذي

(1)

الأصل: «يهزون» !

(2)

انظر أمثلة لذلك في «التلخيص الحبير» : (1/ 293 - 294 و 2/ 20 و 4/ 64، 94).

(3)

الأصل: «الجهبذة» !

ص: 505

يذكره عدةَ أحاديث صحاح مشهورة.

وإذا كان المحفوظ إنما هو قوله: «لا ضر ولا إضرار» = بطلَ الاستدلال الذي ذكره؛ لأنه إنما يتمّ بأن يُقال: «لا ضرر ولا إضرار في أحكام الإسلام» ، ومعلومٌ أن مجرَّد قوله:«لا ضرر ولا إضرار» لا يدلُّ على هذا المحذوف، وحذفُ ما لا يدلُّ عليه سياق الكلام غير جائز.

بقي أن يُقال: اللفظ عام في نفي كلِّ ضرر، والإيجاب ضرر، فيكون منتفيًا. فنقول: سنأتي عليه.

الوجه الثاني: أنه إن كان قوله: «لا ضرر ولا إضرار في الإسلام» محفوظًا، فإن معناه يعود إلى معنى قوله:«لا ضرر ولا إضرار» ، وذلك ينبني على مقدمة، وهو أن بعضَ الناس يقول: الصوابُ في هذا الحديث أن يقال: «لا ضرار، ولا إضرار»

(1)

، فالضرر اسم مصدر: ضرَّه يضرُّه ضررًا. والضرار مصدر: ضارَّه يُضارُّه ضرارًا ومضارَّة، فنفى النبيُّ صلى الله عليه وسلم الضرر المنفرد من أحد الجانبين، والضرار المشترك من [ق 280] الجانبين، وتقديره: لا يضرَّ أحدٌ أحدًا، ولا يُضارَّ أحدٌ؛ لكن في كتب الحديث:«لا ضرر ولا إضرار» .

وهذا كما أنه المعروف في الرواية فهو أجود في الدراية، وذلك أنَّ ما يحصل لأحد الجارين من المضرة تارةً يكون بقصد الجارِ الآخر وفعله، وتارة لا يكون بفعله، فما كان بفعله فهو إضرار بالآخر، وما لم يكن بفعله فهو ضرر به، ففي نفي النبيِّ صلى الله عليه وسلم أن يتضرَّر الإنسانُ أو أن يضر به غيره. وهذا لأن «الضرر» اسم المصدر، واسم المصدر لا يختص باللازم ولا بالمتعدِّي،

(1)

كذا، ولعل الصواب:«لا ضرر، ولا ضِرار» .

ص: 506

بل يدلُّ على الحدث من حيث هو، كالكلام فإنه لا يختصُّ بالتكلُّم ولا بالتكليم، وكذلك الحركة لا تختصُّ بالتحريك ولا بالتحرُّك. فالضرر اسم لما يقع بالمتضرِّر، لا يختصُّ بالضرر الذي هو متعدٍّ، ولا بالتضرُّر الذي هو لازم، ويجوز أن يكون اسمًا للشيء المضارّ، ويجوز أن يكون مصدرًا لـ «ضرِرْتُ أضَرُّ ضَرَرًا» ، مثل:«عَرِج يَعْرجُ عَرَجًا» ، و «عَمِي يَعْمَى عمى» ، و «صمَّ يَصَمّ صَمَمًا» ، فيكون على هذا مصدرًا للازم.

من ذلك قوله: {لَا يَسْتَوِي الْقَاعِدُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ غَيْرُ أُولِي الضَّرَرِ} [النساء: 95]، فإنه ليس إشارة إلى ضُرِّ الغير لهم. ويدلُّ على [أن] هذا الاسم لا يدلُّ على ضررٍ متعدي: قولُ الإنسان: فلانٌ به ضررٌ، ومكانٌ ذو ضررٍ، أي ضيِّق، ويقال: لا ضرر عليك، ولا ضرورة، ولا مضرَّة

(1)

.

وأما «الإضرار» فهو مصدر: أضْرَرْتُ به أُضِرُّ به إضرارًا، إذا أَوْقَعَ به الضرر وأحلَّه به، كأنه أَلْصَقَه به، ولهذا جِيء بالباء، وليست للتعدية، فإن الثلاثيَّ يتعدَّى بنفسه، فكيف يتعدَّى الرباعيُّ بالباء، لكن جِيء بها لزيادة المعنى، وهذا المعنى أعمُّ من المعنى على ذلك القول، ويؤيده أنه لو أُريد ذلك المعنى لكان الأَقْيس:«لا ضرّ ولا ضرار» .

وأيضًا: فإنَّ الضرار في الحقيقة ضُرّ، فنَفْي الضُّرِّ يستلزمُ نفي المضارَّة، كما أن نفي القَتْل والضَّرْب يستلزمُ نَفْي المقاتلة والمضاربة.

فإن قيل: فقد رُوي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «من ضارَّ أضرَّ اللهُ به، ومن

(1)

الأصل: «يضره» .

ص: 507

شاقّ شقَّ الله عليه»

(1)

، وقال تعالى:{لَا تُضَارَّ وَالِدَةٌ بِوَلَدِهَا} [البقرة: 233]، وقال:{وَلَا يُضَارَّ كَاتِبٌ وَلَا شَهِيدٌ} [البقرة: 282]، وقال:{وَلَا تُضَارُّوهُنَّ لِتُضَيِّقُوا عَلَيْهِنَّ} [الطلاق: 6]، وقال تعالى:{وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مَسْجِدًا ضِرَارًا} الآية [التوبة: 107].

قيل: إنما جِيء في هذه المواضع بصيغةِ المفاعلة؛ لأنه فِعْل من أحد الجانبين يقتضي مثلَه من الجانب الآخر، فهو يفضي إلى المفاعلة، وإن كان المنهي أحد الجانبين، وذلك أن الكاتب أو الشهيد إذا فُعِل به ما يضرُّه فإنه يكافئ على ذلك بموجب الطبيعة، فصارت مُضارَّة، وهكذا كلُّ ما كان من شأنه إمكان المُقابلة والمُجازاة، وهذا يبين أنَّ المضارَّةَ أخصُّ من الضرر، ونَفْي الأعمِّ [ق 281] يستلزمُ نفيَ الأخصِّ.

إذا تبيَّن هذا فقوله: «لا ضرر ولا ضرار» صيغته بصيغة

(2)

الخبر، ومعناه الأمر؛ لأنه لو كان مقصودُه الإخبار بعدم وقوع الضرر والإضرار للزم أن لا يقع شيء من الضرر والإضرار؛ لأنَّ خبرَ رسول الله صلى الله عليه وسلم صِدْق لا يجوز أن

(1)

هذا اللفظ جاء في بعض روايات حديث: «لا ضرر ولا ضرار» من حديث أبي سعيد الخدري المتقدم تخريجه (ص 479).

وأخرجه بهذا اللفظ أحمد: (25/ 34 رقم 15755)، وأبو داود رقم (3635)، والترمذي رقم (1940)، وابن ماجه رقم (2342)، والبيهقي:(6/ 70) وغيرهم من حديث أبي صرمة الأنصاري رضي الله عنه. قال الترمذي: «حديث حسن غريب» .

وفي سنده لؤلؤة مولاة أبي صرمة ذكرها الذهبي في المجهولات في «الميزان» : (6/ 284).

(2)

كذا بالأصل.

ص: 508

يقع شيءٌ منه بخلاف مُخْبره

(1)

، فلما رأينا في الوجود شيئًا كثيرًا من الضرر والإضرار= علمنا أن مقصودَه النهي عن الضرر والإضرار، فيكون المعنى: لا يتضرَّرَنَّ أحدٌ بأحد، فحيثما تضرَّر أحدٌ بأحد فعلى من كان ذلك التضرُّرُ من جهته أن يزيله ويرفعه، وحيثُما

(2)

أضرَّ أحدٌ بأحد فعليه أن ينتهي عن ذلك، ولا يحلُّ له أن يفعله ابتداءً.

وكذلك إن صحَّ قولُه: «في الإسلام» لكان معناه النهي أيضًا، كقوله:«لا جَلَبَ ولا جَنَبَ ولا شِغَار في الإسلام»

(3)

إنَّما معناه: لا تجلبوا ولا تجنبوا، ولا تشاغروا في الإسلام.

وكذلك قوله: «لا حِلْف في الإسلام، وما كان من حِلْفٍ في الجاهلية فلم يزِدْه الإسلام إلا شِدَّة»

(4)

، ومثل هذا كثير، وإذا كان كذلك امتنع أن يُسْتَدَلَّ بذلك على نفي إيجاب الله أو تحريمه؛ لأن الله ــ سبحانه وتعالى ــ لا يجوز أن يُنهى ولا يُؤمَر.

ويجوز أن يكون معناه الخبر ــ أيضًا ــ وإن كان معناه آئلًا إلى الأمر، بأن

(1)

الأصل: «مميزه» ! والظاهر ما أثبتّ.

(2)

الأصل: «فحيثما» والصواب بالواو.

(3)

الحديث أخرجه أحمد: (33/ 87 رقم (19855)، وأبو داود رقم (2581)، والترمذي رقم (1123)، والنسائي:(6/ 228)، وابن حبان «الإحسان» رقم (3267)، وغيرهم من حديث عمران بن حصين رضي الله عنه. قال الترمذي:«حديث حسن صحيح» . وصححه ابن حبان. إلا أنه من رواية الحسن عن عمران، وهو لم يسمع منه، إلا أنَّ له متابعات وشواهد من حديث ابن عمرو وابن عمر وغيرهما تقويه. انظر «التلخيص الحبير»:(2/ 170 - 171).

(4)

أخرجه مسلم رقم (2530) من حديث جُبير بن مُطْعِم رضي الله عنه.

ص: 509