الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
تاريخ الأصولية الإنجيلية
تاريخ الأصولية الإنجيلية -والبعض يسميها الصهيونية المسيحية-:
ترجع بذور هذه الأصولية إلى فكر وعقائد طرحتها حركة الإصلاح الديني البروتستانتي في القرن السادس عشر، في عدد من الدول الأنجلوسكسونية، حيث رأت هذه الحركة أن التوراة هي كلمة الله المعصومة، ورأت في النبوءات والأساطير التوراتية قانونا وتاريخا، وجعلت من مجمل العهد القديم مرشدا لحياة الناس الدينية والزمنية بما فيها الأدبية والثقافية والفنية، وتحول العديد من البروتستانت في القرن السابع عشر إلى اليهودية، واعتبرت حركة الإصلاح الديني بمنزلة بعث يهودي، وبخاصة بعدما ركزت اهتمامها وأولوياتها على ما يعرف بالتوراة، وهي سجل لتاريخ أنبياء بني إسرائيل وملوكهم وقادتهم وعباداتهم وأشعارهم والأساطير التي حيكت حولهم وتقاليدهم.
ولعل هذا التحول الديني كان من أبرز التحولات في تاريخ الأفكار والعقائد التي عرفتها البشرية عقب انتهاء القرون الوسطى، فأوربا كانت في حالة عداء نفسي وعملي لليهود قبل ولادة حركة الإصلاح الديني، وتأسست فيها عقيدة ضد اليهود تؤدي مباشرة إلى إيذاء اليهودي بدنيًّا، على اعتبار أن اليهود رفضوا رسالة المسيح عليه السلام وأن أجيالًا يهودية توالت بعد ذلك على المنهج نفسه، ومن ثم يجب أن يعاقبوا على جريمة ما يسمى بصلب المسيح.
وكانت أوربا قد شهدت خلال القرن الثاني عشر عمليات ذبح جماعية لليهود في فرنسا وانجلترا وألمانيا، وبخاصة في مطلع تسيير الحملات الصليبية إلى
فلسطين، وذلك تنفيذا لقول اليهود في محاكمة المسيح: دمه علينا وعلى أولادنا طلبًا للغفران قبل تحرير القدس، وكانت صورة اليهودي قرب نهاية القرون الوسطى لا تظهر في الرسوم والحكايات الشعبية إلا على صورة إنسان نجس وخاطئ، وعلى شكل بومة أو أفعى، كما ظهرت صورة اليهودي التائه صاحب الأنف المقوس والرجل الهرم ذي اللحية، والملامح العابسة والكريهة.
واعتادت الجماعات اليهودية حياة الاضطهاد فمالت إلى العزلة، وأدى هذا الوضع إلى بروز ظاهرة الجيتو في أواخر القرن الخامس عشر، حيث تم وضع اليهود داخل أحياء منفصلة تحاط بها أسوار مرتفعة، ولها بوابتان يقف عليها حرس مسيحي وتغلق أبوابه في المساء، وكانت الجماعات اليهودية تتعرض للثورات الشعبية في أثناء حدوث أزمات أو انتشار مرض معين. مثل: الطاعون أو الموت الأسود، حيث كان يلقى باللوم على اليهود، توجه إليهم تهمة نشر الوباء، ولعل كل هذا الاضطهاد هو الذي شكل العمق التاريخي للموقف الفكري والسياسي لحركة النازية الألمانية تجاه اليهود في القرن العشرين، وهكذا عرفت أوربا سلسلة دامية من الأحداث والصراعات واضطهاد اليهود طوال القرون الوسطى.
وقد طرد اليهود من انجلترا في نهاية القرن الثالث عشر وحتى نهاية القرن السادس عشر، ولم تكن تسمح السلطات الإنجليزية لأعضاء الجماعات اليهودية بتولي المناصب في مجالس البلديات، أو في الوظائف المدنية، ولم يصل إلى البرلمان الإنجليزي عضو يهودي واحد حتى سنة 1858، قد كان أول وزير يهودي إنجليزي هو "هربرت صموئيل" سنة 1904، وكذلك الحال في روسيا حيث لم يسمح لليهود بدخول المدارس الروسية، ولم يسمح لهم بالعمل في حقل المحاماة
وكذلك الحال في فرنسا، وعانى اليهود العزل والقتل والتمييز لأسباب متعددة من بينها: عوامل دينية كمسألة صلب أو قتل المسيح، وعوامل اقتصادية مرتبطة بالوظيفة الربوية للجماعات اليهودية.
وبانتهاء العصور الوسطى وقبل مطلع القرن السادس عشر شهد التاريخ أحداثًا فاصلة مثل: فتح القسطنطينية واختراع الطباعة وسقوط الحكم العربي الإسلامي في الأندلس، واكتشاف أمريكا وغيرها، وكانت أوربا حتى ذلك الوقت تدين بالكاثوليكية، لكن بحلول القرن السادس عشر بدأ الكثيرون يضيقون بسلطة البابا، وظهر "مارتن لوثر" متحديًا دور هذه الكنيسة؛ لاحتكارها تفسير الكتب الدينية المسيحية ولمسائل بيع صكوك الغفران للناس، وانتشرت دعوة "مارتن لوثر" وكثر أتباعه في أجزاء كثيرة من أوربا، وصار من حق كل مسيحي قادر أن يقرأ التوراة والأناجيل وأن يفسرها، وترجمت للغات مختلفة بعد أن كانت حكرا على اللاتينية والإغريقية.
وما يهمنا في هذه الحركة الكنسية الجديدة أنها اهتمت بالعهد القديم، الذي صار المرجع الأعلى للسلوك والاعتقاد، وفتحت الباب أمام تفسيرات وتأويلات وبدع في اللاهوت المسيحي، وأمست معتقدات يهود العهد القديم وأرض فلسطين أمورًا مقبولة في الفكر والثقافة والفنون الغربية، وصارت قصص التوراة مألوفة كالخبز ترددها العامة والنخب عن ظهر قلب، وصار المسيح نفسه واحدا من الأنبياء العبرانيين، وحل قادة وأبطال التوراة محل القديسين الكاثوليك، كل ذلك يتم في جو استرجاعي قوي إلى عقيدة عودة المسيح الثانية، والتركيز على دور اليهود في هذه العودة، وكون اليهود مجرد أداة للخلاص وبوابة حتمية لانتشار المسيحية، ومن ثم تحولت فلسطين في الأذهان إلى أرض موعودة للشعب اليهودي المختار، وبات الربط بين الأرض واليهود يرد في الطقوس والشعائر
الدينية، وجردت فلسطين من دلالتها المسيحية بعد أن كانت أرض المسيح المقدسة، ومن أجلها كانت الحملات الصليبية، لكنها الآن تحولت إلى وطن لأجل اليهود الذين تشكل عودتهم إليها المقدمة الحتمية لعودة المسيح المنتظر.
وتعتبر مسألة المجيء الثاني للمسيح من الأركان الأساسية للإيمان المسيحي، ومن أهم موضوعات الإنجيل، ولا يخلو سفر من أسفاره من الحديث عن المجيء الثاني للمسيح، وكل مسيحي العالم تقريبًا يؤمنون بهذه المسألة، إلا أن الاختلاف يقع في كيفية وتفاصيل هذا المجيء، وقد نجحت الصهيونية في إقناع بعض المسيحيين بأن إنشاء إسرائيل هي علامة من علامات المجيء الثاني، وأن عودة المسيح سوف تكون بصورة عنيفة وقوية؛ ليقف مع إسرائيل في مواجهة قوى الشر في العالم، التي يهزمها في موقعة دموية قاسية، وبهذا الانتصار على القوى الشريرة يقوم المسيح بعد ذلك بحكم العالم لمدة ألف عام.
وقد ظهر هذا الإيمان في تاريخ الفكر المسيحي اللاهوتي من خلال عدة نظريات، جاءت جميعها مبنية على تفسير ما جاء في سفر الرؤيا -وهو آخر أسفار العهد الجديد- وفيه يروي يوحنا حلمه الذي رآه حول مستقبل العالم؛ حيث رأى ملاكًا نازلًا من السماء يقبض على إبليس ويقيده بسلسلة عظيمة لمدة ألف عام؛ لكي لا يضل أحدًا، ثم متى تمت الألف عام حل إبليس من قيده ليضل الأمم ويجمع يأجوج ومأجوج، الذين عددهم مثل مدد البحر؛ ليحاصروا معسكر القديسين والمدينة المحبوبة، عندها ينزل الله نارًا من السماء لتأكلهم وإبليس والنبي الكذاب المسمى بالمسيح الدجال.
وقد انقسم المسيحيون حول تفسير هذه الرؤية إلى فرق عديدة، من بينها فريق يرى أن المسيح سوف يأتي إثر حدوث اضطراب شديد في الأرض، كالحروب والمجاعات والزلازل ويسمونها الضيقة العظيمة، وحينما يأتي المسيح تقوم
الأموات المؤمنون به من القبور، وتتحول أجساد المؤمنين الأحياء إلى أجساد سماوية، والكل سوف يخطف لملاقاة المسيح في الهواء، ثم بعد ذلك ينزلون معه إلى الأرض، فيتم تقييد إبليس وينتهي حكم المعادين للمسيح على الأرض، ويعود اليهود بشكل جماعي إلى المسيح ويؤمنون به ويعترفون بخطاياهم، وعندئذ يبدأ حكم المسيح على الأرض لمدة ألف عام، ويكون المسيح مرئيًّا وحرفيًّا ويسود العدل والسلام كل الدنيا، وتتحول الطبيعة الشريرة في كل المخلوقات إلى طبيعة خيرة. وباقتراب نهاية الألف عام يحل إبليس من قيوده ويخرج ليضل الأمم مرة ثانية، ويجمع كل الأمم معه للمعركة الأخيرة ضد المسيح، وبخاصة منهم يأجوج ويفسرونها بملك روسيا، ومأجوج ويفسرونها بملك تركيا أو المسلمين والصين، يقودهم للهجوم على معسكر القديسين الذي يضم المسيح وشعبه في القدس، وتقع معركة "هرمجدون" ولكن تأتي فجأة نار من السماء وتبيدهم ويلقى بإبليس في جهنم إلى الأبد.
وانتشرت هذه النظرية بقوة في القرن الرابع الميلادي، ثم عادت إلى الظهور في القرن السادس عشر وفي النصف الثاني من القرن الثامن عشر، ولاسيما أثناء الثورة الفرنسية. وهكذا بدأت ظاهرة الصهيونية المسيحية أو الأصولية الإنجيلية، وفي صلبها مسألة دور اليهود في الخطة الإلهية للعودة الثانية للمسيح، والتي تتطلب جمع اليهود في الأرض الموعودة فلسطين، واستعادة المدينة المحبوبة كما ورد في التوراة أي القدس، وبناء الهيكل مما يهيئ المسرح لمعركة "هرمجدون" بين الخير والشر، ليأتي المسيح ثانية وينتصر الخير ويقيم مملكة الألف عام السعيدة، وفقًا لهذا الإيمان الأصولي المسيحي البروتستانتي والمرتبط بالتفسير الحرفي لكل عبارات العهد القديم.
وقد لاقت هذه الحركة ترحيبًا واسعًا بين اليهود، باعتبار أنها قسمت أعداء اليهود، لكن أتباع "مارتن لوثر" هاجموا اليهود بسبب إعلانهم أن التلمود يعطي تفسيرًا أفضل من تفسير "لوثر" للكتاب المقدس، ورفضهم الدعوة للعودة إلى المسيحية، فقام اللوثريون بطرد اليهود من المدن الألمانية والإنجليزية، وواصلوا العمليات التبشيرية بين اليهود، وفي الوقت نفسه كانوا يؤسسون لأطروحة استرجاع اليهود إلى فلسطين؛ إعدادا للخلاص اليهودي ثم الخلاص اللاهوتي.
واعتبرت المسيحية التقليدية أن ما ورد في العهد القديم إنما هو أحداث وقعت في الماضي، أو نبوءات تم تحققها، وأن ما جاء في العهد الجديد هو ثورة على العهد القديم، وفقًا لما جاء في إنجيل يوحنا: لو كنتم أبناء إبراهيم لعملتم أعمال إبراهيم، ورأت أن كل القصص التي رواها العهد القديم هي رموز لحالات روحية وأخلاقية، كما تؤمن المسيحية التقليدية بأن إبراهيم عليه السلام عندما أخذ الوعد من الله بالأرض لم يفهمه على أنه تصريح له من الله بسرقة الأرض من مالكها، حتى لو كانت الأرض هبة من الله فهي مشروطة بطاعة الواهب، كما ترى أيضًا أن العهد مرتبط بتحقيق وصايا الله وطاعته، وليس رفض حكمه، وأن أرض الميعاد الحقيقية عند المسيح هي الأرض كلها وكل أرض يتحقق فيها وعد الله.
وهذا هو رأي المسيحية التقليدية الذي تخالف فيه الأصولية الإنجيلية، لكن هذه العقيدة -عقيدة الأصولية الإنجيلية- بعثت من جديد في القرن السادس عشر، وصارت فكرة محورية في عقول وإيمان معظم الكنائس البروتستنتية، شكلت مسألة عودة المسيح الثانية أبرز تجليات هذه العقيدة، أما اليهود في هذه العقيدة فهم يشكلون محورها وبشارتها، وهم شعب الله المختار القديم والذي يفترض تواصله في الماضي والحاضر والمستقبل، وأن أرض فلسطين هي أرض اليهود