الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
دوافع المستشرقين وأهدافهم
باستطاعتنا أن نتلمس دوافع المستشرقين وأهدافهم من أعمالهم، ومما حققوه من أهداف، ومن النظرات التاريخية إلى واقع حال الدول الغربية، قبل أن تنبت فيها نابتة الاستشراق، وإلى واقع حالها بعد ذلك، كذلك من النظر إلى صلة الاستشراق بالتبشير بالنصرانية، وكذلك إلى صلته بالاستعمار.
دوافعهم وأهدافهم:
الدوافع تلتقي مع الأهداف باعتبار أن الدافع يمثل المحرض النفسي لاتخاذ الوسائل التي توصل للأهداف الغائية من العمل.
الدافع الأول: وهو الدافع الديني أو المذهبي ضد الإسلام والمسلمين: فقد عرفنا أن الاستشراق بدأ بالرهبان والقساوسة النصارى، ثم استمر بعد ذلك، ومعظم المستشرقين من رجال الكهنوت المسيحي، وكان هؤلاء مدفوعين بدافع الانتصار للنصرانية، والرغبة بتنصير المسلمين الذين اكتسحوا إمبراطوريتهم استطاع دينهم الحق أن يغلب النصرانية المحرفة في نفوس أتباعها، واتجه هؤلاء للطعن في الإسلام، وتشويه محاسنه، وتحريف حقائقه؛ بغية إقناع جماهيرهم التي تخضع لزعاماتهم الدينية بأن الإسلام دين لا يستحق الانتشار، وبأن المسلمين قوم همج، لصوص، سفاكو دماء، يحثهم دينهم على الملذات الجسدية ويبعدهم عن كل سمو روحي وخلقي.
ثم اشتدت حاجتهم إلى هذا الهجوم في العصر الحاضر بعد أن رأوا الحضارة الحديثة قد زعزعت أسس العقيدة بالنصرانية عند الغربيين، وأخذ تشككهم بكل
التعاليم التي كانوا يتلقونها عن رجال الدين عندهم يزداد، فلم يجدوا وسيلة أجدى من تشديد الهجوم على الإسلام بصرف أنظار الغربيين عن نقد ما عندهم من عقيدة وكتب مقدسة؛ وهم يعلمون ما تركته الفتوحات الإسلامية الأولى، ثم الحروب الصليبية، ثم الفتوحات الإسلامية العثمانية في أوربا بعد ذلك.
يعلمون ما تركته هذه في نفوس الغربيين من خوف شديد من قوة الإسلام، ومن كره لأهله، واستغلوا هذا الجو النفسي، وازدادوا نشاطًا في الدراسات الإسلامية، وحين قامت جمعيات التنصير ووضعت من أهدافها تحويل المسلمين عن دينهم إلى النصرانية أو اللادينية والإلحاد الكامل؛ كانت دوافع الاستشراق لدى المنصرين وأنصارهم ومؤيديهم هي دوافع التنصير نفسها، وهي تتلخص بالرغبة الملحة في سلخ المسلمين عن دينهم، ومحاولة إدخالهم في النصرانية، أو إبقائهم ملاحدة لا دين لهم، حتى يكونوا أطوع للدول النصرانية الطامعة باستعمار بلاد المسلمين واستغلال خيراتها.
ومن خلال معرفتنا لهذا الدافع نستطيع معرفة الهدف الغائي المرتبط به، فهدف هذا الدافع هو إخراج المسلمين عن دينهم، فإن أمكن تنصيرهم فذاك، وإلا فإبقاؤهم لا دين لهم مطلقًا، هدف مرجوٌّ يحقق للنصارى منافع ومصالح سياسية واقتصادية واستعمارية وغير ذلك، ولإخراج المسلمين عن دينهم وسائل كثيرة منها:
أولًا: تنفير المسلمين من دينهم وحملهم على كراهيته.
ثانيًا: تشويه الإسلام والتشكيك في أسسه، وتوجيه المطاعن له.
ثالثًا: تشويه التاريخ الإسلامي وتشويه حضارة المسلمين وكل ما يتصل بالإسلام من علم وأدب وتراث.
رابعًا: نبش الحضارة القديمة وإحياء معارفها، وبعث الطوائف الضالة والحركات الهدامة القديمة.
خامسًا: تزيين ما في المسيحية من تعاليم وأحكام.
سادسًا: استدراج المسلمين للأخذ بالحضارة المادية الحديثة وبما فيها من مغريات للنفوس، ومرضيات للأهواء، وآسرات للشهوات، وباهرات للنظر.
سابعًا: الادعاء بأن الفقه الإسلامي مقتبس من القانون الروماني.
ثامنًا: الدعوة إلى نبذ اللغة العربية وتبديل طريقة كتابتها إلى غير ذلك من أهداف.
الدافع الثاني من دوافع الاستشراق: وهو الدافع الاستعماري: فالصليبيون لم ييأسوا بعد هزيمتهم في الحروب الصليبية من العودة إلى احتلال بلاد العرب وسائر بلاد المسلمين، فاتجهوا لدراسة هذه البلاد في كل شئونها من عقيدة وعادات وأخلاق، وثروات وتاريخ، وغير ذلك مما يتعلق بها من جغرافية وسكان؛ بغية أن يتعرفوا إلى مواطن القوة فيها فيضعفوها، وإلى مواطن الضعف فيغتنموها. ثم لما تم لهم الاستيلاء العسكري السيطرة السياسية كان من دوافع الدراسات الاستشراقية الرغبة بإضعاف المقاومة الروحية والمعنوية في نفوس المسلمين، وبث الوهن والارتباك في تفكيرهم، وكان لهم في ذلك وساوس كثيرة، تسللوا بها إلى نفوس أبناء المسلمين، ومن هذه الوساوس ما يلي:
1 -
التشكيك بفائدة ما في أيدي المسلمين من تراث، وما عندهم من عقيدة وشريعة وقيم إنسانية، والغرض من ذلك أن يفقد المسلمون ثقتهم بأنفسهم، وأن يرتموا في أحضان الغرب يستجدون منه المقاييس الأخلاقية، والمبادئ والعقائد، والحلول لمشاكلهم الحياتية، والعادات والتقاليد، وأنواع السلوك؛ ليتم للغرب بذلك إخضاع المسلمين لحضارته وثقافته إخضاعًا كاملًا.
2 -
إحلال مفاهيم جديدة أو إحياء مفاهيم جاهلية ماتت منذ تمكن الإسلام من قلوب المسلمين كالقوميات الفرعونية، والفينيقية، والآشورية، والعربية، والكردية، والتركية، والفارسية، ونحو ذلك يتسنى لهم تشتيت شمل الأمة الإسلامية الواحدة التي تجمعها رابطة واحدة، هي وحدة الدين الذي يُهيمن على جميع مشاعر الإنسان الداخلية، وسلوكه الظاهر. وللاستشراق الذي يقوم به الشيوعون دافع مشابه، وهو دافع يطمع بالتسلط الكامل على بلاد المسلمين، ومن خلال معرفتنا لهذا الدافع نستطيع معرفة الهدف الغائي المرتبط به، فهدف هذا الدافع هو السيطرة على بلدان العالم الإسلامي، وعلى الشعوب الإسلامية؛ طبعًا باستغلال الأرض واستعباد الناس والسيطرة على كل شيء، لتحقيق أهواء النفوس وشهواتها، وأن يكون لهم العلو في الأرض.
أنتقل الآن للحديث عن الدافع الثالث من دوافع الاستشراق وهو الدافع الاقتصادي: فمن الدوافع التي حرضت كثيرًا من الغربيين على الدراسات الشرقية الاستشراقية رغبتهم بغزو البلاد الإسلامية غزوًا اقتصاديًّا، يهدفون فيه إلى الاستيلاء على الأسواق التجارية والمؤسسات المالية المختلفة، وكذلك الاستيلاء على الثروات الأرضية، واستغلال الموارد الطبيعية والحصول عليها بأبخس الأثمان، وإماتة الصناعات المحلية القديمة؛ لتكون بلاد المسلمين بلاد استهلاك لما تصدره المصانع الآلية الغربية، وضمن هذا الدافع وجهت المؤسسات الاقتصادية الغربية.
وضمن هذا الدافع وجهت المؤسسات الاقتصادية الغربية من يهتمون بالدراسات الاستشراقية، ليكونوا وسطاءهم ورسلهم، ومستشاريهم، والمترجمين لهم في مهماتهم، ومطالبهم الاقتصادية، أو أبدت استعدادها لاستخدام من يعمل لهم في هذا المجال، فاتجه فريق من الغربيين لهذه الدراسات؛ طمعًا بأن يجدوا أعمالًا
لهم لدى المؤسسات الاقتصادية، وظهر أيضًا فريق من الباحثين العلميين اهتم بالدراسات الاستشراقية؛ ليقوم بنشر كتب التراث الإسلامي، والاستفادة من نشرها في تحصيل الثروات التي يحصل عليها الناشرون عادة، وهكذا صارت الدراسات الاستشراقية وسيلة من وسائل كسب المال لكثير من المستشرقين.
ومن خلال معرفتنا لهذا الدافع نستطيع معرفة الهدف الغائي المرتبط به، فهدف هذا الدافع تحصيل الأموال والمطامع الاقتصادية.
الدافع الرابع من دوافع الاستشراق: وهو الدافع السياسي: فبعد تحرر البلاد الإسلامية من الاستعمار رأت الدوائر الاستعمارية أن حاجتها السياسية تقتضي أن يكون لها في قنصلياتها، وسفاراتها، ومندوبها في الأمم المتحدة، وسائر المؤسسات الدولية من لديهم زاد جيد من الدراسات الاستشراقية؛ ليقوم لهم هؤلاء بمهمات سياسية متعددة مرتبطة بالشعوب الإسلامية، وبلدان العالم الإسلامي. ومن هذه المهمات الاتصال بالسياسيين والتفاوض معهم لمعرفة آرائهم واتجاهاتهم، والاتصال برجال الفكر والصحافة للتعرف على أفكارهم وواقع بلادهم، وكذلك بثُّ الاتجاهات السياسية التي تريدها دولهم فيمن يريدون بثها فيهم، وإقناعهم بها، وكذلك الاتصال بعملائهم وأجرائهم الذين يخدمون أغراضهم السياسية داخل شعوب الأمة الإسلامية، وكم بث حاملو هذا الدافع في شعوب المسلمين من أفكار، وكم دسوا من دسائس، وكم استخدموا من أجراء لإثارة الفتن، وإقامة ثورات وانقلابات عسكرية، إلى غير ذلك من أعمال.
من خلال معرفتنا لهذا الدافع نستطيع أن نعرف الهدف الغائي المرتبط به، وهدف هذا الدافع هو تحقيق غايات سياسية تريد تحقيقها الدول الموجهة لهذا النوع من الدراسات؛ لتسيير دول العالم الإسلامي في أفلاكها.
الدافع الخامس من دوافع الاستشراق: وهو الدافع العلمي النزيه: وهذا يُعد في المستشرقين قليل جدًّا، فمن المستشرقين نفر قليل جدًّا أقبلوا على الدراسات الاستشراقية بدافع من حب الاطلاع على حضارات الأمم، وأديانها، وثقافاتها، ولغاتها، وكان هؤلاء النفر من المستشرقين أقل من غيرهم خطأ في فهم الإسلام وتراثه؛ لأنهم لم يكونوا يتعمدون أن يدسوا أو يحرفوا، لذلك جاءت بحوث هؤلاء أقرب إلى الحق، وهي المنهج العلمي السليم من أبحاث الجمهرة الغالبة من المستشرقين؛ بل منهم من اهتدى بدراسته إلى الإسلام، وآمن به، وانتمى إلى الأمة الإسلامية على أن هؤلاء قلما يوجدون إلا حين يكون لهم من الموارد المالية الخاصة ما يمكنهم من الانصراف إلى الدراسات الاستشراقية بأمانة وإخلاص؛ لأن أبحاثهم مجردة عن الهوى الجانح، لا تلقى رواجًا، لا عند رجال الدين، ولا عند رجال السياسة، ولا عند عامة الباحثين الغربيين؛ بل كثيرًا ما يتعرض هؤلاء للمضايقات ومقاومات شديدة من قبل رجال الدين، ورجال السياسة في بلدانهم.
ولما كان الاستشراق النزيه الراغب بالبحث العلمي الحيادي المتجرد عن الهوى الجانح لا يُدر على مرتاديه مكاسب ومغانم؛ كان من الطبيعي أن يندر هؤلاء المرتادين في أوساط المستشرقين.
من خلال معرفتنا لهذا الدافع نستطيع معرفة الهدف الغائي المرتبط به، وهدف هذا الدافع هو إشباع النهم العلمي المتجرد، وتحصيل معرفة صحيحة تتصل بأمة ذات علم وحضارة أصيلة، وهؤلاء مع إخلاصهم في البحث والدراسة لا يسلمون من الأخطاء والاستنتاجات البعيدة عن الحق، إما لجهلهم بأساليب اللغة العربية، وإما لجهلهم بالأجواء الإسلامية التاريخية على حقيقتها، فيتصورونها
كما يتصورون مجتمعاتهم ناسين الفروق الطبيعية، والنفسية، والزمنية التي تفرق بين الأجواء التاريخية التي يدرسونها، وبين الأجواء الحاضرة التي يعيشونها.
ومن هؤلاء من يعيش بقلبه وفكره في جو البيئة التي يدرسها، ويأتي بنتائج تنطبق مع الحق والصدق والواقع، ولكن هؤلاء يلقون عنتًا من سائر المستشرقين؛ إذ سرعان ما يتهمونهم بالانحراف عن المنهج العلمي، أو الانسياق وراء العاطفة، أو الرغبة في مجاملة المسلمين، والتقرب إليهم، كما فعلوا مع توماس أرنولد حين أنصف المسلمين في كتابه العظيم (الدعوة إلى الإسلام)، وقد برهن فيه على تسامح المسلمين في جميع العصور مع مخالفيهم في الدين على عكس مخالفيهم معهم، وهذا الكتاب الذي يُعتبر من أدق وأوثق المراجع في تاريخ التسامح الديني في الإسلام يطعن فيه المستشرقون المتعصبون؛ بأن مؤلفه كان مندفعًا بعاطفة قوية من الحب والعطف على المسلمين، مع أنه لم يذكر فيه حادثة إلا أرجعها إلى مصدرها.
ومن هؤلاء من يؤدي به البحث الخالص لوجه الحق إلى اعتناق الإسلام، والدفاع عنه في أوساط أقوامهم الغربيين، كما فعل المستشرق الفرنسي الفنان دينيه، الذي عاش في الجزائر فأعجب بالإسلام، وأعلن إسلامه، وتسمى باسم ناصر الدين دينيه، وألف مع عالم جزائري كتابًا عن سيرة الرسول صلى الله عليه وسلم، وله كتاب أشعة خاصة بنور الإسلام بيَّن فيه تحامل قومه على الإسلام ورسوله، وتوفي هذا المستشرق المسلم في فرنسا ونُقل جثمانه إلى الجزائر ودفن فيها.
ومنهم أيضًا المستشرق عبد الكريم جرمانوس، وهو عالم مجري اعتنق الإسلام في الهند، وتوفي سنة 1979، وكان يتمنى أن يعيش مائة عام؛ لأنه كما يقول أن اللغة العربية تحتاج إلى مائة سنة لفهمها، وكان عضوًا في المجمع اللغوي في