الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
بسم الله الرحمن الرحيم
الدرس العاشر
(الشيوعية (2))
الأسس التي قامت عليها النظرية الشيوعية
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف المرسلين وخاتم النبيين، سيدنا محمد النبي الأمين وعلى آله وصحبه أجمعين، أما بعد:
قامت الشيوعية الماركسية من أول أمرها على مناهضة الأديان والأخلاق والثقافات، وسائر ما يتصل بغير اليهود أو الجويم كما يسمونهم، وإقامة دولة شيوعية عالمية تحت زعامة أقطاب الشيوعية ومن وراءهم، ويقف من خلفهم الأطماع اليهودية في إقامة الدولة اليهودية الكبرى، التي يرتقبها اليهود بفارغ الصبر، ممثلة في إعادة بناء هيكل سليمان، وتتويج ملكهم الذي يحلمون بأنه سيحكم جميع البشر من اليهود ومن غيرهم، وما الشيوعية إلا حلقة من جملة الحلقات التي يحيكها اليهود للوصول إلى ما خططوه، وقد خطط حكماؤهم تدمير العالم دينيًا وثقافيًّا واقتصاديًّا، ولقد أسهمت الشيوعية في كل تلك المؤامرات وكان لها حظ الأسد في تحطيم الجويم، أي غير اليهود في تصفيات جسدية لم يشهد لها التاريخ مثيلًا، وفي إشاعة الفواحش وسائر المفاسد والشرور، حيث فاقوا فيها الشيطان، وأراحوه مهمة تحقيق كل تلك الرزايا، التي حلت بسائر الأمم في دينهم وفي دنياهم على أيدي الملاحدة. ومظاهر الشيوعية الماركسية كثيرة من أبرزها:
أولًا: المادية، وهو الأساس الأول الذي تنبني عليه النظرية الشيوعية، والمادية نسبة إلى المادة وقد قيل في تعريفها: إنها هي الموجود الذي يدرك بإحدى الحواس، مما يخضع لتجربة الإنسان وملاحظاته، وقد ادعت المادية أنها صنو الواقعية، التي تنسب إلى الواقع الذي لا ينكر ولا يكذب، ولقد أصبحت عبادة المادة هي الأساس المشترك لجميع الملاحدة على اختلاف مذاهبهم، ابتداءً من القرنين الثامن عشر والتاسع عشر الميلاديين، إبان قيام التيارات الفكرية الجامحة في
أوروبا ضد الكنيسة، وضد القائمين عليها، واستبدالها بالمادة المهيمنة على كل شيء، إذ يزعمون -وبئس ما يزعمون- أن الكون وما فيه إنما وجد من أصل المادة، وبنوا على ذلك إلحادهم في إنكار وجود الله تعالى، فخرجوا بذلك عن مفهوم هذا التعريف للمادة وتجاوزوه، فإن الأمور الغيبية وأمور الدين لا تخضع لتجربة الإنسان ولا تدركها حواسه، كما بنوا عليها تفسيرهم التاريخي لحياة الإنسان وتطوراته.
وكان الماديون الشيوعيون قد أقاموا هذه الفكرة -فكرة المادية- في مضادة أي شيء يتعلق بعالم الروح والغيب، حيث لا يؤمنون بوجود الروح لأنها تباين المادة، التي إذا وجدت في شيء أعطته الحياة ضرورة، فالمادة هي كل شيء، وجعلوا المادة هي البديل عن الله عز وجل، بزعم أن معاملهم قد أعطتهم الدليل المادي على ذلك، ولقد كذبوا وتناقضوا وظهر جهلهم وتخبطهم في نظرياتهم المتضاربة المتناقضة، فالطبيعة عندهم هي قبل كل شيء ولا نهاية لها، ومنها انبثق كل مخلوق على وجه الأرض، والطبيعة عندهم هي موجودة بذاتها قبل كل ذات، وهي الخالق لكل شيء بقوانينها والعالم عندهم في حركة تغير مستمر.
وهذا التغير يأتي عن طريق تناقض الأضداد، وكل فكرة تؤدي إلى نقيضها والفكرة ونقيضها تؤديان إلى نتيجة جديدة، كلها ناتجة عن ترابط الأشياء بعضها ببعض، ولا يمكن أن يكون أي حادث منفصلًا بنفسه عن البيئة المحيطة به في حركة دائبة يسمونها الحركة في الطبيعة، ويقصدون بها أن كل موجود إنما هو نتيجة لحركة المادة وتطورها بدءًا وانتهاء، تنشأ ثم تضمحل أبد الدهر في تطوير يسمونه التطور في الطبيعة، ويتم هذا في حركات سريعة ضرورية، وأحيانًا تحصل فجأة تنتقل معها الأشياء من البسيط إلى المركب ومن الأدنى إلى الأعلى، في تطور
متلاحق طول الوقت، مما ينتج عنه ما يسمونه التناقض في الطبيعة، وهذا التناقض هو الذي ينتج عن تطور الحوادث وتفاعلها فيما بينها، لينتج من التناقض بين القديم والجديد وبين ما ينوط وما يولد وبين ما يفنى وما يتطور، ينتج مصادر تطورية جديدة مختلفة، بمعنى أنه يحدث الشيء حتمًا ثم يحدث ما يضاده لتأتي النتيجة الحتمية الصحيحة، ومن هنا تؤيد الشيوعية التصادم والتضاد بين الأمور لتصل إلى النتيجة من وراء كل تضارب وتصادم.
وكل ذلك إنما هو هوس فكري وتخبط مقيت، وصدق الله عز وجل إذ يقول في كتابه الكريم:{وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَعْمَالُهُمْ كَسَرَابٍ بِقِيعَةٍ يَحْسَبُهُ الظَّمْآنُ مَاءً حَتَّى إِذَا جَاءَهُ لَمْ يَجِدْهُ شَيْئًا وَوَجَدَ اللَّهَ عِنْدَهُ فَوَفَّاهُ حِسَابَهُ وَاللَّهُ سَرِيعُ الْحِسَابِ} (النور: 39). وكل هذه الافتراضات التي يفترضها الماديون إنما يريدون من ورائها أن تحل المادة محل الإله سبحانه وتعالى، وتصريفه الأمور حسب مشيئته وقدرته، وتلك التعليلات العقيمة بوجود الأمور بعد أن لم تكن إنما هو لصرف الذهن عن قدرة الخالق على الإنشاء والإيجاد، وإلا فأي منطق يقتنع بأن الأمور تتطور لمصلحة الإنسان أو لمضرته من تلقاء نفسها، لتنتج أمورًا لا بد منها بزعمهم لتستقيم الحياة ويبقى الكون؟! لقد حاول الماديون -وهم ينكرون موجد هذا الكون- أن يلفقوا شبهات كثيرة ليدللوا بها على إلحادهم، ولكن ما من شبهة من شبههم إلا وهي تصفع وجوههم وتكسر قلوبهم وتقول لهم: معاذ الله أن أكون دليلًا على عدم وجود الذي أوجدني.
فما أن يجدوا أدنى شبهة يكتشفونها إلا ويطيروا بها فرحًا، ويزعموا أن كل ما اكتشفوه يدل على عدم وجود موجد حقيقي لهذا الكون غير المادة وطبيعة المادة الحتمية بزعمهم، وكم حملوا هذه المادة التي تعادل في تصرفاتها عند الملاحدة
تصرفات خالق الكون عند المؤمنين، وكم ظهرت لهم من حقائق حيرتهم في دقة موجدها، ولكن قلوبهم التي أشربت حب الكفر والتمرد -على طريقة أستاذهم إبليس- أبت أن ترجع إلى الحق. فمثلًا قانون الجاذبية الذي أوجده الله وثبت به هذا الكون العلوي والسفلي هو أكبر من السماء وما فيها من مختلف الأجرام، وهو أكبر من الأرض وما عليها، حين اكتشفوه قالوا: عرفنا الآن أنه لا خالق ولا ممسك لهذا الكون إلا الجاذبية، وحين فاجأهم المؤمنون بالله بهذا السؤال: ومن خلق هذه الجاذبية؟ هل خلقتها السماء لحاجتها إليها لتمسك بأجرامها أن تقع على الأرض، أم أن الأرض قد خلقتها لحاجتها إليها ليستقر عليها من فوقها، أما أنها هي بنفسها أدركت حاجة السماء والأرض إليها فأوجدت نفسها؟! سبحان الله عما يفترون.
وحينما أنكروا وجود الله تعالى قيل لهم: هذا الكون العجيب المتناسق المحكم، الذي لا يطغى بعضه على بعض {لَا الشَّمْسُ يَنْبَغِي لَهَا أَنْ تُدْرِكَ الْقَمَرَ وَلَا اللَّيْلُ سَابِقُ النَّهَارِ وَكُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ} (يس: 40) من هو هذا القوي القهار الذي جعله بهذه الصفة؟ قالوا: المادة، وكأنهم هربوا من ذكر اسم الله تعالى إلى اسم يوافق هواهم، فإذا كانت هذه المادة هي التي أحكمت هذا الكون فهي الإله الحق، فلا يبقى أمامهم إلا النطق باسم الله الكريم، ويتركوا روغان الثعلب والتكلفات الباهتة، فكل ما قالوه من شبهات تافهة -مهما اختلفت أسماؤها- فإنها تدل على انقطاعهم وأنهم مثل الغريق الذي يمسك بكل شيء يقع في يده لينجو من الغرق.
وكم خسارة الملاحدة الشيوعيين حينما أنكروا خالق هذا الكون، في مقابل التعصب لآراء ذلك اليهودي "ماركس" الثائر النفس الحاد المزاج المتعصب لقومه
اليهود، الذي سعى إلى الانتقام من العالم كله بسبب مواقفهم من اليهود الحاقدين على الله تعالى، وعلى كل البشر؛ لأنهم لم يجعلوهم سادة العالم وحكامه كما وعدهم الله بذلك، حسب افتراءات واضعي التوراة، فآلوا على أنفسهم أن يقفوا جنبًا إلى جنب مع الشيطان؛ لإغواء البشر ولتحطيم دياناتهم وإفساد أخلاقهم، ولن يتم هذا بإذن الله ولن يتم الله بحوله وقوته لهم ذلك، والله تعالى غيور على دينه فليموتوا بغيظهم وحقدهم، وسيزيلهم الله هم والمادة التي عبدوها من دونه عز وجل.
الأساس الثاني من الأسس التي تنبني عليها الشيوعية بعد المادية هو: الجدلية أو الديالكتيك، فكما قلنا: إن المادة عند الشيوعيين هي كل شيء وليس وراءها شيء، أنها تتطور صعودا وفق قانون الجدلية -الديالكتيك- وكذلك التاريخ نفسه يسير حسب هذا القول حسب هذا القانون حتمًا بزعمهم، وتكون هذه المادة وفق ما تقترن به فتسمى المادية الجدلية في الكون إذا كانت تتعلق بتغيرات الكون وأحداثه، وإذا كانت تتعلق بسلوك الناس سموها المادية الجدلية في التاريخ، فالجدلية في المذهب الماركسي تعتبر بمثابة ركن من أركانه، وأنها هي قانون حركة الوجود كله، تعود أساس هذه الفكرة -فكرة الجدلية- عند "ماركس" إلى تأثره بالفيلسوف "هيجل" واسمه "جورج ويلهالم فريدريك هيجل"، وهو ألماني كان يؤمن بوجود إله يصفه بأنه غير متناهٍ، أو هو الوجود المطلق أو العقل المطلق ومنه ظهرت الطبيعة.
وقد خالفه "ماركس" في مفهوم هذه الجدلية فعكس الأمر تمامًا، حتى تبجح "ماركس" بأنه قد أوقف آراء "هيجل" على قدميها، بعد أن كانت واقفة على رأسها بزعمه؛ بسبب أن "هيجل" كان يرى في جدليته أنها منطلقة من الله إلى كل
الأكوان، وأن الفكرة هي الأصل والمادة ناتجة عنها، بخلاف ما يقوله "كارل ماركس" في جدليته التي تقول: إن الله تعالى هو من اختراع الفكر الإنساني وخيالاته، وليس عن حقيقة، وأن الأساس هو المادة، والفكر ناتج عن المادة، وهذه الجدلية -جدلية "ماركس"- تلاحظ دائمًا أن هذا الكون دائم التغير والتطور في فعل ورد فعل أشبه ما يكون بحركة المتجادلين، وقد أرجع "ماركس" هذا التجادل إلى المادة وتأثيراتها، بينما كان "هيجل" يرى أن تلك التغيرات هي للقوة الغيبية التي هي المؤثر الحقيقي فيها، وقد تصور "هيجل" حسب خياله أن تلك الحركة في التغيير والتطور في الكون تسير وفق دورات لولبية صاعدة دائمًا، وكل دورة قسمها إلى ثلاث مراحل هي:
المرحلة الأولى: وسماها الطريحة أو أطروحة أو الدعوة أي الأمر.
المرحلة الثانية: سماها الجمعية أو نفي النفي أو جامع الدعوى أي النتيجة. فمثلًا البرعم يسميه الطريحة ونقيضه الزهرة، ثم تأتي الجمعية التي هي الثمرة وهي أرقى من البرعم والزهرة في تطور متصاعد دائمًا، وبعضهم يسمي هذه المراحل الوضع ونقيضه، ومؤتلف الوضع ونفيه، وكلها افتراضات خيالية تصورها "هيجل" في تضاد دائم بين الشيء ونقيضه، والنتيجة النهائية لهذا النقيض الذي يمشي صاعدًا في تطور هو نهاية كل نقيضين، وغاب عن "هيجل" وعن غيره -ممن يرددون هذه الدعوات- أنه لا يمكن اجتماع النقيضين في وقت واحد وعلى شيء واحد لأنه مستحيل إلا في خيال الفلاسفة الفارغين.
وما زعمه "هيجل" من أن الأشياء كلها في تطور متصاعد هو فكر غير صحيح في كل الأمور، فإذا صح في بعض الحالات فإنه غير صحيح في كلها. فمثلًا الإنسان وهو حي يسمى حسب نظرية "هيجل" طريحة، ثم يأتيه الموت فيسمى نقيضًا،
ثم يتحول إلى تراب فيسمى جميعة، فأين التطور التصاعدي في هذا حسب نظرية "هيجل"؟! أو مثل الغريزة الجنسية هي الطريحة والكبت هو النقيض والتسامي هو الجميعة، أي المحصلة النهائية الحتمية الوقوع لكل من الطريحة والنقيضة، لكن لنفرض أن الأمور لم تسر إلى نهايتها وهي الجميعة، بأن حصل معوق للشخص بعد ظهور النقيضة، بأن مات أو جُن أو حصل له أي أمر خطير وانتهى، فأين التصاعد في هذا وغيره من الأمثلة التي تكذب حتمية التطور التصاعدي في كل شيء؟!.
وهذه الجدلية عند "ماركس" أو ما يظهر منها عدم إيمانه بالله تعالى، وإيمانه بدلًا عنه بالمادية الجدلية وتطورها، وأنها هي التي أنشأت الدين والسياسة والقانون والأخلاق بل والإنسان نفسه، فالإنسان في نظره إنما هو من نتاج تلك المادة وفكر الإنسان أيضًا كذلك، بل وجود الله تعالى إنما هو من صنع الإنسان المادي وفكره في عقيدة "ماركس"، وهو بهذا قد قلب جدلية "هيجل" التي قامت على الإيمان بالغيب الإلهي إلى المادة وحدها عند "ماركس"، ويصح أن نقول: إن "ماركس" قد قلب نظرية "هيجل" على رأسها بعد أن كانت على رجليها المعوجتين هي الأخرى، فحينما تسأل ماركسيًّا عن سر وجود هذا الكون تجده يجيبك بجواب سخيف تافه، فيقول: إن الكون قد تطور بنفسه إلى أن أصبح على ما هو عليه اليوم في هذا التناسق البديع.
ويجيب عن سريان الحياة في الكون بأنه بعد أن اكتمل وجود الكون تطور تلقائيًّا، إلى أن وجدت الحياة على ظهر الأرض ومِن ضمنها حياة الإنسان الذي وجد ضمن حركة التطور الديالكتيكي، دون أن يكون لها أي مؤثر خارج عن نطاقها غير التناقضات والتضاد الكامن في المادة. كما أنه قد احتدم الخلاف جدًّا بينهم في
قضية العقل والفكر والمادة، أيهما السابق والمؤثر في الآخر؟ فالمثاليين منهم -أي المؤمنون بالإله الغيبي ومنهم "هيجل"- يرون أن العقل هو الأساس والمتقدم على المادة وما ينتج عنه، بينما الماديون -وهم منكرو الخالق:"ماركس" وأتباعه- يرون أن لا شيء في الإيجاد سوى المادة وهي المتقدمة والمنشئة حتى للإنسان وأفكاره، ويتلخص الجدل الماركسي في ثلاثة قوانين:
أول هذه القوانين: هو قانون التغير من الكم إلى الكيف، وهو ما يحدث في نظرهم بطريق المفاجأة، كتحول الماء الساخن إلى بخار بزيادة النار عليه.
أما القانون الثاني: فهو قانون صراع الأضداد والذي يأتي من داخل الأشياء نفسها، من بذرة النقيض التي توجد في داخل كل شيء وليس من الخارج.
وأما القانون الثالث: فهو قانون نفي النفي، أي أن كل مرحلة تحدث تنفي سابقتها ثم تنفيها مرحلة تالية وهكذا، والآن بعد أن رأينا هذه القوانين المادية والجدلية نرى أن هذا الهراء -الذي يتحدثون عنه- قد ظهر لكل ذي عينين أنه بعيد عن الحق.
فإذًا الماركسية الآن كما يقولون في العراء، وقد انكشفت في أقبح صورة وانجلت الغمة عن الناس، فظهروا في أتعس حال، وإذا بأكاذيبهم وهرائهم يداس بالأرجل، فقد راهنوا أن نظريتهم الإلحادية ستعم الأرض كلها، وسيصبح البشر كلهم ملاحدة، كافرين بالذي خلقهم من تراب ثم من نطفة ثم سواهم أشخاصًا، في غاية الخصومة لربهم وقاهرهم متنكبين الحق متعالين على الناس، محتقرين لكل نواميس هذا الكون ومحتقرين لكل الشرائع والكتب المنزلة والأنبياء الكرام، في جدال بالباطل لا يملكون على كل نظرياتهم أي دليل حقيقي إلا ما زخرفوه من شبهات باطلة ونظريات زائفة، لا تثبت أمام الحقائق، حتى وإن
صوروها على أنها حقائق لا تقبل الجدال، وأن كل ما عداها محل شك مستندين إلى ما تم لهم من اكتشافات تجريبية.
لكن هذه الاكتشافات التجريبية كلها تصرح بعظمة الباري جل وعلا، ولكنهم قلبوا الحقائق وجعلوا منها أدلة على إلحادهم، وكل ما هو لله سبحانه وتعالى جعلوه للطبيعة التي عبدوها من دون الله، وزعموا أن الطبيعة هي التي تسير الكون في تناسق عجيب محكم وترابط متشابك، وكان هذا يكفي دليلًا على وجوب الإيمان بوجود خالق مهيمن على كل ذرة في هذا الكون، يسيره على نسق واحد دون اختلاف حسب سننه في الكون، ولكن الشيطان حال بينهم وبين التفكير الصحيح، فقلبوا هذه الحقيقة وزعموا أن هذا التناسق إنما هو من شأن الطبيعة والمادة، التي وصفوها بأنها لا بداية لها ولا نهاية لها، حتى لكأن الخلاف بينهم وبين المؤمنين بالله تعالى خلافًا لفظيًّا.
المؤمنون يسمون هذه الطبيعة إلهًا وهم يسمونها مادية. قال تعالى: {أَمْ خُلِقُوا مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ أَمْ هُمُ الْخَالِقُونَ} (الطور: 35)، وكان يجب أن يسميهم الناس مجانين حينما زعموا أن الكون وجد بدون موجد، وحدث بعد أن لم يكن حادثًا دون محدث له، غير ما توهموه من تجمع ذرات هذا الكون وتطورها، إلى أن أحدثت هذا العالم والكون وما فيه من أجرام علوية وسفلية، وكلها عن طريق الصدفة والارتقاء، ولو قلت لأحدهم: إن عمودًا كهربائيًّا وجد بذاته وأصبح ينير للناس الطريق لضحك من قائله ونسبه إلى الجنون، بينما هذه الشمس وهذا القمر وهذه الكواكب وهذه الثمار في الأرض والأنهار والجبال كلها يقولون عنها: إنها وجدت بدون خالق. إن الملاحدة يعترفون بعجزهم التام عن معرفة سر وجود الحياة لأي كائن مهما كان صغر حجمه أو كبر حجمه، وأنهم لا يستطيعون
إرجاع الروح لصاحبها إذا بلغت الحلقوم، فأين المادة التي يتشدقون بأنها هي الموجدة لهذا الكون؟! ولماذا لا يتوسلون إليها لإرجاع الروح بعد أن يصبح الجسد مادة هامدة؟!.
أما ما يرددونه من أن كل الأشياء تحوي تناقضات داخلية مجتمعة في وحدة يسمونها وحدة الأضداد أو وحدة المتناقضات تتصارع فيما بينها، ثم ينتج عن ذلك الصراع تطور في صعود دائم لا ينتهي، فهو افتراض سخيف؛ إذ لا يوجد إلا في الذهن، والذهن قد يتصور أن المستحيلات ممكنة أحيانًا، ذلك أن اجتماع النقيضين أمر غير ممكن، إلا إذا صدقنا بأن الحرارة والبرودة تجتمع في النار، أو الحياة والموت يجتمع في الشخص في وقت واحد، وليس من هذا ارتفاع الضدين في وقت واحد فإنه ممكن، كقول الناس: هذا لا هو أبيض ولا هو أسود، أي هو على لون غير هذين اللونين أصفر أو أحمر مثلًا، أما أن يقال: هذا أبيض وأسود أو ساكن ومتحرك في وقت واحد فهو مستحيل. أيضًا لقد غلا الشيوعيون في تقديس المادة وعتو عتوًّا كبيرًا، إلى حد أنه تنطبق عليهم المقالة المشهورة: إذا حدث الشخص بما لا يعقل فصدق فلا عقل له.
فأي عقل سليم وأي فطرة سليمة تصدق أن المادة الصماء هي الخالقة وهي الرازقة وهي المدبرة لجميع أمور هذا الكون؛ علويه وسفليه ظاهره وخفيه؟! مع اعترافهم هم أيضًا بأن تلك المادة لا حياة لها ولا فكر ولا تدبير في البدايات الأولى لها، غير ما تخيلوه أنها بعد ذلك تطورت حتى أوصلت هذا الكون على ما هو عليه الآن، ثم يقولون: هي أزلية لا بداية لها ولكنهم يتوقفون حينما يقال لهم: إنها حادثة، ولا يستطيعون الجواب لأنهم متناقضون، وإذا أفحمهم العقلاء عن سر وجود هذا الكون قالوا بأن الكون وجد من العدم، ولا يبالون
بسخف واستحالة هذا القول والقول الآخر بأن المادة هي التي تسير العقل وتوجد الفكر، لا أن العقل هو الذي يوجد المادة ويكيفها كما يريد مكابرة منهم وجهلًا شنيعًا، حيث صار المصنوع صانعًا على حسب مفهومهم، فالطائرة هي التي كونت فكرة الإنسان لصناعتها، وما الذي يمنعهم من هذا وقد زعموا أن الحياة كلها ظهرت صدفة دون مدبر عليم؛ نتيجة تفاعلات المادة الناتجة عن حركتها الذاتية المستمرة، لا أن هناك ربًّا خالقًا لها؟! وهي مكابرات لعلهم أول من استيقن بطلانها، لولا العناد والاستكبار وتنفيذ خطط ماكرة أملتها عليهم الأحقاد اليهودية على مر السنين.
ونناقش الآن مسألة التطور في كلامهم، وهي المسألة التي تتردد على ألسنة كثير من الناس، بعضهم يدرك المدلول والمغزى الأساسي لها، وبعضهم يعرفها بصورة مجملة ويرددها على هذا المفهوم، وهي في ظاهرها كلمة جميلة توحي بالتجديد والنشاط والحيوية المطلوبة، إلا أنه ينبغي أن ندرك أن كثيرًا من أصحاب الأفكار الهدامة قد استغلوها استغلالًا فاحشًا، وبنوا عليها آراءهم التي يهدفون من ورائها إلى تغيير المفاهيم السليمة، والمعتقدات المستقيمة والحياة الاقتصادية تغييرًا جذريًا، يتفق مع ما بينوه لقلب الحياة الاجتماعية، وحسبنا هنا أن نذكر مفهوم التطور بصورة موجزة، وهل التطور الذي يريده الشيوعيون هو تطور حقيقي، أما أنها خرافات وهمية تخيلوها لتأييد ما يهدفون إليه من الإلحاد؟ فالتطور بحد ذاته يراد به: الانتقال من مرحلة إلى مرحلة، والتغيير من حال إلى حال، والواقع أنه إما أن يكون التطور في خلق الإنسان وتركيبه، وإما أن يكون في أصل نشأة الكون وما فيه.
فأما التطور بالمفهوم الأولي في خلق الإنسان وتركيبه وهو حق، وهو ما جاء ذكره في كتاب الله تعالى في بيانه لخلق الإنسان، والمراحل التي يمر بها في
قوله تعالى: {وَقَدْ خَلَقَكُمْ أَطْوَارًا} (نوح: 14). أي أوجدكم طورًا بعد طور، وهو ما فسره الله تعالى بقوله في آية أخرى:{وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ مِنْ سُلَالَةٍ مِنْ طِينٍ * ثُمَّ جَعَلْنَاهُ نُطْفَةً فِي قَرَارٍ مَكِينٍ * ثُمَّ خَلَقْنَا النُّطْفَةَ عَلَقَةً فَخَلَقْنَا الْعَلَقَةَ مُضْغَةً فَخَلَقْنَا الْمُضْغَةَ عِظَامًا فَكَسَوْنَا الْعِظَامَ لَحْمًا ثُمَّ أَنْشَأْنَاهُ خَلْقًا آخَرَ فَتَبَارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ * ثُمَّ إِنَّكُمْ بَعْدَ ذَلِكَ لَمَيِّتُونَ * ثُمَّ إِنَّكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ تُبْعَثُونَ} (المؤمنون: 12 - 16). هذه هي أهم الأطوار التي يمر بها الإنسان في حياته الجسمية وهي خاصة ببني آدم، أما آدم فإن هذه التطورات لا تشمله، فقد خلقه الله بيده من تراب الأرض ثم نفخ فيه الروح فكان بشرًا سوي ًّ ا، أما التطور بالمفهوم الثاني فإنه ينقسم إلى قسمين:
قسم نشأة هذا الكون والمراحل التي مر بها في تطوره إلى أن وصل إلى ما هو عليه الآن. والقسم الثاني: يتعلق بمعرفة أصل نشأة الكائنات الحية، المراحل التي مرت بها في تطورها وفي أولها الإنسان، وكيف نشأ وكيف تطور في وجوده وفي تفكيره وفي معيشته وفي عبادته، حسب تفكير أصحاب نظرية التطور، وفي أولهم "داروين" وحفيده ومن جاء بعدهما على هذه الفكرة الباطلة، التي أصبح دعوى التطور فيها من أهم خصائص المذهب الشيوعي، حيث يقصدون بالتطور أن كل أمر في هذا الوجود يتطور ويتقدم إلى الإمام في خطوات متتابعة إلى ما لا نهاية بزعمهم، ويستدلون على ذلك بما قرره "داروين" من أن الإنسان كان مائيًّا ثم برمائيًّا ثم بريًا، ثم عرف الرق ثم الإقطاع ثم الرأسمالية إلى أن عرف الشيوعية الماركسية وسيتطور فيما بعد.
ولا يغيب عن الطالب الذكي وضع الشيوعية اليوم، حيث أقر الله عيون أهل الإيمان بموتها في عقر دارها، وهذا من الأدلة الدالة على كذب أحلام الملاحدة فيما تصوروه عن التطور المزعوم وأبديته، وانتشار المذهب الشيوعي تلقائيًا، كما أن هذا المفهوم الذي قرره الملاحدة لتطور الأشياء لم يكن صحيحًا، فوجود المادة لا يطور أحدًا وليس وجودها كافيًا لتطور الإنسان، ومعلوم أن الماديين وهم