الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
وهكذا تتسع دائرة الاشتراكية حتى تصل إلى حضيض الشيوعية المسماة بالاشتراكية العلمية، التي تلغي الملكية الفردية للأرض، ولكل وسائل الإنتاج، ولكل النقود المالية، وتجعل هذه كلها ملكًا للدولة، وتقرر قاعدتها الشائعة "من كل بحسب طاقته ولكل بحسب حاجته"، فيحمل مروجو الشيوعية شعار الاشتراكية بين المسلمين مظهرين من دوائرها دائرة المستوى الأدنى، الذي قد لا يتنافى مع أحكام الإسلام. وينخدع بذلك منخدعون كثيرون من العمال والفلاحين والكادحين وموظفي الدولة، وبعض الطلبة الناشئين، وكل منهم يشعر أنه مظلوم في مجتمعه بكسبه، أو تُغيره الاشتراكية بكسب أفضل، وتتهيج ببريق هذا الشعار عواطف الفقراء والكادحين، ونوازع الحاسدين والحاقدين، ويظن البرآء منهم أن الاشتراكية لا تتنافى مع الإسلام، ثم بالتدريج يوسعون من دائرة المفهوم الاشتراكي شيئًا فشيئًا، حتى يبلغوا به الحضيض الأسفل أو قريبًا منه. ويومئذ تأتي التطبيقات الطاحنة، ويذوق المنخدعون بالأمس ويلات تطبيقات الشعار الذي كانوا قد فرحوا به، وطبلوا له وزمروا، وظنوا أن تطبيقاته ستجعلهم في بحبوحة من العيش، وستشفي نفوسهم من ظالميهم الإقطاعيين والرأسماليين والبرجوازيين.
لقد غرهم خداع هذا الشعار البراق، واستدرجهم بشبكته حتى قذفهم في جحيم التطبيقات الاشتراكية المشحونة بالظلم والعذاب.
الأساس العقدي للاشتراكية
فالاشتراكية ليست مذهبًا اقتصاديًّا فحسب أو حركة اجتماعية، لكنها نظرة شاملة للإنسان والوجود والتاريخ، فالنظام الاشتراكي يقوم على فلسفة مادية للحياة، ويتفاوت في تطرفه تفاوت المذاهب المختلفة، وترجع هذه المذاهب في تطرفها إلى المذهب الشيوعي الذي يستمد فلسفته من "هيجل" صاحب فكرة التطور، ويرجع
تنظيم هذا المذهب النظري إلى "كارل ماركس"، ثم إلى "لينين" من بعده. ولا تؤمن الشيوعية بالعقائد الدينية أو المبادئ الأخلاقية، بل تعتبر الدين مخدرًا للشعوب حتى يستفيد رجال الدين بالتعاون مع أصحاب رءوس الأموال في تسكين ثورة الجوع والعري بالزهد والصبر.
ومن مواد قانون كارل ماركس: "لا إله"، و"الطبيعة مادة"، وترى الشيوعية أن القوى الكونية تسيرها الطبيعة، فأي حادث أمام قوة من القوى فهو حرب للطبيعة ومن الواجب تحطيمه؛ لتنطلق القوى الطبيعية على سجيتها، فالغريزة الجنسية مثلًا طبيعة في الرجل والمرأة، وأي حائل يعوق اتصال المرأة بما تشاء من الرجال حرب للطبيعة، فلا يعترف النظام الشيوعي بالأسرة وإنما يولد الجنين ولادة اللقيط، فتلتقطه الدولة ليُربى في دور حضاناتها، ويتعلم إلى أن يكبر وينتج لنفس الدولة، ومن عجب أن تعترف الشيوعية بالغريزة الجنسية، وتطلق لها العنان، لكنها في نفس الوقت لا تعترف بغريزة حب التملك، وهي آصَلُ من الغريزة الجنسية في طبيعة الإنسان فتميتها بالكبت القاتل.
إن هذا المذهب -كما يقول أحد دعاته- مجموعة من الأفكار ملأت الفراغ الذي نشأ عن انهيار الدين المنظم، نتيجة لازدياد تحول الفكر إلى الاهتمام بالأمور الدنيوية خلال الثلاثة قرون الماضية، وهو مذهب لا يُمكن محاربته إلا بعقيدة معارضة تقوم على مبادئ مختلفة كل الاختلاف عنه، ولكن الشيوعية بالنسبة لمعتنقيها لها قيمة الدين ما داموا يشعرون بأنها تزودهم بشرح كامل للواقع، والإنسان كجزء من هذا الواقع، لقد استغل "كارل ماركس" نار الحقد في قلوب العمال، وشهَّر بكل وسيلة باستغلال رجال الأعمال احتكار أوربا، وبدلًا من أن يدعو إلى القسط شحذ أسلحة الصراع الطبقي؛ فحارب كل امتياز بدعوى المساواة، ودمر الملاك باسم الاشتراكية.
ثم استغل ذلك التحريف والضلال في المسيحية ليشهِّر بالدين، وبدلًا من أن يبحث عن الدين الحق اتهم الدين بأنه أفيون الشعوب ووسيلة الاستغلال، وما كان له من طريق بعد ذلك إلا أن يؤمن بالمادية، فيعتبرها هي الأول وهي الآخر ولا شيء قبلها ولا شيء بعدها، وكان عليه أن يبين كيف يتحرك هذا الكون ما دام قد كفر بالله، فاخترع وهم الصراع بين الأضداد كتفسير لحركة الكون والحياة، أو ما يسمى بالجدلية التي ابتدعها "هيجل"، وهكذا سميت دعوى "ماركس" بالمادية والجدلية، فماركس يعلي من شأن المادة ويعتبرها أصل حياة، ويعتبر أنها هي المحرك الأول لها؛ فأعطى قوة الإنتاج خاصية التطور الديالكتيكي الذاتي، فهي قاموس الكون كله، وأعطاها حتمية معناها ضرورة سيادتها، وأن معارضتها لن توقفها، ولن تكون إلا تعبيرًا عن الجهل والعقوق.
يقول الأستاذ العقاد: "لقد رأيت أناسًا يُبطلون الأديان في العصر الحديث باسم الفلسفة المادية، فإذا بهم يستعيرون من الدين كل خاصة من خواصه، وكل لازمة من لوازمه؛ ولا يستغنون عما فيه من عناصر الإيمان والاعتقاد التي لا سند لها غير مجرد التصديق والشعور، ثم يجردونه من قوته التي يبثها في أعماق النفس لأنهم اصطنعوه اصطناعًا، ولم يرجعوا به إلى مصدره الأصيل، فالمؤمنون بهذه الفلسفة المادية يطلبون من شيعتهم أن يكفروا بكل شيء غير المادة، وأن يعتقدوا أن الأكوان تنشأ من هذه المادة في دورات متسلسلة تنحل كل دورة منها في نهايتها؛ لتعود إلى التركيب في دورة جديدة.
ويطلبون منهم أن ينتظروا النعيم المقيم على هذه الأرض متى صحت نبوءتهم عن زوال الطبقات الاجتماعية، فإن زالت الطبقات الاجتماعية في هذه السنة أو بعدها ببضع سنوات؛ فتلك بداية الفردوس الأبدي الذي يدوم ما دامت الأرض والسموات، وتنتهي إليه أطوار التاريخ كما تنتهي بيوم القيامة في عقيدة المؤمن بالأديان.
ولا يخلو دين الفلسفة المادية من شيطانه، وهو الرأسمالية الخبيثة العسراء، فكل ما في الدنيا من عمل سوء أو فكرة سوء فهو كيد من هذا الشيطان الماكر المريد، وكل ما فيها من عمل سوء أو فكرة سوء يزول ويحول وتحل مكانه بركات الفلسفة المادية ورضوانها، متى صار الأمر إلى ملائكة الرحمة وذهب ذلك الشيطان إلى قرار الجحيم. ولكن أي دين هذا؟! إنه أشبه دين بدين البشرية الذي عرفته في بدايتها، وهو دين عبادة الطبيعة، الذي اعتنقه الإنسان البدائي وكان ينسب فيه القيم البشرية إلى الأشجار وغيرها من المواد.
ونريد أن نعرف إلى أي حد استطاعت المادية الجدلية أن تمد الإنسان بوعي للكون، وأن تحدد غايته في الوجود، يقول انجليز:"إنه مهما ينشأ أو ينقرض من الخلائق قبل أن تنجم بينهما أحياء تفكر بأدمغتها، وتجد لها ملاذًا يسمح بالحياة ولو إلى فترة وجيزة به؛ فإننا مع ذلك على يقين أن المادة في كل تغيراتها تظل أبدًا واحدة، وأبدًا كما هي، وأنها لن تفقد صفة من صفاتها، وأن تلك الضرورة الحديدية التي تقضي بزوال أرفع ذرات المادة -وهي القوة المفكرة- هي بعينها تقضي بميلاد كرة أخرى في زمان آخر".
بل حين ذكر "لينين" قول "هيرقليتس" إن العالم واحد لم يخلقه أي إله، ولا أي إنسان وقد كان ولا يزال وسيكون شعلة حية إلى الأبد تشتعل وتنطفئ تبعًا لقوانين معينة، علق عليه قائلًا:"يا له من شرح رائع لمبادئ المادية الجدلية".
وفي أسس الماركسية اللينينية أنها لا تعترف بوجود أي قوة أو خالق فيما وراء الطبيعة، إنها ترتكز بوضوح على الحقيقة، حقيقة العالم الذي نعيش فيه، إنها تحرر الإنسان مرة واحدة إلى الأبد من الخرافة، ومن عبودية الروحانية القديمة، إن تعاليم الفلسفة المادية التي تنصُّ على أن العالم الخارجي يوجد في الزمان وفي المكان تفند
المبدأ العقدي عن وجود إله خارج الزمان والمكان، واللاهوت يؤكد وجود إله قبل وجود العالم، ويؤكد أن هذا الإله هو الذي خلق الطبيعة، وهذه الفلسفة المادية تؤكد أن الله وحده هو الذي لا يحده زمان ولا مكان؛ بينما الطبيعة يحدها بداية ونهاية للزمان والمكان، يقولون: إن هذا خرافة، وإن العلم قد بين استحالة هذه الخرافات، فليس هناك مكان لله في الحقيقة، وذلك هو مبدأ العلماء عن العالم.
والفلكي الفرنسي جوزيف لالاند يقول: إنه بحث في السموات ولكنه لم يجد أي إله هناك، {كَبُرَتْ كَلِمَةً تَخْرُجُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ إِنْ يَقُولُونَ إِلَّا كَذِبًا} (الكهف: 5).
ومن العجيب أن أصحاب هذا الرأي قبل صفحة واحدة يقولون: إن المسافات في العالم أعظم كثيرًا من المسافات التي تعودنا عليها في الأرض، فالمجاهر الحديثة قد مكنتنا من اكتشاف النظام النجومي الذي ضوؤه يصل إلينا في مئات الملايين من السنين، رغم أن سرعة الضوء تصل إلى ثلاثمائة ألف ألف كيلو في الثانية. رغم أن هذه المعلومات محدودة ولكنها لا تعطينا صورة صحيحة عن اتساع العالم الذي هو لانهائي، إن لانهائية العالم تتعدى حدود الخيال، ولا يمكن وصف العالم والتعبير عنه بالعلم، والأرقام الخاصة بعمر الأرض وتطورها تُذهل الخيال، فالإنسان كما نعرفه اليوم ظهر منذ خمسين ألف إلى سبعين ألف سنة، وأول أشكال النبات والحياة الحيوانية ظهرت منذ ألف مليون سنة، والأرض نفسها منذ عدة آلاف الملايين من السنين، وهذا هو العمر الزماني لتاريخ الأرض كما يقول العلم، ولكن لا هذه الأرقام ولا أكبر منها تستطيع أن تعطينا أي دلالة حقيقية عن اللانهائية الطبيعة؛ لأن هذه اللانهائية يتمثل وجودها اللانهائي بالزمان، وهكذا يصلون إلى معالم الأفكار الغيبية التي يعابوا الأديان عليها، ورغم هذا الوصول فإنهم يصدقون قول إنسان أخرق بحث عن الله في السماء فلم يجده، تعالى الله عما يقولون: وعما يصفون.