الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
هذا الكون قد نشأ من تلقاء نفسه من العدم وهذا مرفوض بداهة، وإما أن يكون هذا الكون أزلي الوجود ليس لنشأته بداية وهذا الاحتمال يساوي ما يقوله المؤمنون بالله من أزلية الخالق، لكن قوانين الكون تدل على أن أصله وأساسه مرتبط بزمان بدأ من لحظة معينة، فهو إذًا حدث من الأحداث، فلا يمكن إحالة وجود هذا الحدث المنظم البديعي إلى المصادفة عقلًا، ولذلك فهذا الاحتمال باطل، وإما أن يكون لهذا الكون خالق أزلي أبدعه، وهو الاحتمال الذي تقبله العقول دون اعتراض، وليس يرد على إثبات هذا الاحتمال ما يبطله عقلًا فوجب الاعتماد عليه.
شبهات الملاحدة في إنكارهم وجود الله تعالى
الشبهة الأولى: دليل الجاذبية: فقد زعموا أن اكتشاف نظام الجاذبية -في عالم الفلك- أن هذا الكون محفوظ بقانون الجاذبية ومتماسك بسببها، وليس بقدرة إله خالق. لا شك أن هذا الفهم تافه إذ يقال لهم: هل نظام الجاذبية ينفي وجود إله خالق قادر، أما أنه على العكس يدل على وجود هذا الإله سبحانه وتعالى؟! الذي خلق الجاذبية ذاتها لتعمل وفق ما أراد وقدر لا وفق ما تريد هي، إذ لا إرادة لها ولا وجود لها من نفسها، فهي قد وجدت بعد أن لم تكن، وهذا الترتيب العجيب في الكون يفوق كل قدرة يفوق كل تدبير. لقد حير العقول وتضاءلت دون إدراكه الأفهام، فكيف ينسب هذا كله إلى الجاذبية المحدثة المخلوقة؟!.
كما أن كثيرًا من الملاحدة يعترفون بعجزهم عن الوصول -عن طريق الأبحاث والتجارب- إلى معرفة أسرار كثيرة من الحقائق المشاهدة في هذا الكون، وهذا الإقرار يلزمهم أن يقروا أيضًا بحقيقة الإله بل وحقيقة الدين؛ لأنه يشتمل على
كثير من الحقائق التي لا يصل العقل إلى معرفتها، لا عن طريق البحث ولا عن طريق التجارب، فكيف ساغ لهم الإيمان بأن لبعض الحقائق المشاهدة حقائق باطنية عجز العلم عن معرفتها، بينما ينفون وجود الإله وحقيقة الدين؛ بحجة أن الدين قائم على أمور لا تدرك حقيقتها الباطنية عن طريق البحث والتجربة؟! هذا تناقض واضح وتفريق بلا مستند!.
الشبهة الثانية: قضية الارتقاء: أي ارتقاء المخلوقات وتطورها في خلقها تلقائيًا، وهذه القضية رغم وضوحها في الدلالة على وجود الله تعالى وقدرته ومشيئته ورحمته بخلقه، إلا أنهم نظروا لها من جانب آخر بعيد عن الفهم السليم والعقل المستقيم، فزعموا أن أنواع الحياة قد وجدت نتيجة لعمل الارتقاء، لافتراضهم أنه على فرض وجود خالق لهذه الحياة بزعمهم، فلا يمكن أن يخلقهم على هذا الترتيب من الصغر إلى الكبر في الإنسان والنبات، بل يخلقه دفعة واحدة كل صنف في كمال شكله بدون ترتيب، يخضعها لعمل تطوري طويل الأمد حسب زعمهم، وأن المخلوقات تطورت بنفسها بفعل المادة، وأنها تولدت عن بعضها للتشابه بينها، وأن بقاءها يعود إلى قدرتها على التكيف مع الظروف التي تحيط بها.
والواقع أنه ما من مؤمن بالله عز وجل إلا ويعلم أن وجود الخلق -على هذه الحالة- إنما يعود إلى مشيئة الله وقدرته، ولتنتظم الحياة على سنة واحدة، ولن تجد لسنة الله تبديلًا، وأن ما يزعمونه من تطور المخلوقات بنفسها بفعل المادة إن هو إلا خرافات سخفية، ولو كان ذلك صحيحًا لأدى ذلك التطور إلى أن تصبح الذرة جملًا أو فيلًا ضخمًا، فما الذي يمنعها وقانون التطور يجيز لها ذلك؟! قد مرت ملايين السنين ولا تزال الذرة هي الذرة ولا يزال الجمل هو الجمل، والإنسان هو
الإنسان لم يتطور من قرد إلى إنسان إلا عند "داروين" الملحد، الذي أصبحت نظرياته محل سخرية العقلاء من الناس وضحكهم منها، وإذا كان الارتقاء بمعنى أن الإنسان والحيوان يكون في أوله صغيرًا ثم يكبر شيئًا فشيئًا إلى أن يكتمل، فهذا أمر حقيقي مشاهد، وهو يدل على قدرة قوية تربيه إلى أن يصل إلى درجة الاكتمال، ولا يدل هذا على أنه ليس له إله رحيم مدبر، بل وفي القرآن آيات كثيرة تدل على هذا التطور والارتقاء في حياة الإنسان والحيوان والنبات.
لو كان للطفل المولود أسنان حادة من أول يوم لما أرضعته أمه، ولو ولد شابًّا لما وجد ذلك الحنان بينه وبين أمه وأبيه وأهله، ولو كانت الشمس تسطع حرارة منذ بزوغها لما وجد لها هذا الحب في استقبالها وفي غروبها كل يوم، ولكن الملاحدة قلبوا الأمر فجعلوا ما كان دليلًا واضحًا على قدرة الله تعالى ووجوده، جعلوه دليلًا على إنكار وجوده لأن قلوبهم غلف وقد طبع الله عليها، وأما ما زعموه من أن الكائنات الحية نشأت عن التولد، وأن تكيفها مع الظروف هو الذي أبقاها فإنه يقال لهم: إن هناك حقائق مسلمة لا يعارضها عقل ولا دين بحال، بل يؤكدها الدين والعقل بدلالتها على الخالق العظيم. من هذه الحقائق الكائنات الأدنى كالنبات وجدت قبل الكائنات الأرقى كما يذكر الباحثون، فالإنسان هو أرقى الكائنات الحية وجد متأخرًا، بينما النباتات وجدت أولًا، فإن الله عز وجل خلق السموات والأرض، وخلق الأرض وقدر فيها أقواتها وما يحتاج إليه البشر حين يوجدون عليها.
أيضًا من الحقائق أنه يوجد كثير من أوجه الشبه بين الكائنات الحية كالإنسان والقرد، ومع ذلك بقي كل كائن كما هو على طول المدى، لم يتحول القرد إلى إنسان ولا الإنسان إلى قرد، ومن الحقائق أيضًا أن الكائنات الحية تملك قدرة على
التكيف مع الظروف. مثل: ظهور المناعة لمقاومة الأمراض وتغير لون الجلد لمقاومة الحرارة وأشعة الشمس، كل هذه الثوابت لا يعارضها دين ولا يعارضها عقل، وهي من أوضح الأمور على قدرة الله تعالى الذي منحها هذه الصفات، فإن ترتيب وجود الكائنات يعود لمشيئة الله تعالى، ولا يلزم من وجود الكائن الأول أن الكائن الذي يليه تولد عنه، فإن الإنسان مع وجوده متأخرًا لا يصح أن يقال: إنه تولد عن النبات الذي سبقه في الوجود وإلا لزم التسلسل، فإنه يقال لمن يريد إثبات ذلك: والنبات أيضًا عن أي شيء تولد؟! فلو قال: من اجتماع أجزاء المادة يقال له: وأجزاء المادة أيضًا من أي شيء تولدت؟! وهكذا فلا يجد جوابًا في النهاية إلا التسليم رغم أنفه شاء أم أبى.
أما وجود التشابه بين الكائنات الحية فلا يعني هذا أيضًا أن كل كائن تولد عن شبهه، ولا يصح أن يقال: إن القرد تولد عن الإنسان أو الإنسان تولد عن القرد لما بينهما من تشابه، بل إن العلم والدين كلاهما يثبتان أن التشابه بين الكائنات الحية مع بعضها البعض، أو مع بعضها وأخرى ليست من جنسها إنما هو دليل قاطع على أن مصدر الإيجاد واحد وهو الله تعالى، ولو أن الكائنات كلها تولد بعضها عن بعض لما كان هناك فرق في مفاهيم العقلاء بين أن تقول لإنسان: أنت قرد أو كلب أو شجرة وبين أن تقول له: أنت إنسان أو قمر أو وردة؛ لحصول التولد الذي زعمه الملاحدة، إذ ما دامت الكائنات كلها تولدت عن بعضها البعض فلا يبقى بينهم أي فارق حقيقي.
ثالثًا: من شبهاتهم في إنكار وجود الله تعالى: قانون العلة أو المعلول: أو ما يسمى عندهم بالتفسير الميكانيكي للكون، ومن المسلم به عند العقلاء -وعند كل المؤمنين بالله تعالى- أن الله تعالى يوجد الأشياء عند وجود أسبابها في
أغلب الأمور، إلا إذا أراد عدم وجود تلك الأسباب، وحينما اكتشف علماء القرنين الثامن عشر والتاسع عشر أن الكون يسيره قانون العلة والمعلول، طار الفرح بمفكري الملاحدة وظنوا أنهم وجدوا ضالتهم المنشودة في التدليل على عدم وجود الله تعالى؛ لأن كل الأشياء ناتجة عن علة ومعلول، فلا ضرورة حينئذٍ إلى القول بوجود إله موجد؛ لأن جميع ما يجري في هذا الكون إنما يحدث بسبب علل مادية دون تدخل خارجي، غير وجود العلة والمعلول التي تغني عندهم عن القول بوجود الله عز وجل، وهو ما يسميه بعض الباحثين التفسير الميكانيكي للكون.
ومن الطريف أن العلماء الذين اكتشفوا هذا القانون لم يزعموا أنه بديل عن الله تعالى، بل صرحوا بأن هذا القانون هو سنة الله في خلقه، أن يجري الأمور بواسطة أسباب وعلل، فقد قال "إسحاق نيوتن" مكتشف هذا القانون:"هذا هو أسلوب الله في العمل، فالله يجري مشيئته في الكون بواسطة أسباب وعلل"، ولكن الملاحدة جعلوا هذا ضمن أدلتهم على تقوية إلحادهم، وأنى لهم أن يكون هذا الاكتشاف دليلًا على عدم وجود الإله الخالق، الذي قدر الأسباب وضرب الآجال وفق سننه في هذا الكون التي هي أوضح من الشمس، لولا عنادهم واستكبارهم، وقد أشار الله عز وجل إلى هذا كثيرًا في القرآن الكريم. مثلًا حينما أمرت السيدة مريم العذراء أن تهز النخلة وهي في حالة تمام الإعياء والتعب في وقت الولادة؛ ليفهم الناس أن الله تعالى يجري الأمور بأسبابها.
وقد اعترف الملاحدة بعد طول جدل بأن قانون التعليل ليس حقيقة مطلقة، بالمفهوم الذي افترضوه في القرن التاسع عشر، بل لقد قرروا أخيرًا أن نظام العالم لا يخضع لقانون العلة والمعلول الناتج عن الصدفة المحضة، وإنما هناك عقل ذو وعي يدبر شؤون العالم بالإرادة، قد كان ساعدًا عند الجهال في القرون الأولى أن
هناك آلهة مشتركة في تدبير هذا الكون، وهي تخضع في النهاية لإله واحد هو أكبر هذه الآلهة، وقد تغيرت هذه النظرة الشركية إلى ما هو أقبح منها، وهو هذا الإلحاد المادي الحديث القائم على القول بالصدفة وطبيعة أجزاء المادة وانتظامها وانفجارها، مما لم يقل به المشركون قديمًا.
والشبهة الرابعة من شبهات الملحدين على إنكار وجود الله تعالى: ما يسمونه دليل المادة: فهم يقولون: إن أساس هذا الكون كان مادة تشبه الغبار المنتشر، ثم حدث أن تحرك هذا الغبار حركة لم تنته إلا بتكوين هذا الكون وما فيه من انفجار هائل. ولكن لنا سؤال عن هذا التفسير المضحك السخيف: هل يستطيعون أن يثبتوا من الذي كون هذا الغبار ومن الذي جمعه، ومن كان السبب في تلك الحركة الذي جعلت الكون كله ينفجر يتكون على نحو ما هو عليه؟! إن هذه الأسئلة لا تجد لها جوابًا عندهم، غير أن الصدفة هي التي فعلت ذلك وهو افتراض بدون أساس، افتراض ناتج عن خيال كاذب وفهم قاصر، ويقال لهم: إذا كان وجود هذا الكون عن طريق الصدفة، أليس من الممكن -والحال هكذا- أن توجد صدفة أخرى تقضي على هذا الكون كله، وتتعطل كل هذه المصالح من شمس وقمر ونجوم، وغير ذلك مما في هذا الكون المترابط المنتظم بصورة تضمن استمرار الحياة سليمة عن الخراب والتداخل، إذ الشمس تجري لمستقر لها والنجوم زينة السماء فماذا يردون عند سؤالنا هذا؟
إن هذا التفسير نقيض كلامهم السابق فهو يعجز عن تقديم تفسير مقنع لتسلسل الوجود، لكنهم بزعمهم يقولون: إنهم وجدوا في مبدأ التعليل الذي زعموا فيه أن الكون ابتدأ في الوجود إثر حركة المادة وانفجارها، ما سبق أن ذكرناه وعرفنا سخافته وبطلانه، وحينما قام الإلحاد ونكران وجود الله على أساس أن الكون