الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
فالدين لم يكن يعطي مفاهيم الشعب الكاملة؛ لذا فإنه من غير المنطقي الإقرار بأن اليهود شعب، لكنهم عبارة عن جماعات اعتنقت اليهودية، وانحدرت من شعوب أصول مختلفة، منهم السفرديم، وهم اليهود ذوو الأصول الشرقية كيهود المغرب، والعراق، واليمن، وإيران، ويهود فلسطين نفسها. وكذلك منهم الأشكناز وهم ذوو الأصول الأوروبية كالبولنديين، والروس، والنمساويين، وغيرهم ممن يدخل تصنيفهم في الفترة الحالية، ومنهم آخرين.
قد رأت الصهيونية أن بإمكانها أن تخلق تجانسًا من هذه الفصائل المختلفة حتى في العقائد؛ لتكوين جماعة واحدة يمكنها فيما بعدُ أن تطلق عليهم شعبًا، وإن كان ذا أصول مختلفة وأعراق متعددة، حتى إن بعضه دخيل على اليهود، وما الأشكناز إلا أعراق غير يهودية عبرانية قد اعتنقت الديانة اليهودية في أوائل القرن الحادي عشر الميلادي، أي: قبل تسعمائة سنة تقريبًا، ولهذا فإن أفكار قادة الصهيونية آنذاك كانت منصبة على تحقيق هذه الوحدة، والعودة إلى اليهودية بأي طريقة ووسيلة، فبهذا يحققوا هدفهم مستفيدين من مبدئهم القائم على أن الغاية تبرر الوسيلة، وقد استمر الصهاينة في استعمال هذه القاعدة في جميع أعمالهم خلال مسيرة الصهيونية حتى يومنا هذا لتحقيق ما يهدفون إليه.
مراحل الحركة الصهيونية
فقد مرت الحركة الصهيونية في تاريخها بمراحل ثلاث:
أولها: المرحلة التمهيدية، ثم مرحلة مؤتمر بازل في سويسرا، ثم مرحلة ما بعد مؤتمر بازل.
ونبدأ بالحديث عن المرحلة الأولى وهي مرحلة ما قبل مؤتمر بازل، وتتمثل بظهور مفكرين وأدباء يهود ساهموا بكتاباتهم في إنضاج فكر هذه الحركة، ولقد ظهرت
فكرة الصهيونية العالمية إلى الوجود في منتصف القرن التاسع عشر، وساهم في الدعوة إليها مفكرون يهود منهم: الحاخام يهودا القالي، والده زعيم روحي لليهود العرب في سيراجيفو، وقضى حياته في القدس، ثم أصبح حاخام سملين، ونشر في كتابه (اسمعي يا إسرائيل) اقتراحًا بإقامة مستعمرات يهودية في فلسطين؛ لتكون نواة للخلاص المنتظر.
ولما كانت هذه الفكرة مخالفة لتعاليم الدين اليهودي قام بتبريرات لها فقال: بظهور المسيح الأول الذي يسبق المسيح المنتظر الذي يقود اليهود في حروب يأجوج ومأجوج لفتح فلسطين بحد السيف، وفي كتابه الثاني وضع أسس هذا الخلاص، والتي تتلخص في إقامة جمعية عامة كبرى، وصندوق قومي لشراء الأراضي، ودعا لجباية الضرائب من يهود العالم، وهذا ما تبناه هرتزل فيما بعد. وفي كتابه الثالث (الخلاص الثالث) شجع على كسب عطف السلطان العثماني ومحاولة الاستيطان الجماعي بقصد تعمير الأراضي الخراب، ودعا لإقامة شركات تأمين وسكك حديدية حتى نتوسل بقوتها إلى السلطان لاستعادة أراضي الأجداد.
ومن هذه الشخصيات أيضًا الحاخام زفي هلش كلشر، وهو حاخام بولوني، واستلم حاخام تورن أربعين سنة، وانضم إلى جمعية الاستيطان اليهودي، وألف كتابه (السعي لصهيون) سنة ألف وثمانمائة واثنتان وستين، صور فيه بأسلوب الخداع حالات العذاب والتشرد والنفي التي يتعرض لها اليهود، ودعا للهجرة لفلسطين بقصد الخلاص، وقد استجاب لدعوته جماعة من اليهود اشتروا أرضًا في ضواحي يافا سنة ألف وثمانمائة وستة وستين، وأنشئوا مدرسة زراعية سموها ميكوه إسرائيل، ومعناها: أمل إسرائيل.
وبتخطيط من الاتحاد الإسرائيلي العالمي الذي تشكل في باريس عام ألف وثمانمائة وستين، ثم أنشئت مستعمرة بتاح تيكي فاه، ومعناها بوابة الأمل، وتبعد عن
حيفا ثمانية أميال، ومنهم الحاخام موسي هس، وهو حاخام ألماني صهيوني من أب تاجر، وأم ابنة حاخام، قد درس العربية في كولونيا، والفلسفة والتاريخ، ودخل جامعة بون وتأثر بماركس الذي يدرس معه في نفس الجامعة، وعمل مراسلًا لصحيفة رنبشه المتطرفة، التي يرأس تحريرها ماركس، انفصل عن ماركس إثر صدور البيان الشيوعي لعدم انسجامه معه، وقد ألف هذا الحاخام موسي هس كتاب (روما والقدس) دعا فيه إلى قومية يهودية؛ لأن اليهود بنظره يعتبرون أجانب في البلاد التي يعيشون فيها، وقد دعا إلى اعتبار القدس مركزًا يهوديًّا كما تعتبر روما مركز الكنيسة المسيحية، كما يرى أنه لا مبرر لنزوح كافة اليهود لفلسطين، بل يكفي إقامة دولة يهودية في فلسطين، ويبقى معظم اليهود في أماكن استيطانهم؛ ليسيطروا على الفعاليات الاقتصادية والسياسية في دولهم لدعم الكيان الصهيوني.
ومن الحاخامات أيضًا المؤسسة للفكر الصهيوني الحاخام، والمفكر بيير بتس وهو روائي وداع لإحياء الثقافة العبرية في روسيا، وقد دعا في كتابه (المتجول في سبيل الحياة) إلى الهجرة لفلسطين، وأن الهجرة إلى سواها إنما هو في نظره تشتيت جديد، ومنهم موشي لاب، وكان عضوًا في جمعية أحباء صهيون الروسية التي تعمل لتشجيع الاستعمار الصهيوني لفلسطين، وكان من أنشط مؤيدي هرتزل، وشعاره ادفع كويك في الأسبوع للاستطيان في أرض إسرائيل.
ومنهم يهوذا لايك وهو طبيب روسي وزعيم صهيوني نشر في كتابه (التحرير الذاتي) نداء يهودي روسي إلى بني قومه، ثم تصهين وعمل على توحيد الهيئات الصهيونية التي اتخذت مقرًّا لها في قرصوفيا، وانتخب هو نفسه رئيسًا لمجلسها الأعلى، ودعا في كتابه إلى قيام دولة إسرائيل بحجة أن العالم لا يحترم شعبًا لا أرض له.
ثم هرتزل وهو تيودور هرتزل مؤسس الصهيونية الحديثة، واسمه بنيامين زائيف هرتزل، وقد ولد سنة ألف وثمانمائة وستين في بودابست عاصمة المجر، ثم انتقل مع أسرته إلى فيينا، ومارس فيها المحاماة، وعين مراسلًا لصحيفة المرأة الجديدة بفرنسا، وبدأ يكتب عن المسألة اليهودية، وأخرج كتابًا بعنوان (الدولة اليهودية) محاولًا إيجاد حل عنصري للمسألة اليهودي، وفي سنة ألف وثمانمائة وسبعة وتسعين ترأس اجتماعًا للحركة الصهيونية في بازل، وألف كتابه الدولة اليهودية سنة ألف وثمانمائة وستة وتسعين طالب فيه بمنح أرض فلسطين لليهود واقترح أن ينفذ مشروع الدولة.
أما الجمعيات التي أنشئت قبل مؤتمر بازل فهي جمعية رعاية الاستيطان اليهودي في فلسطين، وتأسست 1860 في فرانكفورت، وتهدف إلى جمع المال لشراء الأراضي، وتشجيع الاستيطان جمعية الألبانز الإسرائيلي العالمية، أو الاتحاد الإسرائيلي العالمي، وتأسست في فرنسا سنة ألف وثمانمائة وستين أيضًا، وأنشأت المدرسة الزراعية قرب حيفا، وجمعية أحباء صهيون وأنشئت بعد مصرع قيصر روسيا سنة ألف وثمانمائة وإحدى وثمانين حين اكتشف الروس خداع اليهود، وتعرفوا إلى أساليبهم في امتصاص أموالهم، فتحرك الشعب الروسي للانتقام منهم مما دفعهم إلى الهجرة، وتشكيل منظمة أحباء صهيون في روسيا في هذا العام، وتهدف إلى إنشاء المستعمرات في فلسطين وتهجير اليهود الروس إليها.
والجمعية اليهودية للاستعمار، وجمعية كاديما وهي منظمة طلابية يهودية، وجمعية هالوكا في ألمانيا، وقد أنشئت لجمع التبرعات لمساعدة يهود ألمانيا وغيرها من الجمعيات.
مرحلة مؤتمر بازل:
وقد انعقد المؤتمر التأسيسي الأول للحركة الصهيونية في التاسع والعشرين من أغسطس سنة ألف وثمانمائة وسبعة وتسعين في بازل بسويسرا، واستطاع تيودور هرتزل أن يكون هو رئيس المؤتمر، والمؤتمرات الخمسة التي تلته حتى توفي. وبعد الترحيب بالمؤتمرين أُعلن أن أول نتائج هذا المؤتمر تحويل المسألة اليهودية إلى مسألة صهيونية، ودعا إلى كسب ثقة الحكومات في مساعدتهم لتوطين اليهود في فلسطين، وعارض مبدأ الهجرة الشاملة، وطالب بأن يبقى المنفذون في بلادهم التي استوطنوا فيها؛ لمساعدة الدولة المرتقبة فيما بعد، وقد اتخذ المؤتمر القرارات التالية:
1 -
تشكيل لجنة عمل مهمتها تبني المفاوضات، وعقد الاتفاقات، وبذل المساعي لإقامة دولة صهيونية في فلسطين.
2 -
تأليف بنك استعماري يهودي برأس مال مليون جنيه تحت تصرف لجنة العمل.
أما المقررات السرية التي قررها مؤتمر بازل فهي:
1 -
استعمال كافة الوسائل وتسخير الدول والشخصيات لإقامة دولة صهيون.
2 -
ربط كافة الجمعيات اليهودية مع كافة المنظمات الدولية والسياسية لاستغلالها للغرض ذاته.
3 -
التظاهر في المجتمعات التي تحتقر اليهود بالشخصية المسيحية مع الإيمان بأن المسيحية عدوة اليهودية.
4 -
تدعيم العمل السري اليهودي في كافة أنحاء العالم حتى نتمكن من السيطرة على الدول الأخرى.
5 -
السعي الحثيث لإضعاف الدول سياسيًّا بنقل أسرارها، وبذر بذور التفرقة والانشقاق بين حكامها.
6 -
على اليهود اعتبار القطعان الأخرى قطعانًا من الماشية يجب خضوعها لحكام صهيون.
7 -
اللجوء إلى التملق للحكام والتهديد واستخدام المال في إفساد الحكام والسيطرة عليهم.
8 -
العمل على السيطرة على الذهب والاقتصاد العالمي بغية السيطرة على وسائل الإعلام والثقافة لإثارة الرأي العالم.
كما تم الاتفاق على أن من يؤمن بالمبادئ التي وصفت في مؤتمر بازل يدفع اكتتابًا سنويًّا للمساهمة في بناء الدولة، وكتب مثلًا روتشيلد في صحيفته عن آثار مؤتمر بازل فقال: لو طُلب إلي أن ألخص أعمال مؤتمر بازل، فإني أقول بل أنادي على رءوس الأشهاد إنني أسست الدولة اليهودية.
وقد عُقد المؤتمر الثاني في بازل في السنة التي تليها سنة ألف وثمانمائة وثمانية وتسعين، وأسفر عن إنشاء بنك رأسماله مليونا جنيه إسترليني، ثم عُقد المؤتمر الثالث في السنة التي تليها، والمؤتمر الرابع والمؤتمر الخامس والمؤتمر السادس والسابع، وهكذا.
أنتقل للحديث عن مرحلة ما بعد المؤتمر التأسيسي، وقد تميزت هذه المرحلة بنشاط مكثف؛ لترسيخ الأسس النظرية للصهيونية العالمية، وتميزت بالنشاط الفعال لخدمة الأهداف التي تبناها المؤتمر، ونلاحظ في هذه المرحلة -مرحلة ما بعد المؤتمر التأسيسي- نشاطان: نشاط الأفراد، وقد نشط رجال الحركة الصهيونية على الصعيد العالمي؛ لتحقيق أهدافهم السرية منها والعلنية، وكان على رأسهم هرتزل الذي قابل الصدر الأعظم لشراء أرض فلسطين لقاء مبلغ
كبير من المال، كما قابل وزير المستعمرات البريطاني جوزيف تشمبرن، كما زار روسيا القيصرية، وكان له أثر في اتفاقية سايكس بيكو سنة ألف وتسعمائة وستة عشر، والتي بموجبها تقاسموا الوطن العربي، وحصلوا على وعد بلفور سنة ألف وتسعمائة وسبعة عشر.
وممن ساهم في هذا النشاط حاييم وايزمان وكون جوزيف، وجردبرج، وبتأثيرهم أقرت الولايات الأمم المتحدة صك الانتداب الإنجليزي على فلسطين، وعينوا هنبرت صموئيل الصهيوني أول مندوب سامي لهم في القدس؛ ليعمل على تحقيق وعد بلفور، ثم نشاط المنظمات؛ فالمؤتمر الصهيوني العالمي وهو الموجه الأعلى للمنظمة الصهيونية، ويتألف من أعضاء اللجنة التنفيذية للمجلس الصهيوني العام، ومن ممثلي المنظمات الصهيونية العالمية، ويُعقد كل أربع سنوات للإشراف على التوجيه، وينبثق عنه المجلس التنفيذي للمؤتمر، وهو مشرع الحركة، والمسئول عن تنفيذ قراراتها في القدس وخارجها، ويتألف من المكتب التنفيذ الصهيوني العالمي، ومن الوكالة اليهودية.
ثم الوكالة اليهودية وهي المسئولة عن شئون يهود فلسطين، وهي قسمان: القسم الأمريكي وتأسس سنة ألف وتسعمائة وستين، وهو يعمل في فلسطين، والقسم الإسرائيلي والذي تأسس سنة ألف وتسعمائة وستة وستين، وهو يعمل في أمريكا لجمع التبرعات وكسب الأنصار، والذي نجم عنهما إدارة الوكالة اليهودية سنة ألف وتسعمائة واثنتان وعشرين، ثم الصناديق القومية وهي المسئولة عن الإعمار والاستعمار في فلسطين سنة ألف وتسعمائة وعشرين، ثم النداء اليهودي الموحد إتش إم من يهود أمريكا، ويقود حملة الوكالة اليهودية لدعم الاستيطان، وقد تأسس سنة ألف وتسعمائة وسبعة وعشرين، ثم الجمعية اليهودية العالمية، وهي التي تقف وراء جميع المنظمات لمدها بالمال وبالرجال.