الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
بسم الله الرحمن الرحيم
الدرس السابع عشر
(الاستشراق (2))
موازين البحث عند المستشرقين
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف المرسلين، وخاتم النبيين سيدنا محمد النبي الأمين، وعلى آله وصحبه أجمعين.
أما بعد:
الاستشراق:
جمهور المستشرقين في تحرير أبحاثهم عن الشريعة الإسلامية يعتمدون على ميزان غريب بالغ الغرابة في ميدان البحث العلمي، فمن المعروف أن العالم المخلص يتجرَّد عن كل هوى وميل شخصي فيما يريد البحث عنه، يتابع النصوص والمراجع الموثوق بها، وما أدت إليه بعد المقارنة والتمحيص كان هو النتيجة المحتمة التي ينبغي له اعتمادها والأخذ بها، إلا أن أغلب هؤلاء المستشرقين يضعون في أذهانهم فكرة معينة يريدون تصيد الأدلة لإثباتها، وحين يبحثون عن هذه الأدلة لا تهمهم صحة هذه الأدلة، بمقدار ما يهمهم إمكان الاستفادة منها؛ لدعم آرائهم الشخصية.
كثيرًا ما يستنبطون الأمر الكلي من حادثة جزئية، ومن هنا يقعون في مفارقات غريبة لولا الهوى والغرض المريض لربئوا بأنفسهم عنها، وكثيرًا ما يعتمدون على الوهم المجرد لتفسير الأمور، ويقيسون المسلم الذي يؤمن بالله ويخشاه على الذين لا تردعهم روادع دين، ولا خلق قويم، ويعتبرون أن كل سلوك المسلمين أفرادًا وجماعات لا بد أن يفسر بالأغراض الشخصية، والنوازع النفسية الدنيوية، وفيما يلي طائفة من الأمثلة التي تكشف موازين البحث عند المستشرقين حينما يكتبون في الإسلام، وتاريخ المسلمين.
فمثلًا في محاولة المستشرق جولد سيهر لإثبات زعمه بأن الحديث في مجموعه في صنع القرون الثلاثة الأولى للهجرة، وليس من قول الرسول صلى الله عليه وسلم ادَّعى أن أحكام الشريعة لم تكن معروفة لجمهور المسلمين في الصدر الأول من الإسلام، وأن الجهل بها وبتاريخ الرسول صلى الله عليه وسلم كان لاصقًا بكبار الأئمة، وقد حشد لذلك بعض
الروايات الساقطة المتهافتة، مثلًا من ذلك ما نقله عن كتاب (حياة الحيوان) للدميري من أن أبا حنيفة رحمه الله لم يكن يعرف هل كانت معركة بدر قبل أحد، أم كانت أحد قبلها.
ومما لا شك فيه أن أقل الناس اطلاعًا على التاريخ يرد مثل هذه الرواية، فأبو حنيفة وهو من أشهر أئمة الإسلام الذين تحدثوا عن أحكام الحرب في الإسلام حديثًا مستفيضًا، وذلك في فقهه الذي أُثر عنه وفي كتب تلامذته الذين نشروا علمه -كأبي يوسف ومحمد- من غير المتصور بحال من الأحوال أن يكون الإمام جاهلًا بوقائع سيرة الرسول ومغازيه، وهي التي استمد منها فقهه في أحكام الحرب، ويكفي ذكر كتابين في فقهه في هذا الموضوع يعتبران من أهم الكتب المؤلفة في التشريع الدولي في الإسلام: أول هذين الكتابين (باب الرد على سير الأوزاعي) لأبي يوسف رحمه الله، وثانيهما كتاب (السير الكبير) لمحمد بن الحسن رحمه الله، وهو من أقدم وأهم مراجع الفقه الإسلامي في العلاقات الدولية، وقد طبع هذا الكتاب عدة مرات، وفي هذيْن الكتابين يتضح إلمام تلامذة الإمام وهم حاملو علمه بتاريخ المعارك الإسلامية في عهد الرسول، وعهد خلفائه الراشدين.
وجولد سيهر لا يخفى عليه أمر هذين الكتابين، وكان بإمكانه لو أراد الحق أن يعرف ما إذا كان أو حنيفة جاهلًا بالسيرة أو عالمًا بها من غير أن يلجأ إلى رواية الدميري في كتابه (الحيوان) وهو ليس مؤرخًا، وكتابه ليس كتاب فقه، ولا تاريخ؛ وإنما يحشر فيه كل ما يرى إيراده من حكايات ونوادر تتصل بموضوع كتابه من غير بحث عن صحتها، ولا يخفى ما كان بين أبي حنيفة ومعاصريه ومقلديه من بعدهم من خصومة في المنهج الاجتهادي الذي اعتمده، قد كانت
هذه الخصومة مادة دسمة لرواة الأخبار ومؤلفي كتب الحكايات والنوادر لنسبة نوادر وحكايات، منها ما يرفع من شأن أبو حنيفة، ومنها ما يضع من سمعته، وأكثرها ملفق مختلق. موضوع للمسامرة والتندر من قبل محبيه أو كارهيه على السواء، الأمر الذي يجعلها عديمة القيمة العلمية في نظر العلماء والباحثين.
وجولد سيهر أعرض عن كل ما دُوِّن من تاريخ أبي حنيفة تدوينًا علميًّا ثابتًا، واعتمد رواية مكذوبة ليدعم بها ما تخيله من أن السنة النبوية من صنع المسلمين في القرون الثلاثة الأولى، وكذلك أعرض عما أجمعت عليه كتب الجرح والتعديل، وكتب التاريخ من صدق الإمام محمد بن مسلم بن شهاب الزهري رحمه الله، وورعه، وأمانته، ودينه، وزعم أن الزهري لم يكن كذلك، بل كان يضع الحديث للأمويين، وهو الذي وضع حديث ((لا تشد الرحال إلا إلى ثلاثة مساجد)) لعبد الملك بن مروان، وكل حجته أن هذا الحديث من رواية الزهري، وأن الزهري كان معاصرًا لعبد الملك بن مروان.
يحاول المستشرقون أن يؤكدوا تعالي العرب الفاتحين عن المسلمين الأعاجم، وانتقاصهم من مكانتهم، وغرض المستشرقين من هذا إفساد قلوب المسلمين من غير العرب على المسلمين من العرب لإقامة الحواجز القومية بينهم.
يقول المستشرق بروكلمان في كتابه (تاريخ الشعوب الإسلامية): "وإذا كان العرب يؤلفون طبقة الحاكمين فقد كان الأعاجم من الجهة الثانية هم الرعية" أي: القطيع وجمعها رعايا كما يدعوهم، وهو تشبيه سام قديم كان مألوفًا حتى عند الآشوريين. قد تجاهل بروكلمان جميع الوثائق التاريخية التي تؤكد عدالة الفاتحين المسلمين، ومعاملتهم أفراد الشعب على السواء من غير تفرقة بين عربي وغيره، وتعلق بلفظ الرعية تعلقًا لغويًّا، واستنتج منها أن المسلمين نظروا إلى الأعاجم
نظر القطيع من الغنم، ولو رجعنا إلى مادة رعى في قواميس اللغة وجدناها تقول كما يلي: الراعي الوالي، والرعية العامة، ورعى الأمير رعيته رعاية، وكل من ولي أمر قوم فهو راعيهم وهم رعيته؛ فالراعي في اللغة يُطلق على رئيس القوم وولي أمرهم، كما يطلق على راعي الغنم، والرعية تطلق في اللغة على القوم، ومن معاني الرعاية الحفظ والإحسان.
فإطلاق لفظ الرعية على القوم وضع لغوي، ولم يجعل المسلمون إطلاق هذه الكلمة خاصًّا بالأعاجم، بل إطلاقها شامل لكل الناس عربًا كانوا أو عجمًا، تبعًا للوضع اللغوي. في ذلك أحاديث كثيرة معروفة منها قول الرسول صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح الذي رواه البخاري وغيره:((ألا كلكم راع وكلكم مسئول عن رعيته؛ فالإمام الذي على الناس راعٍ وهو مسئول عن رعيته، والرجل راعٍ على أهل بيته وهو مسئول عن رعيته، والمرأة راعية على أهل بيت زوجها وولده وهي مسئولة عنهم، وعبد الرجل راعٍ على مال سيده وهو مسئول عنه، ألا فكلكم راع وكلكم مسئول عن رعيته)).
فكيف أغمض بروكلمان عينيه عن هذا كله، واستجاز لعلمه أن يدعي بأن المسلمين نظروا إلى الأعاجم نظرة القطيع، وأنهم أطلقوا عليهم وحدهم لفظ الرعية؟! أليس هذا خيانة علمية وتضليلًا مكشوفًا؟! أين ادعاؤه هذا من النصوص الكثيرة التي ألغت الفوارق القومية، والعرقية، واللونية، وجعلت المسلمين جميعًا سواسية في الحقوق العامة.
ومن الأمثلة أن المستشرقين يفرطون في اختراع العلل والأسباب والحوادث التي يدرسونها اختراعًا ليس له سند إلا التخيل والتحكم، ويزيد في فساد أسلوبهم هذا أنهم يتخيلون أحداث الشرق والعرب والمسلمين وعاداتهم وأخلاقهم
بأوهامهم وخيالاتهم الغربية البعيدة عن واقع حال الشرق والعرب المسلمين؛ لا يريدون أن يعترفوا بأن لكل بيئة مقاييسها وأذواقها وعاداتها، وقد أحسن المستشرق الفرنسي المسلم ناصر الدين دينيه في حديثه عن أسلوب المستشرقين وموازينهم في الحكم على الأشياء، مما جعلهم يتناقضون فيما بينهم تناقضًا واضحًا في الحكم على شيء واحد. كل ذلك لأنهم حاولوا أن يحللوا السيرة المحمدية وتاريخ ظهور الإسلام بحسب العقلية الأوروبية، فضلوا بذلك ضلالًا بعيدًا؛ لأن هذا غير هذا، ولأن المنطق الأوروبي لا يمكن أن يأتي بنتائج صحيحة في تاريخ الأنبياء الشرقيين.
ثم قال: إن هؤلاء المستشرقين الذين حاولوا نقد سيرة النبي صلى الله عليه وسلم بهذا الأسلوب الأوربي البحت لبثوا ثلاثة أرباع قرن؛ يدققون ويمحصون بزعمهم، حتى يهدموا ما اتفق عليه الجمهور من المسلمين من سيرة نبيهم، وكان ينبغي لهم بعد هذه التدقيقات الطويلة العريضة العميقة أن يتمكنوا من هدم الآراء المقررة، والروايات المشهورة من السيرة النبوية
…
فهل تسنى لهم شيء من ذلك؟:
- الجواب: أنهم لم يتمكنوا من إثبات أقل شيء جديد، بل إذا أمعنا النظر في الآراء الجديدة التي أتى بها هؤلاء المستشرقون من فرنسيين، وإنجليز، وألمان، وبلجيكيين، وهولنديين، وغيرهم لا نجد إلا خلطًا وخبطًا، فإنك لترى كل واحد منهم يقرر ما نقضه غيره من هؤلاء المدققين بزعمهم، أو ينقض ما قرروه.
إذا أردنا تلخيص موازين البحث عند المستشرقين في الموضوعات الإسلامية نجد ما يلي:
أولًا: تحكيم الهوى ونزعات العداء للإسلام والمسلمين والتعصب الأعمى للنصرانية وللشعوب والأمم المنتمية إليها.
ثانيًا: وضع الفكرة مقدمًا ثم البحث عن أدلة تؤيدها مهما كانت ضعيفة واهية، ولو اضطرهم الأمر إلى اعتماد أسلوب المغالطات والأكاذيب، واقتطاع النصوص، وهذا عكس المنهج العلمي الاستدلالي السليم.
ثالثًا: تفسير النصوص والحوادث والوقائع والنيات والغايات تفسيرات لا تتفق مع دلالاتها، وأماراتها الحقيقية، ولا مع النتائج التي أثبتها تاريخ الأمة الإسلامية.
رابعًا: تضخيم الأخطاء الصغرى وجعلها تطغى على ساحة صورة تاريخ المسلمين، وطمس الصور الرائعة المشرقة لهذا التاريخ.
خامسًا: تجميع الهفوات التي لا تخلو منها أمة مهما عظمت كمالاتها، ووضعها في صورة واحدة، وتقديمها على أنها هي كل صورة تاريخ المسلمين.
سادسًا: تصيد الشبهات التي يُشتبه وجه الحق فيها على كثير من الناس، ولا يستبين لهم ما لم يمتنحوها بالتجارب الطويلة، إثارة الانتقادات حولها، وتحريك الذوابع المملوءة بالغبار وما تحمله، وفي ذلك يستغلون أنانيات النفوس وأهوائها وشهواتها، ويستغلون شعارات خادعات براقة المظهر، زخرفية القول كشعار حرية المرأة.
سابعًا: اعتماد ما يوافق هواهم من كل خبر ضعيف، ورأي مردود شاذ، وقول ساقط لا سند له من عقل ولا نقل صحيح.
ثامنًا: رفض الحق بالنفي المجرد الذي لا يدعمه دليل صحيح مقبول في المنهج العلمي السليم.
تاسعًا: تفسير التاريخ الإسلامي والحضارة الإسلامية بالمنظار الذي يفسرون به التاريخ الغربي، والحضارة الغربية مع تباين الواقعين عقيدة ونظامًا وشريعة وبيئة ودوافع تباين كليًّا.