الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الدماء طاهرة سوى دم الحيض فنجس
وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إذا أصاب ثوب إحداكن الدم من الحيضة فلتقرصه ثم لتنضحه بالماء» وفي رواية: «ثم اقرصيه بماء ثم انضحي في سائره ثم لتصلي فيه» .
[قال الإمام]:
يستفاد من هذه الأحاديث أحكام كثيرة منها:
أن دم الحيض نجس للأمر بغسله، وعليه الإجماع كما ذكره الشوكاني «1/ 35» عن النووي، وأما سائر الدماء فلا أعلم نجاستها، اللهم إلا ما ذكره القرطبي في تفسيره «2/ 221» من «اتفاق العلماء على نجاسة الدم» . هكذا قال «الدم» فأطلقه، وفيه نظر من وجهين: الأول: أن ابن رشد ذكر ذلك مقيداً، فقال في «البداية 1/ 62»:
«اتفق العلماء على أن دم الحيوان البري نجس، واختلفوا في دم السمك
…
». والثاني: أنه قد ثبت عن بعض السلف ما ينافي الإطلاق المذكور، بل إن بعض ذلك في حكم المرفوع إلى الرسول صلى الله عليه وسلم:
1 -
قصة ذلك الصحابي الأنصاري الذي رماه المشرك بثلاثة أسهم وهو قائم يصلى فاستمر في صلاته والدماء تسيل منه. وذلك في غزوة ذات الرقاع، كما أخرجه أبو داود وغيره من حديث جابر بسند حسن كما بينته في «صحيح أبي داود 192» .
ومن الظاهر أن النبي صلى الله عليه وسلم علم بها، لأنه يبعد أن لا يطلع النبي صلى الله عليه وسلم على مثل هذه الواقعة العظيمة. ولم ينقل أنه أخبره بأن صلاته بطلت كما قال الشوكاني «1/ 165» .
2 -
عن محمد بن سيرين عن يحيى الجزار قال: صلى ابن مسعود وعلى بطنه فرث ودم من جزور نحرها، ولم يتوضأ. أخرجه عبد الرزاق في «الأمالي 2/ 51 / 1» وابن أبي شيبة في «المصنف 1/ 151 / 1» والطبراني في «المعجم الكبير 3/ 28 / 2» وإسناده صحيح، أخرجوه من طرق عن ابن سيرين ويحيى ابن الجزار، قال ابن أبي حاتم «4/ 2 / 133»:«وقال أبي وأبو زرعة: ثقة» .
3 -
ذكر ابن رشد اختلاف العلماء في دم السمك، وذكر أن السبب في اختلافهم هو اختلافهم في ميتته، فمن جعل ميتتة داخلة تحت عموم التحريم جعل دمه كذلك، ومن أخرج ميتتة أخرج دمه قياسا على الميتة.
فهذا يشعر بأمرين: أحدهما: أن إطلاق الاتفاق على نجاسة الدم ليس بصواب لأن هناك بعض الدماء اختلف في نجاستها كدم السمك مثلا، فما دام أن الاتفاق على إطلاقه لم يثبت، لم يصح الاستدلال به على موارد النزاع، بل وجب الرجوع فيه إلى النص، والنص إنما دل على نجاسة دم الحيض، وما سوى ذلك فهو على الأصل المتفق عليه بين المتنازعين وهو الطهارة فلا يخرج منه إلا بنص تقوم به الحجة. الأمر الآخر: أن القائلين بنجاسة الدماء ليس عندهم حجة إلا أنه محرم بنص القرآن فاستلزموا من التحريم التنجيس كما فعلوا تماما في الخمر، ولا يخفى أنه لا يلزم من التحريم التنجيس بخلاف العكس كما بينه الصنعاني في «سبل السلام» ثم الشوكاني وغيرهما، ولذلك قال المحقق صديق حسن خان في «الروضة الندية 1/ 18» بعد أن ذكر حديث أسماء المتقدم وحديث أم قيس الثالث:«فالأمر بغسل دم الحيض وحكه بضلع يفيد ثبوت نجاسته، وإن اختلف وجه تطهيره، فذلك لا يخرجه عن كونه نجساً، وأما سائر الدماء فالأدلة مختلفة، مضطربة والبراءة الأصلية مستصحبة، حتى يأتي الدليل الخالص عن المعارضة الراجحة أو المساوية، ولو قام الدليل على رجوع الضمير في قوله تعالى «فإنه رجس» إلى جميع ما تقدم في الآية الكريمة من الميتة والدم المسفوح ولحم الخنزير، لكان ذلك مفيداً لنجاسة الدم المسفوح والميتة، ولكن لم يرد ما يفيد ذلك، بل النزاع كائن في رجوعه إلى الكل أو إلى الأقرب،
والظاهر الرجوع إلى الأقرب وهو لحم الخنزير، لإفراد الضمير ولهذا جزمنا هنا بنجاسة لحم الخنزير دون الدم الذي ليس بدم حيض. ومن رام تحقيق الكلام في الخلاف الواقع في مثل هذا الضمير المذكور في الآية، فليرجع إلى ما ذكره أهل الأصول في الكلام على القيد الواقع بعد جملة مشتملة على أمور متعددة».
ولهذا لم يذكر الشوكانى في النجاسات من «الدرر البهية» الدم على عمومه، وإنما دم الحيض فقط، وتبعه على ذلك صديق حسن خان كما رأيت فيما نقلته عنه آنفا. وأما تعقب العلامة أحمد شاكر في تعليقه على «الروضة» بقوله:«هذا خطأ من المؤلف والشارح، فإن نجاسة دم الحيض ليست لأنه دم حيض بل لمطلق الدم، والمتتبع للأحاديث يجد أنه كان مفهوما أن الدم نجس، ولو لم يأت لفظ صريح بذلك، وقد كانوا يعرفون ما هو قذر نجس بالفطرة الطاهرة» .
قلت: فهذا تعقب لا طائل تحته، لأنه ليس فيه إلا مجرد الدعوى، وإلا فأين الدليل على نجاسة دم الحيض ليس لأنه دم حيض بل لمطلق الدم؟ ولو كان هناك دليل على هذا لذكره هو نفسه ولما خفي إن شاء الله تعالى على الشوكاني وصديق خان وغيرهما. ومما يؤيد ما ذكرته أن ابن حزم على سعة اطلاعه لم يجد دليلا على نجاسة الدم مطلقا، إلا حديثا واحدا وهو إنما يدل على نجاسة دم الحيض فقط كما سيأتي بيانه، فلو كان عنده غيره لأورده، كما هي عادته في استقصاء الأدلة لا سيما ما كان منها مؤيدا لمذهبه. وأما قول الشيخ أحمد شاكر:«والمتتبع للأحاديث يجد أنه كان مفهوماً أن الدم نجس» . فهو مجرد دعوى أيضاً، وشيء لم أشعر به البتة فيما وقفت عليه من الأحاديث بل وجدت فيها ما يبطل هذه الدعوى كما سبق في حديث الأنصاري وحديث ابن مسعود. ومثل ذلك قوله:«وقد كانوا يعرفون ما هو قذر نجس بالفطرة الطاهرة» . فما علمنا أن للفطرة مدخلا في معرفة النجاسات في عرف الشارع، ألا ترى أن الشارع حكم بطهارة المني، ونجاسة المذي، فهل هذا مما يمكن معرفته بالفطرة، وكذلك ذهب الجمهور إلى نجاسة الخمر، وإنها تطهر إذا تخللت، فهل هذا مما يمكن معرفته بالفطرة؟ اللهم لا. فلو أنه قال «ما هو قذر» ولم يزد لكان مسلما. والله تعالى ولي الهداية والتوفيق.
[ثم أورد الإمام حديث]:
[ثم قال]: والشاهد من الحديث قوله: «فاغسلي عنك الدم» ، فهو دليل آخر على نجاسة دم الحيض، ومن غرائب ابن حزم أنه ذهب إلى أن قوله فيه «الدم» على العموم يشمل جميع الدماء من الإنسان والحيوان! فقال في «المحلى 1/ 102 - 103»:«وهذا عموم منه صلى الله عليه وسلم لنوع الدم، ولا نبالي بالسؤال إذا كان جوابه عليه السلام قائما بنفسه غير مردود بضمير إلى السؤال» ! وقد رد عليه بعض الفضلاء، فقال في هامش النسخة المخطوطة من «المحلى» نقلا عن المطبوعة - ما نصه:«بل الأظهر أنه يريد دم الحيض، واللام للعهد الذكري الدال عليه ذكر الحيضة والسياق، فهو كعود الضمير سواء، فلا يتم قوله «وهذا عموم الخ» .
قال الشيخ أحمد شاكر في تعليقه عليه: «وهو استدراك واضح صحيح» .
قلت: فهذا يدلك على أن الذين ذهبوا إلى القول بنجاسة الدم إطلاقا ليس عندهم بذلك نقل صحيح صريح، فهذا ابن حزم يستدل عليه بمثل هذا الحديث وفيه ما رأيت، واقتصاره عليه وحده يشعر اللبيب بأن القوم ليس عندهم غيره وإلا لذكره ابن حزم وكذا غيره. فتأمل. وجملة القول: أنه لم يرد دليل فيما نعلم على نجاسة الدم على اختلاف أنواعه، إلا دم الحيض، ودعوى الاتفاق على نجاسته منقوضة بما سبق من النقول، والأصل الطهارة، فلا يترك إلا بنص صحيح يجوز به ترك الأصل، وإذ لم يرد شيء من ذلك فالبقاء على الأصل هو الواجب. والله أعلم.
[السلسلة الصحيحة (1/ 1/ 605 - 608 و 1/ 2/ 609 - 610)].