الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
وروى أَيْضا بِسَنَدِهِ إِلَى نصر بن مُزَاحم المنقريّ أَنه رأى النّبيّ صلى الله عليه وسلم فِي النّوم وَبَين يَدَيْهِ رجلٌ ينشده: الْخَفِيف من لقلبٍ متيّمٍ مستهام قَالَ: فَسَأَلت عَنهُ فَقيل لي: هَذَا الْكُمَيْت بن زيد الأسديّ. قَالَ: فَجعل النّبيّ صلى الله عليه وسلم يَقُول: جَزَاك الله خيرا. وَأثْنى عَلَيْهِ.
وَأنْشد بعده وَهُوَ
3 -
(الشَّاهِد الثَّالِث بعد الثلاثمائة)
الوافر
(أَلا قبح الْإِلَه بني زيادٍ
…
وحيّ أَبِيهِم قبح الْحمار)
على أنّ لفظ حيّ من حيّ زيدٍ يسْتَعْمل فِي التَّأْكِيد بِمَعْنى ذَاته وعينه وَإِن كَانَ مَيتا بعد أَن كَانَ بِمَعْنى ضدّ الميّت كَمَا شَرحه الشَّارِح.
وَكَأَنَّهُ فهم أنّ مَا بعد حيّ فِي الْبَيْتَيْنِ ميّت فَبنى كَلَامه هَذَا عَلَيْهِ وإلاّ فَلم يقل بِهِ أحدٌ بل صرّح ابْن السّكيت فِي كتاب المذكّر والمؤّنث بِأَن مثل هَذَا لَا يُقَال إلاّ والمضاف إِلَيْهِ حيّ مَوْجُود غير معدو م وَأنْشد هذَيْن الْبَيْتَيْنِ بعينهما وَجعل لفظ حيّ مِمَّا يَقع على المذكّر والمؤنّث لَكِن إِذا كَانَ الْمُضَاف إِلَيْهِ مؤنّثاً فَلَا بدّ من تَأْنِيث فعله. قَالَ: رَأَيْت الْعَرَب قد أفردت مِمَّا يَقع
على الْمُذكر والمؤنث شَيْئا لَا يكادون يذكرُونَ فعله وَلَفظه الْمُذكر.
من ذَلِك قَوْلك: أَتَيْتُك وحيّ فُلَانَة شاهجة وحيّك وحيّ زيد قَائِم. وَلم أسمع وَحي فُلَانَة شاهدٌ أَي: بتذكير شَاهد وَذَلِكَ أَنهم إنّما قصدُوا بالْخبر عَن فُلَانَة إِذا كَانَت حيّة غير ميتَة.
انْتهى.
وَمثله لِابْنِ جنّي فِي الْمُحْتَسب عِنْد إنشاده هَذَا الْبَيْت قَالَ: أَي وقبح أباهم الحيّ الَّذِي يُقَال لَهُ أبوهم.
وَمِنْه قَول الآخر: الْبَسِيط وحيّ بكرٍ طعنّا طعنةً بحرا أَي: الْإِنْسَان الحيّ الَّذِي يسمّى بقَوْلهمْ بكر.
وَقَالَ فِي الخصائص أَي: والشخص المسمّى بكرا طَعنا. فحيّ هَاهُنَا مُذَكّر حيّة أَي: وشخص بكر الحيّ طَعنا.
وَمثله قَول الآخر: الْكَامِل يَا قرّ إنّ أَبَاك حيّ خويلدٍ
…
... الْبَيْت أَي: إنّ أَبَاك الشَّخْص الحيّ خويلداً.
وَكَذَلِكَ قَول الآخر:)
أَلا قبح الْإِلَه بني زِيَاد
…
... الْبَيْت أَي: أباهم الشَّخْص الحيّ. وَقَالَ: وَلَيْسَ الحيّ هُنَا هُوَ الَّذِي يُرَاد بِهِ الْقَبِيلَة كَقَوْلِك حيّ تَمِيم وقبيلة بكر إنّما هُوَ كَقَوْلِك: هَذَا رجلٌ حيٌّ وَامْرَأَة حيّة.
وَجعل ابْني جنّي هَذِه الْإِضَافَة من إِضَافَة المسمّى إِلَى اسْمه وبيّنها كَمَا رَأَيْت. وَخَالفهُ الشَّارِح المحقّق فَجَعلهَا من إِضَافَة العامّ إِلَى الخاصّ.
وَمن حكم بِزِيَادَة حيّ كصاحب اللبّ جعل الْإِضَافَة من قبيل إِضَافَة الملغى إِلَى الْمُعْتَبر كَمَا قَالَ ابْن عقيل فِي شرح التسهيل.
ومّمن ارتضى الزِّيَادَة الزمخشريّ فِي المفصّل فَإِنَّهُ قَالَ: قَالُوا: إنّ الِاسْم مقحمٌ دُخُوله وَخُرُوجه سَوَاء وَقد حُكيَ عَنْهُم حيّ فُلَانَة شاهدٌ بِدُونِ تَأْنِيث الْخَبَر. وتقدّم طعن ابْن السّكيت فِيهِ لَكِن يرد عَلَيْهِ مَا أنْشدهُ أَبُو عَليّ فِي الْإِيضَاح الشعريّ من قَول الشَّاعِر: لَو أنّ حَيّ الغانيات وحشا وَمن الْعجب قَول شَارِحه المظفّري: لفظ حيّ زَائِد وَمَعْنَاهُ الشَّخْص فكأنك قلت: هَذَا الشَّخْص زيد فَكَمَا أنّ لفظ شخص زَائِد فَكَذَلِك لفظ حيّ. وَقَوله بعد هَذَا: قيل وَلَا يُضَاف لفظ حيّ إلاّ بعد موت الْمُضَاف إِلَيْهِ صَوَابه إلاّ قبل موت الْمُضَاف إِلَيْهِ.
وَمِمَّا ورد عَن الْعَرَب من إِضَافَة حيّ إِلَيْهِ مَا قَالَه الشَّارِح قبل هَذَا الْبَيْت بصفحةٍ قالهنّ حيّ قَالَ المظفري: يَعْنِي سمع الْأَخْفَش أعرابيّاً أنْشد أبياتاً فَقيل لَهُ: من قَالَ هَذِه الأبيات فَقَالَ: قالهن حيّ رَبَاح بِزِيَادَة حيّ أَي: قالهنّ رَبَاح. انْتهى.
ورباح بِكَسْر الرَّاء بعْدهَا بَاء مُوَحدَة.
وَهُوَ مَأْخُوذ من الْإِيضَاح الشعري لأبي عَليّ قَالَ: حكى أَبُو الْحسن الْأَخْفَش فِي أَبْيَات أَنه سمع من يَقُول فِيهَا: قالهنّ حيّ رَبَاح.
وَأنْشد: الوافر
(أَبُو بَحر أشدّ النّاس منّاً
…
علينا بعد حيّ أبي الْمُغيرَة)
وَقَوله: أَلا قبح الْإِلَه الخ هَذَا الْبَيْت من جملَة أَبْيَات ليزِيد بن ربيعَة بن مفرّغ الحميريّ. أَلا هُنَا كلمة يستفتح بهَا الْكَلَام وَمَعْنَاهَا تَنْبِيه الْمُخَاطب لسَمَاع مَا يَأْتِي بعْدهَا وَجُمْلَة قبح الْإِلَه دعائيّة يُقَال قبحه الله يقبحه بِفَتْح الْمُوَحدَة فيهمَا أَي: نّحاه عَن الْخَيْر.
وَفِي التَّنْزِيل: هم من المقبوحين أَي: المبعدين عَن الْفَوْز. والمصدر الْقبْح بِفَتْح الْقَاف وَالِاسْم)
الْقبْح بضمّها يُقَال: قبحاً لَهُ وقبحاً. والإله تقدّم أَنه لَا يجمع بَين أل وهمزة إِلَه إلاّ على القلّة لكَون أل فِي الله بَدَلا من همزَة إِلَه. وزِيَاد هُوَ زِيَاد بن سميّة وَهِي جاريةٌ لِلْحَارِثِ بن كلدة الطّبيب الثّقفيّ كَانَ زوّجها بعبدٍ لَهُ روميّ اسْمه عبيد فَولدت لَهُ زياداً على فرَاشه. وَكَانَ أَبُو سُفْيَان سَافر فِي الْجَاهِلِيَّة إِلَى الطَّائِف قبل أَن يسلم فواقعها بِوَاسِطَة أبي مَرْيَم الخمّار فَيُقَال
إنّها علقت مِنْهُ بِزِيَاد. ثمَّ إنّ مُعَاوِيَة أحضر من شهد لزيادٍ بِالنّسَبِ واستلحقه بِأبي سُفْيَان فَقيل زِيَاد بن أَبِيه أَي: ابْن أبي مُعَاوِيَة.
وَيُقَال لَهُ أَيْضا زِيَاد بن سميّة نِسْبَة إِلَى أمه.
وَهَذِه أول وَاقعَة خولفت فِيهَا الشَّرِيعَة المطهّرة عَلَانيَة لصريح قَوْله صلى الله عليه وسلم: الْوَلَد للْفراش
وللعاهر الْحجر. وَأعظم النَّاس ذَلِك وأنكروه خُصُوصا بني أميّة لكَونه ابْن عبدٍ روميّ صَار من بني أُميَّة. وَقيل فِيهِ أشعارٌ مِنْهَا قَول يزِيد صَاحب الْبَيْت الشَّاهِد: الوافر
(ألآ أبلغ مُعَاوِيَة بن حربٍ
…
مغلغلة من الرجل الْيَمَانِيّ)
(أتغضب أَن يُقَال أَبوك عفٌّ
…
وترضى أَن يُقَال أَبوك زاني)
(فَأشْهد إنّ رَحِمك من زيادٍ
…
كرحم الْفِيل من ولد الأتان)
(وَأشْهد أنّها ولدت زياداً
…
وصخرٌ من سميّة غير داني)
وقصة الِاسْتِلْحَاق مفصّلة فِي التواريخ.
قَالَ أَبُو عبيد البكريّ فِي شرح أمالي القالي: كتاب المثالب لأبي عُبَيْدَة أَصله لزياد بن أَبِيه فإنّه لّما ادّعى أَبَا سُفْيَان أَبَا علم أنّ الْعَرَب لَا تقرّ لَهُ بذلك مَعَ علمهمْ بِنِسْبَة فَعمل كتاب المثالب وألصق بالعرب كلّ عيب وعار وباطل وإفك وبهت. انْتهى.
وَبَنُو زيادٍ الْمَشْهُور مِنْهُم: عبّاد ولي سجستان وَمَا والاها وَمِنْهُم عبيد الله بن زِيَاد الشقيّ الْخَبيث قَاتل الْحُسَيْن بن عَليّ رضي الله عنهما.
وَقَوله: وحيّ أَبِيهِم مَعْطُوف على بني أَي: وقبح الله أباهم زياداً.
وَقَوله: قبح الْحمار هُوَ بِفَتْح الْقَاف مصدر تشبيهيّ أَي: قبحهم الله قبحاً مثل قبح الْحمار.
وإنّما ذكر الْحمار لأنّه مثلٌ فِي المذلّة والاستهانة بِهِ ولأنّ صَوته أنكر الْأَصْوَات وأبشعها. ويزِيد شَاعِر إسلاميّ من شعراء الدولة الأمويّة وَهُوَ أَبُو عُثْمَان يزِيد ابْن ربيعَة بن مفرّغ بن ذِي الْعَشِيرَة بن الْحَارِث وَيَنْتَهِي نسبه إِلَى زيد بن يحصب الحميريّ.)
وَقَالَ ابْن قُتَيْبَة فِي كتاب الشُّعَرَاء: هُوَ يزِيد بن ربيعَة بن مفرغ الحميريّ حَلِيف لقريش وَيُقَال إنّه كَانَ عبدا للضحاك بن يَغُوث الهلاليّ فأنعم عَلَيْهِ. انْتهى.
ومفرّغ بِكَسْر الرَّاء المشدّدة: لقب جده سمّي بِهِ لأنّه رَاهن على شرب سقاء لبن فشربه حتّى فرّغه فسمّي مفرّغاً. وَقَالَ النوفليّ: كَانَ حدّاداً بِالْيمن فَعمل قفلاً لامرأةٍ وَشرط عَلَيْهَا عِنْد فَرَاغه مِنْهُ أَن تجيئه بكرش من لبن فَفعلت فَشرب مِنْهُ وَوَضعه فَقَالَت: ردّ عليّ الكرش فَقَالَ: مَا عِنْدِي مَا أفرّغه فِيهِ. قَالَت: لَا بدّ من ذَلِك. ففرّغه فِي جَوْفه فَقَالَت: إنّك لمفرّغ. فَعرف بِهِ.
وَكَانَ السَّبَب فِي هجو زِيَاد وَبَينه هُوَ مَا رَوَاهُ الأصبهانيّ فِي الأغاني أنّ سعيد بن عُثْمَان بن عَفَّان لما ولي خُرَاسَان استصحب ابْن مفرّغ فَلم يَصْحَبهُ وَصَحب عبّاد بن زِيَاد فَقَالَ لَهُ سعيد بن عُثْمَان: أما إِذْ أَبيت صحبتي واخترت عبّاداً عليّ فاحفظ مَا أوصيك بِهِ: إنّ عباداً رجلٌ لئيم فإيّاك والدّالة عَلَيْهِ وَإِن دعَاك إِلَيْهَا من نَفسه فإنّها خدعةٌ مِنْهُ لَك عَن نَفسك وأقلل
زيارته فإنّه طرفٌ ملول وَلَا تفاخره وَإِن فاخرك فإنّه لَا يحْتَمل لَك مَا كنت أحتمله.
ثمَّ دَعَا سعيدٌ بِمَال فَدفعهُ إِلَيْهِ وَقَالَ: اسْتَعِنْ بِهَذَا على سفرك فَإِن صلح لَك مَكَانك من عبّاد وإلاّ فمكانك عِنْدِي ممهّد. ثمَّ سَار سعيد من خُرَاسَان وَلما بلغ عبيد الله بن زِيَاد صُحْبَة ابْن مفرّغ أَخَاهُ عباداً شقّ عَلَيْهِ فَلَمَّا سَار عبّاد إِلَى سجستان أَمِيرا عَلَيْهَا شيّعه عبيد الله وشيّعه النَّاس فَلَمَّا أَرَادَ عبيد الله أَن يودّع أَخَاهُ دَعَا ابْن مفرّغ فَقَالَ لَهُ: إنّك سَأَلت أخي عباداً أَن تصحبه فأجابك إِلَى ذَلِك وَقد شقّ عليّ فَقَالَ ابْن مفرّغ: وَلم أصلحك الله فَقَالَ: لأنّ الشَّاعِر لَا يقنعه من النَّاس مَا يقنع بَعضهم من بعض لِأَنَّهُ يظنّ فَيجْعَل الظنّ يَقِينا وَلَا يعْذر فِي بعض الْعذر وإنّ عبّاداً يقدم على أَرض حربٍ فيشتغل بحروبه وخراجه عَنْك فَلَا تعذره فتكسبنا عاراً وشرّاً فَقَالَ: لست كَمَا ظنّ الْأَمِير وإنّ لمعروفه عِنْدِي شكرا كثيرا وإنّ عِنْدِي إِن أغفل أَمْرِي عذرا ممهّداً. قَالَ: لَا وَلَكِن تضمن لي إِن أَبْطَأَ عَنْك مَا تحبّه أَلا تعجل عَلَيْهِ حتّى تكْتب إليّ. قَالَ: ثمَّ لإنّ عبّاداً لما قدم سجستان اشْتغل بحروبه فاستبطأه ابْن مفرّغ وَلم يكْتب إِلَى عبيد الله كَمَا ضمن لَهُ وَلَكِن بسط لِسَانه وهجاه وَكَانَ عبّادٌ عَظِيم اللِّحْيَة فسارا ابْن مفرّغ يَوْمًا مَعَ عبّاد فَدخلت الرّيح فِيهَا فنفشتها فَضَحِك ابْن مفرّغ وَقَالَ لرجل من لخم كَانَ إِلَى جَانِبه: الوافر
(أَلا لَيْت اللّحى كَانَت حشيشاً
…
فنعلفها دَوَاب المسلمينا))
فسعى بِهِ اللّخميّ إِلَى عبّاد فَغَضب من ذَلِك وَقَالَ: لَا تجمل عُقُوبَته فِي هَذِه السَّاعَة مَعَ صحبته لي وَمَا أؤخرّها إلاّ لأشفي نَفسِي مِنْهُ فإنّه كَانَ يقوم ويشتم أبي فِي عدّة مَوَاطِن.
وَبلغ الْخَبَر ابْن مفرّغ فَقَالَ: إنّي لأجد ريح الْمَوْت عِنْد عبّاد ثمَّ دخل عَلَيْهِ
فَقَالَ: أَيهَا الْأَمِير إِنِّي كنت مَعَ سعيد بن عُثْمَان وَقد بلغك رَأْيه فيّ وَرَأَيْت جميل أَثَره عليّ وَإِنِّي اخْتَرْتُك عَلَيْهِ فَلم أحظ مِنْك بطائل وإنّي أُرِيد أَن تَأذن لي فِي الرُّجُوع.
فَقَالَ لَهُ: إنّي اخْتَرْتُك كَمَا اخترتني واستصحبتك حِين سَأَلتنِي فقد أعجلتني عَن بُلُوغ محبّتي فِيك وَقد طلبت الْإِذْن لترجع إِلَى قَوْمك فتفضحني عِنْدهم وَأَنت على الْإِذْن قادرٌ بعد أَن أَقْْضِي حقّك فَأَقَامَ وَبلغ عبّاداً أنّه يسبّه وينال من عرضه. وأجرى عبّادٌ الْخَيل يَوْمًا فجَاء سَابِقًا فَقَالَ ابْن مفرّغ: الرجز
(سبق عبّادٌ وصلّت لحيته
…
وَكَانَ خرّازاً تجود فربته)
قَالَ المدائنيّ: لنا بلغ عبّاداً هَذَا الشّعْر دَعَا بِهِ والمجلس حافل فَقَالَ لَهُ: أَنْشدني هجاء أَبِيك الَّذِي هجي بِهِ. فَقَالَ: أيّها الْأَمِير مَا كلّف أحدٌ قطٌّ مثل مِمَّا كلّفتني بِهِ فَأمر غُلَاما عجميّاً أَن يصبّ على رَأسه السَّوْط إِن لم ينشد فأنشده أبياتاً هجى بهَا أَبوهُ أوّلها: الْكَامِل
(قبح الْإِلَه وَلَا أقبّح غَيره
…
وَجه الْحمار ربيعَة بن مفرّغ)
. وَجعل عبّاد يتضاحك بِهِ فَخرج ابْن مفرّغ وَهُوَ يَقُول: وَالله لَا يذهب شتم شَيْخي بَاطِلا.
فَطلب عَلَيْهِ الْعِلَل ودسّ إِلَى قوم كَانَ لَهُم عَلَيْهِ ديوَان أَن يقتضوا مَالهم عَلَيْهِ فَفَعَلُوا فحبسه وضربه وَأمر بِبيع سلاحه وخيله وأثاثه وقسّم ثمنهَا بَين غُرَمَائه ثمَّ بعث إِلَيْهِ أَن بِعني الأراكة وبرداً وَكَانَت الأراكة قينة لِابْنِ المفرّغ وبردٌ غُلَامه ربّاهما وَكَانَ شَدِيد الضنّ بهما فَبعث إِلَيْهِ ابْن مفرّغ: أيبيع الْمَرْء نَفسه أَو لده
فأضرّ بِهِ عبّاد حتّى أخذهما مِنْهُ وَقيل اشتراهما رجلٌ من أهل خُرَاسَان فَلَمَّا دخلا منزلَة قَالَ لَهُ برد وَكَانَ داهية أدبياً: أَتَدْرِي مَا شربت قَالَ: نعم شريتك وَهَذِه الْجَارِيَة. قَالَ: لَا وَالله مَا اشْتريت إلاّ الْعَار والدّمار وفضيحة الْأَبَد فجزع الرجل وَقَالَ: كَيفَ ذَلِك وَيلك قَالَ: نَحن ليزِيد بن المفرّغ وَمَا أصاره وَالله إِلَى هَذِه الْحَال إلاّ لِسَانه وشرّه أفتراه يهجو عبّاداً وَهُوَ أَمِير سجستان وأخاه عبيد الله وَهُوَ أَمِير العراقيّين وعمّه مُعَاوِيَة وَهُوَ الْخَلِيفَة ويمسك لِسَانه عَنْك وَقد ابتعتني وَأَنا مثل وَلَده وَهَذِه الْجَارِيَة وَهِي نَفسه فَقَالَ: أشهد أنّكما لَهُ إِن شئتما امضيا إِلَيْهِ وَإِن شئتما تَكُونَا لَهُ عِنْدِي.
قَالَ: فَاكْتُبْ إِلَيْهِ)
بذلك. فَكتب إِلَيْهِ بذلك فَكتب إِلَيْهِ ابْن مفرّغ يشْكر فعله ويسأله أَن يَكُونَا عِنْده حتّى يفرّج الله عَنهُ.
وَفِي بيعهمَا قَالَ وَذكر تَركه سعيد بن عُثْمَان: مجزوء الْكَامِل
(أصرمت حبلك من أَمَامه
…
من بعد أيّامٍ برامه)
(ورمقتها فَوَجَدتهَا
…
كالضّلع لَيْسَ لَهَا استقامه)
(لهفي على الرّأي الَّذِي
…
كَانَت عواقبه ندامه)
(تركي سعيداً ذَا النّدى
…
وَالْبَيْت ترفعه الدّعامه)
(ليثاً إِذا شهد الوغى
…
ترك الْهوى وَمضى أَمَامه)
(فتحت سمر قندٌ لَهُ
…
فَبنى بعرصتها خيامه)
(وتبعت عبد بني علا
…
ج تِلْكَ أَشْرَاط القيامه)
(جَاءَت بِهِ حبشيّةٌ
…
سكّاء تحسبها نعامه)
(من نسْوَة سود الوجو
…
هـ ترى عليهنّ الدّمامه)
(وشريت بردا لَيْتَني
…
من بعد بردٍ كنت هامه)
(فالرّيح تبْكي شجوها
…
والبرق يلمع فِي الغمامه)
(وَالْعَبْد يقرع بالعصا
…
والحرّ تكفيه الملامه)
وَقَوله: وشريت بردا الْبَيْت اسْتشْهد بِهِ صَاحب الكشّاف عِنْد قَوْله
تَعَالَى: الَّذين يشرون الْحَيَاة الدّنيا بِالآخِرَة على أنّ الشِّرَاء يَأْتِي بِمَعْنى البيع فَهُوَ من الأضداد. والهامة: أثنى الصّدى وَهُوَ ذكر البوم.
وَفِي مروج الذَّهَب للمسعوديّ: من الْعَرَب من يزْعم أنّ النّفس طَائِر ينبسط فِي الْجِسْم فَإِذا مَاتَ الْإِنْسَان أَو قتل لم يزل يطِيف بِهِ مستوحشاً يصدح على قَبره
ويزعمون أنّ هَذَا الطَّائِر يكون صَغِيرا ثمَّ يكبر حتّى يكون كضرب من البوم وَهُوَ أبدا مستوحش وَيُوجد فِي الديار المعطلّة ومصارع الْقَتْلَى والقبور وأنّها لم تزل عِنْد ولد الْمَيِّت ومخلّفه لتعلم مَا يكون بعده فنخبره.
وَقَالَ أَيْضا فِي بيعهمَا: الْبَسِيط
(شريت بردا وَقد ملّكت صفقته
…
لما تطلّبت فِي بيعي لَهُ رشدا)
(يَا برد مَا مسّنا دهرٌ أضرّ بِنَا
…
من قبل هَذَا وَلَا بعنا لَهُ ولدا))
(أمّا أراكه كَانَت من محارمنا
…
عَيْشًا لذيذاً وَكَانَت جنّة رغدا)
(لَوْلَا الدّواعي وَلَوْلَا مَا تعرّض لي
…
من الْحَوَادِث مَا فارقتها أبدا)
ثمَّ إنّ ابْن مفرّغ علم أَنه إِن أَقَامَ فِي الْحَبْس على ذمّ عبّاد لم يَزْدَدْ إلاّ شرّاً فَجعل يَقُول للنَّاس إِذا سُئِلَ عَن حَبسه: أَنا رجلٌ أدّبه أميره ليقيم من أوده. . فَلَمَّا بلغ ذَلِك عبّاداً رقّ لَهُ فَأَطْلقهُ فهرب حتّى أَتَى الْبَصْرَة ثمَّ الشَّام وَجعل يتنقل فِي الْبِلَاد ويهجو بني زِيَاد ويتأسّف على تَركه صُحْبَة سعيد فَمن ذَلِك قَوْله: الْخَفِيف
(إِن تركي ندى سعيد بن عثما
…
ن فَتى الْجُود ناصري وعديدي)
(واتّباعي أَخا الضّرعة واللّؤ
…
م لنقصٌ وفوت شأو بعيد)
…
(قلت واللّيل مطبق بعراه
…
لَيْتَني متّ قبل ترك سعيد)
ثمَّ إنّه هجا بني زِيَاد حتّى مَلأ مِنْهُ الْبِلَاد وتغنّى بِهِ أهل الْبَصْرَة فَطَلَبه عبيد الله طلبا شَدِيدا وَكتب إِلَى مُعَاوِيَة وَقيل إِلَى يزِيد إنّ ابْن مفرّغ هجا زياداً وبنيه بِمَا هتكه فِي قبه وفضح بنيه طول الدَّهْر وتعدّى ذَلِك إلأى أبي سُفْيَان فقذفه بالزّنى وسبّ وَلَده وهرب إِلَى الْبَصْرَة وطلبته حتّى لفظته الأَرْض فلجأ إِلَى الشَّام يتمضّغ لحومنا ويهتك أعراضنا وَقد بعثت إِلَيْك بِمَا هجانا بِهِ لتنتصف لما مِنْهُ.
فهرب ابْن مفرّغ من الشَّام إِلَى الْبَصْرَة فأجاره الْمُنْذر بن الْجَارُود وَكَانَت بنت الْمُنْذر تَحت عبيد الله وَكَانَ الْمُنْذر من أكْرم النّاس عَلَيْهِ فاغترّ بذلك فَبلغ عبيد الله أَن الْمُنْذر قد أجاره فَبعث عبيد الله إِلَى الْمُنْذر فَلَمَّا دخل عَلَيْهِ بعث عبيد الله بالشّرط فكبسوا دَاره وأتوه بِابْن مفرّغ فَلَمَّا رَآهُ الْجَارُود قَامَ إِلَى عبيد اللع فَقَالَ لَهُ: أذكّرك الله أَيهَا الْأَمِير لَا تخفر جواري فَإِنِّي قد أجرته فَقَالَ عبيد الله: يمدحك ويمدح آباءك وَقد هجاني وهجا أبي ثمَّ تجيره عليّ وَالله لَا يكون ذَلِك أبدا فَغَضب الْمُنْذر وَخرج.
وَأَقْبل عبيد الله على ابْن مفرّغ فَقَالَ: بئْسَمَا صَحِبت بِهِ عبّاداً فَقَالَ: بئْسَمَا صحبني عباد اخترته على سعيد وأنفقت على صحبته جَمِيع مَا ملكته وظننت أنّه لَا يَخْلُو من عقل زيادٍ وحلم مُعَاوِيَة وسماحة قُرَيْش فَعدل عَن ظنّي كلّه ثمَّ عاملني بكلّ قَبِيح. من حبس وَغرم وَضرب وَشتم فَكنت كمن شام برقاً خلّباً فِي سَحَاب جهامٍ فأراق مَاء طَمَعا فَمَاتَ عطشاً وَمَا هربت من أَخِيك إلاّ لما خفت أَن يجْرِي فيّ مَا ينْدَم عَلَيْهِ وَهَا أَنا بَين يَديك فَاصْنَعْ
فيّ مَا)
شِئْت فَأمر بحبسه وَكتب إلأى مُعَاوِيَة أَن يَأْذَن لَهُ فِي قَتله فَكتب إِلَيْهِ: إيّاك وَقَتله وَلَكِن تنَاوله بِمَا ينكله ويشدّ سلطانك عَلَيْهِ وَلَا تبلغ نَفسه فإنّ لَهُ عشيرة هم جندي وبطانتي وَلَا يرضون بقتْله إلاّ بالقود مِنْك فاحذر ذَلِك وَاعْلَم أنّ الْجد منّي وَمِنْهُم وأنّك مرتهنٌ بِنَفسِهِ وَلَك فِي دون تلفهَا مندوحةٌ تشفي من الغيظ.
فلمّا ورد الْكتاب أَمر بِابْن مفرّغ فسقي نبيذاً حلواً مخلوطاً بالشبرم والتربد فأسهل بَطْنه وطيف بِهِ على بعير فِي أزقّة الْبَصْرَة وأسواقها وَقرن بهرّة وخنزير وَجعل يسلح وَالصبيان يتبعونه ويصيحون عَلَيْهِ وألّح مَا يخرج مِنْهُ حتّى أضعفه فَسقط فَقيل لِعبيد الله: إنّا لَا نَأْمَن أَن يَمُوت.
فَأمر بِهِ فَغسل فلمّا غسل قَالَ: الْخَفِيف
(يغسل المَاء مَا فعلت وَقَوْلِي
…
راسخٌ مِنْك فِي الْعِظَام البوالي)
ثمَّ ردّه إِلَى الْحَبْس. وَقيل لِعبيد الله: كَيفَ اخْتَرْت لَهُ هَذِه الْعقُوبَة قَالَ: لأنّه سلح علينا فَأَحْبَبْت أَن تسلح عَلَيْهِ الخنزيرة والهرّة.
ثمَّ إِن عبيد الله أرْسلهُ إِلَى أَخِيه بسجستان ووكلّ بِهِ رجَالًا وَكَانَ لّما هرب من عبّاد هجاه وَكتب هجاءه على حيطان الْخَانَات فَأمر عبيد الله الموكلين بِهِ أَن يلزموه بمحو مَا كتبه على الجيطان بأطافيره فَكَانَ يفعل ذَلِك حتّى ذهبت أظافيره فَكَانَ يمحو بعظام أَصَابِعه.
وَأمرهمْ أَيْضا أَن لَا يَتْرُكُوهُ يصليّ إلاّ إِلَى قبْلَة النّصارى إِلَى أَن يسلموه إِلَى عبّاد فحبسه وضيّق عَلَيْهِ فَلَمَّا طَال حَبسه اسْتَأْجر رَسُولا إِلَى دمشق وَقَالَ بِهِ: إِذا كَانَ يَوْم الْجُمُعَة فقف على درج جَامع دمشق ثمَّ أنْشد هَذِه الأبيات بأرفع مَا يمنك من صوتٍ وَهِي:
الْبَسِيط
(أبلغ لديك بني قحطان قاطبةً
…
عضّت بأير أَبِيهَا سادة الْيمن)
(أضحى دعيّ زيادٍ فقع فرقرةٍ
…
يَا للعجائب يلهو بِابْن ذِي يزن)
(قومة افَقولُوا: أَمِير الْمُؤمنِينَ لنا
…
حقٌ عَلَيْك ومنٌّ لَيْسَ كالمنن)
(فَاكْفُفْ دعيّ زيادٍ عَن أكارمنا
…
مَاذَا تزيد على الأحقاد والإحن)
فَفعل الرّسول مَا أَمر بِهِ فحميت اليمانية غضبوا لَهُ ودخلوا إِلَى مُعَاوِيَة فَسَأَلُوهُ فِيهِ فدافعهم عَنهُ فَقَامُوا غضاباً والشرّ يلمع فِي وُجُوههم فَعرف ذَلِك مُعَاوِيَة مِنْهُم فوهبه لَهُم ووجّه رجلا من بني أَسد يُقَال لَهُ خمخام بريداً إِلَى عبّاد وَكتب لَهُ عهدا وَأمره أَن يبْدَأ بِالْحَبْسِ فَيخرج ابْن مفرّغٍ مِنْهُ ويطلقه قبل أَن يعلم عبّاد فيمَ
قدم فيغتاله فَفعل ذَلِك فَلَمَّا خرج من الْحَبْس قرّبت)
بغلةٌ من بغال الْبَرِيد فركبها فَقَالَ: الطَّوِيل
(عدس مَا لعبّادعليك إمارةٌ
…
أمنت وَهَذَا تحملين طليق)
وَهُوَ من جملَة أَبْيَات تَأتي إِن شَاءَ الله تَعَالَى فِي الْمَوْصُول عِنْد إنشاد هَذَا الْبَيْت هُنَاكَ فَلَمَّا دخل على مُعَاوِيَة بَكَى وَقَالَ: ركب منّي مَا لم يركب من مسلمٍ قطّ على غير حدثٍ فِي الْإِسْلَام وَلَا خلع يدٍ من طَاعَة. فَقَالَ لَهُ: أَلَسْت الْقَائِل:
…